شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات في الإلحاد > حول الحِوارات الفلسفية ✎

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 10-23-2016, 06:52 PM   رقم الموضوع : [1]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
افتراضي هل هنالك من يقف وراء هذا العالم ؟

تمهيد :

هذا هو الموضوع الثاني من سلسلة تأملية فلسفية بدأت بموضوع بعنوان : "هل يمكن أن يوجد شيء من لا شيء ؟ ". والهدف من هذه السلسلة التأملية اعطاء الحق الكافي لكل فرضية من فرضيات الوجود التي لا تنال حقها في المنتدى الاسلامي , وتوضيح الطريقة المنهجية التي ينبغي أن تتناول بها مثل تلك التساؤلات الثقيلة .
مواضيع هذه السلسلة طويلة نوعا ما لكنني أضمن للقارئ أن وقته لن يضيع هباء وبأنه لن يخرج كما دخل

هل هنالك من يقف وراء هذا العالم ؟


تقديم لمختلف وجهات النظر :

هنالك ثلاث نظرات الى العالم , لا غير.

النظرة الأولى:

النظرة الميتافيزيقية , هي التي تؤمن بوجود هذا العالم الذي نعيش فيه , لكن أسباب هذا العالم المادي المحسوس وجوهره غير متضمن في هذا العالم نفسه , وانما يقبع في عالم آخر لا مادي ولا محسوس. تعد نظرية أفلاطون حول المثل أول تصريح ميتافيزيقي حقيقي : يقول هذا الفيلسوف أن العالم الذي ندركه بالحواس ما هو الا تمظهر لعالم علوي يتشكل من جواهر خالدة لا مادية ولا يمكن أن نحس بها , فشجرة الأرز هناك , وشجرة التين هناك , وشجرة الصفصاف ... كلها تمظهرات مادية لشجرة واحدة , الشجرة بشكل مطلق , وهذه الشجرة التي هي النموذج الأولي الأصلي الذي صيغت عليه كل النماذج المادية للأشجار, توجد حقيقة لا مجازا , ذات موجودة في عالم حقيقي لا نراه هو عالم المثل. وكذلك الشأن بالنسبة لكل الموجودات المادية المحسوسة.
اشتهر أنصار هذه النظرة بتفسير الأمور دائما من الخارج , فاذا تحدث عن الانتحار مثلا كانوا أول القائلين بأسباب خارجية تقف وراء الانتحار, واذا تحدث عن تخلف دولة من الدول كانوا أول المتبنين لنظرية المؤامرة الخارجية .

النظرة الثانية :

النظرة الدياليكتيكية , وهي تؤمن بوجود هذا العالم الذي نعيش فيه , لكن أسباب هذا العالم المادي المحسوس وجوهره متضمن في هذا العالم نفسه , ولا وجود الا لهذا العالم المادي المحسوس , وهو كاف بالنسبة لنفسه , ويحمل تفسيره في ذاته. انهم لا يتعدون هذا العالم الى عالم آخر كي يفسروه. وأوضح مثال يمكن أن نسوقه في هذا الصدد هو المادية الدياليكتيكية الماركسية . تقول هذه النظرية أن الأديان ,الفنون , الآداب ... الوعي البشري بشكل عام أو ما نصطلح عليه بالعالم الفكري (البنية الفوقية) , يجد تفسيره في العالم المادي والشروط المادية الواقعية (البنية التحتية ), لا في عوامل ماورائية كالروح لا تنتمي الى هذا العالم . ان ما تحمله من أفكار بخصوص هذا العالم (عن الله , السياسة , الثقافة , الأخلاق ,.....) ما هو الا انعكاس للشروط المادية الواقعية التي تعيش فيها (الاقتصاد , البيئة , المحيط الأسري ,....)وانك تتبنى هذا الرأي بالضبط لأنك في هذا الواقع , والآخر يتبنى رأيا آخر بالضبط لأنه في واقع آخر. وقد اشتهر أنصار هذه النظرة بتفسير الأمور من الداخل دائما , فاذا تحدث عن الانتحار مثلا كانوا أول القائلين بأسباب داخلية تقف وراء الانتحار , واذا تحدث عن تخلف دولة من الدول كانوا أول النافرين من نظرية المؤامرة الخارجية , داعين الى العودة الى الوضع الداخلي كمصدر حقيقي للتخلف.

النظرة الثالثة :

النظرة الصدفية , نسبة الى الصدفة , خلافا للتصورين السابقين لا تؤمن بمبدأ السببية , فهي تؤمن بوجود هذا العالم الذي نعيش فيه , لكن ما يقع فيه من ظواهر بعضها قد يكون نتيجة لسبب أو أسباب معينة , والبعض الآخر هو بلا سبب يذكر , يقع هكذا ببساطة. وقد يدفعون بنظرتهم الى منتهاها فيقولون بأن كل الظواهر وبلا استثناء تقع بلا سبب يذكر, ليكون العالم بذلك ظاهرة غير مفسرة , ليس لعجز فينا , بل لأن التفسير أصلا غير موجود. وقد يسخر هؤلاء من أنصار التوجهين السابقين قائلين : "ما العلاقة الكائنة بين امتلاك الأجسام لكتلة وبين تجاذب الأجسام " ؟ "لماذا لا تتنافر الأجسام بسبب كتلتها عوض أن تتجاذب " ؟ وهم بذلك يطعنون في مبدأ نيوتن للتجاذب الكوني. و" ما العلاقة بين عمل النجار القائم على النحت والقطع بالمنشار وضرب مسامير هنا وهناك من جهة , وبين شكل الطاولة الذي حصل عليه في الأخير " ؟ "لماذا لا نحصل بعد ذلك العمل على خزنة ملابس " ؟ فيطلبون من أنصار نظرية السببية أن يبينوا لهم كل ذلك . ان سؤال " لماذا " سؤال لا معنى له بالنسبة لهؤلاء , وكل إجابة عنه هي بالنسبة لهم تدليس و هراء . انهم لا يتعدون العالم , لا الى عالم آخر ماورائي , والى نفسه أيضا . يكتفون بالعالم كما هو , ولا يطلبون أي تفسير كان سواء من الداخل أو من الخارج.

النظرية الدينية القائلة بوجود ذات متعالية لا مادية ولا محسوسة مسؤولة عن هذا العالم , هي سبب هذا العالم وعلته , يكون العالم تمظهرا لإرادتها , لا شك وأنها تنخرط في التوجه الأول : التوجه الميتافيزيقي. ان العالم بالنسبة لها غير كاف في حد ذاته كي يفسر نفسه بنفسه , ويحتاج الى عنصر خارجي يفسر وجوده , الى جوهر , يعلل كل الظواهر التي تحصل فيه . ولن نستغرب اذا وضعت النظرة الدينية الى جانب هذا الكائن , كائنات أخرى لا مادية وغير محسوسة , مثل الجن والملائكة والروح , لتشكل في الأخير عالما آخر مليئا بالموجودات الحقيقية غير المادية , يشبه كثيرا عالم أفلاطون.

أما النظرة الالحادية التي تنفي وجود قوة كتلك , فهي بلا شك تنخرط في التوجه الثاني : الله غير موجود , ولا وجود لأي عنصر أو قوة غير متضمنة في هذا العالم نفسه : "يكفي هذا العالم ".

ما المطلوب من كل وجهة نظر ؟

بعد هذا التقديم الطويل نوعا ما لكن المفيد أيما فائدة , يبدو أن السؤال الحقيقي الذي يقبع وراء سؤالنا الذي وضعناه في العنوان هو : "هل هذا العالم كاف بالنسبة لنفسه ؟" أو " هل يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه ؟ "

لكي يكون هذا العالم كافيا بالنسبة لنفسه , لكي يفسر نفسه بنفسه , ينبغي أننبين ما يلي :لا توجد ظاهرة في هذا العالم الا و تستمد سببها من هذا العالم نفسه. ويدخل تحت لفظ "ظاهرة" الظواهر الجزئية التي تقع داخل العالم , كفلان قتل علان , والأرض تدور حول الشمس , و زيد فقير بينما عمرو غني , وكذلك الظواهر الكلية التي تطبع العالم نفسه , ك "العالم يتطور" , "العالم أزلي", وأيضا , وهذا هو الأهم : ظاهرة "وجود العالم". ينبغي أن نبين أن هذه الظواهر الجزئية والكلية تستقي علتها من داخل العالم نفسه.
اذا حصل وتم ذلك فسنكون قد فسرنا العالم كله بطريقة دياليكتيكية. ويبدو أن المهمة شاقة جدا , الم نقل أنها مستحيلة , اذا ما تتبعنا الظواهر الواحدة بعد الأخرى , لأن ظواهر العالم لا متناهية في العدد .
أما ليكون هذا العالم غير كاف بالنسبة لنفسه , فالمسألة تبدو أسهل بكثير :يكفي أن نجد ظاهرة واحدة في هذا العالم , جزئية أو كلية, لا تستمد سببها من هذا العالم نفسه. واذا تم ذلك , سيكون تبني النظرة الميتافيزيقية أمرا لا بد منه.
غالبا ما يكون الجواب جاهزا بيد المتدينين , أنصار التوجه الميتافيزيقي , فيقولون : "ان تلك الظاهرة التي يتسم بها العالم ولا تستمد تفسيرها من العالم نفسه هي ظاهرة وجود العالم " , ويبررون ذلك بالقول : "لا يمكن للعالم أن يستمد وجوده من ذاته".
وأظن أنهم بذلك يسجلون نقطة في شباك الديالكتيكيين , الذين يقولون بأن كل ظاهرة في العالم انما تجد تفسيرها في العالم نفسه. لأنه لو كانت علة وجود العالم في ذاته لكان يفترض بجزء من العالم (الذي هو علة وجوده) أن يوجد منطقيا قبل وجود العالم ذاته وهذا تناقض .لكنهم لا يسجلون شيئا في شباك أصحاب النظرة الصدفية الذين لا يؤمنون بالسسبية أصلا أو يؤمنون بها نسبيا فلا يسلمون لها بالاطلاق , فلا يرون أن للعالم بالضرورة علة أوجدته.
ان الديالكتيكيين يستطيعون أن يفسروا أية ظاهرة في هذا العالم فقط بالاعتماد على قوانينه ومكوناته الداخلية , الا ظاهرة وجود العالم نفسه , فهم مطالبون اما بتفسيرها من خارج العالم فيصيروا بذلك ميتافيزيقيين , أو بالتخلي عن مبدأ السببية الذي يقوم عليه منظورهم والقول مع الصدفيين بأن العالم لا سبب له .
علينا أن ننتبه الى أن القول بأزلية العالم لا يخرج الديالكتيكيين من المأزق , فاذا كان العالم أزليا فهذا يعني أنه كان دائما موجودا , أي أن ظاهرة الوجود كانت دائما صحيحة منطقيا , وحقيقة كهذه لا يمكن أن تكون نتيجة لسبب مشروطة به , وفي ذلك تفجير لمبدأ السببية الذي يؤمنون به.

لكن , ليس الديالكتيكيون وحدهم الذين يجدون أنفسهم في الأخير مطالبين بتسريح مبدأ السببية عن العمل. فالميتافيزيقيون أنفسهم يفعلون نفس الأمر في نهاية المطاف, ذلك أنه لو فرضنا أن للعالم علة خارجية عنه , فإما أن يكون لها بدورها علة خارجية أو ينفجر مبدأ السببية , واذا كان لها علة خارجية فنفس القول يقال عن تلك العلة , الى تسلسل العلل المشهور الذي يتم الغاؤه بطريقة سحرية لا مثيل لها من طرف الفلاسفة المسلمين (وهذا الأمر لا يهمنا هنا) للوصول الى علة أولى لا علة لها , أي ببساطة يتم في الأخير تفجير مبدأ السببية الذي اشتغلوا به منذ البداية ... عن بكرة أبيه .

يبدو أن المنتصر في نهاية المطاف هم أنصار النظرة الثالثة , نظرية الصدفة كما شرحناها أعلاه , فهؤلاء لا يجدون أنفسهم مجبرين على السقوط في تناقضات مع مبادئهم في أي وقت من الأوقات . لكن , لنتأمل كيف يصور لنا هؤلاء العالم في نهاية المطاف : انهم يصورونه كمجموعة من الظواهر المنفصلة فيما بينها انفصالا تاما , كل ظاهرة توجد في ذاتها ولذاتها , عالم لا يعرف شيئا اسمه علاقة تأثير وتأثر , علاقة تفاعل , عالم الأشياء المعزولة المنغلقة على ذاتها . لقد كان الفريقان السابقان مطالبين بالبرهان على زعميهما , لكن يبدو لي أن هذا الفريق الأخير غير مطالب بأي برهان .فكرة البرهان نفسها تقوم على مبدأ السببية الذي لا يعترف هو به , وأن تطالب انسانا منهم بتفسير موقفه مسألة لا تستقيم في الوقت الذي يؤمن هو فيه بأن ظواهر العالم لا تفسير لها أصلا.
بالنسبة لهؤلاء , لا توجد الظاهرة وما وراء الظاهرة من أسباب , الموجود هو الظاهرة فقط بوصفها كل شيء , لا يوجد العالم و أسباب العالم , بل العالم فقط . ولعلهم دياليكتيكيون حتى النخاع , ولعل الديالكتيكيين صدفيون حتى النخاع , ولا فرق بينهم الا في طريقة النظر الى العالم الوحيد الموجود بالنسبة لهم , فالأولون ينظرون اليه كشيء يمكن فهمه وتفسيره من ذاته , بينما الآخرون ينظرون اليه كشيء لا يمكن فهمه و تفسيره , لا لعجز فينا بل لعدم وجود تفسير أصلا.

تحياتي



  رد مع اقتباس
قديم 10-23-2016, 10:31 PM حكمت غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [2]
حكمت
الباحِثّين
 

حكمت is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ساحر القرن الأخير مشاهدة المشاركة
تمهيد :

هذا هو الموضوع الثاني من سلسلة تأملية فلسفية بدأت بموضوع بعنوان : "هل يمكن أن يوجد شيء من لا شيء ؟ ". والهدف من هذه السلسلة التأملية اعطاء الحق الكافي لكل فرضية من فرضيات الوجود التي لا تنال حقها في المنتدى الاسلامي , وتوضيح الطريقة المنهجية التي ينبغي أن تتناول بها مثل تلك التساؤلات الثقيلة .
مواضيع هذه السلسلة طويلة نوعا ما لكنني أضمن للقارئ أن وقته لن يضيع هباء وبأنه لن يخرج كما دخل

هل هنالك من يقف وراء هذا العالم ؟


تقديم لمختلف وجهات النظر :

هنالك ثلاث نظرات الى العالم , لا غير.

النظرة الأولى:

النظرة الميتافيزيقية , هي التي تؤمن بوجود هذا العالم الذي نعيش فيه , لكن أسباب هذا العالم المادي المحسوس وجوهره غير متضمن في هذا العالم نفسه , وانما يقبع في عالم آخر لا مادي ولا محسوس. تعد نظرية أفلاطون حول المثل أول تصريح ميتافيزيقي حقيقي : يقول هذا الفيلسوف أن العالم الذي ندركه بالحواس ما هو الا تمظهر لعالم علوي يتشكل من جواهر خالدة لا مادية ولا يمكن أن نحس بها , فشجرة الأرز هناك , وشجرة التين هناك , وشجرة الصفصاف ... كلها تمظهرات مادية لشجرة واحدة , الشجرة بشكل مطلق , وهذه الشجرة التي هي النموذج الأولي الأصلي الذي صيغت عليه كل النماذج المادية للأشجار, توجد حقيقة لا مجازا , ذات موجودة في عالم حقيقي لا نراه هو عالم المثل. وكذلك الشأن بالنسبة لكل الموجودات المادية المحسوسة.
اشتهر أنصار هذه النظرة بتفسير الأمور دائما من الخارج , فاذا تحدث عن الانتحار مثلا كانوا أول القائلين بأسباب خارجية تقف وراء الانتحار, واذا تحدث عن تخلف دولة من الدول كانوا أول المتبنين لنظرية المؤامرة الخارجية .

النظرة الثانية :

النظرة الدياليكتيكية , وهي تؤمن بوجود هذا العالم الذي نعيش فيه , لكن أسباب هذا العالم المادي المحسوس وجوهره متضمن في هذا العالم نفسه , ولا وجود الا لهذا العالم المادي المحسوس , وهو كاف بالنسبة لنفسه , ويحمل تفسيره في ذاته. انهم لا يتعدون هذا العالم الى عالم آخر كي يفسروه. وأوضح مثال يمكن أن نسوقه في هذا الصدد هو المادية الدياليكتيكية الماركسية . تقول هذه النظرية أن الأديان ,الفنون , الآداب ... الوعي البشري بشكل عام أو ما نصطلح عليه بالعالم الفكري (البنية الفوقية) , يجد تفسيره في العالم المادي والشروط المادية الواقعية (البنية التحتية ), لا في عوامل ماورائية كالروح لا تنتمي الى هذا العالم . ان ما تحمله من أفكار بخصوص هذا العالم (عن الله , السياسة , الثقافة , الأخلاق ,.....) ما هو الا انعكاس للشروط المادية الواقعية التي تعيش فيها (الاقتصاد , البيئة , المحيط الأسري ,....)وانك تتبنى هذا الرأي بالضبط لأنك في هذا الواقع , والآخر يتبنى رأيا آخر بالضبط لأنه في واقع آخر. وقد اشتهر أنصار هذه النظرة بتفسير الأمور من الداخل دائما , فاذا تحدث عن الانتحار مثلا كانوا أول القائلين بأسباب داخلية تقف وراء الانتحار , واذا تحدث عن تخلف دولة من الدول كانوا أول النافرين من نظرية المؤامرة الخارجية , داعين الى العودة الى الوضع الداخلي كمصدر حقيقي للتخلف.

النظرة الثالثة :

النظرة الصدفية , نسبة الى الصدفة , خلافا للتصورين السابقين لا تؤمن بمبدأ السببية , فهي تؤمن بوجود هذا العالم الذي نعيش فيه , لكن ما يقع فيه من ظواهر بعضها قد يكون نتيجة لسبب أو أسباب معينة , والبعض الآخر هو بلا سبب يذكر , يقع هكذا ببساطة. وقد يدفعون بنظرتهم الى منتهاها فيقولون بأن كل الظواهر وبلا استثناء تقع بلا سبب يذكر, ليكون العالم بذلك ظاهرة غير مفسرة , ليس لعجز فينا , بل لأن التفسير أصلا غير موجود. وقد يسخر هؤلاء من أنصار التوجهين السابقين قائلين : "ما العلاقة الكائنة بين امتلاك الأجسام لكتلة وبين تجاذب الأجسام " ؟ "لماذا لا تتنافر الأجسام بسبب كتلتها عوض أن تتجاذب " ؟ وهم بذلك يطعنون في مبدأ نيوتن للتجاذب الكوني. و" ما العلاقة بين عمل النجار القائم على النحت والقطع بالمنشار وضرب مسامير هنا وهناك من جهة , وبين شكل الطاولة الذي حصل عليه في الأخير " ؟ "لماذا لا نحصل بعد ذلك العمل على خزنة ملابس " ؟ فيطلبون من أنصار نظرية السببية أن يبينوا لهم كل ذلك . ان سؤال " لماذا " سؤال لا معنى له بالنسبة لهؤلاء , وكل إجابة عنه هي بالنسبة لهم تدليس و هراء . انهم لا يتعدون العالم , لا الى عالم آخر ماورائي , والى نفسه أيضا . يكتفون بالعالم كما هو , ولا يطلبون أي تفسير كان سواء من الداخل أو من الخارج.

النظرية الدينية القائلة بوجود ذات متعالية لا مادية ولا محسوسة مسؤولة عن هذا العالم , هي سبب هذا العالم وعلته , يكون العالم تمظهرا لإرادتها , لا شك وأنها تنخرط في التوجه الأول : التوجه الميتافيزيقي. ان العالم بالنسبة لها غير كاف في حد ذاته كي يفسر نفسه بنفسه , ويحتاج الى عنصر خارجي يفسر وجوده , الى جوهر , يعلل كل الظواهر التي تحصل فيه . ولن نستغرب اذا وضعت النظرة الدينية الى جانب هذا الكائن , كائنات أخرى لا مادية وغير محسوسة , مثل الجن والملائكة والروح , لتشكل في الأخير عالما آخر مليئا بالموجودات الحقيقية غير المادية , يشبه كثيرا عالم أفلاطون.

أما النظرة الالحادية التي تنفي وجود قوة كتلك , فهي بلا شك تنخرط في التوجه الثاني : الله غير موجود , ولا وجود لأي عنصر أو قوة غير متضمنة في هذا العالم نفسه : "يكفي هذا العالم ".

ما المطلوب من كل وجهة نظر ؟

بعد هذا التقديم الطويل نوعا ما لكن المفيد أيما فائدة , يبدو أن السؤال الحقيقي الذي يقبع وراء سؤالنا الذي وضعناه في العنوان هو : "هل هذا العالم كاف بالنسبة لنفسه ؟" أو " هل يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه ؟ "

لكي يكون هذا العالم كافيا بالنسبة لنفسه , لكي يفسر نفسه بنفسه , ينبغي أننبين ما يلي :لا توجد ظاهرة في هذا العالم الا و تستمد سببها من هذا العالم نفسه. ويدخل تحت لفظ "ظاهرة" الظواهر الجزئية التي تقع داخل العالم , كفلان قتل علان , والأرض تدور حول الشمس , و زيد فقير بينما عمرو غني , وكذلك الظواهر الكلية التي تطبع العالم نفسه , ك "العالم يتطور" , "العالم أزلي", وأيضا , وهذا هو الأهم : ظاهرة "وجود العالم". ينبغي أن نبين أن هذه الظواهر الجزئية والكلية تستقي علتها من داخل العالم نفسه.
اذا حصل وتم ذلك فسنكون قد فسرنا العالم كله بطريقة دياليكتيكية. ويبدو أن المهمة شاقة جدا , الم نقل أنها مستحيلة , اذا ما تتبعنا الظواهر الواحدة بعد الأخرى , لأن ظواهر العالم لا متناهية في العدد .
أما ليكون هذا العالم غير كاف بالنسبة لنفسه , فالمسألة تبدو أسهل بكثير :يكفي أن نجد ظاهرة واحدة في هذا العالم , جزئية أو كلية, لا تستمد سببها من هذا العالم نفسه. واذا تم ذلك , سيكون تبني النظرة الميتافيزيقية أمرا لا بد منه.
غالبا ما يكون الجواب جاهزا بيد المتدينين , أنصار التوجه الميتافيزيقي , فيقولون : "ان تلك الظاهرة التي يتسم بها العالم ولا تستمد تفسيرها من العالم نفسه هي ظاهرة وجود العالم " , ويبررون ذلك بالقول : "لا يمكن للعالم أن يستمد وجوده من ذاته".
وأظن أنهم بذلك يسجلون نقطة في شباك الديالكتيكيين , الذين يقولون بأن كل ظاهرة في العالم انما تجد تفسيرها في العالم نفسه. لأنه لو كانت علة وجود العالم في ذاته لكان يفترض بجزء من العالم (الذي هو علة وجوده) أن يوجد منطقيا قبل وجود العالم ذاته وهذا تناقض .لكنهم لا يسجلون شيئا في شباك أصحاب النظرة الصدفية الذين لا يؤمنون بالسسبية أصلا أو يؤمنون بها نسبيا فلا يسلمون لها بالاطلاق , فلا يرون أن للعالم بالضرورة علة أوجدته.
ان الديالكتيكيين يستطيعون أن يفسروا أية ظاهرة في هذا العالم فقط بالاعتماد على قوانينه ومكوناته الداخلية , الا ظاهرة وجود العالم نفسه , فهم مطالبون اما بتفسيرها من خارج العالم فيصيروا بذلك ميتافيزيقيين , أو بالتخلي عن مبدأ السببية الذي يقوم عليه منظورهم والقول مع الصدفيين بأن العالم لا سبب له .
علينا أن ننتبه الى أن القول بأزلية العالم لا يخرج الديالكتيكيين من المأزق , فاذا كان العالم أزليا فهذا يعني أنه كان دائما موجودا , أي أن ظاهرة الوجود كانت دائما صحيحة منطقيا , وحقيقة كهذه لا يمكن أن تكون نتيجة لسبب مشروطة به , وفي ذلك تفجير لمبدأ السببية الذي يؤمنون به.

لكن , ليس الديالكتيكيون وحدهم الذين يجدون أنفسهم في الأخير مطالبين بتسريح مبدأ السببية عن العمل. فالميتافيزيقيون أنفسهم يفعلون نفس الأمر في نهاية المطاف, ذلك أنه لو فرضنا أن للعالم علة خارجية عنه , فإما أن يكون لها بدورها علة خارجية أو ينفجر مبدأ السببية , واذا كان لها علة خارجية فنفس القول يقال عن تلك العلة , الى تسلسل العلل المشهور الذي يتم الغاؤه بطريقة سحرية لا مثيل لها من طرف الفلاسفة المسلمين (وهذا الأمر لا يهمنا هنا) للوصول الى علة أولى لا علة لها , أي ببساطة يتم في الأخير تفجير مبدأ السببية الذي اشتغلوا به منذ البداية ... عن بكرة أبيه .

يبدو أن المنتصر في نهاية المطاف هم أنصار النظرة الثالثة , نظرية الصدفة كما شرحناها أعلاه , فهؤلاء لا يجدون أنفسهم مجبرين على السقوط في تناقضات مع مبادئهم في أي وقت من الأوقات . لكن , لنتأمل كيف يصور لنا هؤلاء العالم في نهاية المطاف : انهم يصورونه كمجموعة من الظواهر المنفصلة فيما بينها انفصالا تاما , كل ظاهرة توجد في ذاتها ولذاتها , عالم لا يعرف شيئا اسمه علاقة تأثير وتأثر , علاقة تفاعل , عالم الأشياء المعزولة المنغلقة على ذاتها . لقد كان الفريقان السابقان مطالبين بالبرهان على زعميهما , لكن يبدو لي أن هذا الفريق الأخير غير مطالب بأي برهان .فكرة البرهان نفسها تقوم على مبدأ السببية الذي لا يعترف هو به , وأن تطالب انسانا منهم بتفسير موقفه مسألة لا تستقيم في الوقت الذي يؤمن هو فيه بأن ظواهر العالم لا تفسير لها أصلا.
بالنسبة لهؤلاء , لا توجد الظاهرة وما وراء الظاهرة من أسباب , الموجود هو الظاهرة فقط بوصفها كل شيء , لا يوجد العالم و أسباب العالم , بل العالم فقط . ولعلهم دياليكتيكيون حتى النخاع , ولعل الديالكتيكيين صدفيون حتى النخاع , ولا فرق بينهم الا في طريقة النظر الى العالم الوحيد الموجود بالنسبة لهم , فالأولون ينظرون اليه كشيء يمكن فهمه وتفسيره من ذاته , بينما الآخرون ينظرون اليه كشيء لا يمكن فهمه و تفسيره , لا لعجز فينا بل لعدم وجود تفسير أصلا.

تحياتي
مليون لايك لساحرنا العظيم
برأيي إن أصحاب التوجه الدياليكتيكي هم ذوو الموقف الأصعب، فكلا الطرفين الباقيين لا يتعبون نفسهم بإيجاد الدليل، الأول للإله، والثاني للصدفة، ولكنهم ابعد عن المنطق حقيقة.
ولكن في حقيقة الأمر فإن كل طرف منهم مكالب بدليل، لجوء االطرفين الى الله والصدفة، لا يبرئهم من البرهان، فلا يعني ارجاعهم لإله أو الصدفة أن قضيتهم انتهت، فالموضوع يحتاج للكثير
تحياتي



:: توقيعي ::: طربت آهاً....فكنتِ المجد في طربي...
شآم ما المجد؟...أنت المجد لم يغبِ...
.
بغداد...والشعراء والصور
ذهب الزمان وضوعه العطر
يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس
يغسل وجهك القمر...
****
أنا ضد الدين وتسلطه فقط، ولكني أحب كل المؤمنين المتنورين المجددين الرافضين لكل الهمجية والعبث، أحب كل من لا يكرهني بسبب أفكاري
  رد مع اقتباس
قديم 10-23-2016, 10:36 PM بديع غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [3]
بديع
عضو برونزي
الصورة الرمزية بديع
 

بديع is on a distinguished road
افتراضي




  رد مع اقتباس
قديم 10-23-2016, 11:35 PM القيصر غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [4]
القيصر
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية القيصر
 

القيصر will become famous soon enough
افتراضي

علميا لايوجد دليل على تدخل خارجي ويبدو ان الكون مكتف بذاته، التفسير العلمي هو في الاساس تفسير طبيعي بمعنى انه يحاول تفسير الكون بالكون نفسه وتفسير الطبيعة بالطبيعة نفسها، فالجاذبية تمسك الكواكب في مداراتها ولاتوجد ملائكة تدفع الكواكب الى الامام.

اما البحث في اصل وعلة الوجود فيبدو ان امام العلم طريقا طويلا جدا ليصل اليه، لكن على الاقل العلماء يحاولون ولايركنون الى الاجابات الجاهزة.



  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
هنالك, هذا, العالم, يقف, وراء


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
إلى الملحد، ما مشكلة هذا العالم؟ طـالـب حول الحِوارات الفلسفية ✎ 20 02-18-2018 04:12 PM
بلغز يقف بحلقى haleeim العقيدة الاسلامية ☪ 12 05-18-2017 08:54 AM
هل هنالك كلام أصدق و أفصح من هذا الكلام؟؟ ابن دجلة الخير الساحة الاقتصاديّة 凸 2 06-11-2016 09:37 PM
مخلوقات لن تصدّق أنها حقّاً موجودة... في هذا العالم الخفي ابن دجلة الخير السياحة 2 04-26-2016 03:04 PM
خريطة جديدة للشّرق الأوسط: أين يقف تغيير الحدود؟ ابن دجلة الخير ســاحـــة السـيـاســة ▩ 0 03-31-2016 08:38 AM