![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [2] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
كيف تكون حياتك بدون الدين والله الخرافي؟
كيف تنبذ الاعتقاد الديني وتعيد بناء هويتك؟ مع براهين ضد الخرافات والأساطير الاعتقادية الدينية وإرشاد لكيفية إعادة بناء المفاهيم والفكر والقيم بقلم كرستوفَر كرزيمنسكي Christopher Krzeminski ترجمة لؤي عشري العنوان الأصلي للكتاب: WHAT ARE YOU WITHOUT GOD? HOW TO DISCREDIT RELIGIOUS THOUGHT AND REBUILD YOUR IDENTITY? CHRISTOPHER KRZEMINSKI محتويات الكتاب إهداآ المؤلف والمترجم مقدمة الجزء الأول: نزع المصداقية عن الاعتقاد الديني ونبذه 1-المصطلحات المصطلحات الدينية المصطلحات العلمية المصطلحات الاستدلالية البرهانية 2-الافتراضان الخاصان بالاعتقاد الديني الافتراض الأول الافتراض الثاني 3-الافتراضات الثلاثة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية الافتراض الأول الافتراض الثاني الافتراض الثالث 4-الخط البياني المنحني لليقين النظريات الغير متسقة داخليًّا النظريات المتسقة داخليًّا هل يوجد لدى الملحدين يقين على الإطلاق؟ 5-تقنية اكتساب المعرفة عن طريق الإيمان استبدادية الإيمان كفاح الدين ليكون له صلة مع العالم الحديث المعاصر أليس للملحدين إيمان؟ تقسيم الفرق إلى اثنين: رهان باسكال 6-الأدلة المنطقية والتجريبية على وجود الله. الجدليات المنطقية على وجود إله الجدليات التجريبية على وجود إله 7-التناقضات المنطقية بصدد وجود الله أو الآلهة وآراء ختامية التناقضات المنطقية بصدد وجود الله انعدام الصلة العملية للطبيعة بإله السببية الإجبارية فيما بين الآلهة والبشر آراء ختامية 8- ثلاث جدليات لنزع المصداقية عن الاعتقاد الديني جدلية الأسس الجدلية العملية الجدلية الفوقية خاتمة الجزء الثاني: إعادة بناء الهوية 9-الدروس العاطفية لنبذ الاعتقاد الديني عواطف متركزة على الذات عواطف مركزة على الآخرين تأثيرات خارجية على الشخصية التقنيات العاطفية والذرائع 10-عملية نزع السم الفكري الدين المصنع وفقًا لاختياراتك الروحانية الشخصية الربوبية العدمية التوازن الأخير للإلحاد تطبيقات للتفكير القائم على العقلانية 11-مكان الشخص فيما يتعلق بالكون أصل الكون-الانفجار العظيم أصل الحياة-النشوء الذاتي أصل الإنسان (والكائنات)- التطور البيولوجي نهاية الجنس البشري- لا تنبؤات حالية 12- مكان الشخص فيما يتعلق بالمجتمع إنشاء معيار أخلاقي آليات تقوية الأخلاق اعتبارات العدل: المقصد والتوقع والمعقولية العدل العملي 13- مكان وموقف الشخص فيما يتعلق بالذات توضيح المعنى اكتشاف النفس الموت الجزء الثالث: 14- اعتبارات نفسية الأخطاء الإدراكية الشائعة الأخطاء الإدراكية في المجموعات الخدع والأخطاء الإدراكية 15- الاعتقاد الديني والتفكير العقلاني في المجموعات الدين الطوائف المجتمعات العلمية 16- استنتاجات شخصية عرفان بالجميل عن المؤلف إهداء المؤلف إلى أعمامي John Krzeminski, Jr. and Joey Deitch, Jr. and my friends, Lester Aaron Finuf and Sarah Gillie. إهداء المترجم إلى المفكرين العقلانيين (الملحدين) العرب والشرقيين، ممن يكافحون ببسالة قوى الجهل والفقر والأسطورة الجارفة، تحية لصمودكم جميعًا في بيئتنا العربية والإسلامية الدينية المعادية المتشككة الكارهة. إلى المترجمين المتميزين الناشرين للتنوير والعلم والفكر الحر: فينيق...أسطورة الجهود الخارقة والعطاء الرهيب في الترجمة عن المواد الإسبانية الإلحادية، ابن المقفع صديقنا الذي تعلمنا منه الكثير، إبراهيم جركس ناشر التفكير العقلاني المعطاء، واكد العراقي المعطاء، والأخين العزيزين العالمين الدؤوبين حمدي الراشدي وطريف سردست مؤسسي موقع الذاكرة www.alzakera.edu ، والجيل القديم من الأساتذة الذي علمونا الكثير وكانوا منارات على درب الفكر الحر في بداية طريقي من منتدى اللادينيين، الذين اختفوا ولم أقابلهم يومًا: الأساتذة: القبطان وشهاب الدمشقي والكاتب باسم كارل ساجان والعزاء الصوفي وسواح المصري (ميلاد) وغيرهم لكي لا أنسى ذكر أحد، لنقل كل كتبة مواضيع فهارس منتدى اللادينيين أو معظمهم، وإلى علماء أديان تعلمت منهم الكثير وهم أساس معارفي وتحرري من قيود الوهم الديني: فراس السواح، سليمان مظهر، خزعل الماجدي، سيد محمود القمني وكلهم عندي بمكانة واحدة من التقدير، وإلى ذكرى الراحلين كلير تسدل وجون سي بلر ولويس جينزبرج وثيودور نولدكه وول ديورانت، فهؤلاء كانوا مناراتٍ لي على الدرب. وإهداء خاص إلى زميل الكفاح على "سلاح وفرقة" أخرى من التخصصات، الأستاذ والأخ إسماعيل محمد، صاحب ومؤسس برنامج "البط الأسود"، الإنسان المصري المثقف الماهر الذي يكافح بجهده الفردي لصنع إعلام إلحادي عربي متميز ينشر العقلانية والتنوير العلمي في ظل عصر ومجتمعات تقاوم التنوير ومداواة الجهل والرجعية والتعصب، هذا جيل جديد لا يخشى من التعصب والبطش والشمولية وآراء المجتمع المصكوكة الجاهزة بناء على الجهل وافتقاد المراجع العقلانية والعلمانية للتفكير. هدفنا واحد وهو توفير البديل العقلاني، وإرجاع الإنسان إلى طبيعته العقلانية الحرة الكريمة. مقدمة اتخاذ خطوة جديدة، النطق بكلمة جديدة، هو ما يخشاه الناس أكثر شيء. الأديب الروسي ثيودور دوستوﭬسكي لمعظم حياتي اعتقدت أن هناك إلهًا. لم يكن بارزًا كفكرة بوضوح في ذهني على أساس الممارسة اليومية، لكني اعتقدت أن حقيقة وجوده كانت مرسخة على نحو جيد بصورة أساسية. لم أعتقد أنه كان يؤثر على نحو مباشر على حياتي أو يتدخل في العالم نيابةً عني، لكن كان لدي حس غامض أن هناك خطة كونية من تصميمه كنت أتحرك وفقًا لها كل يوم. كان لدي احترام عميق للناس الذين يكرسون حيواتهم لأديانهم. لقد تصورت أن أخطاء العالم ستُصحَّح في مكان ووقت آخرين ما. لقد توقعت أن تقيَّم أفعالي لأجل فضائلها، وتدوَّن، وتفتقدني في محاكمة نهائية متى ما ألقت عينيَّ على نحو نهائي (بالموت). الآن، لا أقوم بأيٍّ من هذه الأشياء، وأتذكر فقط على نحو غامض الشخص الذي قد وصفته للتو. بدأت الصدوع في الاعتقاد الديني بينما كنت أخوض مرحلة التعليم العالي، مرحلة الاتباع الثقافي الفكري التي يخاف منها على نحو صحيح أكثر المؤمنين المتدينين إخلاصًا ويهاجمونها لحماية سلامة روح الجماعة الخاصة بهم. قبل تعليمي العالي لم أحظَ بفرصة لمقابلة شخص تحدى الاعتقاد الديني، وحتى لو حظيت بمثل هذه الخبرة، لما كنت على الأرجح سأكون متقبلًا للموقف. كطالب متخصص في الرياضيات والذي كان أيضًا يلاقي حشدًا من الأفكار الأخرى في منهجه الدراسي رغم ذلك، كان على التأملات الشاعرية للاعتقاد الديني أن تتنحى لصالح المتعة الغامرة للتحليل والتفكير النقدي، وأصبحت مؤمنًا مهتزًا زالًّا. أقول "زالًّا" لأني لم أكن قد أنجزت بعد مواجهة الاعتقاد الديني ونزع المصداقية عنه ونبذه. بدلا من ذلك أصبح الدين فضوليا غريبا لي، غريبا لكنه كمتسلل مألوف في حمولة سفينة أفكاري. وخلال السبع أو الثماني سنوات اللاحقة، مكثت في مكان غير مريح فيما يتعلق بالاعتقاد الديني لم أستطع أن أرى فيه دقته الواقعية فيما يتعلق بالعالم، لكن جزءً مني كان خائفًا من عدم الاعتقاد به. بعد اكتساب درجة تخرج وسنوات أكثر من النضج العاطفي، اكتشفت الأمر وأكتب هذا الكتاب لإكمال الرحلة. هذا الكتاب هو هدية لذاتي السابقة، تذكار من المستقبل لما كنت سأحتاجه لحل الألغاز التي وقعت في شراكها ذات يوم. إن كنت تشعر على نحو مماثل إنك مصطاد في شبكة الاعتقاد الديني، فآمل أنه سوف يؤدي نفس الغرض لك. لقد قابلت العديد من الشباب في العديد من المنتديات يناقشون هذا الموضوع، والذين قد سألوني أسئلة حول كيفية توصلي لاستنتاجاتي بصدد وجود الله أو الآلهة، وكيف أخبرت أسرتي بهذه الاستنتاجات، وماذا تعنيه الحياة لي بدون إله، وأسئلة أخرى لا تحصى. لقد كان هؤلاء الناس إلهامًا رئيسيًّا لهذا العمل حيث أوصلوا إلي كم هو ملح ما هو على المحك هنا لأقوم به. إني أرى نماذج لحياتي تتكرر في حيواتهم. يمكنني أن أقول أنهم سمعوا صوت احتكاك سفينة الدين وهي تتدمر عبر مرورها بالجبل الجليدي للعلم والمنطق، أدرك رعبهم لرؤية السلوك المدنس كثيرًا للذين هم متدينون بشدة، وأتذكر الرعب المخفيّ وعزلة عدم فهم لماذا لا يبدو أي شخص آخر أنه يشعر بنفس الشيء. هؤلاء الأفراد الشباب وذكاؤهم في مواجهة عالم أخفق في إعدادهم لمواجهة هذه الأفكار قد كان حافزًا آخر لهذا العمل وجعلني واعيًا بالحاجة إلى إنشاء ملاذ يمكنه تأمين مرورهم الآمن عبر مصيدة مستنقع الاعتقاد الديني. لو سُمِحَ لهم بتسوية هذه الأفكار وحدها، ربما سيصل الكثير منهم إلى الاستنتاجات السليمة عن الموضوع، لكن المشكلة أن الزمن عاملٌ. عندما يهجر شخصٌ الاعتقاد الديني، تلك النقطة تصير واضحة تمامًا. شخصيًّا، لم أتوقع أن هجري للاعتقاد الديني سيكون هجرًا إيجابيًّا، وأنا مقتنع بأن كثيرًا من الناس يشعرون على نحو مماثل. الارتياح العاطفي الذي غمرني عندما كنت قد أتممت توصلي لاستنتاج أن الآلهة لا توجد كان مفاجئًا، لكنه لا ينبغي أن يكون كذلك. الكثير من الكتب عن الإلحاد ركزت نقدها على إخفاقات الفكر الديني، والتي هي وافرة، لكننا سنمضي إلى أبعد من مجرد المعاجلة الفكرية للموضوع وسنفحص كيف أنه يتلاعب بتطورنا العاطفي على نحو ضارٍّ كذلك. بالتأكيد، فإن أكثر الجدليات حسمًا ضد الاعتقاد الديني تنشأ من إفلاسه المنطقي والاستدلالي البرهاني، لكنها كذلك لا تستحق أن تكون جديرة بادعاء التأثير الأقوى على الأمور العاطفية كذلك. حاليًّا، الكثير من الناس الذين لن يجيزوا ممارسة الدين لأجل فضائله العقلانية يقومون بها لأنهم توصلوا إلى وجهة نظر بأنه (الدين) مؤسسة مفيدة لعواطف الشخص، وهذه نتيجة غير مقبولة، تؤدي إلى الركود العاطفي لعدد لا يحصى من الناس المنخرطين فيه. هدفي في هذا الكتاب هو تقديم دحض كامل للاعتقاد الديني واستنتاجه المرافق للإيمان بينما أبرهن في نفس الوقت على الفوائد الفكرية والعاطفية للتفكير القائم على العقلانية واستنتاجه المرافق للإلحاد. في الجزء الأول، سننزع المصداقية عن الاعتقاد الديني من أساسه بالهجوم المنظم على مصطلحاته وافتراضاته لكي نهدم استنتاجاته. وفي الجزء الثاني سنملأ الفراغ المتروك في أفكارنا وعواطفنا بعد نبذ الاعتقاد الديني بإمدادات متسقة يتضمنها التفكير القائم على العقلانية. نحن نهدم ثم نبني، نحن نزيل دائرة كهربية ذات عيوب، ونستبدله بأخرى جديدة صالحة للعمل. ما سنكتشفه بينما نخوض النقاش عن وجود الآلهة هو أن كلًّا من الاعتقاد الديني والتفكير القائم على العقلانية ليسا إلا مجموعتين من الافتراضات عن الواقع مع وسائل مرافقة لاكتساب المعرفة عنه. كما سنكتشف أيضًا أن هاتين المجموعتين من الافتراضات لا يمكنهما التعايش سويًّا (في ذهن الشخص)، أي أنهما متعارضان تمامًا لا يمكن الجمع بينهما. لن أشير في أي موضع من هذا الكتاب إلى اسم أي دين بعينه، والسبب هو أنها كلها متشابهة عندما يتعلق الأمر بالحد الأدنى من الافتراضات التي يجب أن يؤيدها المرء لكي يمارسه. سماتها المشتركة هي ما أشير إليه كـ "الاعتقاد الديني"، والذي هو أي مجموعة من الأفكار أو الممارسات التي تعود إلى الافتراضات الدينية التي سوف نستعرضها في الفصل الثاني. كون هذه الأديان قد أنشأت غرابة هزلية مميزة للثقافات التي قد تطورت فيها أمر مثير للاهتمام من منظور أنثروبولوجي لكنه غير ذي صلة على نحو نهائي بدراستنا. فبغض النظر عن أي مجموعة من العادات لأي دين محدد، فإن هذه التنوعات لن تحمي أيًّا منها من تحليل ينزع مصداقية جوهرها الأساسي، وهو ما سينصب عليه جهدنا. بهذه الوسيلة، فإن المصطلحات والتعاريف الدينية الموظَّفة في الجزء الأول لن تتضمن التنوعات اللانهائية لأي دين محدد وبدلا من ذلك ستتناول جوهر الاعتقاد الديني، الذي بُنِيَ عليه كل الأديان. بعبارة أخرى، فإن الشكل الذي وضعت به ثقافة ما الاعتقاد الدين كمؤسسة ليس ما نتناوله، بل جوهر اعتقادها هو محل الدراسة. للملاحظة، أنا لا أهتم على نحو خاص للإشارة إلى نفسي كملحد لأن هذا المصطلح يمثّل فقط استنتاجي، وليس تحليلي. أنا أتسامح مع تصنيف نفسي بهذه الكلمة لمجرد البرهنة على معارضتي للاعتقاد الديني لصالح واضعي الأسيجة الذين ربما لم يقابلوا قط شخصًا راغبًا في الخوض في التابو (المحظور) الاجتماعي الذي يحمي الأديان من التساؤل. كل ما أنا عليه هو شخص يلتزم بمعايير التحليل عند تقييم معلومات تدعي إنشاء معرفة عن الواقع الموضوعي. معايير التحليل هذه تُستمَدّ من التقنيات الرياضية والعلمية والمنطقية التي قد منحت البشرية قدرة تنبئية غير مسبوقة في محيطهم البيئي، وليس هناك سبب مقنع لهجرها في السؤال عن وجود إله. في الحقيقة، إنها محتاج لها أكثر عندما يكون السؤال محل النقاش يثير عواطف المرء على نحوٍ ملهٍ مشتت للانتباه. لأجل طبيعة النقاش، سنخوض عند بعض النقاط عميقًا عندما نناقش طبيعة السلوك البشري والمجتمع والمعرفة نفسها، ولقد حاولت تقليل التأملات النظرية إلى الحد الأدنى في هذه المواضيع. ليس معنى هذا أن نقاشاتنا سوف تتجنب وتهرب من التأملات الفلسفية الثقيلة، بل بالأحرى أن تلك المسائل سوف تلتزم على نحو وثيق بالمدارك العملية. لكي يكون تسلسل جدال مقنعًا على نحو صحيح فإنه يجب توحيد النظرية والجانب العملي، وستضع نقاشاتنا قيمة كبيرة للعملية (كون الشيء عمليًّا). لقد ناقشت مئات المؤمنين المتدينين حتى الآن، ولقد تعلمت أن الأذكياء منهم يحاولون سحب الحوار إلى عالم نظري بالكامل لأنهم ما إن يلتجؤون إلى ذلك يمكنهم اكتساب حرية عمل كبيرة لينشؤوا اقتراحات عجيبة من الناحية الموضوعية، متحررين من أي صلات مرهقة مع الواقع. أشك أن هذه تقنية يلجأ معظم المؤمنين على نحوٍ واعٍ، لكنهم يوظفونها للتشبث بمفهوم أن وجود إله هو بالفعل ممكن، وهو اقتراح لن أتعارض معه. فرغم كل شيء، فإن أي شيء ممكن، لكن ليس كل شيء مرجَّحًا أو محتمَلًا. ختامًا، فإن نقاشنا حول إطار وجهة النظر الكونية الجديدة للشخص القائمة على التفكير العقلاني ستقتصر على مفاهيم هامة حول إما النفس الداخلية أو الواقع الخارجي الذي يكون غير مفسَّر بعد إزالة الاعتقاد الديني من منظور المرء. الخوض في المفاهيم الأصغر التي تنشأ عن فقدان الاعتقاد الديني سيكون غرورًا وخارج مدى أهداف هذا الكتاب الملتزمة بالحد الأدنى. ما سأصل إليه بصدد التعقيد المذهل للبشر وتفاعلاتهم الدقيقة في نقاشي هو كما آمل ما قد وصلت إليه بعد تروٍ أخلاقي وعقلاني منظم للغاية. عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والسياسة ومواضيع أخرى هامة من النقاش، سيجد المرء الملحدين يملؤون كل الخريطة. كل ذلك يوحد الملحدين في رغبتهم في رؤية أدلة واقعية ومنطق سليم يشكل أساس رأيٍ. ما سوى ذلك، فكل شيء لا يمكن تخمين نتائجه، المرء لن يترك الاعتقاد الديني في المقام الأول لو كان لا يزال محتاجًا للامتثال لرأي على فكره من مصدر خارجي. بذا نكون مستعدين للبدء. آمل أنك تشعر بانتظار قلق. ما يقبع أمامك هو فرصة عظيمة للراحة الفكرية والنضج العاطفي. كما ستدرك فإن الصفحات التاليات لن تقدم لك مفتاحًا طفاشة (صالح لفتح كل الأبواب) لتفتح أبواب السجن الذي قد تجد فيه نفسك. عوضًا عن ذلك، فإنها ستزودك بمنظور جديد لتدرك أن باب زنزانتك مفتوح على مصراعيه وكان دومًا كذلك. الشيء الوحيد الذي يبقيك بالداخل هو أنت. الجزء الأول نزع المصداقية عن الاعتقاد الديني 1- المصطلحات "معظم الخلافات كانت ستنتهي سريعًا، لو أن المنخرطين فيها كانوا عرَّفوا أولًا مصطلحاتهم بدقة، ثم التزموا بهذه التعريفات". Tryon Edwards الكثير جدًّا من المشكلة عندما يتعلق الأمر بفهم وفحص الاعتقاد الديني تنشأ من المصطلحات والدلالات المعرفة على نحو ضعيف والتي تمكّن من الالتفافات والتفكير المتناقض. إن ثبات غموضها يجب مقاومته بعمل تمهيدي لتوضيح ما هو محل النقاش بالضبط، والخطوة الأولى ستكون بشرح وإلقاء الضوء على المصطلحات الأساسية المستلزَمة لأجل النقاش. فبعد كل شيء، لا يمكن للمرء أن يقول على نحو عقلاني ما إذا كان يؤمن بإله أم لا ما لم يَحُزْ بعض الفهم عما تعنيه الكلمة نفسها. رغم أن المصطلحات الأساسية للاعتقاد الديني تحتاج نقاشًا لتحقيق وضوح أدنى، فإنه مستحيل تعريفها بحيث تكون محددة على نحوٍ عقلانيٍّ. في الحقيقة، فإن الاعتقاد الديني يدعي بدون اعتذار أن أسراره مستغلِقة على العقل البشري. لحسن الحظ، فإن غموض ذلك الاقتراح لن يؤدي إلى إحباط النقاش الحالي. بالإضافة إلى تعريف المصطلحات الدينية، فإن الأقسام الأخيرة ستخوض في مفاهيم أساسية في كل من المصطلحات العلمية والقانونية. بخلاف المصطلحات الدينية، فإن هذه المصطلحات تتميز بمستوى معقول من الدقة، وستُعرَّف لأن التزويد بها سيكون مفيدًا في النقاشات التالية فيما يتعلق بالمعرفة والشرح العلميين بخصوص حالة الأدلة لأجل الأماكن والكائنات التي يفترض الاعتقاد الديني وجودها في الواقع الموضوعي. المصطلحات الدينية في ضوء الطبيعة الضبابية للاعتقاد الديني ومصطلحاته، فكل ما يُحتاج إلى إنجازه هو تعريف مفاهيمه الأساسية بحد أدنى من الدقة واقتصاد. باستخلاص منظورها الضروري ذي الحد الأدنى، فإن أي جوانب إضافية لم تُتضمَّن سوف يُثار نقاشها إن كانت المصطلحات تؤدي إلى تناقضات منطقية على أساس سماتها الأساسية التي لا تنفصل عنها. للتشبيه، فإن حقيقة أن فروع شجرةٍ لا تزال متصلة لن تمنع سقوط كل الشجرة إن قُطِعَ جذعُها. بالتركيز على الطبيعة الأساسية لمصطلحات الاعتقاد الديني فإن التركيز يكون على جذع شجرته، وإن أمكن قطع ذلك الجذع على نحو حاسم، فإن كامل الاعتقاد الديني سينهار. الله الآلهة لا تحمل نفس المعنى أو الصفات عبر كامل منظومات الأديان، وصفاتهم الشخصية كثيرًا ما تتنوع من شخص إلى آخر. بعض الأديان لها إله واحد توحيدي (التوحيدية)، وأخرى تعتقد بآلهة عديدين في وقت واحد (التعددية)، وآخرون يستعملون الكلمة كوصف لشيء غير كائن كالحب والطبيعة والكون. هناك أشكال متعددة لما تعنيه كلمة "إله" للناس، لكن أكثر الصيغ غرابةً وعدم اعتيادية دراستها غير ضرورية. تقبل الأغلبية الكاسحة من المؤمنين الدينيين ثلاثة صفات أساسية لإله: الله هو كائن خالد والذي هو كليّ القدرة ومحسن عادة، يُدعَى أن الآلهة كذلك كليي المعرفة، لكن يصعب وصف امرئ بأنه كلي القدرة إن كانت هناك أشياء لا يعرفها، مما سيعيق قدرته على أن يكون كلي القدرة بحق. بعبارة أخرى، فإن صفة كلية المعرفة متضمنة بوضوح بصفة كلية القدرة ولا تحتاج أن يشار إليها على نحو مستقل. إذن، فالآلهة لها ثلاث صفات ضرورية: 1- الخلود. 2-كلية القدرة. 3- الإحسان. بدون أي واحدة من هذه السمات فسيتوقفون أو يتوقف عن أن يكون لديه مدة الحياة الأبدية اللازمة أو القوة أو الاهتمام بالبشر ليستحقوا أو يستحق العبادة. بخصوص ذلك، فإن إدراك أن السمات الضرورية للآلهة تؤلف جوهر ما يجعل شخصًا يهتم بما إذا كانوا لهم وجود. تأمل ما سيكونه حال إله لو فقد أيَّ واحدة من هذه السمات الثلاثة. إن كان هناك كائن خالد يهتم فقط بعمق للبشرية لكنه بلا قوة لمساعدة البشر سواء في الحياة أو بعد الموت، فإن وجوده سيكون على الأرجح يقابَل بلا مبالاة عامة. الصلاة له ستكون عديمة الجدوى، وعيش المرء حياتَه وفقًا لمشيئته لن يكون منه نفع. كائن كهذا هو مجرد فكرة سارّة. أم لو كان هناك كائن خالد كلي القدرة لكنه غير محسن اتجاه البشرية، فلماذا سيضيع شخص وقته في الصلاة لشيءٍ إما غيرِ مبالٍ أو كارهٍ له علنًا؟ إنه ما كان ليساعد الإنسان في كفاحه للحياة أو عند الموت وربما يكون حتى مصدر ما يوجعه ويزعجه في المقام الأول. كائن مثل هذا هو كابوس. أما لو كان يوجد ذات مرة كائن كان كلي القدرة ومحسنًا كليهما لكنه الآن ميت، فمن ثم فهو قد مضى وليس له فائدة ليُصلَّى له. كائن كهذا كان سيكون ببساطة ذكرى. الآلهة يهمون الناس لأنهم يُزعَم أنهم يوجدون اليوم، وأنهم قادرون على التدخل في العالم بأي وسيلة، ويهتمون بما يحدث للجنس البشري أو المؤمنون به/بهم. هذه هي طبيعة ما يجعل الله/ الآلهة ذوي صلة بحيوات الناس من منظور استثمار الوقت في عبادتهم والتكهن برغباتهم. هناك فلسفات أقل انتشارًا تعدِّل على نحو ضئيل بعض سمات الآلهة بطريقة تجعل عبادتهم عديمة المعنى. إحدى هذه الفلسفات تتخذ موقفًا يقول بأن إلهها له كل أو معظم السمات الثلاثة كما عُرِّفَت أعلاه لكنه لا يتدخل في العالم، أي أنه خلق العالم ثم غادر. كنتيجة لهذا الاعتقاد، فإن المتبعين لفلسفة كهذه ليس لديهم طقوس أو لقاآت للكلام إلى إلههم، ولا يتبعون أي تعاليم مقدسة عن كيفية معيشة حياة ترضيه، ولا يعتقدون بأن المعجزات تحدث [من هؤلاء الأبيقوريون وبعض اللادينيين الربوبيين-المترجم]. بعبارة أخرى، فإن كائنًا كهذا ليس له تأثير في حياة الشخص، أي أن الجهد الموضوع في الاعتقاد ضئيل للغاية بحيث لا يرجح أنه سيؤثر على استقراره العاطفي وتماسكه العقلاني أو اتخاذه للقرارات الأخلاقية. المقصد من هذا كذلك أن تعريف "إله" المصاغ أعلاه قد صيغ للدقة أولًا والأهم، ولتناول مسألة عملية، تحديدًا: التركيز على نسخة الإله أو الآلهة التي يعدِّل الناس تفكيرهم أو حيواتهم لكي يتلاءموا (مع فرضية وجودها). الإيمان يقوم الإيمان بدور كبير في الاعتقاد الديني. للأسف، فإنه أيضًا أكثر مصطلحاته مرونة، عرضة لإساآت الفهم الدقيقة عن معناه. "الإيمان" يمكن أن يعني "الاعتقاد بوجود الله وخيريته" عندما يكون السؤال عما إذا كان يوجد إله، و"الثقة بان إلهًا سيتدخل" عندما يكون السؤال عما إذا كان المرء سينجو من محنة عصيبة، أو حتى عبارة مختصرة لجملة "دين المرء". رغم استعماله المربك المتعدد، فإن مفهوم الإيمان كما يتطلبه الاعتقاد الديني له أهمية هائلة. الإيمان: قبول الحقيقة (المفترضة) لتأكيدٍ في غياب كلٍّ من الأدلة من الملاحظة والمنطق السليم للبرهنة عليه على نحو عقلاني. هل كان المرء سيتوقع على الإطلاق أن يسمع دينًا يتكلم (المتحدثون باسمه) عن كم هو إيمان مبارَك لو كان لديه أدلة أو منطق للبرهنة على ما يدعيه على نحو عقلاني؟ في الحقيقة، فإن الدين هو نهاية التفكير العقلاني. مكان المجأ الأخير لجدلية قد تجووزت نظرياتها التجريبية والمنطقية. إن مزايا الإيمان محورية للغاية في النقاش عن وجود الآلهة بحيث أن الفصل الخامس بأكمله مخصص لهذا الموضوع. بينما يقترح التعريف المقدم أن الإيمان هو فعل يتخذه المرء في غياب الأدلة والمنطق المقنعين على نحو عقلاني، فإنه يتضمن أيضًا قبول حقيقة التأكيدات المتناقضة مع كم الأدلة والمنطق. بهذه الطريقة، فإن الإيمان هو ببساطة قبول تأكيدات بدون أساس عقلاني معقول. لأجل الأغراض العملية، كثيرًا ما تكون النقاشات التي تدار عن الإيمان قائمة على الأحاسيس العاطفية، والتي هي مزاوجة مزعجة غير ملائمة للأدوات عندما تكون المسألة المراد تقريرها هي السؤال عن الحقيقة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي. رغم ذلك، فإن التعريف المقدم لا يتطلب التفكر في الأدوات التي يستعملها شخصٌ ليتخذ قراره بقبول حقيقة تأكيد أمرٍ. لأجل أغراض هذا التقاش فإنه يكفي فهم ما يتخلى عنه، تحديدًا: الأدلة والمنطق الجذابين على نحو عقلاني. هذا موضع جيد للقيام باستطراد قصير لكنه هام عن التباس معنى الإيمان باستعماله الدارج. إن كلمة "الإيمان" قد دخلت القاموس القياسي، والذي يعطي على نحو محزن شرعية غير مستحقة لنسخة تعريف المفهوم الموظَّف من قِبَل الاعتقاد الديني. كمثال، كل شخص قد قال أشياء لصديق قديم مثل: :لا حاجة للقيام بوعود، لدي ثقة "إيمان" بك". بالتأكيد، ما يعنيه تعليق كهذا في الحقيقة هو: "لقد عرفنا بعضنا الآخر لوقت طويل، ولدي أدلة معقولة على أساس خبراتنا الماضية أحدنا مع الآخر أنك ستفعل ما تقول أنك ستفعله، خاصة فيما يتعلق بي". مثال آخر يوسع درجة الاتصال الشخصي أكثر سيكون تصريحًا مثل: "لدي إيمان بالإنسانية". مجددًا، هذا اختصار دارج لجملة: "لقد عرفت وخبرت الكثير من أعضاء الجنس البشري وكذلك نوازعهم إلى كرم الأخلاق والدَنَس على السواء، وبناء على ذلك الدليل، أجد أنه مرجَّحٌ أن أخلاقنا الحسنة تفوق فسادنا في المتوسط". لا يتكلم الناس بهذا الأسلوب المطنب (بحشو الكلام) ببساطة لأن ما يقصدون توصيله مفهوم على أقل حد على نحو سطحي من جانب مستمعيهم. النقطة هي أنه لا تصريح من هذين له أي علاقة بقبول حقيقة تأكيدات بدون أساس عقلاني في كل من الأدلة أو المنطق. إن التصريحين هما مثالان على استعمال نفس الكلمة "الإيمان" للتعبير عن مفاهيم ذات جوهر مختلف. كثيرًا ما يستعمل المؤمنون المتدينون مفهوم الإيمان كدرع وسيف على السواء، أي: يستخدمونه في كلٍّ من منع نظرياتهم من التساؤل العقلاني وكذلك للهجوم على سلامة وسائل التفكير المنافسة باعتباره تحتوي أيضًا على عناصر الإيمان. بينما سيُناقَش هذا التعامل الفصامي للمصطلح لاحقًا، فإنه ضروريٌّ أن ندرك أن مفهوم الإيمان عرضة لإساءة منتظمة مألوفة بسبب كونه متشتتًا في الكثير من الاستعمالات الدارجة المختلفة. عندما يُناقَش الإيمان في هذا الكتاب، فإنه يعني شيئًا محددًا، ولن يتغير معناه كما يحدث كثيرًا في النقاشات العارضة. كما سيُبَرهَن، فإن الإيمان يقوم بدور مشبوه حقًّا في الاعتقاد الديني. فمعظم الوقت يكون [المتحدثون باسم] الأديان مرتاحون لشرح أنظمتهم الاعتقادية بنمط منطقي منظم. رغم ذلك فعندما يقع الاعتقاد الديني في مأزق، فإن الإيمان يبدو دومًا كأنه يلصق صدوعه المنطقية كصمغٍ مصمَّم لحفظ قشرة خارجية ومظهر خادع من التماسك والاتساق، ولأجل هذا الدور، فإن الدين هو العصب الرئيسي للاعتقاد الديني. الغيبيات (ما فوق الطبيعي، الميتافيزيقي) ما فوق الطبيعي له أسما كثيرة عديدة في الأديان، كمثال: العلوي، العالم الآخر، [الكارما، النرﭭانا، الفردوس، الجحيم، الملائكة، الشياطين، الأرواح]. ما فوق الطبيعي هو مفهوم يهزأ قصدًا من المعرفة والإدراك البشريين. فباعتبار أن كل ما يستطيع البشر تذوقه وشمه وسمعه ورؤيته ولمسه هو فيزيائي بطبيعته، فليس هناك معرفة تتناول ما فوق الطبيعي غير وصفه بما ليس هو عليه [التعريفات السلبية]. ما فوق الطبيعي [الغيبي]: مملكة توجد [فرضيًّا] فوق الطبيعة الفيزيائية ولا يمكن الإحساس بها بحواس الجسد الخمسة. إن التعريف مسهب لأنه لو كان شيء يوجد فوق الطبيعة، فإنه لا يمكن بطبيعته الشعور به بالحواس الخمس. رغم ذلك، فإن انعدام الفائدة التام لحواس الإنسان عندما يتعلق الأمر بتأكيد ما فوق الطبيعي قد تُضُمِنَ بوضوح في التعريف لأنه أكثر أهمية من مجرد تركه متضمَّنًا ضمنيًّا، كما سيُرى في مناقشة مفهوم ما فوق الطبيعي فيي الفصل التالي. أهمية هذا التعريف ستصير واضحة عندما نضع الاعتقاد الديني بجوار التفكير القائم على العقلانية، لكن هناك فوارق دقيقة مبدئية لتأملها. عندما يتعلق الأمر بما يمكن لحواس الإنسان الخمس الإحساس به، فأحيانًا تُوَظَّف الأدوات لزيادة الحواسّ كما بالمَيْكُروسكوب (المِجْهَر). كون المرء يحتاج أداة كهذه للإحساس بشيء لا يعني ببساطة أنه فوق طبيعي، بل بالأحرى أنه شيء فيزيائي تحتاج الحواس إلى تضخيم لكي تدركه. أما في تحديد مكان أي شيء فوق طبيعي، فإن الحواس غير ملائمة تمامًا للمهمّة. إن كان شيءٌ يُعرَّف بأنه يوجد خارج الطبيعة الفيزيائية، فمن ثم فإن حواس الجسد ليس لها قدرة على أي حال على إدراكه. كنتيجة طبيعية لذلك، فإننا ندرك أنه لو تجاوز شيء الحد من العالم الفوق طبيعي إلى العالم الفيزيائين فمن ثم فإنه يصبح فيزيائيًّا ويتوقف عن أن يكون فوق طبيعيًّا، أيْ: لا يمكن للمرء أن يكون لديه برهان تجريبي على وجود الفوق طبيعي بطبيعته. في الحقيقة فإن الفوق طبيعي والفيزيائي ينطويان على تعريفين لا يمكن لهم التواجد سويًّا كشرط، وهذه هي النقطة الرئيسية لنتذكرها عندما يحين الوقت لاستخدام هذا المفهوم. الروح مفهوم الروح لن يظهر كثيرًا، لكن عندما يظهر، فسيكون مفيدًا أن يكون هناك بعض الدقة في تعريفه. بلا ريبٍ، فإن مفاهيم الإله والإيمان والفوق طبيعي [الغيبي] مصطلحاتٌ أكثر أهميةً في النقاش، لكن الروح لها أهمية فريدة. في الاعتقاد الديني، فالروح هي المفهوم الذي يشخصن التشعبات اللانهائية لجوانب الدين. في الحقيقة، فإن جدلية قوية يمكن أن تُقام بأن وجود الروح أكثر أهمية من وجود إله فيما يتعلق بمسألة درجة اهتمام الشخص بالدين. إن كان وعي الشخص ينتهي بالموت، فإنه سيكون أقل نزوعًا بدرجة كبيرة لقضاء وقته الضئيل في الحياة في إرضاء إله قد قَصَر وقت ممارسة سلطانه عليه. الروح: المقر الخالد [المفترَض] لوعي الشخص. السبب الأساسي لما يجعل مفهوم الروح ذا علاقة بالشخص هو أنها [كما يعتقدون] نتيجة جانبية للموت الفيزيائي الجسدي. إن جسد الشخص الفيزيائي سوف يموت، لكنْ يُفترَض أن الروح ستنجو من ذلك الحدث وستحفظ شخصية الشخص وذكرياته وعواطفه. حاليًّا، القليل من الأديان الآن تقترح أن الروح جزءٌ من الجسد الفيزيائي، مما يقترح بأنها وجود فوق طبيعي. رغم ذلك، فإن تعريفها لا يحتاج أن يحتوي هذا الشرط. أيًّا ما قد تكون الروح [المزعوم وجودها] في شروط خاصياتها الأخرى، فإن طبيعتها [المفترَضة] كمركبة خالدة لأقيَم أفكار ومشاعر الشخص هي كل ما يُحتاج إليه لأجل الغرض الحالي. الدين على نحوٍ ساخر، فإن كلمة "الدين" لن تكون نقطة بؤرية محورية من جهد نزع المصداقية عن الاعتقاد الديني، والسبب في ذلك أن الدين هو التجسيد العمليّ للاعتقاد الديني، والذي يتضمن تعقيدات إضافية فيما يتعلق بالتفاعل البشري ليس لها علاقة بتأكيد مزايا الأيديولوجي التي تدعم المؤسسة الدينية. يُعرَّف المصطلح هنا لأجل الإكمال وكذلك لأجل استعماله الرئيسي في الجزء الثالث. الدين: نظام اعتقاديّ والذي 1-يستخدم الاعتقاد والممارسات الدينية. 2-والطقوس. و3-اللقاآت للمناجاة مع أو التعبد لإلهٍ أو آلهة. الطقس (الشعيرة) هو فعل رمزيّ بحسب التقليد الديني، كمثال: الصلاة. واللقاآت أو الاجتماعات هي اجتماع المؤمنين المتدينين معًا في مجموعة لأجل الأغراض المذكورة في التعريف. معظم الناس الذين يعتقدون بإله لديهم دين، وليس معنى ذلك أن تلك هي الوسيلة الوحيدة لممارسة الشخص لاعتقاده في إله أو آلهة. بالتأكيد، هناك أنظمة اعتقاد أقل تكلفة [وإرهاقًا]، وسنستكشفها نظاميًّا في الفصل العاشر. الثلاث متطلبات التي في التعريف يجب أن توجد جميعًا معًا لكي يَكُون نظام اعتقادٍ دينًا. بعبارة أخرى: تعريف الدين هنا يمثِّل ما قد يدعوه المرءُ على نحو دارج بـ"الدين المؤسسي". تتخذ الأديان أشكالًا كثيرة، متراوحةً من ضئيلة الانتشار إلى عالمية، لكن خصائصها الدقيقة لا يمكنها تغيير طبيعة أسسها، أي: الاعتقاد الديني. كما أشيرَ سابقًا، فإن الشكل المظهري لمجموعة أو سلوكها لا يمثل فارقًا طالما أنها على نحو جوهري منخرطة في الاعتقاد الديني، والذي هو حجر الزاوية الإلزامي لأي دين. بذلك، تكون المفاهيم الضرورية لمناقشة وتقييم إمكانية الاعتمادية والسلامة للاعتقاد الدين قد جُمِعَتْ. بالعودة إلى تشبيه الشجرة المجازي في بداية الفصل، فإن مصطلحات الله والإيمان والفوق طبيعي والروح تشكل جذع شجرة الاعتقاد الديني، واللاتي سوف تؤدي إلى انهيار كامل وجهة النظر الكونية لتي تفترضها لو لم تثبت على مزاياها. أما المفاهيم الثانوية ومن الدرجة الثالثة كالشياطين والخطيئة والجنة والجحيم فليس لها نفس الأهمية. إنها تشغل الفروع العليا من النظام، ونزع المصداقية عن أيٍّ منها أو عنها كلها لا ينجح في إنهاء فرضية صحة الاعتقاد الديني بالضرورة المنطقية. لو ثبت أن الصلاة عديمة الجدوى أو غير منطقية، فإن هذا لا يعني أن نظام العدل [الغيبي] لدين منعدم، ولو أن كلًّا من الجنة وجهنم لا يوجدان، فهذا لا يعني أن الله أو الآلهة لا يمكنهم إيجاد مكان ما لوضع روح المرء لمجازاة ما قد فعله ذلك الفرد لإغضابهم. أحيانًا كثيرة، قد ترِدُ هذه المفاهيم غير الأساسية لأجل تفكرات عارضة أو للبرهنة على عدم اتّساق شديد، لكنها لن تكون محل التركيز. فبعد كل شيء، فإن المصطلحات الرئيسية تقدم عرضًا [خياليًّا] في حد ذاتها. لو أن [الله] أو الآلهة والروح هم الممثلون الرئيسيون، ومملكة ما فوق الطبيعة هي خشبة المسرح التي يؤدون عليها، والإيمان هو التذكرة التي يحصل بها المرء على دخولٍ إلى المسرح. المصطلحات العلمية للأسف، فإن بعض المصلطلحات العلمية الأكثر أساسية لها استعمالات مشوشة في اللغة العامية الدارجة. على نحو بارز أكثر، كلمة "نظرية" تعني شيئًا مختلفًا جدًّا في اللغة الدارجة عما تعنيه في الاصطلاح العلمي. وحيث أن البحث في دقائق المنهج العلمي خارج الهدف من هذا الكتاب، فإن المصطلحات الضرورية الوحيدة ستكون اللاتي تؤسس العناصر الأساسية لفرضيات التفكير القائم على العقلانية وكذلك اللاتي تمكّن من فهم ملائم لأحدث المعطيات العلمية فيما يتعلق بالتفاسير العلمية المبرهنة جيدًا. الفرضية العلمية الصياغة المقبولة لفرضية علمية هي خطوة هامة في المنهج العلمي. وكما سيُناقَش في الفصل الثالث، فإن الفرضية العلمية يمكنها التعرض لاختبار التأكيدات فيما يتعلق بالأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي. الفرضية العلمية: تفسير مقترَح لظاهرة طبيعية، والتي تستخدم مصطلحات معرَّفة جيدًا على نحوٍ كافٍ وهي قبلة للاختبار واختبار الدحض كليهما. إن عبارة "تستخدم مصطلحات معرَّفة جيدًا على نحوٍ كافٍ" متضمَّنة بوضوحٍ في متطلب أن يكون الاقتراح قابلًا لمحاولة التكذيب (الدحض) بما أن المرء لا يمكنه إثبات أن بيانًا خاطئًا إن كانت مصطلحات البيان تأبى التعريف الدقيق. سأعود في الفصول الأخيرة إلى مشكلة المصطلحات المدعية عمل بيانات تتعلق بالأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي بينما تأبى أن تكون معرفة جيدًا على نحوٍ كافٍ لكي تسمح بالتعبير عنها في فرضية علمية، وبالذات في الفصل الثامن. بالنسبة للآن، فإنه يكفي أن نفهم أن العلم هو وسيلة تحكمية لتعقب السببية [الأسباب والنتائج] خلال أنظمة الطبيعة، ونقطة الدخول إلى المنهج العلمي هي الفرضية العلمية. بدون صياغة فرضية تؤدي إلى الاختبار العلمي ذات مصطلحات لها قدر كافٍ على نحو مقبول من التحديد القابل والاختبار، فإن التحليل العلمي لا يمكن القيام به. إن مطلب (شرط) أن تكون الفرضية العلمية قابلة لمحاولة التكذيب هام وجوهري. لو أن امرئً قام بعمل اقتراح للتحري عنه بدون إدراك أنه لا توجد مجموعة من النتائج من الاختبار التجريبي يمكنها تكذيبه على نحو معقول، فإنه إذن يترك نفسه عرضةً للأخطاء الإدراكية التي يمكن أن تنتج عن ميله لإيجاد فرضية مؤيَّدة، حتى لو كانت ربما بها مستوى عالٍ من احتمالية التصوير الغير دقيق للواقع الموضوعي. نزعات التأكيد تصبح مشكلة في مثل تلك المواقف. نزعات التأكيد معتادة وهي أخطاء جذابة للإدراك البشري، والتي يصفّيها المنهج العلمي بمقاومتها بشرطه أن تكون الفرضية قابلة للدحض. عندما يقوم شخص أو نظام اعتقادي بتصريحات تتعلق بوجود أماكن أو كائنات يؤكِّد وجودها في الواقع الموضوعي، فإن المنهج العلمي هو أفضل وسيلة لأجل ذلك التحقيق لأن طرائقه تعمل على ضمان إمكانية الاعتماد والتصديق لما تلاحظه الحواسّ. النظرية العلمية هذا المصطلح قد تعرض إلى كثير من الضرر بسبب الاستعمال الدارج العامي لكلمة "نظرية" في اللغة الدارجة. إن "النظرية العلمية" مصطلح فني متخصص ذو معنى محدَّد، يعبر عن درجة أعلى بكثير من اليقين فيما تؤكده، أكثر مما يعنيه شخص عامي عندما يتكلم عن نظرية في الحوارات اليومية العارضة. النظرية العلمية: تفسير مقبول [علميًّا] لظاهرة طبيعية مُثْبَت على نحو جيد بالنتائج الاختبارية والملاحظات المتكررة. إن النظرية العلمية ليست تخمينًا تأمليًّا. إنها أعلى مستوى من اليقين على العلم تقديمه. عندما تصل فرضية علمية إلى مستوى كبير من الاختبار والتأييد، فإنها تصبح نظرية علمية، وعند تلك النقطة تكون دقة توقعاتها ومتانة قوتها التفسيرية قد صارا كلاهما مقبولين. بالتأكيد، فإن النظريات العلمية عرضة دومًا للمراجعة أو التعديل بناء على تقديم نتائج أو معلومات معاكسة، لكن تأكيدها يقوم على أفضل الأدلة المتاحة ويتضمن تفسيرًا للسببية في الطبيعة يتميز بأدلة مؤيدة على نحو كاسح وقوة منطقية. على نحو مأساوي، فإن الكثير من المؤمنين المتدينين يرفضون نظرية التطور العلمية ليس على أساس لا شيء غير رؤيتهم كلمة "نظرية" ويمضون إلى صرف النظر عما تثبته باعتباره واهيًا وغير مثبَت ظنًّا منهم. النظريات العلمية لا تتمتع بالضرورة بأجواء الإجماع التامّ في مجالاتها. الكثير من الدراسات تحاول تقويض طرائق الاختبارات السابقة وتحدي افتراضاتها، بصرف النظر عن درجة الإجماع العلمي على الأمر. تصبح الفرضية العلمية نظرية علمية عندما يكون تفسيرها لظاهرة طبيعية أعلى بكثير من التساؤل المعقول بأحدث التقنيات العلمية بحيث تعتبر الغالبية العظمى من المجتمع العلمي أن الظاهرة قد فُسِّرت بدقة بها، لكن الإجماع لا يكون مطلوبًا أبدًا. قد لا يتفق أي بحاث مع النتيجة بسبب افتراضاته الخاصة به التي لا يقبلها باقي المجتمع العلمي كمنطقية. التعارض والاختلاف هي حوادث طبيعية في المجتمعات العلمية، خاصةً عندما يتصادم أتباع الاتجاه التنظيري مع التجريبيين، وشدة النقاش تكون مقصودة ومرغوبة. الاحتمال الأكبر لتقديم علاقات سببية يعتمد عليها في الواقع الموضوعي يُحقَّق عندما تصارع الأفكار بعضها الآخر بحرية بحيث تبرز الفكرة الأفضل على القمة بقوة جدليتها ودقة توقعاتها. المصطلح الاستدلالي [البرهاني] هذان المصطلحان الأخيران سيكونان مفيدين في الفصل السادس حيث سنقيم أنواع الأدلة على وجود الآلهة أو الإله باستعمال المصطلحات القانونية الابتدائية لكي نصنف سمات الوثائق الاستدلالية للدين. عمومًا، فإن مفهوم الدليل يعني أي شيء ذي صلة بالبرهنة على حقيقةٍ، أيْ: أي شيء يؤدي إلى البرهنة على أمرٍ أو دحضه. الأدلة الظرفية (غير المباشرة) الأدلة الظرفية هي مصطلح يبرز كثيرًا في الكلام الشائع، ويعرف الناس بالحدس معناها بدقة معقولة. ورغم ذلك فحيث أن استعمال هذا المفهوم في هذا الإعداد سيكون غريبًا قليلًا، فإن تعريفًا دقيقًا لما يعنيه سيكون أفضل. الدليل الظرفي: الدليل الذي يتطلب استنتاجًا واحدًا على الأقل للبرهنة على حقيقة. افترض أني رأيت عليًّا يطلق الرصاص ويصيب زيدًا. إن صُدِّقْتُ فإن شهادتي على هذا الفعل هي دليل مباشر على السؤال عما إذا كان عليٌّ أطلق الرصاص على زيد. أما لو أني بدلًا من ذلك رأيت عليًّا يطارد زيدًا عند زاوية، ثم سمعت طلقات رصاص، ثم ركضت لأجد زيدًا ميتًا ضربًا بالرصاص، فإن شهادتي على تلك الأحداث هي دليل ظرفي على أن عليًّا أطلق الرصاص على زيدٍ وقتله لأنه يتطلب استنتاجًا إضافيًّا من جانب المستمع إلى الشهادة (القاضي أو المحلفين) لكي يستنتج أن عليًّا قد قتل بالفعل في الحقيقة زيدًا. إحدى هذه الاستدلالات سيكون أنه لا أحد آخر كان هناك مع مسدس عندما جرى الرجلان حول الزاوية خارج مجال إبصاري، واستدلال آخر سيكون أن عليًّا لديه حتى مسدس، والذي لن تستطيع شهادتي إثباته. في هذا الموقف، فإن شهادتي هي دليل ظرفي قوي على أن عليًّا قد قتل زيدًا، لكنه مع ذلك ظرفي (بالقرائن0 استدلالي) في حد ذاته. ليس معنى هذا أن الدليل لظرفي في حد ذاته ليس قويًّا على نحوٍ كافٍ لإثبات حقيقة على نحو معقول لأنه كثيرًا ما يكون كذلك لو كان هناك ما يكفي منه بشرط الجودة والكم. لاتخاذ قرار كهذا، فإن التقييم الاختباري ومرجوحية صحة الدليل الظرفي يجب أن يقيَّما لتقرير مرجوحية أنه يثبت على نحو معقول الحقيقة محل النقاش. الأدلة المباشرة الدليل المباشر أسهل في تعريفه من الدليل الظرفي، لكنه كذلك أندر بكثير. عندما يتعلق البحث بوجود كائن، فإن الدليل المباشر سيكون شيئًا مثل صورة، بصمة إصبع، أو شهادة شاهد عيان. الدليل المباشر: الدليل الذي يثبت حقيقةً بدون استدلال إضافي. تخيل أن المحققين الجنائيين يحاولون تقرير ما إذا كان ماجد كان متواجدًا على الإطلاق في شقة محددة في مبنى حيث ارتُكِبَتْ جريمة قتلٍ. إن برزت صورة له مبتسمًا للكامِرة في وقت أبكر بينما هو في الشقة، فمن ثم يشكل ذلك دليلًا مباشرًا أنه كان في الحقيقة هناك ذات مرة، أي أن: الصورة تثبت الحقيقة محل الكلام بدون الحاجة إلى استدلال إضافي. وبالمثل فإن شهادة شاهد عيان من جارٍ شاهد ماجدًا ذات مرة يغادر الشقة ويغلق الباب خلفه تشكل أيضًا دليلًا مباشرًا على المسألة. كما في حالة الدليل الظرفي، فإن الدليل المباشر يمكن دومًا أن يُهاجَم على أساس الشكوك فيما يتعلق بصحته، لكن في حدود ما يدعيه الدليل بدون التساؤل عن مدى صحة اعتماده وصدقه، فإنه لا يتطلب أي استدلال إضافي للبرهنة على المطلب موضع النقاش. كما سيُرى في الفصل السادس عندما تُوظَّف هذه المفاهيم الاستدلالية، فإن الوثائق الاستدلالية لأي دين محدد هو مفتقد بطبيعة مميزات الدين ومشكوك في مصداقيته على السواء. استيعاب المعاني المفهومة عامةً للمصطلحات وإعطاؤهن معاني دقيقة على نحو معقول ليس مسألة تافهة. في الحقيقة، فإن الإخفاق المعتاد في فعل ذلك عندما يتعلق الأمر بالاعتقاد الديني هو السبب الرئيسي في كون الناس تجده مستغلقًا على الفهم وغامضًا. إن السبب هو محاولة الانطلاق دومًا بتهور إلى النقاش، لكنَ الإنشاء المتأني المحتاط لميدان اللعب يؤدي إلى نتائج أكثر توازنًا وإقناعًا. الغرض من اللغة هو توصيل الأفكار، ولو كانت اللغة متغيرة وغير محدَّدة، فإن الأفكار التي تعبر عنها ستفتقد التسلسل والتواصل. بينما يمضي المرء في قراءة الكتاب، فإن العودة المنتظمة لهذا الفصل لإنعاش ذاكرة المرء بصدد ما تعنيه كلمات معينة بالضبط جائز. على نحو مؤسف، فبعض المصطلحات الأساسية هنا لها تعريفات بديلة أو إساآت فهم تامة فيما يتعلق بمعناها، وإنه لهامٌّ ألا يُسمَح لهذا الأمر بتشويش التعريفات المعطاة هنا. كما سيتضح، فإن التفكير بوضوح ودقة ليس مكافأة وعلاوة (مكسبًا) فيما يتعلق بالتفكير القائم على العقلانية، بل هو ثمن رسم الدخول (شرط أساسي). 2- افتراضا الاعتقاد الديني إنه لأسهل أن تقاوم عند البداية أكثر مما عند النهاية ليوناردو دا ﭭنشي بعدما أنشأنا حدًّا أدنى من التحديد لمعاني المصطلحات الأساسية للاعتقاد الديني، فقد حان الوقت لتناول المشكلة الأخرى التي يطرحها على العقول الباحثة، تحديدًا: أنه لا يميل إلى تقديم وصول سهل للتأكد من تأكيداته [التي يزعمها]. الاعتقاد الديني يصف عدمًا من الغموض، مما قد يجعله يبدو منيعًا ضد هجومٍ عقلانيّ مقصود. في الواقع، فإن الموضع الذي يضع الدين فيه تفسيراته للخبرة البشرية آمن من التحري عنه لأنه يُحدَّد خارج الفهم البشري. رغم ذلك، فالاعتقاد الديني كان يجب أنه سيترك بعض الفراغ في مملكة البناء المعرفي البشري لو لم يكن أكثر من مجموعة من النقاشات الخيالية ليس له أي صلة أيًّا كانت مع الواقع الموضوعي. رغم كونها ليست بدون صدوع وعيوب منطقية بالتأكيد، فإن الأديان ليست غير متسقة كليًّا من وجهة نظر داخلية، وعيوبها إلى حد أنها تحتوي على أخطاء قاتلة، ستعيَّن في افتراضاتها حول العالم، الذي بني منطقها الداخلي عليه. إن الافتراضات المتطلبة للاعتقاد الديني لها براعة دقيقة في كونها بسيطة للغاية، إلا أنها تنتج القوة للكلام عن تنوع غير محدود من الأحداث. بالتالي، ما هو الحد الأدنى من الافتراضات عن الوجود التي يجب أن يقبلها المرءُ لكي ينتج عن ذلك منطقيًّا بقية بنية الفكر الديني؟ الافتراض الأول ما فوق الطبيعي [الغيبي] يوجد في الواقع الموضوعي لا يحتاج المرء إلى فحص الاعتقاد الديني بالكثير من الحماس لتصله الرسالة بأن العالم غير كافٍ حرفيًّا من منظوره. لدى الاعتقاد الديني كره شديد لتصنيف أي شيء، خاصةً البشرَ، وفقًا لتصنيفات فيزيائية أو مادية، تحديدًا لأنه يحتاج إلى إنشاء تصور وجود لا نهائي لجمهوره، وهو يفعل ذلك بزعمه بأن وعي الفرد سينجو من فناء جسده الفيزيائي المحكوم عليه بالموت. هذا ممكن بسبب مفهوم الروح، والتي هي ككبسولة زمنية يُحمَى فيها أعز الأجزاء من الشخص من قانون الحياة حتى تُحرَّر وتطلَق بالموت في شكلها الأبديّ النقيّ. لكن أين توجد روح الشخص؟ حتى الآن، فإن عددًا لا يُحصى من الجراحين وعلماء التشريح قد فتحوا جسد الإنسان، ولا أحد قد وجد الروح قطْ، أي أنه لا سبب تشريحي للاعتقاد بأنها توجد. نفس السؤال ينطبق على الآلهة. أين هذا الكائن أو هذه الكائنات؟ للهرب من تقييد الأدلة التجريبية فيما يتعلق بهذا، فإن الفكر الديني يقرر بأن هناك مملكة أخرى للوجود والتي لا يقدر البشر أن يشعروا بها، أيْ: مملكة ما فوق الطبيعي، والتي هي مكان ادعاء الاعتقاد الديني، ويجب أن يُقنِع أتباعه بقبول فكرة وجوده في الواقع الموضوعي لكي يكون لباقي تفسيره صلة به. سيكون رائعًا الحديث بعمق ودقة أكثر عما يكونه الفوق طبيعي حقًّا، لكن طبيعة المفهوم نفسها تحول دون إمكانية ذلك. فبعد كل شيء، لا يمكن للمرء نقل معلومات على نحو موثوق عن مكان قد عُرِّف خارج حدود إدراكه، وبهذه الطريقة فإن غرابة الاعتقاد الديني تعمل على إبهام فرضياته. بينما يصارع المرءُ مع مالا يتماسك منطقيًّا بصدد الدين، فقد يسأل أسئلة عن الله أو الآلهة والروح ولماذا لا يمكن تحديد مكان أي منهم، لكن الناس يفشلون عادةً بجعل هذه التساؤلات تؤدي إلى نتائج مثمرة بسبب إخفاقهم في استعمال الشك بدلًا من التحير فيما يتعلق بمفهوم الفوق طبيعي. إن المشكلة هي أن فرضية أن ما فوق طبيعي يوجد في الواقع الموضوعي تترك الشخص بدون أي أحقية في مراجعة صحة الفرضيات الأخرى على نحو مستقل والتي يقدمها الاعتقاد الديني. على نحو لا يفاجئنا، فإن الناس تكافح لتحدي تأكيدات الدين لأنهم كثيرًا ما يشار إليهم إلى ما فوق الطبيعي، والذي هو بمثابة حصن منيع حالما يقر المرء بأنه يوجد في أي مكان خارج التصور. إن وجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي هو افتراض ذو فائدة كبيرة [للاعتقاد الديني] عندما يتفكر المرء في معانيه الضمنية، والالتفافات الضمنية التي قد يختار أي دين دمجها على أساس فرضية وجوده لا نهائية. كمثال، هل يمكن أن يغير ما يحدث في العالم فوق الطبيعي ما يحدث في العالم الفيزيائي؟ أي: هل يمكن لسبب في العالم فوق الطبيعي أن يؤدي إلى نتيجة في العالم الفيزيائي؟ وإلى أي مدى يتفاعل العالمان فوق الطبيعي والفيزيائي؟ تعتمد الإجابة على هذه الأسئلة على قوة الفرضية التي يختار دين معيَّن توظيفها. يتنوع طيف الفرضيات عن التفاعل السببي بين فوق الطبيعي والفيزيائي على مختلف الدرجات. على أحد الطرفيين القصويين، بعض الأديان تصور العالم فوق الطبيعي كمستودع مجهول لكائنات رئيسية كالآلهة والروح، أي أن هناك سببية محدودة أو لا سببية بين المملكتين، على الطرف الآخر تقول أديان بأن العالم فوق الطبيعي في المعتاد يتحكم في كل شيء فيزيائي، أي أن مجموع الأسباب الموجودة في الوجود فوق الطبيعي هي السبب لكل النتائج الفيزيائية. بالتأكيد، فإن المدى الذي يريد دين معين وفقًا له الاستفادة من الافتراض الأول غير ذي صلة بالتحليل الحالي. إن عالمية هذا الافتراض عبر الأديان هي النقطة المحورية. في الاعتقاد الديني فإن العالم الفيزيائي هو وهم [أو متاع الغرور وشيء زائل] يحجب الجوهر الحقيقي للوجود. كيف تقنع الأديان الناس بقبول هذا الافتراض على أنه تصور مضبوط للواقع؟ رغم كل شيء، فإن ما فوق الطبيعي (الميتافيزيقي) قد عُرِّفَ بحيث تكون الأدلة التجريبية والقائمة على الملاحظة على وجوده غير ممكنة. الإجابة هي أن الاعتقاد الديني لديه افتراض ثانٍ إلزاميّ لأتباعه في شكل الإيمان. الافتراض الثاني الإيمان فضيلة قيمة الإيمان هي مسألة رئيسية في النقاش عن الاعتقاد الديني. إن أكّد شخصٌ أن الإيمان بركةٌ ووسيلة رائعة للكمال الروحيّ، فهو متدينٌ. إن اقترح شخص آخر بأن الإيمان منافٍ للعقل ويزعم فقط أشياء لا يمكن للمرء إثباتها تجريبيًّا أو منطقيًّا، فهو متشكك أو ملحد (عقلاني). لا توجد أرض واقعية متوسطة بين الفريقين. على نحو غريب، تنزع الأديان إلى تصوير الإيمان كفضيلة أخلاقية، وهو تكتيك وحيلة سنعود إلى مناقشتها وشرحها في الفصل 12، عندما نناقش الأخلاق. رغم ذلك، فإن الإيمان هو تقنية اكتساب معرفة حقًّا، كما يمكن أن يُرَى من تعريفه، في أنه يتعلق بوسيلة يقرر بها المرء صحة أو بطلان تأكيد (زعم). تأمَّلْ الافتراضين المزدوجين لوجود فوق الطبيعي والرأي الإيجابي عن الإيمان. إنهما يعملان سويًّا للقيام أولًا بادعاء (وهو وجود فوق الطبيعي وكل شيء فيه) ثم تقديم وسيلة لقبوله بها (وهي الإيمان). هذا كل ما يتطلبه الاعتقاد الديني، وليس معنى ذلك أن الأديان لا تحاول تجنيد الأدلة والمنطق لدعم ادعاآتها، بل بالأحرى أنها لو أقنعت أتباعها بقبول الإيمان كتقنية صحيحة لاكتساب المعرفة، فمن ثم ليس عليها نظريًّا أن تقلق [بالأحرى أن لا يقلق مؤسسوها والمستفيدون منها كرجال الدين والمناصب_المترجم]. رغم ذلك، فلأغراض عملية يشعر معظم المؤمنون المتدينون بأن الإيمان كتقنية لاكتساب المعرفة ليس جيدًا كفايةً، وحقيقة أنهم يحاولون تجنيد الأدلة والمنطق لصالح معتقداتهم يكشف عدم راحتهم الحدسية مع المفهوم. في الحقيقة، فإن فعل قبول بعض المعلومات باعتبارها يُعوَّل عليها على أساس الإيمان مع الشعور في نفس الوقت بالحاجة إلى تفسير جوانب أخرى من النظام الاعتقادي منطقيًّا يمثل عدم اتساق جَلِيّ مذهل. وحيث أن الإيمان يضمن افتقاد الأدلة المعقولة والمنطق، فإنه في حد ذاته غير علمي وغير منطقي. لذلك، فلا يمكن أن تُدمَج الجدليات المنطقية مع نظام يتطلب الإيمان من وجهة نظر نظرية متسقة (ثابتة على المبدإ). رغم ذلك فعمليًّا يوظف كثير من المؤمنين المتدينين الإيمان كشبكة سقوط آمن يمكن أن تسقط عليها الأجزاء الرئيسية للاعتقاد الديني بعد فشل القيام بمحاولة بهلوانية لعرض جدليات تجريبية ومنطقية لصالحها في البرهنة على صحتها. لماذا سيشير مؤمن متدين على الإطلاق إلى الدليل أو المنطق إن كان يعتقد إلى حد كبير بالإيمان؟ كما سيتضح في الفصل التالي، فإن الدليل والمنطق لهما دور كبير في المخطط اليومي الذي يستخدمه العقل للبقاء والعمل في الواقع، وكونهم يهجرونهما فيما يتعلق بالاعتقاد الديني يصنع ضغطًا بسبب الاحتياج إلى الحفاظ على ازدواجية غير متماسكة ومتنافرة في رؤية الشخص الكونية. الاعتقاد الديني والتفكير القائم على العقلانية يوظفان تقنيتين لاكتساب المعرفة لا يمكن لهما التواجد سويًّا [في ذهن الشخص] ويظهران عدم احترام علني لبعضها الآخر. إلى حد أن الشخص يشعر بالصراع الداخلي لجمعهما كليهما معًا، إنه لمرجَّحٌ أن يبرِّر الصدام بالإقرار بأنه لا يستطيع البقاء حيًّا بدنيًّا بدون استخدام الأدلة والمنطق لأجل الحياة العملية، لكنه لا يمكنه البقاء حيًّا عاطفيًّا بدون الاحتفاظ بالاعتقاد الديني. إنه ممكنٌ أن يقترح امرؤٌ أن الإيمان على نحوٍ ما ملائم كوسيلة لاكتساب المعرفة عندما يتعلق الأمر بمملكة ما فوق الطبيعة لأجل استغلاق تعريفها، والتوكيد المستتر بأن محتويات مملكة ما فوق الطبيعة مستثناة من الكشف التجريبي والتفحص المنطقي، مما يستلب كل النقاش. بالتأكيد، فإن وجود مملكة ما فوق الطبيعة نفسه تأملي محض في حد ذاته، ولو أن الإيمان بمحتويات العالم فوق الطبيعي سيصير على رأس عناصر الإيمان بأن ما فوق الطبيعي له وجود من الأساس، فإن احتمالية الأخطاء والتناقضات ترتفع إلى درجات غير مقبولة. يُزعَم بأن العالم فوق الطبيعي شيءٌ يوجد في الواقع الموضوعي، لكن أفضل الوسائل المتاحة حاليًّا للبشرية لتقرر أسئلة كهذه عن الحقيقة هي العلم والرياضيات والمنطق. نادرًا ما يخوض الناس في افتراضات الاعتقاد الديني، إلى درجة أنهم يتركونها تمضي ناجحة غير متعرضة للتحدي بمناقشة مفاهيمها ذات المستوى الأعلى، لقد خسروا اللعبة بدون إدراك ذلك. إن لم يتحدَّ المرءُ افتراض أن ما فوق الطبيعي يوجد في الواقع الموضوعي، فمن ثم سيكون غير قادر تمامًا على تكذيب أي شيء سيرغب [مناصرو] الاعتقاد الديني استدعاءه من ذلك الملعب. إن يقبل امرؤٌ الإيمان كوسيلة صحيحة لاكتساب المعرفة بدون تقييم صحة الفكرة عن فضائله، فمن ثم فإنه يكون بالمثل عاجزًا مُعَرْقَبًا عن القيام بتحليل أي شيء قد يبدو متناقضًا في الاعتقاد الديني. هذا بالضبط سبب كون حصر المصطلحات والحد الأدنى من الافتراضات الخاصة بالاعتقاد الديني هامة جدًّا: للبرهنة على أن السبيل الوحيد لنزع المصداقية عن الاعتقاد الديني هي بفحص مدخله. فحالما قبل امرؤٌ الدعوة لدخول عالمه، يعمل افتراضاه على كسب موافقة الشخص المطلقة على نزع أسلحته الفكرية. افتراضا الاعتقاد الديني 1-ما فوق الطبيعي يوجد في الواقع الموضوعي. 2-الإيمان فضيلةٌ. بملاحظة كيف أن هذين الافتراضين يدعمان أحدهما الآخر. فإن الأول يقوم بادعاء أن هناك مملكة غير معروفة لكنها على نحو غريب مملكة مهمة للوجود في الواقع الموضوعي، والافتراض الثاني يعلن أن الادعاء الأول مستثنَى من كلٍّ من التحليل العلمي والتفحص المنطقي. بالتأكيد، يخفي الاعتقاد الديني جوهر هذا الخداع الفكري خلف شعارات مقدسة وأساطير معقدة، لكن نتيجتها النهائية هي إسقاط الحق باستبداد عن العلم والرياضيات والمنطق في إجابة الأسئلة عن الحقيقة في الواقع الموضوعي. كل شيء آخر تقوله الأديان مستمدٌّ من هذين الافتراضين، وينبغي أن يشعر المرء بالرهبة من العبقرية الشريرة للاعتقاد الديني عندما يتعلق الأمر بالحد الأدنى البسيط المذهل الذي يحتاجه ليعمل. سر وصفة الاعتقاد الديني للاحتفاظ بالقوة التي يحدثها هو 1-القيام بوعدٍ و2-إقناع الناس أن السؤال عن الدليل على صحة ذلك الوعد غير مقبول، سواءً أخلاقيًّا أو أي شيء آخر. حالما أقنع [دعاة] دينٍ أتباعهم بقبول هذين الافتراضين، فإن المحترفين لديهم شيك على بياض باستحضار وادعاء أي شيء يريدون من مملكة ما وفق الطبيعة [المزعومة]، ولن يحاول أتباعه إزعاج أنفسهم بالسؤال عن أساس أي معرفة مزعومة مقدمة لهم. ولو فعلوا فيمكنهم توقع أن يُذَكَّروا بشروط اتفاقهم الأوليّ، وخاصةً البند الذي يقول بأن الإيمان سيكون مطلوبًا للعضوية. بواسطة هذين الافتراضين المفيدين للغاية فإن الدين ومحترفوه [ممتهنوه] قد أصبحوا المفسرين لعالم يقع خارج إدراك البشر، يمكن أن تُستغَل قوته بعد ذلك لادعاء السلطة على أي موضوع أو حدث يرونه ملائمًا. على نحو موضوعي، فهاتان خطوتان وقحتان تقدمان كمًّا رهيبًا من الربح الممكن للناس الذي يدعون الإمساك بالمفاتيح الخفية لبوابات المملكة الغيبية فوق الطبيعية. كما سجلت في المقطع السابق، فإن الأديان تقوم بما هو أكثر من تأسيس الإيمان المناصِر كأساس وحيد للاعتقاد، وأن [منظريها وممتهنيها] يحاولون دومًا إنتاج أدلة أو منطق لدعم [زعم] صحتها. بغض النظر عن عدم الاتساق القاتل الشديد لخلط تقنيتي المعرفة هاتين في وجهة نظر كونية واحدة، فإن الفصلين 6 و7 سيتناولان المحاولات العملية القائمة على العقل التي تحشدها الأديان لتأييد تأكيداتها ومزاعمها. فرغم كل شيء، فإن أدلة أو منطقًا يبرهن على حقيقة التأكيدات والمزاعم الدينية على نحو معقول سيجعل الإيمان مثار جدل. باعتبار عري (ضعف) الاعتقاد الديني عند هذه النقطة الحاسمة، فإن المرأَ قد يتعجب على نحو صحيح كيف يصير الناس مقتنعين بقبول شروطه. كما سنناقش قريبًا، فالأديان كثيرًا ما تكتسب موضعًا في فكر الشخص من خلال تلقين مبدئي من خلال علاقة حيث تكون الثقة المسبقة والخضوع موجودين فعليًّا بين الناس. كمثال، فإن الطفل الصغير يثق بأسرته غريزيًّا، والأديان تحث الوالدين على مزج افتراضاتها وأيديولوجيتها مع باقي الدروس العملية التي يلقنونها للطفل. افتراضات الاعتقاد الديني ليس لها تماسك تجريبي أو منطقي لتبقى على أساسه ذات صلة بحياة الشخص العملية، ويجب أن تُدمَجَ في هوية الشخص بدون أن ينجح في تحليلها، وهو هدفٌ يحقق نجاحًا كبيرًا عندما يكون الشخص صغيرًا ومعتمدًا على نحو طبيعي على الآخرين. بالتأكيد، فإن الاعتقاد الديني والدين لم يتم تصوره وإنشاؤه بحيث يكون مؤثرًا ببراعة إلى هذه الدرجة على مرة واحدة. بالتأكيد، كل آلياته وبنيواته قد تطورت لتستفيد من التدرجات الاجتماعية الطبيعية الناتجة عن افتراضاته الإلزامية فيجد بذلك أفضل واسطة للنقل عن طريق عملية الإغفال والتجاوز. ليس معنى هذا أن الأساطير الأكثر تعقيدًا لأي دين معيَّن لا تتغير باستمرار لأنها كثيرًا ما تكون كذلك، وهذه الأساطير والقوانين الأخلاقية لديها المرونة والحرية لتتطور لتلائم الزمن والمكان الذي تُنقَل إليه. رغم ذلك، فإن الافتراضات المؤسِّسة التي يقوم عليها التأويل الأعلى مستوى لا يمكن أن تتغير، وتهربه ومرواغته عن التعرف والتحقيق يدل على كونه مشبوهًا مشكوكًا فيه وليس على غموضه واستغلاقه. كما سنرى الآن على الفور في تفحص افتراضات التفكير القائم على العقلانية، فإن علامة ودمغة أنظمة الفكر التي لا تخاف من جهة جودة منتجها هي الشفافية [المصداقية]. 3- الافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية أنا ثابت كالنجم القطبي الشمالي وليَم شيكسبير صنع افتراضات جديدة لحياة المرء عند ترك الاعتقاد الديني ليس صعبًا. في الحقيقة، فالمرء [المتدين] مقتنعٌ باستعمال هذه الافتراضات في كل شيء يقوم به غير دينه. كمثال، كيف يعرف المرء أن كمبيوتره سيعمل عندما يضغط على زر التشغيل؟ هل لديه إيمان بأنه سيفعل؟ أم أن لديه توقعًا عقلانيًّا قائمًا على الأدلة والمنطق أنه سيعمل لأن عدته [أجهزته، هاردويره] قد صُمِّمَ وفق مبادئ وبحث علميّ؟ لو لم يعمل كمبيوتر المرء فهل سيعتقد أن إلهًا قد قرر التدخل في مجموعة دوائره الكهربية وسبب إخفاقه، أم سيتصل بخط المساعدة الخاص بالمصنع ويحصل على نصيحة لحل المشكلة؟ [أو في حالة الفقراء مثلنا يلجأ لمهندس صيانة لجهاز بلا ضمان!_م]. بالتأكيد، سيختار التصرف الأخير. هذا هو التفكير والفهم القائم على العقلانية الذي كان سيشغل كل منظور المرء [المتدين] لولا التدخل الاستبدادي للاعتقاد الديني في إخراجه باستمرار عن مساره السليم، وتتبخر تقنيات اكتساب المعرفة والنظرة الكونية الكلية القائمة على التفكير العقلاني في ظل وجود مضاداتها في الاعتقاد الديني. الافتراض الأول الأساس الوحيد الممكن الاعتماد عليه للبشر لأجل المعرفة هو الواقع الموضوعي هو حواسّ الجسد البشري. على نحو واضح، فإن الافتراض الأول للتفكير القائم على العقلانية يتصادم مع الافتراض الأول للاعتقاد الديني، وليس معنى هذا أنه يتضمن ضمنيًّا أن ما فوق الطبيعي لا يوجد، بل بالأحرى أن البشر ليس لديهم طريقة للتقرير على نحو موثوق ما إذا كان يوجد بسبب طبيعة تعريفه [فوق الطبيعي] والعجز الملازم لحواس الجسد عن أن تتفحصه. سوف يتم عن طريق الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقل آخر الأمر رفض افتراض الاعتقاد الديني لوجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي. المخ البشري هو الجهاز الذي يخلق أفكار الشخص عن الواقع الموضوعي، لكنه لا يمكنه خلق أفكار أو آراء ذات علاقة بموضوع بدون بيانات، والتي يجب أن تُجمَع من خلال حواس الجسد الخمس: اللمس والشم والتذوق والنظر والسمع. لسوء حظ البشرية، فإن تفسير العقل للبيانات التي يحصل عليها من الحواس يتعرض للخطأ في بعض الأحيان، مما يمكن أن يسبب أوهامًا للإدراك. كما سيُرى في الافتراض الثاني للتفكير القائم على العقلانية، فإن البشر قد اختلقوا العديد من الوسائل المنهجية للتحقق من دقة تفسير العقل للبيانات التي يستقبلها. تقنيات اكتساب المعرفة للافتراض الثاني للتفكير القائم على العقلانية هي العلم والرياضيات والمنطق، كل منها له أسسه في الحواسّ. هذه الحقيقة واضحة في الفروع التجريبية القائمة على الملاحظة للعلوم من احتياجها لجمع البيانات المحسوسة من التجريب. لكنها مسألة أقل ظهورًا في الرياضيات والمنطق والعلوم النظرية، والتي هي فروع لا يبدو أنها تتطلب بحوثًا تجريبية لكي تتقدم. بينما تبسّط هذه المجالات من العلوم الواقع إلى متغيرات وعوامل وتعابير تبدو منفصلة عن حواس الجسد، لكنها مع ذلك توجد أصولها في الملاحظات الحسية. ففي جذورها، قد بُنِيَتْ هذه المجالات على بديهيات ومسلَّمات، واللاتي هن بسيطات، وحقائق واضحة صحيحة في حد ذاتها عن الواقع الموضوعي والتي قد جُمِعَتْ من خلال الحواسّ. المستويات العليا لهذه المجالات النظرية على نحو مماثل تأخذ هذه الحقائق غير المختلف عليها المجموعة عن طريق منظومة الإحساس البشري وتدمجها في أنظمتها. الفارق الواضح بين العلوم التجريبية والمجالات النظرية فيما يتعلق بحواس الجسد البشري ينشأ من أن ترجمة الخيرة للبيانات الحسية على لغة رموز، والتي لها فوائد فيما يتعلق بإدراك التعقيد الشديد للواقع الموضوعي باستعمال مصطلحات متحكَّم بها ومعرَّفة جيدًا. على أي حال، فإن تقنيات اكتساب المعرفة للتفكير القائم على العقلانية_كما سنذكِّر في الافتراض الثاني_تعمل كأدوات تدقيق للحواسّ، مؤلَّفة من أكثر ملاحظات البشرية موثوقية وتثبتًا عن الواقع الموضوعي. بعبارة أخرى: مهما كان التعقيد الذي قد تظهر به أدوات التفكير القائم على أساس العقلانية، فإنا كلها تلتزم بالافتراض الأول المقدَّم عنها. في الواقع، كيف يمكن أن يكون خلاف ذلك؟! في الواقع، حتى التلاعب الداخلي بالمتغيرات المجردة النظرية بالكامل لا يمكنه أن يتقدم وفقًا لعمليات تأتي من العدم لأنها كانت ستصبح عشوائية وغير ذات صلة. يجب أن يكون هناك تفكير سليم خلف أي تصرف نظريّ في هذه المجالات، وحكم السلامة يمكن دومًا تتبعه رجوعًا إلى الإدراك الحسي الذي أنشأ أسس المجالات العلمية في المقام الأول. بترك تقنيات اكتساب المعرفة جانبًا، فأي أسس أخرى للمعرفة بالضبط لدى البشر ليؤسسوا عليها على نحو يمكن الوثوق به معرفة الواقع الموضوعي غير حواس الجسد البشري؟ تخيل أن كل البشر قد وُلِدوا [أو نشؤوا] بدون أي مقدرة حسية على الإطلاق. بالتأكيد، فإن المخ سيظل رغم ذلك يعمل في عالمه الداخلي، لكن كيف سيمكنه بأية حال أن يقيِّم عالمه الخارجي؟! لن يكون للمنطق والمجالات النظرية أي فائدة لأن المرء سيفتقد معرفة البديهيات الأساسية لإطلاق شرارة صنع هذه المجالات العلمية. لن يكون للعقل أي وسائل لتقرير أن العالم الخارجي يوجد حتى. في الواقع، هذا هو بالضبط الموقف فيما يتعلق بتضمينات الافتراض الأول الديني بوجود مملكة ما فوق الطبيعة. الافتراض الثاني العلوم والرياضيات والمنطق هي حاليًّا أكثر الوسائل موثوقية وقابلية للاعتماد لتفسير الواقع الموضوعي وتوقع أحداثه. العلوم والرياضيات والمنطق هي وسائل اكتساب المعرفة في التفكير القائم على العقلانية، وهن يقدمن وسائل منهجية تعتمد على بيانات الإحساس البشري بينما كذلك في نفس الوقت ترشد التفسير للبيانات المذكورة بملاحظات سابقة دقيقة، دقتها فوق التساؤل المنطقي. بعبارة أخرى، فإن لفظة discipline [كلمة إنجليزية تعني فرع من العلم أو انضباط أو تعليم] قد أُحسِن استعمالها فيما يتعلق بهذه المجالات، فهي تنظم تفسير العقل للبيانات الجديدة باستحضار صلات موازية من الماضي كبيانات مفهومة جيدًا للمساعدة. "العلم" يمكن أن يكون كلمة مطاطية حيث أنه للأسف لا يوجد نقص في وقاحات العلوم الزائفة التي تتشبه بتحقيقات العلوم الحقيقية في الشكل لكن ليس في الجوهر. في الواقع، الكثير مما يُسمّى "علومًا" قد صُمِّمَ قصديًّا للاستفادة من ذلك التشبه لإعطاء مزاعمهن وتأكيداتهن مصداقية غير مستحقة. رغم ذلك، فإن تفحص الطبيعة الجوهرية الدائمة للبحث العلمي ستساعد على فصل الدجالين عن المحققين الباحثين الحقيقيين. في اللب من طبيعته، فإن العلم هو فلسفة عن اكتساب وتدقيق المعرفة عن الواقع الموضوعي، والمحرك الذي يدير تجاربه العملية هو تقنية تعرف بالمنهج العلمي. المنهج العلمي ليس إلا تفكير تدقيقي على أساس التجربة والخطأ للتحقيق: أحدهم يقوم بملاحظات عن العالم، منشئًا سؤالًا عن ماهية سبب هذه النتائج، منشئًا فرضيةً للإجابة على ذلك السؤال، ثم منشئًا تجربة معيارية متحكم بها لاختبار صحة تلك الفرضية، ثم ملاحظة نتائج التجربة. وسيلة التجربة والخطأ الخاصة بالمنهج العلمي تحاكي كيفية تعلم العلم البشري على نحو طبيعي. كمثال، تأمل طفلًا على وشك لمس موقد ساخن في لحظته مضرب المثل. يرى الطفل موقدًا ساخنًا، فيتغلب عليه الفضول، ثم يلمسه. لقد كان يجمع المعلومات عن العالم من خلال التجربة والخطأ، مستخدمًا حواس الجسد كأدواته لجمع البيانات. لقد شعر الطفل بشيء ما بصدد الموقد فأراد تعلمه (ما هذا الشيء مثلًا)، فصاغ تجربة لاختباره (لمسه)، فحصل على نتائجه (أحرق يده). من ذلك الحين فصاعدًا، لقد تعلم أنه عندما يرى الموقد مجددًا في ظروف مشابهة، فإنه لو لمسه سيحرق نفسه. مع تدقيق أساسي مضاف، فهذه هي وسيلة التحقيق التي يوظفها العلم لتقديم تفاسير الظواهر المعقدة في الواقع الموضوعي. بينما قد تبدو العملية روتينية، فإن المنهج العلمي يتطلب إبداعًا خلاقًا من جانب القائم بالتجربة حيث أنه ليس هناك فرضية مثالية ولا اختبار مثالي لفرضية مصاغة، أو كتيب إرشادي لإنشاء أيٍّ منهما. في الواقع، أصبح بعض العلماء عظماء أسطوريين في مجالات تخصصهم ببساطة لأجل تصميمهم اختبارات ذات بساطة مدهشة بينما يعزلون المتغيرات في نظام ملاحَظ بحيث لا يمكن تحدي تفسير النتائج وصحة الفرضية على نحوٍ منطقيّ. لكن ذلك استثناء على القاعدة رغم ذلك. تزداد دقة وصحة النتائج، كلما ازداد عدد أفراد المجتمع العلمي من العلماء في المجال المتعاونين المتشاركين في الوسائل المنهجية التي ابتكرها كلٌّ منهم لأجل اختبارات مختلفة تتعلق بظاهرة معيَّنة، ويصقلون التفسير الأرجح لمثل هذه النتائج (الظواهر) بينما يتخلصون من المتغيرات الأخرى المربكة ومعها التجارب المعيبة. بعبارة أخرى: يحتاجون إلى كثيرٍ من العمل وتلويث أيديهم في كلٍّ من التصور التنظيري وكذلك التجريب العملي ربما لسنواتٍ في النهاية، اعتمادًا على مدى تعقيد السؤال. على نحو هام، فإن تعاون المجتمع العلمي لتقييم النتائج وعمل إجماع علمي يشكّل لُبَّ ما يجعل نتائج التجربة موثوقة معتَمَدًا عليها. للتشبيه، فتفكر في سوق الأسهم. إن استثمار كل مال المرء في سندٍ واحد خطر للغاية من وجهة نظر رياضية. ربما يكون السند جزءً من صناعة عرضة لهزات إمداد أو اعتمادٍ ماليٍّ، ربما كانت الشركة تخفي خسائرها في سجلاتها على نحو غير قانوني، أو ربما ستعتبر الشركة مفلسة أو مصفّاة في المستقبل القريب. بعبارة أخرى، فإن الاشتراك في شركة واحدة مفردة عرضة للخطر الشديد الاستثنائي. إن قام المرء بدلًا من ذلك بتوزيع ماله على الكثير من الأعمال الاستثمارية في صناعات متباينة التي تتشاطر تشابهًا قليلًا في ظروف تعرضها للخطر، فإنه يقلل الخطر الوحيد لكل شركة إلى الحد الأدنى ويقترب من أقل حد ممكن من الخطر لأجل سنداته المالية، أيْ: خطر السوق. هذا هو التنويع. إنه يقلل العائدات المتوقعة من استثمار المرء، لكنه أيضًا يقلل التباين في تلك العائدات، أي انه يجعل إدراك ذلك المعدل من العائدات أكثر يقينًا. التنويع أو التشكيل هو بالضبط الاستراتيجية التي تستعملها المجتمعات العلمية عندما يقومون بالمراجعات العديدة التناظرية. كل عالم في مجاله يقر بأن الرأي الذاتي لأي باحث عن تجربة عرضة للخلل والعيوب في خطر استثنائي قائم على احتمالية أخطائه وإساءة فهمه. برفض قبول النتائج كمؤكدة إلى أن يتفحص باقي المجتمع العلمي منهجية التجربة وصياغة الفرضية، تزويد العلم لنا بالمراجعة المتعددة تجعل السياسة المقررة أن المخاطرة الاستثنائية غير مقبولة بدون تقديم باحثين منافسين لتقديم منظور إضافي. بعبارة أخرى فالعلم ينوع سندات منظوراته لنتيجة مقترَحة عبر أكبر كم ممكن من الناس والثقافات والخلفيات المختلفة لكي يتجنب عامل الخطإ فيما يشابه تجنب خطر سوق الأسهم، أي: [الوصول إلى] أقل مستوى ممكن من الذاتية البشرية. وكما في استعمال هذا التكتيك في سوق الأسهم فيما يتعلق بالعائد المتوقع، فإن التنويع (التعدد) في المجتمعات العلمية يبطئ من خلق المعرفة الجديدة، لكنه كذلك يقلل إلى الحد الأدنى الأخطاء التي تنشأ بسبب تحيزات أو أوهام إدراك أي فرد معيَّن ما. إن أساس بناء العلم هو المقدمة المنطقية بأنه كلما ازداد عدد الناس المتعلمين لمجال العلم التخصصي والمشاركين في تحليل مشكلة إلى الحد الأقصى، تقترب احتمالية قبول المجموعة العلمية للنتائج والتفاسير التي هي في الحقيقة خطأ من حدها الأدنى. ورغم أن العلم يأخذ احتياطات لتقليل الأخطاء إلى أدنى حد، فإن [أهل] العلم مستعدون للاعتراف إن كان لديهم خطأ إن ظهرت الأدلة المقنعة متناقضةً مع ما كان ذات مرة تفسيرًا مبرهَنًا. ليس هناك افتراضات بعلم كامل في العلم، وليس لديه القوة على إنشاء يقين تام محض عن الواقع الموضوعي، كما سنناقش في الفصل التالي. فرغم كل شيء، فإن العلم لا يمكنه الوصول إلى الموضوعية، إنه يمكنه فقط مقاربتها بتقليل الذاتية إلى الحد الأدنى، وهذا سبب أن الافتراض الثاني للتفكير القائم على العقلانية يصف العلم وتقنيات اكتساب المعرفة الأخرى بأنها أفضل وسائل متاحة حاليًّا، أي أنها تفوق الاختيارات الأخرى المتاحة، لكن ليس بمعنى مطلق. قبل دارسة الافتراض الثالث والأخير للتفكير القائم على العقلانية، فهناك ثلاث مسائل أصغر لاعتبارها. أولًا، بعض مجالات الدجل تروِّج نفسها على أنها علمية. إن افتقادها قدرًا معقولًا من الدقة في اللغة وادعاء مزاعمها بأنها تبرهن على معرفة عن الواقع الموضوعي ليست قابلة للاختبار ولا محاولة التكذيب، وعمومًا طبيعة معارفها الراكدة التي لا تتقدم ولا تتغير كلها علامات على العلوم الزائفة الاحتيالية. هل يمكن أن بها بعض عناصر الحقيقية ضمنها؟ كل شيء ممكن. هل تزوِّد الناسَ بأي وسيلة عقلانية للتحقق من دقة وموثوقية مزاعمها وتوكيداتها؟ لا. بهذه الطريقة، فهي مشابهة على نحو مذهل لأي دين ما، وليس مصادفة أن الكثير من العلوم الزائفة تقتبس عناصر من الاعتقاد الديني، خاصة أساطيره. ثانيًا، إن القيام بتجربة في مجال علمي صحيح يتطلب الاستعمال الصحيح والصارم للمنهج العلمي لا يعني أن تفسير الباحث لنتائج التجربة يمثل إجماعًا علميًّا. فأحيانًا سيشير المؤمنون المتدينون إلى مقال أو تجربة تدعي أنها دليل مؤكد على وجهة النظر الخَلْقِيّة ثم يقفزون مباشرةً إلى العنوان الرئيسي بدون قراءة الوسائل المنهجية والفرضية ورد فعل المجتمع العلمي. المراجعات المتعددة والإجماع العلمي ليسا سمتين أنيقتين للعلم، بل هما السِمَتان الرئيسيتان لعملية مراقبة الجودة التي يستعملها لتقديم معلومات موثوقة يُعوَّل عليها. إلى حد أن تجربة لا تحقق اعترافًا كهذا، فإن نتائجها لا تكتسب مظهر الموثوقية المخادع لمجرد كونها محاولة علمية. ثالثًا، التعليقات [السابقة] فيما يخص العلوم والبحث العلمي لا تنطبق البتة على الرياضيات، والمنطق هو المؤسس لكليهما. الرياضيات لديها رفاهية وميزة أنها قادرة على العمل في عالم اصطناعي من المفاهيم المجردة المعرَّفة جيدًا بتروٍّ. التطبيقات الرياضية في العلوم كثيرًا ما تكون مفيدة في تقدير وقياس والتذكير بالأنماط في الطبيعة بصياغات أو اكتشاف أشياء غريبة صحيحة رياضيًّا لكنها لا تتوافق الفهم الحالي للعلم للواقع الموضوعي. بهذه الطريقة، فإن الرياضيات هي شريك مكمل للعلم لها القوة على تركيز فحصها على نواحٍ ربما لم يتفكر حدس الباحث فيها قط. الرياضيات محاولةٌ لصياغة أنماط السببية في الطبيعة بالأرقام، والمتغيرات، والعوامل، التي توجد كلها في عالمها الافتراضي البحت الخاص بها. رغم ذلك، فعندما تُقرَن الرياضيات مع البحث العلمي، فإنهما يتعاونان في تناغم بنّاء مثير للإعجاب. أحيانًا، تتضمن النظرية الرياضية تصرفًا للبحث العلمي، وفي أحيان أخرى ستخترق النتائج العلمية طريقًا إلى النظريات الرياضية. الجمع بين هذين المجالين يصنع تشاركًا فعّالًا بين المجال النظري والعملي، مؤديًا إلى تبسيط ما كان يبدو ألغازًا مستغلقة على الفهم إلى صياغات مفهومة، مع التحقق من سلامة العمل في كل مرحلة. يبدو منافيًا للعقل وسخيفًا أن نضع تقنيات اكتساب المعرفة للإيمان مع تلك الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، وخاصةً في مسألة موثوقية المعرفة التي ينشؤها كلٌّ منهما. فبطبيعته، لا يحاول الدين القيام بأي محاولة لتقديم أي وسائل معقولة للتحقق من مزاعمه وتأكيداته، مما يضع كامل الاعتقاد الديني في نطاق مشكوك فيه، وبسبب طبيعتها الحصرية، ترفض تقنيات اكتساب المعرفة القائمة على العقلانية تمامًا [يعني تتنافر مع] مضادّاتها في الاعتقاد الديني. الافتراض الثالث الفرضية هي باطل وخطأٌ مفترَضٌ حتى تثبت صحتها وفق تجريب علمي صارم دقيق قابل للإثبات المستقل وتكرار القيام به. بينما الافتراض الثالث هو في الحقيقة بيان عن مفهوم علمي ومنطقي هو فعليًّا جزء من التفكير القائم على العقلانية بسبب تضمينات قواعد الافتراض الثاني في التفكير القائم على العقلانية، فإن له أهمية فريدة هامة في النقاش عن وجود الإله أو الآلهة، وإعطاء انتباه خاص لمنطق هذه القاعدة سيبلور ويبرز بعض المشاكل الهامة في الفكر الديني. يصف الافتراض الثالث الطريقة التي يؤسس بها التفكير القائم على العقلانية عبء الإثبات ومسؤوليته التي تصنع موثوقية تقنياته لاكتساب المعرفة. تأمل مثالًا لتطبيق عامي غير رسمي لهذا الافتراض ستساعد المرءَ على إدراك حضوره في سياق تفكيره العملي الاعتيادي. افترِضْ أن شخصًا أخبر صديقه أنه يمتلك منزلًا يطير بوصتين فوق الأرض. في تلك الحالة، فسوف يفترض على نحو طبيعي أن ذلك ليس صحيحًا حتى يُرى مثل هذا المشهدَ. بعبارة أخرى: إن الناس تفترض على نحو طبيعي أن الادعاآت الكبيرة باطلة حتى يظهر دليل معقول يبرهن على صحتها. بدون وجود دليل معقول، فإن الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية يعمل كمصفاة تغربل وتنبذ التأكيدات والمزاعم التي تفتقد مستوىً معقولًا من التأييد وبالتالي الموثوقية. العقل يؤسس أفكاره العليا الأساسية وآراءه ودوافعه على أساس التأكيدات التي قد قرر أنها تنطوي على حقيقة موثوقة على نحوٍ كافٍ، ومن مصلحته أن تكون هذه الأفكار والآراء انعكاسات حقيقية للواقع الموضوعي. تخيل الأمر كعملية غربلة واختبار لأجل وظيفة شاغرة جديدة. يُقابَل المرشَّحون الجدد، ويُختَبَرون، ثم يُقبَلون كموظفين. بعد إكمال عملية المقابلة هذه، لن يحتاج أي صاحب عمل إلى الانخراط في ذلك المستوى من الفحص الخاص بالموظفين مرة أخرى. لقد اصْطُفُوا للانضمام، وحالما انضموا، فإن نجاح العمل يعتمد على كون عملية الترشيح قد قامت باختيارات جيدة. فيما يتعلق بمسألة وجود إله، فإن العقل [الديني] يفشل على نحوٍ معتاد في تفعيل افتراضه المعتاد بعدم الاعتقاد كما يتجلّى في الافتراض الثالث، وهو يتجنبه لسببين على الأقل. أولًا، إنه تابُوُ [محظور، محرَّم] اجتماعي أن تتحدى تأكيدات الأديان في الكثير من الأماكن في العالم، وأن تظهر مشكوكًا فيك فيما يتعلق بالاعتقاد الديني يكلف ثمنًا اجتماعيًّا قد لا يود الشخص دفعه. ثانيًا، وبصورة أكثر ضررًا، فإن فكرة تفعيل الافتراض الثالث قد لا تردِ على ذهن الشخص على الإطلاق. سبب ذلك هو أن العقل قد يهمل هذا لأن الأديان تنزع إلى تلقين افتراضي الاعتقاد الديني من خلال العلاقات الأولية المسبقة مع شخص ما يثق فيه المرء بشدة أو يعتمد عليه، كثيرًا ما يكون ذلك على خلفية علاقة الآباء والأبناء. بهذه الطريقة فإن الغرابة الموضوعية للاعتقاد الديني تتجنب ببراعة كشفها من خلال الافتراض الثالث الغريزي لذهن الشخص بأن تصير مموهة مع الدروس العملية الأخرى التي يعلِّمها الوالدان للطفل. في الحقيقة، دومًا ما تدعي الأديان بأنها منابع للاستقامة الأخلاقية، وافتراضاتها وأساطيرها كثيرًا ما تُلقَّن للأطفال على أساس هذا الزعم. وحتى بعدما ينضج الشخص إلى الوقت الذي يصبح فيه مُعَدًّا لاستعمال الافتراض الثالث لتقييم المعلومات العامة، فإن افتراضات الاعتقاد الديني تكون قد اخترقت حدوده الدفاعية فعليَّا قبل أن تُبنَى، ولن يكون لدى الشخص نفسه الميل ولا المقدرة على إعادة فحص كل درسٍ قد عُلِّمَه قبل أن يوجد ذلك الدفاع. لاحظ أن المؤمنين المتدينين ليس لديهم مشكلة في تفعيل الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع تأكيدات ومزاعم من أديان أخرى غير التي رُبُّوا فيها، وهو أمرٌ منطقيٌّ. التجاوز الفكري الذي ينصِّبُه اعتقاد ديني في بعض الناس قبل أن تنضج عقولهم إلى مرحلة فهم كيفية استعمال التفكير القائم على العقلانية لُقِّنَ لهم خصِّيصًا لأجل الدين الذي عُلِّموه فقط. العقل يتعرف على القصص والشخصيات الأسطورية والإطار العام لذلك الدين، أما المفاهيم من الأديان الأخرى التي ليست معروفة جيدًا له فسوف تُطلِق تفكير الشخص القائم على العقلانية، خاصة افتراضه الثالث، ليفترض أن مثل تلك التأكيدات باطلة حتى يثبت صحتها. بعبارة أخرى، العقل [الدينيّ] لم يُعلَّم أن يقبل كل الاعتقادات الدينية في العموم، بل بالأحرى نسخة وأداة دين معين منها. عندما يستمع شخص لتأكيدات من أديان أخرى لا تفعِّل تجاوزه وإهماله الفكريّ، فإن العقل لا يتعرف على المفاهيم، وتُستَبان غرابتها الموضوعية ولا تُستَثْنى من عدم الاعتقاد الموظَّف من جانب الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية لعقله. فقط عندما يُشار إلى دين الشخص الذي تربى عليه أو اختاره يُفعَّل تجاوزُ الافتراض الثالث، ويصير تفكيره القائم على العقلانية ممزوجًا على نحو متنافر مع الاعتقاد الديني. باستعمال مفهوم الفرضية العلمية، فإن الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية ينطبق على الأسئلة عن الحقائق المتعلقة بالواقع الموضوعي. إن جادل شخص بأن مشاعره الذاتية بالحب أو الخوف أو غيرها لا يمكن أن تُختبَر وفق هذا الافتراض، فإنه سيكون محقًّا. وعلى نحو أكثر دقة، فإن السؤال عما إذ كان في الحقيقة يشعر بمشاعر هو سؤال خاص بالحقيقة الموضوعية والذي يمكن تقريره بتحليل نشاط أجزاء المخ النشطة، لكن مسألة كيف يشعر هو بهذه الأحاسيس فلا يستطيع البحث العلمي التوصل لها. إن علاقاتها غامضة للغاية وهي لا تمثل حقائق عن الواقع الخارجي الموضوعي، بل بالأحرى قيمًا عن عالم المرء الداخلي الذاتي. رغم ذلك، فإن السؤال عن وجود الأماكن والكائنات المذكورة في الاعتقاد الديني ليس ذاتيًّا، إنه سؤال عن حقيقة تتعلق بالواقع الموضوعي. الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية يهدم افتراضي الاعتقاد الديني كليهما. يدعي الاعتقاد الديني بأن ما فوق الطبيعي هو مكان يوجد كجزء من الواقع الموضوعي، لكنه يعرف نفسه بما هو خارج تقنيات اكتساب المعرفة التي يوظفها التفكير القائم على العقلانية لاصطفاء المعلومات. على هذا الأساس، فإن الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية يعمل على إسقاطه ورفضه باعتباره غير مُثبَتٍ. على نحوٍ واضح، فإن رأي الافتراض الثالث في الإيمان كوسيلة لاكتساب المعرفة واضح، نظرًا لأنه يرفض قبول أي معلومات معطاة بدون دعم دليلي معقول. إن تركنا جانبًا طبيعة رداءة وتشوش تعريف كلمة (إله) فيما يتعلق بتضمينها في فرضية علمية، فتفكر في التأكيد التالي: "هنالك إلهٌ له وجود في الواقع الموضوعي والذي قد خلق البشر وكل شيء في الكون". يعمل الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية على افتراض بطلان ذلك الادعاء في غياب أي أدلة إضافية. بعبارة أخرى، فإنه يطلب دليلًا معقولًا كما لو أنه يقول: "اثبت لي"، بينما الإيمان، تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالاعتقاد الديني كأنه يقول [بلسان حاله]: "صدقني". الافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية 1-الأساس الوحيد الموثوق به الخاص بالبشر لمعرفة الواقع الموضوعي هو حواسّ الجسد البشري. 2-العلم والرياضيات والمنطق هن حاليًّا أكثر الوسائل موثوقية لتفسير الواقع الموضوعي وتوقع أحداثه. 3-الفرضية يفترض أنها باطلة حتى تثبت صحتها وفق تجريب علمي دقيق صارم، قابل للإثبات المستقل ولتكراره. الخبر الجيد هو أن الافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية هن المتَطَلَّبات فقط لنزع المصداقية عن الاعتقاد الديني ونبذه، أما الخبر الأفضل فهو أن أي شخص يعتمد عليهن كلهن في مرحلة أو أخرى من وعيه خلال حياته. لو أن شخصًا لم يتعرض قط لافتراضي الاعتقاد الديني فإنه لن يحيد على الأرجح أبدًا منهجيًّا عن التفكير القائم على العقلانية في عمره. خلال العديد من النقاط في نقاش هذه الافتراضات [الدينية] ستبرز فكرة غموض المفاهيم واللغة، وستستمر في الظهور، وخاصة في الفصل الثامن في موضوع الجدلية الفوقية. إن آلية البحث العلمي تتطلب تعريفًا معقولًا لطبيعة المواضيع التي يبحث فيها. باستهداف تفحص وفهرسة أنماط في الواقع الموضوعي، فإن الأرضية [الحدود العلمية] التي قد غطتها المعرفة العلمية فعليًّا يجب أن تُحدَّد بوضوح. بالإشارة إلى الجدليات الأخيرة القادمة في الفصل الأول، ندرك عدم انسجام الاعتقاد الديني عندما يخلط مع التفكير القائم على العقلانية. يفترض الاعتقاد الديني وجود أماكن وكائنات في الواقع الموضوعي ثم يُعجِّز ويعطل الأدوات التي ابتكرتها البشرية وصقلتها خصيصًا لإنشاء معرفة موثوقة عما هو حقيقي في ذلك المكان. عمليًّا، تعلِّم الأديانُ أتباعها أن يشعروا بعواطفهم بأن هناك في الحقيقة إلهًا، وما الذي يمكن أن يكون وسيلة غير موثوقة للبرهنة على سؤل عن الحقيقة بخصوص الواقع الموضوعي أكثر من تشجيع المرء على أن يدع مشاعره الذاتية تقود المسير؟! هكذا، فإن الصدامات التي لا تلين بين العلم والدين ينبغي أن تكون الآن قابلة للفهم. لكون مجموعتي افتراضاتهما اللتين يعمل كل واحد منهما بأحدها تتنافر وتأبى الأخرى تمامًا، فإن عداوتهما كمؤسستين حتمية لا يمكن تجنبها. لتوضيح الموقف، فإن النقاش بين الإيمان والإلحاد هو نقاش بين الاعتقاد الديني والتفكير القائم على العقلانية، والذي هو نفسه نقاش عن ماهية أفضل وسيلة لفهم ومعرفة ما يوجد حقًّا في الواقع الموضوعي وما هو خيالي. هذا هو كل ما يُناقَش في الجزء الأول من هذا الكتاب: القيام بتحديد يعتمَد عليه لما هو حقيقي. فيما يتعلق بوجود [الإله أو] الآلهة، فإن الإيمان هو استنتاج من يوظفون الاعتقاد الديني، والإلحاد [العقلانية] هو الاستنتاج وفقًا للأدلة الحالية المتوفرة الخاص بمن اختاروا التفكير القائم على العقلانية. 4- المنحنى البياني لليقين كثيرًا ما يُوَلِّد الجهلُ الثقةَ أكثر مما تفعلُ المعرفةُ تشارلِزْ دارْوِنْ على نحو عالميّ تقريبًا، يريد الناس أن يكون لديهم يقين فيما يتعلق بمعرفتهم عن الواقع الموضوعي. اليقين يولد مشاعر الراحة وقابلية التوقع ويزيل القلق الذي يشعر به البشر على نحوٍ طبيعي اتجاه المجهول. في الواقع، يكتسب الاعتقاد الديني إخلاصًا كثيرًا بتقديمه يقينًا تامًّا في تفسيراته، وباعتبار إخفاق تقنياته لاكتساب المعرفة في أن تتميز بالدقة والصحة، فإنه في الحقيقة مجبور مضطر على القيام بتأكيدات بمثل هذه القوة. رغم ذلك، فإن تقنيات اكتساب المعرفة للتفكير القائم على العقلانية لا يمكنه استخلاص معرفة الواقع الموضوعي إلى درجة إمكانية اليقين التام. فكما رأينا في مناقشة افتراضات التفكير القائم على العقلانية، فإن البشر يفتقدون تقنيًّا الإطار المرجعي الموضوعي الضروري الذي يمكنهم به تحقيق يقينًا صحيحًا تامًّا فيما يتعلق بمعرفتهم عن الواقع الموضوعي، رغم أن مستوى اليقين يمكن أن يكون مقاربًا لذلك بدرجة مقنعة. أدناه جدول بسيط، سيكون وسيلة توضيح مساعدة بصرية في تقسيم وتصنيف المصطلحات الضرورية للنقاش القادم. يقينيّ موجب لا أدريّ أو عديم الدراية الإلحاد إلحاد موجب يقينيّ يؤمن بعدم وجود إله ويدعي اليقين التام إلحاد سلبي لا يؤمن بوجود إله الإيمان يقيني موجب (الأديان والمذهب الربوبي) إيمان عديم الدراية أو متشكك هناك محوران للجدول: الإيمان والإلحاد، واليقيني واللاأدريّ [عديم الدراية أو غير المتيقن]، التوليفات بينها تصنع أربع مواقف محتملة. يختص محور الإيمان والإلحاد بالموقف من وجود إله [وغيبيات]، بينما يتعلق محور اليقينية وعدم الدراية بدرجة اليقين المدعى فيما يتعلق بالاستنتاج الخاص بالإيمان أو الإلحاد. المواقف غير المتماسكة والمتنافرة داخليًّا بسبب تقنيات اكتساب المعرفة المتضمَّنة في افتراضات كلٍّ منهما، فإن الاعتقاد الديني والتفكير القائم على العقلانية لديهما تضمينات ضرورية عن مستوى اليقين الذي يمكن لهما تقديمه في استنتاجاتهما عن الواقع الموضوعي. الموقفان 2 و3 في الجدول التوضيحي: الإلحاد اليقيني الموجب وإيمان مذهب عدم الدراية يمثلان ازدواجين من الاستنتاجات ومستويات اليقين واللذان هما متنافران داخليًّا ذاتيًّا، وباستثناء مناقشتهما الآن، فسوف يُتجاهَلان في باقي هذا الكتاب بِناءً على عدم تماسكهما واتساقِهما داخليًّا. الإلحاد المتيقن الموقف2 هو الإلحاد المتيقن والذي هو نادر أن يوجد في الواقع 1. فحيث أن الإلحاد هو الاستنتاج المنطقي وفقًا للأدلة المتاحة الحالية لمن يوظفون التفكير القائم على العقلانية، فإن تقنيات اكتساب المعرفة التي أدت إلى استنتاجه عن سؤال وجود إله هي العلم والرياضيات والمنطق. فرغم أن هذه الأدوات قوية للغاية في تقديم الحقائق وأنماط السببية للواقع الموضوعي، فإنها لا يمكنها إنتاج يقين كامل. كما نوقش في الفصل السابق، فإن أساس كل البحث البشري في التفكير القائم على العقلانية هو مجموعة الإحساس للجسد البشري، والتي تفتقد المرجعية الموضوعية لضمان أنها لا يمكن أن تدرك الواقع على نحو غير صحيح. ورغم منفعتها الهائلة وقدراتها التنبئية، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية لا يمكنها أبدًا تحسين تفسير بيانات الحواسّ إلى درجة اليقين المحض التام، وهذا واضح من رغبة حقول العلم العلنية في مراجعة معارفها عند أي لحظة إن ظهر سبب مقنع للاعتقاد بأن الاستنتاجات السابقة كانت خاطئة وعن طريق الخطأ. إن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية يمكنها التنبؤ فقط بالأنماط في الطبيعة من خلال ربط المعرفة المقبولة تمامًا الموثوقة للماضي والأحداث المشابهة مع الحاضر لكي تقوم بتنبؤات موثوقة عن المستقبل. في فعلها ذلك، فإنها تنتج مستويات عالية للغاية من اليقين في استنتاجاتها وتنبؤاتها، لكنها ليست يقينًا تامًّا. بالتالي، فإن موقف الإلحاد المتيقن يمثل مزاوجة خاطئة مشوشة ومتناقضة ذاتيًّا بين تقنيات اكتساب المعرفة والمستوى الناتج من اليقين لاستنتاج كل منهما. عمليًّا، يستطيع المرء "معرفة" أشياء كثيرة عن الواقع الموضوعي بناءً على البحث العلمي، لكن نظريًّا فإن اكتساب موقف يقينيّ فيما يتعلق بنتائجه غير صحيح. على نفس هذا النحو، فإن الإلحاد المتيقن موقفٌ غير متسق داخليًّا. ___________________________ لا أدري ما مقصود الكاتب بأنه نادر فكثير من الملحدين هم ملحدون من مؤيدي الإلحاد الإيجابي، حيث أن الأدلة العلمية والمنطقية تنفي أسطورة الخلق الإلهي وغيرها من خرافات، وشخصيًّا كمترجم أنتمي للإلحاد الموجب ولا أعتبره غير متسق داخليًّا، وكثير من العلماء والمفكرين هم كذلك كرتشَرد دوكنز وستيـﭬن وينبرج وستيـﭬن هوكنج ودانيال دانِت وبل ماهر والراحلين كرستوفر هتشنز وجورج كارلين وغيرهم، يقول دوكنز مثلًا أن احتمال وجود إله برأيه هو 1% فهذا أقرب إلى إلحاد موجب بالطبع. لكن نحترم رأي المؤلف ووجهة نظره مع اختلافنا معه. وكثير من أساتذتنا الملحدين العرب من مفكرين وعلماء أديان ومؤرخين يدخلون ضمن نفس فئة الإلحاد الموجب. ومع ذلك ففهم المؤلف للإلحاد الموجب على أنه ادعاء باليقين الكامل غير صحيح، فالعقل الإلحادي العلمي متفتح لكل دليل جديد أو إثباتات لنظريات وقوانين جديدة. قد يبدو الانشغال بدقائق المعرفة البشرية عملًا روتينيًّا مرهقًأ مع عائد قليل عند هذه النقطة الحاسمة، لكن عندما سينتقل النقاش إلى الإلحاد اللاأدري، ستكون التفاصيل هامة لكي نفهم بالضبط ما يقوله ذلك الموقف عن الأماكن والكائنات التي يدعي الاعتقاد الديني وجودها. الإيمان اللاأدري [المتشكك] الموقف3، الإيمان اللاأدريّ، أيضًا به مزاوجة خاطئة بين تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة به ومستوى اليقين. أولًا، فلنتذكر التنافر الذي يحدث في الإلحاد المتيقن: استخدام تقنيات اكتساب المعرفة التي تستخدم البحث العلمي والمنطقي للوصول إلى استنتاجات لليقين المطلق، رغم أن لا جزء من العلوم أو الرياضيات أو المنطق يقدم قدرة مطلقة معرفيًّا. أما فيما يتعلق بتقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان كما يوظفها الاعتقاد الديني، فإنها تنتج اليقين على نحو طبيعي، رغم أن موثوقية استنتاجاتها فيما يتعلق بالواقع الموضوعي مشكوك فيها للغاية. فليس هناك أي معايير للتحليل متضمنة مع الإيمان لتمكن المرءَ من تحليل وتفحص أي شيء. فإما أن يقبل المرءُ حقيقةَ تأكيدٍ بدون دليل أو منطق يبرهن عليه عقلانيًّا، أو لا يقبل. بحيث أن المرء الغير متأكد من قراره يفتقد الإيمان الكافي. لا يقدم الاعتقاد الديني أي أدوات يمكن بها إدراك أساطيره، وحتى لو فعل، فإنها ستكون غريبة ودخيلة على العقل البشري بطبيعة المفاهيم التي تشغل حيز ما فوق الطبيعي. لا يمكن أن تصير هذه المفاهيم معروفة للحواس البشرية بحكم طبيعتها، ولو فهم وقَبِلَ شخصٌ الافتراض الأول للتفكير القائم على العقلانية فإنه سيُجنِّب مما يعتبره معرفة موثوقة معتمَدًا عليها أي شيء عن مفاهيم الاعتقاد الديني على الإطلاق، أيْ أنه: لا يمكن أن توجد أي وسيلة تنتج معرفة موثوقة إن كانت مجموعة الإحساس البشري عاجزة عن المشاركة. بالتالي، فإن افتقاد معايير للتحليل في الإيمان يشجع المرء على اتخاذ موقف تبسيطي قائم على أسلوب تفكير إما الكل أو لا شيء، والذي فيه أي شيء أقل من اليقين المطلق يظهر أنه عدم يقين تام. على هذا الأساس، فإن الإيمان اللاأدري أو المتشكك هو على نحو مشابه نادر في الواقع لأنه يقع في مجالٍ حيث يتناقض مستوى اليقين الذي يعتقد به في استنتاجه مع تقنية اكتساب المعرفة التي استُخدِمَتْ للوصول إلى ذلك الاستنتاج. الإيمان لا يتجزأ ولا يكون درجات، بل إما أن يكون لدى المرء أو لا. بسبب عدم الاتساق الداخلي للموقفين اللذين يتخذونهما، فإن من يعتقدون بالإلحاد المتيقن و الإيمان المتشكك هم على موقف ضعيف وأرضٍ متزعزعة. فبدون شك، فإن الناس الذين يحاولون التمسك بهذين الموقفين سيتخبطون في التناقض المنطقي لرأييهم، لكن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بكلٍّ من الاعتقاد والتفكير القائم على العقلانية تميل كل مجموعة منهما إلى العمل كجهاز الطرد المركزي. فإن كان شخصٌ يعتقد أن حدود قدرات الحواس البشرية يمكنها أن تكتسب فقط موقفًا لاأدريًّا [غير يقينيّ] فيما يتعلق بأي استنتاج بخصوص الواقع الموضوعي، فإنه سيميل إلى الانجراف بعيدًا عن اليقين الضمني المتطلَّب في الاعتقاد الديني. بعبارة أخرى: سوف يميل إلى الإلحاد اللاأدري. أما إن شعر بأن الأشياء الوحيدة التي تستحق المعرفة هي التي يمكن للمرء أن يدعي معرفتها بيقين تام، فإن عجز تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالاعتقاد الديني عن تقديم مثل هذا المستوى من التأكد لن يكون جذابًا، وسينجب مثل هذا الشخص على الأرجح إلى الإيمان المتيقن. |
|
|
|
رقم الموضوع : [3] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
المواقف المتسقة داخليًّا
الموقفان 1 و4 لهما اتساق داخلي فيما يتعلق بتقنياتهما لاكتساب المعرفة ومستويي اليقين المصاحبين لكلٍّ منهما، وهما يمثلان المعسكرين الرئيسيين في النقاش عن وجود إله. بناءً على الوسائل المنهجية للعلوم والرياضيات والمنطق، فإن الإلحاد اللاأدري [أو غير المتيقن] يقر على نحو صحيح بأن اليقين الكامل في استنتاجه ليس أمانة وليس ضروريًّا. بالمثل فإن الإيمان المتيقن يتمسك بموقفه الفلسفي عن اليقين في نظام يستخدم الإيمان كتقنيته لاكتساب المعرفة. بصرف النظر عن أي تقييم لمعقولية افتراضات كلٍّ منهما، فإن الإلحاد اللاأدري والإيمان المتيقن متسقان داخليًّا، ومعنى ذلك أن موقفهما من اليقين ينبع من تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بكلٍّ منهما كما فُصِّلَتْ في افتراضات كلٍّ منهما. الإلحاد اللاأدري الموقف4، الإلحاد اللاأدري، هو موقف استنتاجه عن الواقع الموضوعي يتوافق مع مستوى اليقين فيه فيما يتعلق بالأدوات المستخدمة للتوصل إلى ذلك الاستنتاج. وكما نوقش من قبل، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية تقدم مستوى عاليًا من الموثوقية والقدرة على التوقع، لكنها لا يمكنها تقديم اليقين. يمكن أن تقارب نتائجها اليقين، لكنها لا تقدم ضمانات مطلقة. كمثالٍ لشرح لماذا اليقين التام ليس متحصَّلًا عليه، فإنه يمكن أن تنهار قوانين الكون كلها فجأة في أي لحظة (فرضًا). كون حدث كهذا غير مرجح للغاية ولا يبدو أنه سيحدث أبدًا لا يعني أنه لا يمكن أن يحدث يقينًا. على نحو مماثل، فإنه ممكن نظريًّا أن المرء قد يداس حتى الموت من قِبَل قطيع أحصنة ذوي قرون فارّين في ذعر جماعي. عمليَّا، لا أحد سيراعي اتخاذ خطواتٍ لتوقع ذلك الاحتمال. الإخفاق في التيقن النظري لا يعني أن الإلحاد اللاأدري هو موقف يعتمد على التخمين والظن بدرجة كبيرة، وهو سوء فهم شائع من جانب المؤمنين المتدينين الذي يستغلون أمانة الإلحاد اللاأدري في الاعتراف بحدود تقنياته لاكتساب المعرفة ليستنبطوا أنه ليس لديه أساس لاستنتاجاته لأجل إخفاقه في تحقيق اليقين. ما لا يفهمه المؤمن المتدين الذي يقوم بمحاولة كهذه هو الطبيعة المعرفية للعلوم والرياضيات والمنطق. الرفض بمسؤولية لادعاء اليقين المطلق يختلف للغاية عن الإقرار بعدم معرفة أي شيء على الإطلاق، وإن نفس افتقاد اليقين النظري الذي لدى الإلحاد اللاأدري فيما يتعلق بوجود إله أو آلهة يوجد في أي جزء من المعرفة التي تقدمها فروع العلوم. بعبارة أخرى، ليس هناك شيء خاص أو مختلف بصدد استنتاج هذه التقنيات لاكتساب المعرفة فيما يتعلق بوجود الإله أو الآلهة والغيبيات، عدم الدراية [اللاأدرية] نظريًّا هو مستوى اليقين المقدم في كل استنتاجاتها. وباختصار، فإن استنتاج الموقف4 هو الإلحاد، ومستوى يقينه النظري هو عدم التيقن [أو عدم الدراية، اللاأدرية]، وكل من استنتاجه ومستوى يقينه ينتج عن التفكير القائم على العقلانية وفق الأدلة الحالية المتاحة. إن وجهة النظر المناصرة في هذا الكتاب هي الإلحاد اللاأدري1، وإن فهم الفارق الدقيق بين النظرية والجانب العملي في هذا الموقف هامٌّ. إن العقل فقط لديه مراجع كثيرة للغاية متاحة، ولو كان المرء سيمضي يومه متخبطًا في إدراكه أنه لا يمكنه "معرفة" أي شيء على نحو حقيقي عن الواقع الموضوعي، فإنه لن يكون قادرًا على العمل في هذا الوضع الذي هو نظريّ على نحوٍ كامل. إن العقل مواجهًا قائمة من الاحتمالات اللانهائية في كل لحظة، فإن قيامه باتخاذ القرارات سيُشلُّ من خلال الفوضى والتشوش النظري. نظريًّا، فإن الإلحاد اللاأدري يعترف بأنه لا يمكنه معرفة أن [الإله أو] الآلهة لا توجد إلى درجة اليقين. لكن عمليًّا رغم ذلك فإن كل الاحتمالات الضئيلة نظريًّا_كمثال: انفجار رأس المرء تلقائيًّا، أو أن ترسله خطوته التالية منطلقًا كالصاروخ إلى الفضاء الخارجي، أو أن يصير فجأة قادرًا فقط على التكلم باللغة المندرينية الصينية بطلاقة_غير مرجَّحة للغاية لتضييع الموارد الإدراكية الثمينة في محاولة توقعها، رغم أنه لا شيء يضمن أنها لا يمكن أن تحدث. الإيمان المتيقن الموقف1، الإيمان المتيقن، كذلك يتمتع بالاتساق الداخلي مع درجة يقين استنتاجه، لكونه في انسجام مع تقنية اكتسابه للمعرفة الخاصة بالإيمان. سيكون موضوع الإيمان أساس كامل الفصل القادم، لكن بالنسبة للآن فإنه يكفي أن نقول أن الإيمان يعمل على تزويد المؤمنين المتدينين بمستوى من اليقين لا يمكنهم أن يدّعوا بثقة ومسؤولية أنه لديهم. إن يكن امرؤٌ مستعدًّا لاستخدام الإيمان كتقنية لاكتساب المعرفة لأجل تأكيد معيَّن، فإنه سيتهرب قصديًّا من أي وسائل أخرى للتفكير بها لكي يتخلص من الفوارق الدقيقة فيما يتعلق بموثوقية استنتاجه في حد ذاته. ____________________ 1 ينبغي أن أعترف كمترجم أنها ليست أحب وجهات النظر لي! بالتأكيد أنك لا تقوم بتجربة معملية في المعمل لتثبت غيبًا وأسطورة كوجود الله من عدمه، لكن الأدلة العلمية تنفي تفاصيل صفات الإله والقصص الدينية عنه كنفي خرافة الخلق في ستة أيام من خلال التاريخ المعروف للحياة وظهورها وتنوعها وانتواعها على كوكب الأرض. ليس معنى كل ذلك أن الإيمان هو تقنية اكتساب المعرفة الوحيدة التي يوظفها الاعتقاد الديني أو الإيمان المتيقن لكي ينشئ تفاعلات أساطيره الأعلى مستوىً لأنه كثيرًا ما يرقع بالتضمينات المنطقية دوافع وأفعال الكائنات [الخرافية] التي تشغل المملكة ما فوق الطبيعية. رغم ذلك، فإن الاعتقاد الديني والإيمان المتيقن لا يمكنهما البقاء بدون الإيمان، الخرق الأوليّ للتفكير القائم على العقلانية والذي ينشئ المملكة فوق الطبيعية وأدوار شخصياتها في المقام الأول، وهذا سبب بذل الكثير جدًّا من الجهد الذي استُهلِك لبناء أدوات النقاش. لو أن هناك خطأ واضح في الاعتقاد الديني، فإنه يقع في مصطلحاته وافتراضاته، وليس بصدد ما يؤكده علاوة على ذلك بعد قبول هذه العناصر. على الأقل، فإن الإيمان المتيقن متسق داخليًّا. تقدم تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالاعتقاد الديني رسالة إلى المؤمنين المتدينين بأن اليقين هو الطريقة الوحيدة التي يمكنهم التفكير بها عن وجود إله. بحيث أن المؤمنين المتدينين الذي لا يقبلون اليقين، سيخضعون على الأرجح للافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية، مما يعني أنهم قد يتملصون من قبضة الاعتقاد الديني بسبب التساؤل عن قيمة الإيمان. فرغم كل شيء، لا يستطيع الناس [الدينيون] الهرب من حاجتهم العملية إلى التفكير القائم على العقلانية لكي يعيشوا، وإن بدأت هذه المعايير تفيض إلى الحقل الديني، فإن الاعتقاد الديني لا يمكنه البقاء. في الواقع، كثير من المؤمنين الدينيين لا يبدو أنهم يفهمون أنهم يعملون بمجموعة منفصلة من الافتراضات فيما يتعلق بالاعتقاد الديني، والذي هو مزاوجة مزعجة بين الإيمان واليقين الذي يُحْدِثه. إن الافتراضات التي قد قبلها المؤمنون المتدينون_على نحو متعمد واعٍ أو أي شيء آخر_تستحث شعورهم باليقين، ويموه يقينهم تبادليًّا افتراضاتهم (يعني وكذلك تموه افتراضاتهم يقينهم_م)، وتأثير التغذية الرجعية يصنع توجهًا عقليًّا متصلبًا يميل فيه المرء [المتدين] إلى رؤية دينه على أنه فوق الشك. بسبب اتساقهما الداخلي، فإن الإلحاد اللاأدري والإيمان المتيقن هما القطبان الطبيعيان لطرفي النقاش عن وجود إله. يستنتج الإلحاد اللاأدريّ وفقًا للأدلة الحاليّة المتاحة بأنه لا يوجد إله ويعترف بأنه لا يمكن أن يكون متيقنًا نظريًّا أبدًا من استنتاجه، أما الإيمان المتيقن فيؤكد بيقين أن هناك في الحقيقة إلهًا. هناك فريقان على ساحة الملعب في النقاش عن وجود [إله أو] آلهة والجودة الكلية للاعتقاد الديني. قد يتخذ أفرادٌ على نحو غير صحيح مواقف متناقضة ذاتيًّا، كالإلحاد المتيقن والإيمان المتشكك اللاأدري، لكن الافتراض الذي سنستعمله لباقي الكتاب أن الإلحاد اللاأدري والإيمان المتيقن هما المعسكران الوحيدان المستحقان للدراسة. هناك تضادٌّ قويٌّ عامل بين موقفي الإلحاد المتشكك والإيمان المتيقن فيما يتعلق بمسألتي الموثوقية واليقين في مجموعة كل منهما من أدوات اكتساب المعرفة عن الواقع الموضوعي. فبناء على المنظور المتضمن لدى كل منهما من خلال تقنيات كل منهما لاكتساب المعرفة، فإن الإلحاد اللاأدري يفضل المعرفة التي لها تأكيدات على كونها موثوقة بدون تحقيق اليقين، بينما الإيمان المتيقن يفضل المعرفة التي تُعلَن على أنها يقين بدون أي وسيلة للحكم على موثوقيتها. التناقض المدهش لتلك المقارنة واضح ويتكلم عن نفسه. ألا يكون للملحدين يقين أبدًا؟ للإجابة عن هذا السؤال ولشرح عنوان الفصل، فلنستطرد سريعًا عن الرياضيات الأساسية لكي نفهم مفهوم المنحنى البيانيّ. لتحصل على تصور بصري لماهية المنحنى البياني، انظر الرسم البياني أدناه. هذا هو التمثيل البياني للدالّة أ= 1/ س من القيمة الإيجابية لـ س. محور س هو خط أفقي بياني، والمحور أ هو خط رأسي بياني. يمثل الرسم البياني للدالّة نفسه كل الحلول الممكنة للدالة أ=1/س، أيْك كل النقاط على الرسم البياني الشبكي، التي فيها يتفق الزوجان س و أ مع الدالة أ=1/س. لاحظ أنه على منحنى الحلول للدالة أ= 1/ س كيف أنه كلما اقتربت قيمة س من الصفر فإن القيمة المتوافقة لـ أ تزداد على نحو لا نهائي، وكلما ازدادت قيمة س على نحو لا نهائي، فإن القيمة المتوافقة لـ أ تقترب من الصفر. رياضيًّا، فإن منحنى الحلول يوصف على أنه "يقارب" هذه الحدود لأن لديه خطان منحنيان بيانيان في كل من المحور س والمحور أ، أي أن المسافة بين منحنى الحلول وهذين المحورين يقترب من الصفر لكنه لا يصل إليه أبدًا في الحقيقة حيث أن س أو أ يزدادان على نحوٍ لا نهائي. باستعمال نفس الرسم البياني، تصور أن المحور س هو "اليقين المطلق بالبطلان"، أن المحور أ هو "اليقين المطلق بالصحة"، وأن منحنى الحلول هو المستويات الممكنة لليقين البشري عن بيانات تتعلق بالواقع الموضوعي. فيما يتعلق بالحكم على بيان بأنه سواء صحيح أو باطل باستخدام تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، فإن القيمة المتاحة ليقين المرء تشبه منحنى الحلول في الرسم البياني أعلاه. يمكن أن يقترب المرء للغاية من اليقين في تقريرٍ بحيث أنه يكون عمليًّا متيقن، لكن لا يمكن الحصول على اليقين المطلق. اليقين فيما يتعلق بالواقع الموضوعي هو فكرة مثالية تكافح لأجلها تقنيات اكتساب المعرفة القائمة على التفكير العقلاني، لكنه فنيًّا منحنى بياني. كمثال، جملة: كوكب الأرض مستدير، والتي هي ليست جملة متعلقة بالواقع الموضوعي فوق الشك المعقول. فنظريا، ليس لدى الناس أي ضمانات بأن عيونهم وحواس جمع البيانات الأخرى لم تفشل منهجيا في ملاحظة طبيعة شكل الأرض الحقيقية. رغم ذلك فعمليا قد لاحظ البشر كوكب الأرض من الفضاء، وأرسلوا أقمارًا صناعية في مدارات حوله، وخططوا مسارات طيران على سطحه تراعي في حسبانها انحناءه، ولديهم كم مذهل للغاية من الأدلة على أنه مستدير بالفعل، بحيث أن الاحتمال النظري لكون ذلك الاستنتاج نتاج خطإٍ صغيرٌ للغاية على نحوٍ لا نهائي. فيما يتعلق بمنحنى الحل المختص بالواقع الموضوعي عن هذه المسألة، فإن البشرية قد تقدمت إلى حد بعيد على طوله بحيث أنها أقرب ما يمكن من المنحنى البياني لليقين. أما بالنسبة لما إذا كان الملحدون يكون لديهم يقين على الإطلاق، فلندرك أن الشيء الوحيد الذي يعيق اليقين للتفكير القائم على العقلانية هو كونه يُستعمَل لعمل تقريرات عن الواقع الموضوعي بدون نقطة نظر موضوعية للنظر منها. لقد نجحت تقنيات اكتساب المعرفة للتفكير القائم على العقلانية فقط في تقليل الذاتية إلى الحد الأدنى وتنقيتها عن طريق وضع النسخ المختلفة منها في التنافس ضد بعضها الآخر، وليس صنع الموضوعية. رغم ذلك، فقد خلقت البشرية عالمًا داخليًّا من المفاهيم المجردة يمكنهم عمل تعليقات يقينية مؤكدة على نحو مطلق عنها، لو عُرِّفَتْ على نحو وافٍ. ففي الهندسة، تعريف المربع هو مستطيل متساوي أطوال جوانبه الأربعة، فيمكن للمرء أن يقول بيقين مطلق: "إن فكرت في مستطيل متساوي أطوال جوانبه الأربعة، فإذن هو مربع". فقط عندما يحاول المرء نقل هذه الأفكار إلى الواقع الموضوعي الخارجي يمتنع اليقين المطلق. بحيث أن الناس قد خلقوا عالمًا داخليًّا من التعريفات والمفاهيم، ثم خلقوا قواعد موضوعية لذلك العالم نفسه، مما يعني أنه يمكن عمل تعليقات يقينية على نحو مطلق عنها. عن هذه النقطة الدقيقة، قال سقراطس ذات مرة: "إني أعرف شيئًا واحدًا: أني لا أعرف شيئًا". بينما أنها حكمة متواضعة متناقضة ظاهريًّا، فإنها ذات منطق ممتاز في سياق النقاش الحالي. في ضوء الطبيعة الرسم بيانية لليقين فيما يتعلق بالواقع الموضوعي، فيرجح أن جوهر هذا الاقتباس يمكن أن يترجم بأمانة إلى القول: "أنا متيقن على نحو مطلق من شيء واحد: أني لست متيقنًا على نحو مطلق من أي شيء". بالتأكيد، لقد عنى أن الإنسان يفتقد أساسًا ليقيس به صحة ودقة معرفته عن الواقع الموضوعي، لكنه فهم في نفس الوقت أنه يمكنه التكلم عن اليقين المطلق عن حالة معرفته، والتي توجد في مملكته الداخلية التجريدية الخاصة بالأفكار. البشر لا يمكنهم معرفة الواقع الموضوعي إلى درجة اليقين، لكن ذلك لا يعني أنهم لا يعرفون أي شيء. لقد أنتجت تقنيات التفكير القائم على العقلانية بركاتٍ ونعمًا للبشرية في شكل سيارات وكباري وكمبيوترات وأدوية، بدون حاجة إلى وضع استنتاجاتهم في وهم وسراب اليقين المطلق. اليقين المطلق هو فكرة مثالية نموذجية من صنع الإنسان، أي أنها توجد فقط في مملكة الأفكار المجردة. كنظرة مختلسة مستبقة للجدليات الأخيرة المقدمة في الجزء الأول، فإن الآلهة بكمالهم واليقين المطلق هم على الأرجح ليسا سوى سكان لنفس الحقل [المملكة]. 5- تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان السبيل للرؤية من خلال الإيمان هو بإغلاق عين العقل بنجامين فرانكلين (من رؤساء أمِرِكا الراحلين) والآن حيث قد رسمنا خريطة معالم وتضاريس كاملة للأرض الخاصة بالمصطلحات والافتراضات ويقين كل جانب من النقاش، فإن تحديد مواقع نقاط الضعف في الاعتقاد الديني ومهاجمتها يمكن أن يحدث، والذي سيؤدي إلى انهيار كامل منظومتها، كما سنبرهن عليه في الفصل الثامن في جدلية الأساسيات. بلا شك، فإن كعب أخيل[أَخِلِيِس] [=نقطة الضعف] للاعتقاد الديني هي وتقنية لاكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان. في الاعتقاد الديني، فإن الإيمان شيٌ يُحتفَى به ويُرعَى، يعتبر شرفًا أن تكون قادرًا أن يكون لديك. يترافق الإيمان مع شعور بتقريب الشخص من إلهٍ وكثيرًا ما يسبب مشاعر ثقةٍ في إحسانه وخطته [القدر]. بينما يرى التفكيرُ القائم على العقلانية الإيمانَ في ضوءٍ مختلف تمامًا. الإيمان هو إشارة على موقف في جدلية حيث يختار شخصٌ اعتباطيًّا وتحكميًّا نبذ العلوم والرياضيات والمنطق ويزعم عجز المرء الفكري أو عدم رغبته العاطفية في القيام بتحليل يؤدي إلى استنتاجها المنطقي. عندما يكون الإيمان ضروريًّا لإتمام جدلية وحجة فيما يتعلق بالبرهنة على حقائق تتعلق بالواقع الموضوعي، فمن ثم فإن هذه الجدلية قد قدمت دحض نفسها. استبدادية الإيمان بحكم طبيعته وتعريفه، فإن الإيمان هو قبول تأكيدات ومزاعم على أنها صحيحة بدون دليل معقول أو تأييد منطقيّ. إن رفض استنتاجات معقولة تمامًا ودقيقة صارمة للعلوم والرياضيات والمنطق لمجرد أنها لا تلائم ذوق الشخص مساوٍ لرفض فروع العلوم برمتها وكليتها. تتطلب تقنيات اكتساب المعرفة للتفكير القائم على العقلانية تطبيقًا متسقًا محافظًا على المبدإ، وإن كان شيء سيُستثنَى من تفحصه، فهنا سيُحتاج إلى تفسير قويّ منطقي لسبب كونها أدوات غير ملائمة وخاطئة لتلك المهمة. السماح بغير ذلك يعني إدخال عنصر غير قابل للتفسير واستبدادي تحكمي إلى أنظمة تفكير صارمة دقيقة قد صُمِّمَت وهُذِّبَت وحُسِّنَت لتجنب ذلك بالذات. عندما يعلن شخصٌ أن الإيمان هو أساس كل جزء من تفكيره، فإن ما يقوله هو أنه غير راغبٍ بإخضاع مسألة لإجابة منطقية. وحالما يتخذ شخصٌ وجود إلهٍ كإيمان، فلماذا لا يتخذ التعاليم المزعومة أنها من ذلك الإله كإيمان. وحالما اتخذ تعاليم الإله المزعومة كإيمان، فلماذا لا يتخذ عقيدة وجود الشيطان [الشياطين] كإيمان كذلك. وحالما اتخذ وجود الشيطان كإيمان، فلماذا لا يعتبر بعض الناس على أنهم وكلاء وأعوان الشيطان؟! بعبارة أخرى، فإن انهيار الصخور لا يمكن أن يتوقف منطقيًّا حالما يبدأ. إدخال الإيمان في منظومة تفكير الشخص يتصرف كـﭭيْرَس ناسخ لنفسه والذي يخترق تفكير الشخص لأنه لا يمكنه منعه من التسلل إلى أي موضوع. بقبوله له [للإيمان] كتقنية سليمة لاكتساب المعرفة في المقام الأول، يكون قد خسر التقنيات الوحيدة التي يمكنها التحكم به ومنعه. على نحو مماثل تمامًا، فإن الرأي الإيجابي لشخص عن الإيمان هو نتيجة كون افتراضات الاعتقاد الديني قد تمكنت من اختراق تفكيره وذهنيته قبل أن ينضج ويكون قادرًا على تقييم جدارته [الإيمان]، ومكسبه الكريه هو التفكير التحكمي الاستبدادي، والذي يفتح الباب والمجال لأخطاء إدراكية معروفة جيدًا, كمثال، بعض المؤمنون الدينيون يبتهجون بالاعتقاد بأن إلههم يحمي قطيعه ورعيته من الأخطار. لكن عندما يحدث شيءٌ آخر الأمر يقتلهم أو يقتل بعضهم فإنهم من ثم يقولون أنه دعاهم إلى موطنهم. بدون معايير التحليل لمنع العقل من موائمة الحقيقة على نحو غير سليم لتأكيد أهوائه وتوقعاته وأحلامه، فإن الآلهة تظهر وتختفي في الأحداث كما يتراءى للشخص ملائمًا. إن معنى متضمنًا ماكرًا للإيمان هو كونه يقترح خضوع وإذعان الشخص لشخصية سلطوية، والتي لا تعني بالضرورة شخصًا فردًا. وبقبول الإيمان ورهن وبيع الشخص لترسانة أسلحته الفكرية بسعر رخيص بخس، فإنه يوافق على نحو مطلق ضمني على قبول انعدام قدرة دفاعية عقلية كامل فيما يتعلق بأي شيء يقوله له الدين. بالتأكيد، فإن الأديان تستخدم على نحو انتقائي تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية لأجل المصداقية، لكن إن يرغب شخصٌ في تناول مسألة منطقيًّا والتي لا يفهمها في دينه، فإن الإيمان دومًا ينتظر منتهزًا الفرصة إن لم يَلِن [الشخص]، مستعدًا لتذكيره بأنه قد وافق على وضع أسلحته الفكرية منذ وقت طويل. في معظم الحالات، فإن الإيمان في الحقيقة هو الكلمة المفتاحية لمشاعر الشخص [المتدين]، والالتجاء إلى الاعتقاد الديني لتنشيطها هو مسعى للشخص المتدين لكي تمكن مشاعره من تقرير ما يوجد في الواقع الموضوعي، وهذا أمر منافٍ للعقل على نحوٍ واضح. رغم ذلك، فما الأدوات الأخرى التي لدى المرء غير عواطفه للقيام بتقرير عندما يترك تفكيره. إن العواطف جزء هام من حياة أي شخص، لكن لها أغراضها ووظائفها. وتقرير إجابات الأسئلة عن الحقائق بصدد الواقع الموضوعي على نحو موثوق ليست أحدها. كفاح الإيمان لكي يكون له صلة بالعالم المعاصر في الأزمنة والأمكنة من تاريخ البشر التي يفتقد الناس فيها البحث والتحليل العلمي لا بد أن يكون الإيمان ملجأً طبيعيًّا أخيرًا. فبدون وسيلة منظمة لتحليل وتبسيط التعقيد الهائل لتسلسلات السببية في الطبيعة، يكون الإيمان استسلامًا مفهومًا، وبقدر ما كان تبني الإيمان يساعد الناس على الكفاح مع قدرة على التوقع قليلة للغاية في محيطهم البيئي، فلقد كان ذات يوم على الأرجح ذا قيمة. فبدون تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية لتحليل وفهم الطبيعة، لم يكن لدى الإنسان سوى هز كتفيه [في حيرة واستهجان وعجز]، والكفاح مع عدم تيقن كبير بقدر ما استطاع، وترك الأسئلة المهيبة الكبيرة عن الوجود لشخصية سلطوية دينية. رغم ذلك، ففي العصر الحديث ينتظر تنافرٌ إدراكي ساحق من يقبلون هذا الاقتراح البالي المبتذل. أكثر مثيرات السخرية إيلامًا بالنسبة للمؤمنين المتدينين تنشأ من تفاعلهم مع الأدوات العلمية التي تملأ العالم الحديث المعاصر. ولعل التنافر والتعارض المذهل للإيمان مع العصر الحديث يصل إلى قمته عندما يتحدى بعض المؤمنين نظرية التطور العلمية عبر الإنترنت برسائل عبر كابلات الألياف البصرية والأقمار الصناعية والكمبيوترات. بتوظيفهم للوسائل العلمية لنشر رسائلهم الدينية، فإنهم يرسلون على نحو غير مقصود رسالة مشفرة مع كل ضربة مفتاح كمبيوتر بأن الوسائل التي وُصِّلَت بها الرسالة تجعل الرسالة نفسها خالية من المعنى. أحيانًا يحاول المؤمنون المتدينون دمج العلم مع رؤيتهم الكونية ويقولون بأن العلم هبة من إلههم. لو كان ذلك صحيحًا، فإنها لهبة غريبة! باعتبار أن التزويد بتقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية يؤدي إلى الاستنتاج بأن [الإله أو] الآلهة لا توجد وفقًا للأدلة الحالية. عندما تثير النتائج العلمية استياء المتدينين، فإنهم يسارعون إلى الإشارة بأن العلم لا يمكنه أن يثبت على نحو قاطع التقرير الذي قد أزعجهم. باعتبار استعراضنا وشرحنا لمنحنى اليقين، فهذه ملاحظة لا تستحق الالتفات ووهمية مضلِّلة للانطلاق على أساسها، إن كان يُقْصَد بها الإشارة ضمنيًّا بأن اليقين القاطع المطلق هو ما يستحق الإنجاز فقط. يرغب المؤمنون المتدينون أكثر من أي شيء في مواءمة الإيمان مع توجهم العقلي العملي الذي يتطلب الأدلة والمنطق، لكن للأسف فإن مجموعتي تقنيات اكتساب المعرفة لا يمكنها التواجد معًا بطبيعتيهما. إن كان شخص لديه إيمان ببيان فإنه لا يكون لديه دليل معلمي ولا منطقي كافٍ ليبرهن على نحو معقول على صحته، وأما لو كان لديه مثل هذا الدليل أو المنطق فإنه لا يمكن أن يكون لديه الإيمان على أي حال. في الأزمنة التاريخية عندما افتقدت الأديان منافسة البحث العلمي، فإن التنافر كان أقل درامية، على نحوٍ رئيسيٍّ لأن الغالبية العظمى من الناس افتقدوا أي أدوات تحليلية أو تعليم ضروري ليشعروا بانزعاج وعدم راحة إدراكية ومعرفية. أما اليوم، فإن العلم والرياضيات والمنطق قد برهنوا على نحوٍ متكرر على مقدرتهن التنبئية وقيمتهن العملية فيما يتعلق بالصياغة والنمذجة الدقيقين للواقع الموضوعي، ولا يستطيع المؤمنون المتدينون الامتناع عن خلط مجموعتي الافتراضات على نحو خاطئ وغير سليم. كمثال توضيحي، تأمل السيناريو البغيض لكون شخص محبوب [لك] فاقدًا للوعي في المستشفى. سبب كونه أُخِذَ على المستشفى في المقام الأول هو لاستعمال الطب الحديث وللقيام بمحاولة متخصصة مدربة لتحديد وتصحيح المشاكل في سلامة جسده. في مثل هذا السيناريو، قد يصلي المؤمنون الدينيون أو يضعوا الطلاسم والرموز الدينية في حجرة الشخص المريض بينما يتلقى العلاج الطبي، لكن لو كانت الصلاة والدعاء والرموز الدينية ستنقذه، فلماذا أرهقوا أنفسهم حتى في أخذه إلى المستشفى؟! لو تعافى المريض، فهل سيعطون الأطباء أي فضلٍ لتوظيفهم التقنيات العلمية على نحو فعال، أم سيذهب الثناء والتمجيدات إلى إلههم؟ ليس لأيٍّ مما يفعله المتدينون في هذا السيناريو أي معنى أو منطق موضوعي لأنهم يخلطون مجموعتين متعارضتين من الافتراضات. يعمل الطب الحديث وفق افتراضات تجد أن وجود إلهٍ غير مرجَّح للغاية، بينما تعمل الأديان وفق افتراضات تجد أن الطب الحديث غير ضروري. توظيف الاثنين يعني عدم فهم أيٍّ منهما. كمثل ذلك هي معضلة الإيمان في العصر الحديث. لقد نشأ الإيمان ومُجِّدَ في زمن لم يكن الإنسان قد أنشأ فيه أو على الأقل غرس بذور الأنظمة الدقيقة الصارمة لتحليل الواقع الموضوعي. في تلك البيئة كان الإيمان إلزاميًّا لكل شيء تقريبًا عدا تسلسلات السببية الأكثر أساسية. أما اليوم، فإن الإيمان يلهث محاولًا التنفس تحت أكوام التأييد بالأدلة والمنطق التي قد حشدتها تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية. بعبارة أخرى، فإن الإيمان صار أثريًّا عتيق الطراز. إنه يمثل محاولة الإنسانية الأولى لاكتساب المعرفة عن الواقع الموضوعي وشرحه، وتقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي أحدث جهود الإنسان وأكثرها تفوقًا. الاعتقاد بأن أي كم أو درجة من الإيمان فيما يتعلق بالأسئلة عن الواقع الموضوعي متوائم مع التفكير القائم على العقلانية هو خطأ كبير. إن عدم إمكانية تواجدهما معًا تنشأ من خلال طبيعتيهما. ينشأ الإيمان فقط في المواضع التي يغيب فيها الأدلة والمنطق المعقولان، وفي هذا الجانب هو غير معقول ببساطة. أليس لدى الملحدين إيمانٌ؟ في ضوء الوقت الذي قد استُهلِكَ في حصر وتوضيح المصطلحات والافتراضات، فإن الاقتراح بأن الملحدين لديهم إيمانٌ قد يبدو منافيًا للعقل، إلا أنه سوء فهم متكرر عنيد. كثيرًا ما يسمع الملحدون التعليق القائل: "الأمر يحتاج نفس القدر من الإيمان لعدم الإيمان بالإله [أو الآلهة أو الغيبيات] كما يحتاج ويتطلب للإيمان به". قبل الدخول في موضوع السؤال، فتأمل الانتحار الدقيق للمؤمنين المتدينين الذين يتفوهون به. يُفترَض أن المؤمنين يعتبرون الإيمان ميزة وامتيازًا. فلماذا سيريدون افتراض أن غير مؤمن لديه أي جزء منه؟ إن كان الإيمان منبعًا أصليًّا وإطارًا للفضيلة، فلماذا يستعملونه مع مفهوم ومعنى للنقيصة أو العار [بظنهم]؟ بدون قصد منهم فإنهم يخربون الاعتقاد الديني بسؤالهم نفسه، لكن بسبب تمسكهم بمجموعتين متعارضتين تمامًا من الافتراضات، فإن هذا التناقض هو دلو من الماء في المحيط [نقطة من بحر وغيض من فيض]. أما فيما يتعلق بصلب السؤال، فإن زعم وجود إيمان في الإلحاد يتضمن أن المرء [الملحد] لديه إيمان بعدم وجود إله لأن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية لا يمكنها دحضه [عدم وجوده] قطعيّاً. رغم ذلك، فإن الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية يؤسس مفهوم مسؤولية الإثبات فيما يتعلق بالمزاعم المتعلقة بالواقع الموضوعي، وافتراض بطلان تلك التي لا تقدمه ليس عملًا إيمانيَّا، بل هو رفض واضح للاعتقاد بمزاعم وتأكيدات على أساس الإيمان. هل سيقترح أحدٌ أن الأمر يحتاج إيمانًا لعدم الاعتقاد بالأحصنة ذوي القرون أو البشر المستذئبين؟! ليس هناك دليل على أن أيًّا منهما يوجد أو يجب أن يوجد منطقيًّا، ولذلك فإنهما متجاهَلان كمنتجات للخيال البشري. يحتمل أن السؤال عن إيمان في الإلحاد يتعلق بافتراضات التفكير القائم على العقلانية باقتراح أن المرء يحتاج إيمانًا لكي يعتقد أنها تمثل الطبيعة بدقة وعلى نحوٍ سليم. لكنْ هل الافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية بدون تأييد من الأدلة أو المنطق؟ لا، في الواقع فهن قد اجتُهِد فيهن بكل المستطاع لكي لا يحتوين على أي شيء آخر [عدا الاستدلال الدليلي والمنطقي_م]. إن الافتراضين الأول والثاني يؤصلان نفسيهما في كلٍّ من القواعد الدليلية التجريبية والمنطقية، بينما الثالث منطقيٌّ محضٌ. ما يحدث عندما يَرِدُ التلميح بأن الإلحاد يحتاج إيمانًا أن كثيرًا من المؤمنين الدينيين أنفسهم لا يدركون ماهية الإيمان. ولأن معظم لم يخطر على ذهنهم قط تعريف الكلمة بأنفسهم، فإنها تتحول إلى أشكال مختلفة عديدة وتسبب تشوشًا ماكرًا. عندما يتهم المؤمنون المتدينون الملحدين بالحاجة إلى إيمان، فإنهم على الأرجح يقصدون القول: "الثقة أو اليقين بأن المرء لا يمكن احتمالًا أن يكون مخطئًا". وهذا ليس ما يعنيه معنى الإيمان. رغم ذلك فلمجاراتهم والتظاهر بالموافقة، لنقل أن الملحدين لديهم "إيمان" بعدم وجود [إله أو] آلهة [وغيبيات] بنفس حد وجود "إيمان" لديهم بعدم وجود التنانين ومصاصي الدماء. تقسيم الفرق إلى قسمين _ رهان باسكال كان Blaise Pascal بليز باسكال عالم طبيعيات ورياضيات فرنسيًّا ذكيًّا والذي يعزى إليه على نحو كبير عمل تجربة فكرية قائمة على الاحتمالية تُعرف الآن برهان باسكال. يؤكد الرهان أن الإله غير معلوم وبالتالي كما يُفترَض وجود غير قابل للمعرفة، سواء يوجد أم لا، وأن العقل البشري بطبيعته أداة غير كفؤة لتقرير المسألة. وبعد أن يحدد احتمالية متساوية لوجود الله وعدمه، أي: 50/ 50، فإن الرهان يمضي إلى نقاش المكسب [المحتمل] من القرار بعبادة الإله أو عدم فعل ذلك. جوهريًّا، فإن الرهان يجادل بأن المرء لو عبد الإله فهو إما سيحقق مكسبًا لا نهائيًّا (الذهاب إلى الجنة لو أن الله يوجد) أو خسارة محدودة (الموت مع عدم وجود إله ليكافأ إيمانه). أما لو اختار المرء رغم ذلك عدم عبادة الإله، فإن ينتظر الحصول إما على مكسب محدود (الموت بدون وجود إله ليعاقب عدم إيمانه) أو خسارة لا نهائية (الذهاب إلى الجحيم لو أن الله يوجد). وبافتراض المكاسب المتاحة والاحتمالات المصاحبة لها، فإن التفكير يستنتج بأن المرء ينبغي أن يختار الإيمان بالإله وعبادته. بالتالي، فإن رهان باسكال ليس برهانًا على وجود إله، بل هو إستراتيجية مقامرة نظرية عن كيف ينبغي أن يختار المرء التصرف، بافتراض أن المرء لا يمكنه أبدًا ما إذا كان يوجد إله في الحقيقة. الكثير من الناس يعرفون بالحدس على الأرجح تفكيرًا مشابهًا لرهان باسكال عندما يتفكرون في ما إذا كانوا سيعتقدون بإله أو يتبعون دينًا، بغض النظر عما إذا كانوا قد سمعوا من قبل صيغتها الرسمية على الإطلاق. لا يحتاج المرء أن يكون خبيرًا في نظرية الاحتمالية ليفهم أن إساءة تقدير ذات نتائج أبدية أكثر تكلفة على نحو لا نهائي من خطإ ذي نتائج محدودة، والكثير من الناس يفضلون أن يخطئوا لتجنب مخاطرة ظاهرة مع وجود مكاسب لا نهائية محتملة، أي أنهم يخطئون لصالح افتراض وجود إله. بالرغم من جاذبيتها الحدسية السهلة، فإن الرهان يعاني من أخطاء كبيرة، أولًا، يغالي الرهان إلى حد كبير في تقدير احتمالية نوال الشخص على مكافأته اللانهائية الأبدية المرغوبة وتجنبه لعقوبته اللانهائية المَخُوُف منها. يجادل الرهان بأن الله إما يوجد أو لا يوجد، وبما أن الإنسان لا يمكنه جعل عقله يقدر على إجابة السؤال، فإن المسألة تصير 50/ 50 احتمالًا. مع ذلك فمن منظور الشخص الذي يرغب في توظيف إستراتيجية الرهان فإن تلك الاحتمالية لا تدرك بدقة المعضلة التي يقع فيها الشخص بسبب افتراضها أن هناك إلهًا واحدًا فقط متاحًا للإيمان به. في الحقيقة، لقد عرفت البشرية آلاف الآلهة خلال تاريخها وحضاراتها المختلفة. ولأجل التوضيح التبسيطي واتخاذ موقف محترس للغاية، لنفترض أنه قد كان هناك مئة إله في تاريخ البشر اعتُقِد فيهم على أنهم قادرون على إيقاع حكم أبدي. فإن أراد شخصٌ نيل مكسب أبدي لا نهائي، فلا يكفي أن يكون إله فقط، بل يجب أيضًا أن يختار الإله الصحيح. بدون أن نخوض في النقاط الدقيقة لنظرية الاحتمالية، فإن المرء يضرب احتمالية كل حدث [احتمال] يحدث في الآخَر عندما يحاول تقرير احتمالية كل حدث يَرِد وله صلة. بالتالي، تفكر في التقدير التقريبي التالي: احتمالية وجود إله = 1/ 2 (50%) تُضرَب في: احتمالية أن الإله الصحيح هو من تم اختياره = 1/ 100 (1%) تساوي= احتمالية المكافأة الأبدية الخاصة برهان باسكال = 1/ 200 (٠٫٥%) في ضوء ذلك، فهناك فقط احتمالية ضئيلة لتحقيق إستراتيجية الرهان بنجاح والحصول على أكثر مكسب مرغوب، هذا بعيد جدًّا عن احتمالية الـ50% المغرية التي اقترحها الرهان. إن فرصة الحصول على النتيجة المرافقة لاحتمالية كل من وجود إله وأنه نفس من اختاره الفرد لعبادته بعيدة للغاية عن 50%. بالتالي، فإن الرهان يغالي في تقدير وترويج إستراتيجيته الخاصة بالحصول على مكافأة أبدية وتجنب عقوبة أبدية بسبب عدد الآلهة المتاحين للاختيار من بينهم من التاريخ البشري. ثانيًا، فإن افتراضًا رئيسيًّا يحتوي عليه رهان باسكال هو أن العقل البشري ليس له فائدة عندما نبحث السؤال عن وجود إله بسبب الطبيعة غير الممكن تصورها الخاصة بالإله أو الآلهة. وبترك مناقشة سلامة ذلك الافتراض بالنسبة للآن، فماذا عن الروح؟ الروح هي واسطة مزعومة يجب أن توجد لكي تكون هذه المكاسب الأبدية بعد الموت صحيحة. قدرة تفكير الإنسان ليست عاجزة على نحو مماثل عن اختبار وجود الروح بنفس الطريقة التي افترض الرهان وفقًا لها بأنه غير قادر على اختبار وجود الإله أو الآلهة. كما سيُبرهَن في الفصل الثامن في موضوع جدلية الأساسيات، فليس هناك دليل كافٍ ولا ضرورة منطقية للبرهنة على وجود الروح. رغم ذلك، فإن التذرع لعدم تطبيق واستعمال الفحص العلمي والمنطقي للإله أو الآلهة والغيبيات لا ينطبق على نحو مساوٍ على الروح. بالتالي، فإن ما بني عليه فرضية مكسب الرهان باطل وعدم منذ الأساس ومن البدء. حتى لو أقر المرء جدلًا بأن افتراضات الرهان تنجح في تهريب إلهٍ عبر حدود العقل، فإنها تنسى أن تصطحب مفهوم الروح معها. بدون أن يكون مفهوم وجود الروح قادرًا على إقناع العقل المتعقل، فإن وجود إلهٍ يكون مثار جدل عندما يأتي الحديث عن مكاسب الرهان الأبدية. إن السؤال عما إذا كان يوجد إلهٌ وأنه قادر على توقيع عقوبة أو مكافأة أبدية هو سؤال بلا معنى لو أن لا شيء أبدي من وعي المرء يظل بعد موته لكي يتلقى هذا الجزاء. آخرًا والأكثر أهمية، فإن فرضية الرهان بأن الإله أو الآلهة هي كائنات مستثناة من التحليل الاعتيادي والمنطق بطبيعتها هو جدلية تحتوي على المغالطة المنطقية الخاصة بالتذرع الخصوصي [أو الدفاع الاستثنائي]، المعروفة كذلك بلعب الثلاث ورقات (التلاعب غير الأمين للوصول إلى نتيجة مرغوبة). عمومًا، يمكن وصف الخطإ على أنه ادعاء استثناء من التحليل الاعتيادي بدون البرهنة على أساس منطقي لذلك الاستثناء. فيما يتعلق بموضوع الإله أو الآلهة فإن تعريفها ببساطة ككائنات لا يمكن لأحد أبدًا فهمها لانتزاع استثناء من المعالجة التحليلية يمثل تعريفًا ذا تذرع استثنائي. الجدليتان اللتان قُدِّمَتا قبل هذه ضد سلامة المنطق المتضمن في رهان باسكال نوقشتا لأنهما اعتباران إضافيان يؤكدان خراقة وعجز الرهان، لكن الجدلية الأخيرة هي كل ما يُتَطلَّب من منظور منطقي لإزالة رهان باسكال من الاعتبار الجديّ. إن افتراض أن العقل لا يمكنه التفكير في السؤال عن وجود إلهٍ افتراضٌ مضحكٌ وعجيب من منظور منطقي لأنه لا أساس ذا معنى لذلك الاستثناء قد قُدِّمَ. لا يوجد دليل تجريبي قائم على الملاحظة أو ضرورة منطقية أو حتى تعريف متمكن كامل لما يكونه إلهٌ لإعطاء سبب مقبول لاستثناء المفهوم من الأدوات التحليلية القابلة للاستعمال كالمعتاد، غير كونه يُعرَّف خارج حدودها. هذه هي قمة التلاعب بالأوراق وهو غلط منطقيٌّ. على أية حال، فإن الانتقادات الثلاثة للرهان المناقشة هنا قد أقيمت على أساس الهجوم على افتراضاته ومصطلحاته. حيث أن كون الهجمات استهدفت لهذه المواضع من الجدلية لا ينبغي أن يكون مفاجئًا. الأخطاء في التسلسل المنطقي للصياغة والتأطير الأوليين لجدلية يسهل اكتشافها، والجدليات التي تحتوي على أخطاء في هذه المواضع هي كذلك مكذَّبة على نحوٍ روتيني من جهة قدرتها على الصمود مع الزمن. بعبارة أخرى، فإن مثل هذه الجدليات لديها أخطاؤها المتموضعة في المناطق التي يميل الناس [المتخصصون] إلى تفحصها عن كثب لأجل الصلاحية والسلامة المنطقية. ومثل الاعتقاد الديني في العموم، فإن رهان باسكال قد ظل في التاريخ البشري لأن مغالطاته خُبِّئَتْ حيث لا يركّز الملاحظون العاديون، تحديدًا في مصطلحات وافتراضات الجدلية. أعتقد أنه عارٌ تمامًا أن اسم بليز باسكال قد ارتبط بمحاولة منطقية رديئة كهذا الرهان. إن إرثه الفكري في الرياضيات والطبيعيات هامة، وبصراحة تمامًا لقد كان يستحق ما هو أفضل. كشخصٍ حصل على دراسات في الرياضيات ضمن دراستي الجامعية، فإن لدي احترامًا فائقًا لمن كان لديهم القدرة على صنع نظرية رياضية. إنه لصعبٌ على نحوٍ كافٍ أن تتعلم محاكاة واتباع هذه العقول فيما توصلت إليه، لكن أن تكون قادرًا على إنشاء رياضيات جديدة يتطلب ذكاءً وإبداعًا هائلين. إن العبقرية الرائدة التجديدية لبليز باسكال غائبة بشدة وعلى نحو مزعج من الرهان، لكن كما قد استغرقت وقتًا معقولًا لنقدها، فأود استغراق لحظة لتوضيح أن الرجل الذي صنع هذه التجربة الفكرية كان أفضل بكثير من ذلك. إن حقيقة أن المرء يجد اسمه يبرز خلال أي كتاب علمي دراسي عن الاحتمالية أو الفيزياء هو شهادة على إرثه الفكري، وستكون سخرية محزنة من التاريخ لو أن الغالبية العظمى من الناس عرفت اسمه فقط من أقل أعماله تمجيدًا له. لماذا يكون الإيمان شيئًا جيدًا على أي حال؟! ما فائدة اليقين الذي يسببه إن كان في نفس الوقت خلوًّا من الموثوقية؟ إن لم يسأل المرء هذه الأسئلة وقبل بطيش وبلا تفكير الإيمان كتقنية لاكتساب المعرفة، فمن ثَمَّ لن يكون قادرًا على نزع المصداقية عن الاستنتاجات التي يصل إليها الاعتقاد الديني. أما بالنسبة للإيمان، فهو جائزة الاستغفال الفكري والنتيجة النهائية على الأرجح لشعور شخص بطغيان مفاهيم الاعتقاد الديني عليه وكونه غير قادر على منع عواطفه من التغلب على تفكيره. على نحوٍ خبيث، فإن الأديان تفسح المجال لأنفسها بقدر ما تستطيع عن طريق تمويه الإيمان كفضيلة أخلاقية، بدلًا من مما يكونه حقًّا، أيْ تحديدًا تقنية لاكتساب المعرفة. رغم عدم الاتساق النظري للمحاولة عندما تُجمَع مع أفكار تتطلب الإيمان للاعتقاد بها، فإن الأديان تجند القواعد الاستدلالية والمنطقية لصالح أنظمتها الاعتقادية، وقبل أن نصل إلى تناول الجدليات النهائية لدحض الاعتقاد الديني، فإننا سنفحص المحاولات العملية القائمة على العقل من جانب [المتحدثين باسم] الأديان لدعم تأكيداتهم ومزاعمهم. فرغم كل شيء، ما كانت الأديان لتحتاج إيمانًا لو أن لديها حقًّا أدلة ومنطقًا معقولًا لدعم ما تؤكده. 6- الجدليات المنطقية والأدلة التجريبية القائمة على الملاحظة على وجود إله كقاعدةٍ، يقلق البشر أكثر بصدد ما لا يقدرون على رؤيته، أكثر مما بصدد ما يقدرون على رؤيته. يوليوس قيصر (من أباطرة الروم [في روما]) سنعتبر سندات الأدلة والمنطق المقدمة من قِبَل [النصوص والمتحدثين باسم] الأديان كجدلية احتياطية لها على وجود إله، أي: محاولة مستقلة لكسب قبول تأكيداتها لو ثبت أن الإيمان غير مقنع، كما قد حدث. فباعتبار آراء كلٍّ من المؤمنين والمتشككين في قيمة الإيمان ومواقفهم المصاحبة من قيمة الدليل والمنطق، فإن أقل ما يمكن قوله عن الأدلة القائمة على الملاحظة على وجود إله والسلامة المنطقية للاعتقاد الديني هو أنها مخيبة للآمال وليس لها أثر. ومع ذلك تحاول الأديان سواء على أساس الملاحظات (إمبريقيًّا) أو منطقيًّا تقديم أساس معقول للاعتقاد بأن الله أو الآلهة توجد بالفعل في الحقيقة. على نحوٍ واضح، فإنها تفضل أن تقديم لأتباعها ما هو أكثر من الإيمان كدعامة مساندة لكامل بينتها، وعندما تفعل ذلك فإنها تتبع كلها نفس أنماط الجدال. الجدليات المنطقية لصالح وجود إله تطرح الأديان الكثير من الجدليات المنطقية لصالح وجود إله. بعضها متماسك وبعضها ليس كذلك، والبقية عجيبة حقًّا. رغم ذلك، فالمتماسكات منهن تنحصر وتتحد في ثلاثة أنماط، كلها معروفة جيدًا جدًّا. الدحض السليم لهذه الجدليات سيشرح لنا ويوضح التفكير القائم على العقلانية في عمله وكذلك الكثير من النتائج اللازمة التي تنتج عنه، وخاصةً شرط التعريف المعقول للمصطلحات المستعملة في البرهنة على الادعاآت فيما يتعلق بالواقع الموضوعي. لاحظ أن هذه الجدليات المنطقية ليست محددة بدين معين. إنها فقط تجادل لصالح الضرورة المنطقية لوجود إله بدون أن تتعطف علينا بالبرهنة على صحة أي دين معين. الجدلية الكونية- جدلية للتهرب من الارتداد اللانهائي للسببية (تعاقب الأسباب والنتائج) الجدلية: السببية هي قانون منطقي يجري في كل الكون. فلأي حدث معين يوجد سبب سابق أو مجموعة من الأسباب أدت إلى النتيجة. حدسيًّا، فإن قانون السببية ينبغي أن ينطبق على الكون نفسه. إن كان الكون نتيجة، فما هو سببه؟ للتوضيح أكثر: فإن الارتدادات اللانهائية للسببية تُعتبَر مغالطات منطقية واستحالة. بالتالي، ماذا كان السبب الأول الذي أطلق مجموعة النتائج التي تتضمن كلًّا من الكون والحياة البشرية؟ لابد أنه قد كان إلهًا، كائنٌ تسبب في وجود نفسه أو لم يحتَجْ إلى سببٍ لكي يأتي إلى الوجود [أو أنه موجود منذ الأزل]. مسلِّمين بمقدار الطاقة الهائلة غير المسبوقة التي لا بد أنه قد تُطُلِبَتْ لخلق الطاقة الهائلة في الكون، فلا بد أنه الإله كلي القدرة، وحيث أنه إما سبب نفسه أو بدون حاجة إلى سبب لوجوده فهو كذلك خالد. الدحض: الجدلية الكونية لا تحاول القيام بجهد جديٍّ للبرهنة على وجود إله تصاحبه الثلاث صفات المذكورة في التعريف المحدد له في الفصل الأول. إنها تركز على السببية والطبيعة الاستثنائية لتلك السببية فيما يتعلق بنشأة الكون. لأجل الأغراض العملية ووضوح المصطلحات، سنقوم بتنازل تبسيطي يقول بأن صفات الإله سوف يُبرهَن عليها إن نجح منطق الجدلية على نحو مختلف في البرهنة على الضرورة المنطقية لسبب الكون ككائن واعٍ. أولًا، فإن كامل القوة الدافعة للجدلية الكونية تكمن في الحاجة المنطقية لتجنب ارتدادًا ورجوعًا لا نهائيًّا لتسلسلات السببية، وفي حلها للمشكلة المقدم بقانون السببية في مقابل الكون، إن الجدلية ببساطة تنتهك قانون السببية بدون مبرر. تصنع الجدلية الكونية مراوغة وتفاديًا تعريفيًّا لارتداد لا نهائي باستحضار وجود [كائن] ينتهك هو نفسه قانون السببية، مفترضةً كائنًا هو إما سبب نفسه أو لا يتطلب سببًا على الإطلاق. بعبارة أخرى، فالجدلية تقدم حلًّا ينتهك القاعدة المنطقية التي كانت سبب كل المشكلة في المقام الأول. لو كان كل ما يُستلزَم لسد الثغرة المنطقية المتعلقة بسبب الكون هو لحظة تحكمية للتسبب الذاتي، فيمكن أن يُجادَل بأن الكون قد سبَّب نفسه [أو أن المادة والكون أزليان_م]. مثل هذا التفسير سيكون ذا قوة مساوية، وأكثر اقتصادًا [في فرضيته]، وبالتالي أكثر تفوقًا. أي أنه لو كان التسبب الذاتي هو ما نتناوله، فإنه مفضَّلٌ منطقيًّا أن نتخلص من الوسيط السمسار. ما هو جدير بالملاحظة بخصوص الجدلية الكونية هو الطريقة المتواضعة التي تحصل بها على كيكتها [مرادها] وتأكلها بها أيضًا. بالنسبة لجدلية تحتوي على خطإ صارخ وقح مثل هذا، فإنه على نحوٍ ما يولِّد جاذبية حدسية هامة. ثانيًا، تتضمن الجدلية الكونية ضمنيًّا أن سبب الكون له وعي بدون البرهنة على الضرورة المنطقية لتلك النتيجة. إن استعمال الجدلية لكلمة "إله" الموضوعة الملقمة فيها له المعنى الضمني المتسلل بأن الجدلية تنتج قوة أكثر مما هي عليه. بصنعها جدلية لصالح التسبب في الكون الموجود في مصطلحات الاعتقاد الديني، فإن الجدلية الكونية تلقن مستمعيها افتراضًا لا مبرر له ولا ضمان بأن الجدلية لو برهنت بنجاح على الطبيعة المتسببة لذاتها أو غير المسبَّبَة لسببها الأول، فمن ثم فستكون قد برهنت على أن ذلك السبب الأول هو كذلك كائن واعٍ. تحاول الجدلية الكونية أن تبرهن بأن قوة فريدة مسبِّبة لذاتها أو غير مسبَّبة ضرورية منطقيًّا للكون، وحتى لو سلمنا جدلًا بأنها قد نجحت في ذلك، فإنها لا تبرهن على الضرورة المنطقية لأن يكون لدى تلك القوة وعيٌ. وبدون ذلك العنصر، فإن جدليتها مثار جدال، وإن كان أحدٌ يريد ممارسة التعبد لا على أساس شيء سوى ما تتكرم الجدلية الكونية منطقيًّا بالبرهنة عليه، فسيكون يفعل شيئًا شبيهًا بعبادة قانون الجاذبية. وحيث أن الجدلية الكونية لا يمكنها تقديم ضرورة منطقية لوجود وعي للسبب الأول على أساس أي شيء غير حلها لمشكلة السببية، فإن لديها جدلية شريكة مصاحبة بها، وهي الجدلية الغائية التي تحاول تقديم تلك الضورة المنطقية على نحو مستقل. رغم أن الجدلية الكونية غير ناجحة في حد ذاتها، فإننا سنقيِّم الجدلية الغائية كزيادة حيث أنها يمكن أن تُزعَم ويُجزَم بها على نحو مستقل، وهي عرضة لإساءة الفهم المتكررة والمعتادة. الجدلية الغائية-الجدلية لصالح تصميم غائيّ ذي هدف للكون الجدلية: تجادل الجدلية الغائية بأن التناغم والتعقيد الظاهرين للكون يتضمنان بالضرورة وجود خالقٍ أو مصمم واعٍ، خاصةً عندما نتكلم عن تفاعل البشرية مع محيطها البيئي على كوكب الأرض. تقترح الجدلية أن الكون ومكان الإنسان فيه لا يمكن أن يحدثا بسبب صدفة عشوائية أو فعل غير قصدي غائي، وحيث أن مثل هذا الفعل الغائي يتطلب ذكاءً واعيًا، فإن وجود إلهٍ ضروريٌّ منطقيًّا. التفنيد: لكي نقيِّم الجدلية الغائية، فإننا يجب أن ندرس منبع قوة جدليتها من خلال منظورين مستقلين: من منظور الكون وحده منعزلًا، ومن خلال منظور الكون في علاقته مع البشرية. والأخير من هذين المنظورين المعتبرين هو ما توظَّف الجدلية على نحو أكثر شيوعًا وفقًا له. أولًا، تتضمن الجدلية الغائية أن الكون يعكس تصميمًا عبقريًّا ومعقدًا حتى بدون الإشارة إلى مكان الإنسانية فيه. بالتأكيد، يمكن للمرء فقط أن يهز كتفيه بتعجب لذلك التأكيد، ويسأل: "مقارنةً بماذا؟". هذا كما لو أن البشرية لديها معرفة بكون آخر كمرجعية لما كان سيبدو عليه كونٌ "غير مُصمَّم". الكون كما يُفهَم حاليًّا هو وجود وحيد من نوعه بدون نظير معروف له يمكننا عمل مقارنات معه فيما يتعلق بنظامه. بحيث تؤكد الجدلية الغائية أن تعقيد الكون يبرهن على الضرورة المنطقية لدافع أو غرض واعٍ في تصميمه. إنها بدون معنى لأنه ليس هناك إطار مرجعي قابل للمقارنة به. رغم ذلك، فإن الجدلية الغائية تُستخدَم أكثر للإشارة إلى أن كوكب الأرض والكون مصممان بكمال فيما يتصل بالإنسان. في هذه الحالة، فإن التأكيد عن تصميم منظم في الكون على الأقل لديه إطار مرجعي ومنظوري سليم. في هذه الصيغة والشكل، تكون الجدلية الغائية هي أساس المذهب الخَلْقِيّ، وإن توأمها المسمى باسم أكثر أناقة لكنه متطابق معها بخلاف اختلاف المسمى هو التصميم الذكيّ. إن جاذبية الجدلية هو أنها صياغة عامية للنظام الطبيعي المدرَك للكون من منظور الإنسان، وهي لا تحتاج أي جهد أيًّا كان لتأكيدها. إن الجدلية تنظر إلى الطبيعة من المنظور الاعتيادي لعين الإنسان المجردة، والتي من خلالها يسهل افتراض شعور بالهيمنة على الطبيعة ووجود غرض فيها. فرغم كل شيء، فالإنسان هو قمة وسيد المفترسات على كوكب الأرض ويفوق كل الحيوانات الأخرى على الكوكب في ظروف براعة وتعقيد التفكير. بعبارة أخرى، تبدو طاولة الطعام حقًّا كما لو كانت مُعَدّة للبشرية على هذا الكوكب [كل شيء مجهَّز ومسخَّر لهم_م]. يبدو الإنسان حقًّا مميَّزًا في هذا المكان. لكن الكوكب بدا ذات يومٍ كذلك مسطحًا، والشمس بدت ذات يوم أنها تدور حول الأرض أو فوقها. إن مشكلة كامل جدلية شخصٍ يقيمها على كيف تبدو الأشياء اعتياديًّا عَرَضًا بدون المعايير الدقيقة الصارمة للتحليل لضبط تلك الملاحظات هي أن مثل تلك الملاحظات يمكن أن تمتلئ بأوهام وأهواء الإدراك. في الواقع، هذه كانت ضربة المعلم البارعة التي قدمها منهج البحث العلمي: إنقاص احتمالات وهم الإدراك بزيادة موضوعية الدراسة. إن الموضوعية الكاملة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي مستحيلة كما نوقش في الفصل الرابع، لكن تقليل الذاتية إلى الحد الأدنى على نحوٍ كافٍ يشكِّل الهدف المثاليّ المرغوب. إن مربط الفرس هو أن أكثر الأدوات موثوقية للتقرير بها بصدد الأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي هي تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية. بالإخفاق في توظيف التقنيات والمعايير الصارمة الدقيقة، فإن من يؤكدون الجدلية الغائية لا يقولون تقريبًا أكثر من: "أنا أشعر بوجود نظام في الكون، بالتالي يوجد إلهٌ". بعبارة أخرى، فإنهم يقدمون ادعاءً يتعلق بالواقع الموضوعي والذي يجب أن يخضع للتأكيد بناءً على الاكتشاف التجريبي أو الضرورة المنطقية، ولكن دعمهم لذلك التأكيد هو شعورهم الداخلي الذاتي بأنهم يشعرون بأن الأمر كذلك. باعتبار الذاتية المحضة للجدلية، فإن حضور أهواء التأكيد لا ريب فيه. كمثال، قد يشير شخص يعتقد بالجدلية الغائية إلى أن عين الإنسان وحدها معقدة وكفؤة للغاية في التعامل مع البيانات بحيث أنها ما كانت لتوجد لولا وجود وكلية قدرة إله. بالتأكيد، فإنهم يتجاهلون ببساطة العيوب المعروفة في تصميم العين، كمثالٍ: النقطة العمياء الموجودة في عيون كل الفقاريات [مما يؤدي أحيانًا إلى الانفصال الشبكي وبالتالي العمى]. إن وجود ذلك العيب وحده هو جدلية لصالح انعدام التصميم ذي الغرض والمثالي للعين البشرية، لكن بما أنه لا يناسب مفهومهم مسبق التصور، فإنهم ينبذونه. هذا مثال لأهواء التصديق والإثبات. النقاش السابق أعلاه كافٍ لصرف النظر عن الجدلية الغائية باعتبارها ليست سوى شعور ذاتي داخلي يتنكر على أنه برهان منطقي، لكن بما أنها وسيلة مفضلة للكثير من المؤمنين المتدينين، فلندرس الطريقة التي يعمل وهمهم الإدراكي على الأرجح. فيرجَّح تمامًا أنهم كلهم يخلطون ويفسدون العلاقة المتبادلة للسبب والنتيجة. نعم، إن بيئة الأرض واحتياجات الإنسان متفقتان تمامًا، لكن ذلك لا يُلزِم منطقيًّا بالضرورة باستنتاج أن الأخير قد خُلِقَ ليسكن الأسبق ذكرًا (الأرض). لو كان هذا هو ما عليه الأمر، لما اعتقد المرء بأن المأوى سيكون أحد الحاجات الأساسية للإنسان للبقاء حيًّا أو مثل تلك النسبة الكبيرة من الكوكب لن تكون قابلة للسكنى للإنسان عمومًا. قد يبدو الجسد البشري قويُّا وشديد الاحتمال، لكن من منظور كوني فإنه يحتاج ظروفًا نادرة ودقيقة ليبقى حيًّا. ما هو الأكثر احتمالًا؟: أن كوكب الأرض قد صُنِع لمساندة البشر، أم أن البشر قد تطوروا من شكل آخر من أشكال الحياة على الكوكب ليتلاءموا مع الفرص التي كانت تقدمها الأرض؟. العلم يقول بالأخير ولديه كم هائل من الأدلة لما يؤكده. بينما الأديان تقول بالأول وتقدم تأكيدات ومزاعم عارية مموهة كمحاولات منطقية. عندما تُستعمَل للجدال لصالح نظام العالم فيما صلته بالبشر، فإن الجدلية الغائية هي رؤية للكون متركزة على الذات على نحو جدير بالملاحظة والتي تؤكد أن كل شيء يوجد فقط لأجل البشرية بينما لا تنظر أبدًا إلى [مسألة عدم توفر] الضرورة المنطقية لموقفها. جدلية إله الفراغات- جدلية ضد المعرفة الحالية للعلم الجدلية: حيث أن العلوم والرياضيات والمنطق لم تُجب بعد على كل الأسئلة عن السببية والأصول والنشأة في الواقع الموضوعي، فإن الفراغات في معرفتهم المتحدة لجميعهم تبرهن على ضرورة وجود إله كتفسير منطقي لآليات الكون. يقوم مقترحو جدلية إله الفراغات بعرض وجهة نظرهم بطرح الأسئلة عن الطبيعة أو وجود البشر حتى يصل المتحاوَر معه إلى نقطة حيث لا يمكن لمعرفة العلم عن العالم الاستمرار في الإجابة، وعند هذه النقطة يدعي المحاوِر أن عند هذه الفجوة بالضبط في المعرفة فإن إلهًا هو السبب في الظاهرة محل الكلام. لأجل أغرض النقاش العملي، فإنه لا يهم ما هو آخر ما توصل إليه فرع ما من العلوم، فإن الشخص الذي يدافع عن جدلية إله الفراغات سيلجأ إليها متى ما استنفدت معرفة معارضه المحاور مع المجال العلمي محل النقاش. التفنيد: أولًا، لنلاحظ أن الجدلية الكونية تستغل الفجوة في المعرفة العلمية على وجه خصوصي فيما يتعلق بسبب [وجود] الكون لكي تضع الضرورة المنطقية لإله أو آلهة، بينما تستغل جدلية إله الفراغات أو الفجوات أي فجوة في المعرفة العلمية لتحاول القيام بنفس الحيلة. بسبب التشابهات بين الجدليتين، فإن الدحض المقدم للأسبق ينطبق على نحو مماثل هنا، تحديدًا: التذرع الاستثنائي بوجودٍ يخالف قانون السببية لا يقوم بأي شيء للبرهنة على الضرورة المنطقية لذلك الوجود [الكيان] في تفسير سلسلة غير معروفة للسببية [تعاقب الأسباب والنتائج]. كلا الجدليتين أيضًا تقدم مجادلات مغالِطة من الجهل، أيْ: جدليات تقوم على افتقاد دليل قاطع على العكس منها، عوضًا عن أن تكون جدلياتٍ تثبت إيجابيًّا مزاعمَها وتأكيداتِها. إن مغالطة الجدل والحجة من الجهل لها أهمية خاصة في الجدل المنطقي للتفكير القائم على العقلانية، وهي تتكرر كثيرًا للغاية في النقاشات والجدالات بين المؤمنين والملحدين [العقلانيين]، لدرجة أن دحضها المنطقي قد تم صياغته وتخليده في الفرضية الثالثة للتفكير القائم على العقلانية. وكما قد نوقش، فإن الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية إسهابٌ واستطرادٌ، بسبب تحديد تقنيات اكتساب المعرفة في الافتراض الثاني، لكن التعيين السليم لمسؤولية عبء الإثبات ذات أهمية كبيرة بحيث أن الفكرة استحقت اهتمامًا خاصًّا. إن جدلية إله الفراغات هي مثال آخر مثير للاهتمام على الأخطاء التي يقوم بها العقل بينما يكافح للاحتفاظ بمجموعتين من الافتراضات متعارضتين تمامًا. أثناء إنشاء جدلية إله الفراغات، فإن المؤمنين المتدينين يعترفون ضمنيًّا بأن تفاسير العلم للظواهر الطبيعية صالحة وسليمة لأنهم لا يتحدونها. بدلًا من ذلك، فإنهم يريدون دفع محاورهم المعارض إلى موضعٍ حيث لم يقم العلم بعدُ بادعاآت بالمعرفة وهناك فقط يُدخِلون إلهًا أو آلهة. بدون وعي منهم، فإنهم يشيرون ضمنيًّا إلى أن أجزاء سلاسل السببية غير المفسَّرة فقط في الطبيعة الفيزيائية بها مجال لمشاركة ودور إلهٍ. لو كانوا ملتزمين على نحوٍ كامل بافتراضي الاعتقاد الديني، لما كانوا شغلوا أنفسهم بعمل جدلية تتضمن أن مملكة إلهٍ [ما] تتقلص إلى نفس الحد الذي يتوسع فيه العلم. ومن جانب آخر، فلو كانوا ملتزمين على نحو كامل بالافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية لكانوا قبلوا الفراغات في المعرفة العلمية كفراغات مؤقتة وأمينة متواضعة تتطلب المزيد من العمل والبحث. بدلًا من ذلك، فإنهم يخلطون على نحو غير متسق مجموعتيهم من الافتراضات. وبسبب فكرة خاطئة أساسية تقول بأنه يمكن مواءمة العلم في وجهة نظر كونية متشاركة التواجد مع الاعتقاد الديني، فإن المحاولات المنطقية غير المتسقة والمتنافرة مثل جدلية إله الفراغات وتجلياتها التي لا تُحصى تحدث كثيرًا جدًّا للغاية. تمثل الجدليات الثلاثة الآنف ذكرها أعلاه تقريبًا كل أنماط الجدليات المنطقية الواضحة لصالح وجود إله. وكما في حالة جدلية رهان باسكال، فإن الناس كثيرًا ما تصادف تلك الجدليات والحجج في استبطانهم الداخلي قبل زمن طويل من أن يسمعوا صيغتها الرسمية على الإطلاق، لأن كل الثلاثة لها جاذبية حدسية مطلقة، مترافقة مع أخطاء دقيقة ويصعب رؤيتها عندما يكون الشخص نشأ في وسط الاعتقاد الديني. رغم ذلك، فإنه يسهل تمامًا تحديدها عندما يصبح المرء معتادًا على سمتها المميزة الشائعة: يوضَع الآلهة دومًا كقيمة مبدئية لا تُساءَل ولا يتم إثباتهم إيجابيًّا أبدًا. سبب كونهم يوضعون ويُصاغون بهذه الطريقة سوف نقويه أكثر عند تغطيتنا لمسألة الوضع الحالي للأدلة التجريبية والقائمة على الملاحظة على وجود إله في الجزء التالي، لكن سببًا منطقيًّا لكون وجوده لا يُثبَت إيجابيًّا أبدًا هو أن الكلمة "إله" لا تمتلك فقط مستوىً معقولًا من الدقة على نحوٍ كافٍ لكي تُثبَت. بعبارة أخرى، لا أحد يعرف على نحو معقول عما يبحث. شخصيًّا، كان لدي محاورات لا تُحصى مع المؤمنين المتدينين والتي مضت وفقًا للتالي: المؤمن: الله خلق/ صمَّم الكونَ. أنا: أيُّ دليلٍ يوجد ليدعم ذلك؟ المؤمن: ماذا غير ذلك يمكن أن يقوم بالأمر؟ بصرف النظر عن كونه مثالًا لجدلية وحجة من الجهل، فإن إجابة كهذه تقدم لمحة مثيرة للاهتمام عن مكان الإله أو الآلهة في تفكير الكثير من المؤمنين الدينيين: إنهم يستعملون كلمة "إله" أو "الله" كتعبير ملطف مشخَّص لجملة "لا أعرف". لكي يصير شخصٌ ملحدًا [عقلانيًّا] فإنه يجب أن يتعرف على ويتقبل ما لا يعرفه العلم حاليًّا عن الطبيعة والوجود بدون شعور بالحاجة إلى وضع أفكار مالئة للفراغات والتي تفتقد كلًّا من التعريف الكافي والمقدرة التوقعية. مثل هذه الأفكار تهدف فقط إلى تقديم معرفة وهمية زائفة وتخمد رغبة البشرية في استكشاف العالم ومكانها فيه. الأدلة الإمبريقية (القائمة على الملاحظة أو التجربة) لصالح وجود إله كما لاحظنا، فإن الجدليات المنطقية السالفة أعلاه لصالح وجود إله ليست مخصصة وحصرية لأي دين. للأسف، فإن الأدلة الإمبريقية لصالح وجود إله محددة الدين جدًّا. السبب في ذلك التحديد هو أن الغالبية العظمى من الأدلة المزعومة أشيرَ إليها في الكتب المقدسة، والتي هي المصدر الرئيسي لأوامر ومراسيم الدين وصحته المزعومة. رغم ذلك، فإن النقاش لا يحتاج إلى الخوض في التأكيدات والمزاعم الخاصة الحصرية بكل دين لأنها كلها تتشارك سمة متماثلة في سنداتها الاستدلالية. عوضًا عن ذلك، فإن تفحص الخيوط والعناصر المشتركة للأدلة المقدمة من جانب الغالبية العظمى من الأديان مع تقييم لموثوقية تلك الأدلة سيكون كافيًا. عند هذه النقطة، سيكون ملائمًا أن نراجع تعريفي الدليل المباشر والدليل الظرفي، كما قدمته في الفصل الأول. للتوضيح، فإن الجدول التوضيحي يقدم إطارًا تنظيميًّا بسيطًا ستُصنَّف إليه المصادر الرئيسية للأدلة الخاصة بأي دين. الأدلة المباشرة الخاصة بوجود إله (في الماضي والحاضر) كل الأدلة المباشرة المقدمة من قِبَلِ الأديان لصالح وجود إلهٍ تتخذ شكل شهادات شهود العيان. قبل الخوض فيما تدعيه الأديان، فلندرك أنها لا يمكنها واقعيًّا أن يكون لديها أي شكل (نوع) آخر من الأدلة المباشرة عن المسألة، لأن طبيعة [الإله أو] الآلهة تحتجب في مملكة ما فوق الطبيعة، مقاومةً الفهم من قِبَلِ البشر، وتفتقد التعريف المعقول كنتيجة لذلك. إن تسجيل ﭬيديو لإلهٍ كان سيكون دليلًا مباشرًا على وجوده، لكن كيف سيعرف المرء أنه كان يرى إلهًا على شاشة الكامِرة؟ في الحقيقة، كيف سيعرف المرء على نحو موثوق وفق أي ظروف أنه كان يحصل على دليل مباشر على إلهٍ؟ بدون تعريف معقول، فليس هناك سبيل لمعرفة كيف يكون المرء قد وجد ما يبحث عنه. يتضح آخر المآل أن شهادة شهود العيان هي نقص وعجز طبيعي فيما يتعلق بالأدلة المباشرة على [الإله أو] الآلهة، لأنه امتلاك شيء آخر كان سيكون مساويًا لتقديم تعريف لما يَكُونه إلهٌ حقًّا. بالنسبة لمسألة الأدلة المباشرة التي تقدمها الأديان فعليًّا، فإن تأكيداتها ومزاعمها تنشأ من [زعم] وحي إلهيٍّ من خلال رسول، مما يؤدي عادةً إلى كتابة كتاب مقدس أو مصدر نصي لدينٍ. لأجل الأغراض الاستدلالية، فإن جملة "وحي إلهيّ" هي طريقة خيالية لقول جملة "شهادة شاهد عيان"، وهناك العديد من الأسباب لكونها مشبوهة مشكوكًا بها في هذا السياق. أولًا، هناك مشكلة تضارب مصالح بالنسبة لمن يدعون أنهم قد تلقوا وحيًا إلهيًّا، أي أن هناك وجودًا لدافع عند الشخص ليكذب قصديًّا بصدد خبرته. تُعرَف الآلهة [والمزاعم الدينية] كمصادر لقوة هائلة، ولو أقنع شخصٌ آخرين بأنه كان مفضَّلًا للغاية لدرجة التكلم مع سلطة كهذه، فسوف يحصل على الخضوع والاحترام له والتكريم لأجل ذلك التواصل. ثانيًا، هناك احتمال راجح لتحيز الإثبات، أي: خطأ غير مقصود في الإدراك فيما يتعلق بما قد حدث حقًّا. في سياق الاعتقاد الديني وتقنيته الخاصة بالإيمان لاكتساب المعرفة، فإن تحيزات الإثبات تكثر إذْ لا يوجد نقص وعدم وفرة من المفاهيم الغامضة والأفكار المعرَّفة على نحوٍ رديء لأجل عقل راغب في التفسير بطريقة متصنعة متكلفة. وآخرًا، فهناك المشكلة الموجودة باستمرار الخاصة بكيف يستطيع المرء أن يكون لديه معرفة موثوقة بأنه ما قد مر به من تجربة وخبرة كان إلهًا. على نحو غريب، فإن التعريفات الغامضة كثيرًا ما تَكُون أفضلياتٍ تكتيكية للاعتقاد الديني في الوضع والإطار النظري، لكنها تقدم هلاكها بنفسها عندما تُقدِم على إنشاء أدلة مقنعة عملية. مع مجيء البحث العلمي، فإن ظهور الأنبياء الذين أدت في الماضي خبراتهم ووحيهم إلى إنشاء أديان كاملة قد قل على نحوٍ مثيرٍ للارتياب. رغم ذلك، فإنه ليس أمرًا غير شائع بالنسبة للمؤمنين المتدينين في العصر الحالي أن يدّعوا أنهم قد تحدثوا إلى إلههم الذي يعتقدون به [أو رسولهم أو مؤسس دينهم] أو أنهم قد مروا بخبرة الشعور به على نحوٍ آخر، وليس لدى البشرية أي أدلة مباشرة على الوجود الحاليّ [المزعوم] لإلهٍ [أو آلهة أو بودوات مستنيرين أو بوديستاﭭات منقذين أو ملائكة أو أرواح رسل] غير مثل هذه التعليقات والتفاسير الشخصية. رغم أنها أقل شمولًا وتأثيرًا من الوحي الإلهي المزعوم الذي أنتج قديمًا الكتب المقدسة التأسيسية، فإن هذه الادعاآت الخاصة بالخبرات الشخصية مع [إله أو] آلهة لا تزال مع ذلك تمثل شهادات شهود عيان، خاضعة لكل نفس انتقادات المصداقية والصحة التي ناقشناها من قبلُ. من منظور تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالاعتقاد الديني فإن الثقة في دليل شهادة شهود عَيْنٍ متلاقين مع إلهٍ ليست مشكلة. رغم ذلك، فإن التفكير القائم على العقلانية يختلف. عندما يُفترَض وجود كائنٍ في الواقع الموضوعي فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي أفضل الوسائل للمهمة للتحكم ضد أوهام وأهواء الإدراك، أيْ أن أدلة الخبرات والتجارب الشخصية المجموعة بدون أي وسيلة منهجية قادرة على التمييز والحكم أو تحكم [تجربة حاكمة محكومة علميًّا وقابلة للتكرار] ينبغي أن تُنبَذ باعتبارها غير موثوق بها ولا يُعوَّل عليها. أما في الاعتقاد الديني، فإن تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان تميل إلى أن تعمل على أن تشجع أحكام ونتائج المرء على اختيار الأدلة التي تلائم. أما في التفكير القائم على العقلانية فبخلاف ذلك تعمل موثوقية ومدى إمكانية الاعتمادية الخاصة بأدلة المرء على تقرير استنتاجه. بالنسبة لمسألة شهادات شهود العِيَان في الماضي والحاضر عن وجود إلهٍ، فإن تضارب المصالح [وجود مصلحة شخصية] والترجح المرتفع الاحتمال لتحيزات الإثبات، والإخفاق في استخدام تقنيات اكتساب المعرفة الأكثر ملاءمةً لتقديم معلوماتٍ موثوقًا بها عن الواقع الموضوعي يحكم بالعجز على الأدلة باعتبارها تالفة ومشكوكًا بها على السواء. بالتأكيد، هناك أيضًا إخفاق أساسي في مفهوم الإله نفسه والذي يجعل ادعاآت الشخص بمروره بخبرة تواصلية معه يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته وتفسيره من جهة السؤال عن كيف يمكن لشخص أن يعرف على نحو موثوق شيئًا كهذا بدون أن يعرف أي شيء عما يَكُونه إلهٌ. كمجمل، فإن وثاقة صلة الأدلة المباشرة بسندات أي دين معين واضحة، لكن الإخفاقات في المصداقية والموثوقية تجعل الأدلة غير قابلة للدفاع عنها أو إنقاذها. الأدلة الظرفية الخاصة بالماضي على وجود إلهٍ هناك مصدران للأدلة الظرفية الخاصة بالماضي واللذان هما أساسيان للأديان: الكتب المقدسة والمعجزات. المعجزات أدلة ظرفية على وجود إلهٍ لأن الشهادة على أحداث مستحيلة ظاهريًّا تتطلب الاستدلال الإضافي بأن إلهًا غيرَ مرئيٍّ كان السببَ لكي تبرهن على وجوده. أما تصنيف الكتب المقدسة من وجهة نظر استدلالية لأن ليس كلها يُعتبَر النسخ والنقل المضبوط لشهادة العيان من رسول قد تلقى معلوماتٍ إلهية [زعمًا] [قارن مثلًا مشكلة تعدد قراآت القرآن العشر رغم إعدام عثمان لمصاحف نسخ الصحابة الأخرى المخالفة، وكذلك تناقضات القرآن والأحاديث في الأحكام والأفكار_المترجم]. فإن زعم [أتباع الأديان] أن الكتب المقدسة هي النسخ والنقل المضبوط السليم لوحي إلهيّ، فمن ثم فإنها تؤلف أدلة مباشرة على وجود إله، خاضعة لكل نفس المخاوف بشأن السلامة والمثارة في المقطع السابق مع مخاوف إضافية من أخطاء الترجمة [أو التنقيط والتشكيل كما في تعدد قراآت القرآن، وتناقضات الأحاديث المحمدية، وكذلك التوراة والأناجيل في مخطوطاتها variants] أو التعديل والتحريف [لا يخلو منه القرآن والأحاديث المحمدية والكتاب المقدس] أثناء انتقالها عبر السنوات والقرون. أما إن لم يزعم [أتباع الأديان] أن الكتب المقدسة تمثل شهادة شاهد عيان مكتوبة عن وحي إلهيّ، فإنها من ثم تكون تؤلف أدلة ظرفية على وجود إلهٍ، والكثير من الأديان تدّعي أن كتبها المقدسة تنبأت بأحداث تاريخية لكي تحث على الاستدلال الإضافي بأن مثل هذه المعرفة المستحيلة [المزعومة] يمكن فقط تلقيها من خلال همسات ذوات علم كليّ لإلهٍ. في نزعة جديدة صُمِّمَت للحفاظ على علاقة وصلة للاعتقاد الديني مع العصر الحديث، يعتبر [المنتفعون والمتحدثون باسم] الأديان أحيانًا أن فقرات كتبهم المقدسة تنبأت بمعارف علمية مقبولة قبل أن يحرزها العلم نفسه. بغض النظر عن السياقات، فكل هذه الإشارات المتحيزة يتضح أنها تقع في نفس التصنيف، تحديدًا: ربط الكتب المقدسة برؤية مستبقة تنبئية للمستقبل. فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة على أنها قد تنبأت بأحداث مستقبلية، فإن رد فعل المرء ينبغي أن يكون: "ولماذا أبالي؟!". إن السؤال ذا الصلة في هذا النقاش ليس ما إذا كان كائن كلي المعرفة ما قد وُجِد ذات يومٍ، بل بالأحرى ما إذا كان إلهٌ له كل الصفات ذات الصلة المعرَّفة يوجد اليوم. بعبارة أخرى، لا يستحق الأمرُ بذلَ الجهد لتعقب التسلسل الزمني التاريخي لزمن كتابة النبوءة مقارنةً بمتى وما إذا كان الحدث المتنبأ به حدَثَ، أو تحليل لغة نبوءة مزعومة لتقرير ما إذا كانت كُتِبَتْ على نحو غامض للغاية لكي تنطبق على تنوع واسع من الأحداث. حتى لو اعترفنا [جدلًا] بالدليل الظرفي المقدَّم بهذه الطريقة في مجمله، فإن صلته فيما يتعلق بالسؤال النهائي المطروح في النقاش قليلة إلى أدنى حد. أما عن مسألة الزعم بأن الكتب المقدسة تنبأت بمعرفة اكتُشِفَت لاحقًا من جانب البحث العلمي، فإن المشكلة هي أن اللغة المستشهَد بها بعيدة جدًّا عن مستوى الدقة المطلوب لصنع معرفة علمية أو رياضية [كمثالٍ تعبير القرآن المحمدي عن السماء باعتبارها كل الكون، وحديثه عن سبع سماوات خرافية وغيرها_م]. تميل الكتب المقدسة إلى اللغة الشعرية متعددة المعاني، والاقتراح بأن هناك أي علم فيها إما وهمي أو تضليلي نفاقي. أيضًا، فإن [أتباع] الأديان ينسون على نحو مريح لهم كل المعلومات الخاطئة على نحو واضح التي تحتويها كتبهم والتي دحضها البحث العلمي لاحقًا بينما يقومون بهذه الجدلية [كمثال قول القرآن بأن النحل يأكل الثمرات وأن كل شيء حي له زوجان وأن الشمس تجري لمستقر لها فوق أرضٍ مسطحة وتغرب في عين حمئة ضحلة المياه! وأن الأرض موجودة منذ بدء تشكل الكون المعروف وكذلك السماء الخاصة بها!-م]. وهو استمرار للبرهنة بالأمثلة على نمط اختيار الأدلة التي تؤكد استنتاجاتهم بينما يتجاهلون أو ينبذون الأدلة على العكس. وكذلك، تبرز نفس المشكلة هنا بالنسبة للأديان كما تبرز فيما يتعلق بالنبوآت المتحققة زعمًا، تحديدًا: أن صلة الدليل قليلة تمامًا فيما يتعلق بالسؤل عما إذا كان يوجد إلهٌ اليوم. إن كانت الكتب المقدسة تحتوي على تنبؤ عن سواء العلم أو أحداث المستقبل عمومًا، فلماذا لم تقم هذه الفقرات بأي شيء لتقدم المعرفة العلمية أو تجنب مثل هذه الأحداث [كزعم أحاديث المسلمين تنبؤ محمد عن أحداث فتن صحابته وغيرها_م]. هل الاحتمال الأرجح هو أن الكتب المقدسة تتنبأ بالمستقبل بعرض معرفة كائن كليّ المعرفة أم أن الأحداث البشرية قد حدثت أولًا ثم بعد ذلك تم زعم وجودها وتفسيرها في النص والشرح الغامض والطيع المرن للكتب المقدسة؟ إن اعترف المرء [جدلًا] بكل نبوآت هذه الكتب على أنها تحققت، فإلى أين ستصل هذه الأديان؟ ستظل ليس لديها دليل على وجود إلهٍ في الوقت الحاضر أو كيفية استغلالها وتجنيدها بدون تحديد ما يكونه [الإله] أولًا. ومثل ظهور الأنبياء، كذلك شهدت المعجزات انخفاضًا شديدًا في التكرر بعد قدوم العلم الحديث. عمومًا، فالمعجزة هي حدوث المستحيل، كثيرًا ما يكون ذلك فيما يتعلق بالانتهاك الواضح لقوانين الطبيعة. تحدث المعجزات كثيرًا حقًّا في الكتب المقدسة وتستعمَل للإشارة إلى وجود أو التدخل النشط لإلهٍ في الآليات العادية للعالم الفيزيائي. في العصر الحديث، يستمتع المتدينون بوجه خاص بادعاء حدوث معجزات في المجال الطبي. على نحو عجيب، فإن مثل هذه المعجزات تحدث دومًا في ظروف داخلية غير مرئية، ولا تحدث أبدًا لمبتور الطرف أو ضحية حريق بحيث تنهي معاناتهم وفي نفس الوقت تبرهن على وجود الغيبية. لكانت ستكون معجزة جديرة بالملاحظة حقًّا لو أن إنسانًا مبتور الطرف نبت طرفه مجددًا خلال ليلة، لكن هذا لا يحدث ولم يحدث قط. في الحقيقة، لقد كان التقدم العلمي فقط هو ما قدم راحةً لمثل هؤلاء الناس من خلال التقدم في الأطراف الصناعية والعلاج لكيفية التعامل معها. أن ندعو مساهمات العلم فيما يتعلق بهذا الشأن "معجزاتٍ" هو قيام بإساءة بالغة لا تُصدَّق لكم الجهد والإبداع البشري الذي قد بُذِلَ لخلق حلول لهذه المشاكل. في الواقع، لما كان أوُجِد المجال الطبي بأكمله لو أن بركات إلهٍ كانت قريبة ومتاحة لتخفف معاناة البشرية. على نحو عجيب، فإن المعجزات كذلك لا يبدو أنها تحدث أبدًا بحيث تجري عكس حظ الشخص، أي أن الذين يرون المعجزات يميلون دومًا إلى رويتها كعطايا من الاستحالات الفيزيائية التي تنتج النعم والهبات، لكن ليس الأحزان أبدًا. بالتأكيد، كان سيُحسَم كل موضوع المعجزات لو أن شخصًا حفظ حدوث واحدة من خلال أداة تسجيلية لكي تُفحَص من جهة مصداقيتها لاحقًا. لا ينبغي أن تكون المعجزات صعبًا العثور عليها لو أنها موجودة، إلا أنها في أفضل الأحوال إشاعات لطيفة وقيل وقالوا منتشرة بين المؤمنين الدينيين. إن عدم الملاءمة والخرَق المتعلق بالمعجزات هو أنا لا يبدو أنها تحدث أبدًا عندما نأخذ في اعتبارنا سلاسل السببية المعتادة المعروفة جيدًا. كم عدد المرات التي شهد الناس فيها ظاهرة إلقاء شيء ورؤيته ينجذب إلى الأرض بفعل عملية الجاذبية؟ لماذا لا يُنتهَك هذا القانون أبدًا لأجل معجزة؟ ماذا عن ظاهرة كون الجسد البشري لا يستطيع استخلاص الأوكْسِجِن في الماء، أيْ: أنه لا يقدر أن يتنفس تحت الماء؟ الكثير من الناس هلكوا نتيجةً لهذه القوانين الطبيعية يشهدون بالحاجة إلى حدوث مثل تلك المعجزات، إلا أن الإمداد [بالمزاعم] لا يبدو أنه احتوى أيًّا منها. لا أحد قام برياضة السباحة في الهواء بباراشُتّ (مظلة) أخفقت في أن تنفتح، فقط لكي تقل سرعته على نحوٍ معجزيّ حتى يهبط بلطفٍ على الأرض غيرَ متأَّذٍ. لا أحدَ سقط من خلال انكسار سطحٍ جليدي وكان غير قادر على الصعود إلى السطح لأجل التنفس قد نجا من ذلك الحدث أكثر مما يمكن أن تسمح به رئتاه لأجل تعليق مؤقت لحاجة الجسد إلى الأوكْسِجِن. وحقيقة هبوط سابح هوائي إلى الأرض ونجاته من الموت بسبب الاصطدام لا يؤلف معجزة لمجرد كون الاصطدام فشل في قتله. لو أن استبدال الموت بالتأذي الجسدي المروع يمثل المعجزات التي يقدر عليها [إله أو] آلهة، فمن ثم تكون قدرته أو قدرتهم الكلية تُظهِر تقييدات غريبة عليها. الكتب المقدسة والمعجزات هي جواهر التاج لأديان العالم، هي تعلن عنها بكثافة على هذا الأساس. تحاط الكتب المقدسة بتابو من الاحترام المهيب، ويُتفكَّر في المعجزات بإثارة مدهشة. للأسف، ليس أيٌّ منهما يستحق الأوصاف المزعومة عنه. لو أن الكتب المقدسة كانت قيمة للغاية لأجل نبوآتها، لتوقع المرءُ أنها ستستخدم معارفها على نحوٍ رياديّ استباقيّ عوضًا عن أن تدعي الانتصار الفائق بعد [حدوث أو اكتشاف] الحقائق. أما بالنسبة للمعجزات، فهي حيلة مناسبة للأديان والإيمان بالآلهة لكونها تعمل على إبقاء الناس في طرائق مجهولة دومًا، عندما لا توفر المعرفة العلمية أو الشهادات البشرية رؤية تدخل سحري ليدٍ ميتافيزيقية [فوق طبيعية غيبية] في التسلسلات الاعتيادية السببية للعالم الفيزيائي. إنها مريحة تمامًا، وحالما تذهب مصداقية الأدلة، فلا شيء بصدد الكتب المقدسة أو المعجزات يصنع إثارة الفضول التقليدي، فهل هي عمل يدوي أخرق مثلًا لإله؟! إن تهربها ومراوغتها الرديئة تميل إلى اقتراح العكس. الأدلة الظرفية المعاصرة على وجود إلهٍ كما أشرتُ أعلاه آنفًا، فالأدلة الظرفية المعاصرة لوجود إله يمكن أن تكون أي شيء. لماذا أمطرت ثلجًا اليوم الماضي في كييـﭪ؟ لماذا تتجاذب المغناطيسات ذوات الأقطاب المتضادة؟ لماذا توجد الطبيعة على الإطلاق؟. فحيث أن مفهوم كلمة إله يخضع فقط لأكثر التعاريف تجريدًا فيما يتعلق بقدراته وشخصيته، فلا يوجد شيء يمنع شخصًا من رؤية أدلة ظرفية على وجوده في كل مكان. كمثال، إنه ليس غير معتاد أن يتنزه شخصٌ في الخلاء، فيأتي إلى مساحة خالية من معرقلات الرؤية ويرى امتدادًا هائلًا من الطبيعة، ويشعر بأنه مشدوه مذهول لروعتها. الشعور بالتقزم والصغر من الرهبة التي يمكن أن يشعر به المرء لأجل جمال الطبيعة، ثم يُعزَى إلى المبدأ الملقَّن لإلهٍ في عقل الشخص [المتدين]، ويُصطَنَع دليلٌ ظرفيٌّ على وجود إلهٍ. لا يوجد طريقة لعزل أو تصنيف كل الأشكال الممكنة لهذه الأدلة لأنها ببساطة وحرفيًّا لا نهائية. كل ما يمكن القيام به هو مناقشة لماذا الكثير للغاية من الأشياء والأحداث، في الواقع كل الأشياء والأحداث، يمكن أن تُعتبَر أدلة ظرفية فيما يتعلق بالسؤال عما إذا يوجد إلهٌ اليوم. رغم أن افتقاد التعريف في كملة (إله) يقطع كل الطرق على السندات الاستدلالية للأديان، فإنه يساهم في هذا المثال بصنع حفرة لا قاع لها من تحيزات الإثبات لأتباعها. الإله أو الآلهة صندوق أسود مثالي يرمي فيه المرء [المتدين] كل شيء لا يفهمه منطقيًّا أو علميًّا عن العالم لأن افتقاده أو افتقادهم للتعريف يعني أن كل شيء يصلح [يمكن أن يكونوا أي شيء]. لماذا لا يقوم العلم بتجربة للبحث عن وجود إلهٍ؟ حتى لو كان [الإله أو] الآلهة غير معرف أو معرفين تحكميًّا خارج لب افتراضات التفكير القائم على العقلانية، فعما سيبحث العلم. كيف سيعرف لو أنه وجده؟ هذا سبب كون الكثير من الناس غير قادرين على تصور أنفسهم خارج الاعتقاد الديني: لقد دخلوا في حالة حيث يؤمنون بشيء لا يفهمونه. أما عن صحة وموثوقية الأدلة الظرفية المعاصرة على وجود إلهٍ، فلا يحتاج المرء إلى دخول قاعة [بيت] المرايا المتقابلة هذا بحثُا عن مخرج لأنه لا دليل ذا معنى تم الحصول عليه للبرهنة على أيٍّ من الصفات الثلاثة الضرورية للإله أو الآلهة. إن لاحظ شخصٌ جمال العالم مع دهشةٍ وعزى تلك اللحظة إلى إلهٍ، فإنه في الواقع يزعم أن إلهًا قد خلق كل الأشياء وأن هذه الروعة بوضوح من إبداع خلقه. كل ما يحدث في هذا الصنف من الأدلة هو أن الناس الذين يدّعونها قد شعروا بميل لتصعيد مشاعرهم أو مكانهم في العالم بتفعيل مفهومهم الكليّ المفضَّل عن الغير معروف. في الحقيقة إنه استدلال قائم على العاطفة يزعم أنه يبرهن على جوانب حقيقة للواقع الموضوعي، والأخطاء الإدراكية التي يُرجَّح أن تنشأ من تلك المزاوجة قد نوقشت من قبلُ مطولًا. الأدلة الظرفية المعاصرة على وجود إله تساوي لا شيء تمامًا، لأنها تُزعَم وتؤكَّد بدون تعريف معقول لما يُعزى إليه [الأمور والأفعال] أو كيف يؤثر ذلك الكائن على العالم. بعبارة أخرى، فإن الأدلة من هذا الصنف تتألف من مجموعة كبيرة واحدة من الجدليات على أساس الجهل، وهو الخطأ المنطقي الذي يهتم به على وجه خصوصيٍّ الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية. وكما صُرِّح في مستهلِّ هذا النقاش، فكل الأدلة المناقشة في هذا الجزء متناقضة تمامًا مع لب تقنيات اكتساب المعرفة من خلال الإيمان الخاصة بالاعتقاد الديني، لكن كثرة تكرار ادعاء الأديان وجود تأييد استدلالي مستقل كانت تستحق مراجعتها النقدية الخاصة بها. في الواقع، فإن دحرًا كاملًا لكل ما تدعيه الأديان لأجل زعم صحتها قد احتيج له لأجل ملاحظة شدة التشبث التي تقبض مفاهيمها بها على أجزائها وعناصرها. الحالة العامة للأدلة على وجود إله فيما يتعلق بتقييم أي دليل مقدَّم لتأييد وجود إله، فإنه لهامٌّ أن نتذكر السؤال الدقيق الذي نحن بصدده: هل يوجد إلهٌ حاليًّا؟ يتضمن تعريف كلمة (إله) أنه لو كان إلهٌ قد وُجد على الإطلاق، فمن ثم فهو يوجد الآن لأنه خالد، لكن الأديان لا تحاول أبدًا بالضرورة إثبات شيء كهذا. عوضًا عن ذلك فإن [المتحدثين باسمها ونصوصها] تقوم بمكر بوضع ذلك العنصر كلي الأهمية ضمن تعليب مصطلحاتها في محاولة لتمريره وتهريبه من التفحص المنطقي المعتاد. حتى لو كانوا على حقٍّ [على سبيل الجدل]، فأيُّ فرقٍ يمكن أن تصنعه معجزات ووحي إلهي مشار إليه في كتب مقدسة من أجيالٍ ماتت منذ زمنٍ طويلٍ؟ حتى لو كانت موثوقًا به وصحيحة [جدلًا]، فإنها لا تقرِّب المتدينين من البرهنة على أن كائنًا معيَّنًا يوجد حاليًّا في العصر الحاليّ، بل فقط أنه وجد في الماضي آنذاك. لا دليلَ أو تفكير عقلانيّ قد قُدِّم على الإطلاق يبرهن على نحو معقول على وجود كائن كهذا اليوم. من وجهة نظرٍ حدسية، فإن الماضي البعيد هو أكثر مكان غير معتاد واستثنائي لبدء تحرٍّ عن كائن كليّ القدرة يُزعم أنه له وجود حاليٌّ، وإن تخطي المنطق المتطلَّب لانطلاق تضمينات مثل هذه الأدلة المشكوك فيها من العصور القديمة إلى الحاضر هو بالتحديد سبب كون الإيمان أساسيًّا للأديان. إن كون أكثر الأدلة إثارة للاهتمام ورغبة فيها على وجود إله تبرز عندما يعود المرء في الزمن إلى الخلف هو أمر قويّ الدلالة، خاصةً عندما يُقرَن مع افتقاد الأدلة فيما يتعلق بوجوده اليوم. لا حاجةَ بنا إلى دخول المملكة العتيقة التي علاها غبار الزمن الخاصة بالتاريخ الكتابي الخاص بأي كتاب مقدس لدينٍ عندما نبحث عن إلهٍ، وحقيقة شعور المتدينين بالاضطرار إلى فعل ذلك هو إعلان غير مقصود لضعف موقفهم. ينقب الناس عبر كتب التاريخ لاكتشاف أفكار وأفعال بوكر ت. واشنتُن ويوليُس قيصر والماهاتما غاندي، لكن ذلك لأن لا أحد يقترح بأن أي أحد من هؤلاء الناس لا يزال حيًّا. الآلهة ليسوا ذوي صلة بحيوات الناس لأنهم يُفترَض أنهم كانوا موجودين ذاتَ يومٍ، إنهم ليسوا ذوي صلة لأن المؤمنين الدينيين لأنهم يفترضون وفقًا للافتراض القائم على الإيمان أنهم يوجدون [أو أنه يوجد] الآن. اتباع نفس الطريقة التي يتخذها المرء للتعلم عن جنكيز خان للتعلم عنه أو عنهم [الإله أو الآلهة] لا تدل على نحو جيد على الدفاع عن كونهم لا يزالون موجودين [أو لا يزال موجودًا] اليوم، لو كانوا يوجدون من قبل على الإطلاق. لذا فإن سندات استدلالات كل الأديان فيما يتعلق بالبرهنة على نحو معقول على وجود إله أو آلهة هي فشلٌ ذريع وهائل، يتفاقم بحقيقة أن محاولة تقديم أي دليل على الإطلاق في توافق مع تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان يكشف عن يأسهم المسعور في اكتساب الصحة بأي ثمن. الإيمان هو ما يهم في الاعتقاد الديني، وليس الدليل ولا المنطق. إن حشد المحاولات الاستدلالية مع التمسك في نفس الوقت بالإيمان كتقنية صحيحة لاكتساب المعرفة هو كمحاولة اصطياد فراشة بعمل مصيدة بحجم الكوكب، بحيث أنها عندما تتحرك ستكبِّر مجال صيدها إلى أقصى حد من خلال تشوشها الكامل لمكان بداية ونهاية الشبكة. إن حقيقة مجرد وجود الإلحاد تدل على الرداءة الجريئة للسندات الاستدلالية لأديان العالم. فرغم كل شيء، فإن التفكير القائم على العقلانية يتطلب الأدلة والمنطق، ولو أن هناك تعريفًا دقيقًا على نحو معقول لمصطلح إلهٍ ودليلًا مرافقًا على وجوده الحالي، لكان الإلحاد سيكون استنتاجًا غير مطروق بالفعل. الإلحاد ليس الاستنتاج الثابت غير المتغير للتفكير القائم على العقلانية فيما يتعلق بوجود إله أو آلهة، بل هو الاستنتاج الذي يصل إليه وفقَ الأدلة الحاليّة. ككل الاستنتاجات العملية، فإن بزوغ دليل مقنع عند لحظة متأخرة والذي يبرهن على أن استنتاجًا سابقًا كان خطأ سيؤدي إلى تغيرٍ في الموقف. رغم ذلك، فلا يعول المرء على ولا يتوقع عمليةَ عكسِ تقييم معقول تمامًا للواقع الموضوعي قائم على تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، وخاصةً باعتبار المراوغات العملية والحيل الدفاعية السلبية التي أحاطت مصطلحات الاعتقاد الديني نفسها بها. |
|
|
|
رقم الموضوع : [4] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
7- التناقضات المنطقية بصدد الإله أو الآلهة وآراء ختامية
المحادثة هي لعبة من الدوائر المفرغة رالف والدو إِمِرْسُن Ralph Waldo Emerson ناهيك عن افتقاد التأييد الاستدلالي والمنطقي لأجل المزاعم والتأكيدات الدينية، فإن التناقضات تكثر فيما يتعلق بالإله أو الآلهة، بناءً على أدنى حد ممكن من التعريف والذي وُضِع له أو لهم. بالتأكيد، فإن التأكيدات غير المؤيَّدة عن المعرفة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي يُفترَض أنها باطلة من خلال الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية، ولا يحتاج المرء إلى قطع بنية الأديان بنشاط في ضوء فراغها الاستدلالي والمنطقي. ومع ذلك، فإن عدم تماسكها وتنافرها المنطقي يستحق المراجعة النقدية من باب الزيادة والإسهاب. فبعد تفحص بعض السخافات المنطقية للاعتقاد الديني، فإن القطاع الأخير سوف يوضح ما لم يتم توضيحه والانتهاء من عمله عما يكونه الإله أو الآلهة حقًّا. الكثير من الناس قد قضوا ويستمرون في قضاء كامل حيواتهم لخدمة [تعبُّد] أديانهم، وإن توضيح المسائل محل الكلام إلى أبسط عناصرها هو خطوة هامة أخيرة. التناقضات المنطقية بصدد وجود إله أو آلهة المجموعة التالية من التناقضات في الاعتقاد الديني تمثل ما قد يميل [المتحدثون باسم ونصوص] الأديان إلى تصنيفه على أنه "غيبيات وأسرار الإيمان". بغض النظر، فإنها لا تمثل قائمة شاملة. يمكن أن تُكتَب كتبٌ كاملة على لا شيء سوى الأخطاء والغرابات الوفيرة للاعتقاد الديني. لماذا تحدث الأشياء السيئة للناس الصالحين والأبرياء؟ لماذا تبدو حرية الإرادة الإنسانية مهمشة كأنها البنود المكتوبة بخط صغير في عقدٍ للعضوية الدينية، معفيًا الإله [المفترَض] من أي مسؤولية عن الآلام والمعاناة في العالم. إن كان الشيطان يعاقب الآثمين إلى الأبد في الجحيم، ألا يجعله ذلك صالحًا؟ [هذه نقطة لا توجد سوى في المسيحية، لكن يمكن السؤال في الإسلام عن تحدي الشيطان لله مما يجعله كأنه ندٌّ له_المترجم]. كما يبدو فلا نهاية لهذه التناقضات، وما سأقوم به هو تغطية مختصرة لبعضها فقط هنا. كما سيُرى، فمعظم هذه التناقضات تنشأ من الفعل النشاز غير المنسجم بوضع الشخصيات النظرية البطولية للاعتقاد الديني على قمة المعاناة العملية التي تتحملها البشرية. مشكلة وجود الشر/ الشيطان/ الشياطين والجن [المزعومة] حيث أن الأديان تروج للمفاهيم المطلقة، فإنها تختلق قطبين صافيين للأخلاق البشرية: الخير والشر، وتقوم بنية الاعتقاد الديني بتجسيد هذين الطرفيين الأقصيين. الإله أو الآلهة هو/ هم مصدر كل الخير، والشياطين أو الجن هي مصدر كل الشر. ناهيك عن درجة قوة إقناع فكرة تصنيف المدى الهائل على نحو مدهش لكل السلوكيات الإنسانية الممكنة إلى إما "خير" أو "شر" بمعنى موضوعي، فإن مشكلة تنشأ لتلك الكائنات النظرية الخاصة بالاعتقاد الديني فيما يتعلق بالوضع العملي للحضارة البشرية. فبما أن الآلهة أو الإله كليّ القدرة ومحسنًا معًا بطبيعته وبحكم تعريفه، فيفترَض أنه يريد الأفضل لمخلوقاته. بالتالي، لماذا سيسمح بوجود كائنات تروج للشر وتنشره؟ لماذا سيسمح إلهٌ يحوز كلية المقدرة بمثل هذا الشر أو المعاناة أن توجد على الإطلاق؟ لقد ثبت أن وجود الشر في العالم هو السلاح ذو الحدين المطلق للأديان. فمن جهة، فإن وجود البؤس والسلوكيات الشريرة في العالم هو ما يجعل وعدها المغري بالخلاص ذا علاقة. ومن جهة أخرى، فإن الصفات الأساسية كحد أدنى لإلهٍ تُقوَّض بحقيقة أن الناس يجب أن يطلبوا المساعدة من نفس الكائن الذي خلق معاناتهم ونَصَبَهم في المقام الأول. عند تقاطع هذين المفهومين يوجد تعارض جِدِّيٌّ. فلو أن الإله أو الآلهة محسنون خيِّرون وكليّو المقدرة، فلماذا سيحتاج المرء على الإطلاق أن يُخلّص أو يُنجَّى؟ من أين يمكن أن يأتي الخطر مع وجود كائن بهذا المستوى من القوة والرحمة والحنان؟ الكثير من الجدليات لحل المشكلة قد قُدِّمَت، بعضها يتضمن: 1-الوجود الأرضيّ هو مجرد اختبار أو أرض امتحان لرؤية من سيُعتَبَر مستحقًا للجنة، وإن إلهًا سيدمر في الحقيقة الشر عند نهاية هذا العالم. 2-الإنسان يجب أن يُطهَّرَ بالآلام والمعاناة قبل أن يمكنه دخول الجنة. 3-الإنسان لا يحسن إدراك ما هو الشر حقًّا، أي أن الإله يعلم ما هو أفضل لنا، وهو في الحقيقة يتصرف بطريقة خيِّرة مُحْسِنة. الجدليتان 1 و2 فاشلتان. فالجدلية 1 تقترح أن إلهًا لديه المقدرة الكلية التي تعطيه القدرة على عمل أي شيء خلق قصديًّا وعمديًّا البشر ناقصين وأنشأ العالم كاختبار لرؤية أي مخلوقاته البشرية سيثبُت أنه مستحِقٌ. بعبارة أخرى، فإن الجدلية 1 هي الالتجاء المعتاد المعياريّ لمفهوم اللوم البشري لحرية الإرادة لتفسير وجود الشر. بالتأكيد، فإن إلهًا ما كان ليكتسب أي معلومات [إضافية] عن الناس من اختبار كهذا بسبب علمه الكلي، والاختيارات التي سيقومون بها كانت ستكون معروفة مسبقًا ومتنبأ بها. [وهذا مهم في نقد الإسلام والمسيحية لورود هذه الفكرة التبريرية بوضوح وعلى نحو متكرر في القرآن والأناجيل]. أيضًا الجدلية 1 تخون [تتناقض مع] صفة الخيرية [لله] في أنه سيُفترَض أنه يجعل حيوات الناس أصعب على التحمل قصديًّا، كما يبدو للتسلية بما أنه لديه كامل القدرة والتحكم في كيفية خلقه لهم. أيضًا الجدلية2 لا تبلي بلاءً أفضل بأي درجة لأنها أيضًا تتضمن أن إلهًا قادرًا على أي شيء يختار قصديًّا جعل الناس على نحوٍ كهذا بحيث سيحتاجون في الحقيقة للتطهير بالآلام والمعاناة، بصرف النظر عن الكيفية التي يمارسون بها حرية إراداتهم. في كلا السبيلين [الجدليتين]، فإن وجود تعارض مع سمتي كلية القدرة والإحسان الخاصين بالإله أو الآلهة ينتج عنه أن كليهما لا يمكن أن يقال عنهما أنهما صحيحان كذلك في نفس الوقت. لو أن الآلهة أو الإله كان يمكنه تجنب خلق الشر والمعاناة لكنه لم يفعل، فإن إحسانه [خيريته] يؤول إلى نكتة رديئة، أما لو كان لم يقدر على تجنب خلق الشر والمعاناة فإن كلية قدرته تتحطم [تتلف]. الجدلية3 هي أكثر الإجابات معقولية على المشكلة للأديان، إلا أنها لا توظفها كثيرًا. ظاهريًّا, فإن ترددها في المصادقة عليها ينشأ من حقيقة كونها تقوض الجدليات بأن الشر والجحيم يوجدان حقًّا من الأساس، والذي يعتبر على نحو مؤكد تضحية بحافز كبير للمشاركة في [وممارسة] الدين. يُرجَّح كذلك أن الجدلية3 لا يمكن التمسك بها بجدية في نظام أخلاقي يروج للمفاهيم المطلقة. فإذا يكون إلهٌ المصدرَ النهائي للأفعال أو النتائج التي يجدها البشر على مستوى عالميّ قذرة وفاحشة، فإن البحيرات الصافية للفردوس والحفر المظلمة للجحيم تبدآن في الاختلاط [يقصد اختلاط مفاهيم الخير والشر بتشبيه شعري_م]، ولعل العلاج أسوأ من المرض طالما التُجِئَ إلى الأديان. على أي حال، فإن الجدلية3 هي أفضل اختيار للأديان لأنها تظل مناسبة للافتراض الديني الأساسي الخاص بالإيمان، أي أنها تنبذ المعرفة البشرية باعتبارها تافهة وغير ذات صلة. بتأكيدها [بزعمها] أن الناس لا يمكنهم إدراك أي شيء عن الطبيعة الحقيقية للعالم أو ما يحدث في الحقيقة، فإن الإيمان يقدم رسالة [للناس] بأنهم لا ينبغي أن يزعجوا أنفسهم أو يحاولوا. بالتأكيد، فإن استعمال الإيمان بهذه الطريقة سيطرح الشخص في موقف عجزٍ كامل ومذلٍّ، لكن على الأقل يتوافق ويتحالف منطقيًّا مع جوهر افتراضَيْ الاعتقاد الديني. كمثالٍ على المشكلة التي تواجهها الأديان في هذه المسألة، تفكر في حالة طفلٍ رضيعٍ يموت بسبب سوء التغذية. لم يكن لديه أي وقت في العالم ليشكِّل أفكارًا أخلاقية من أي نوع، ولم يكن لديه قط القدرة على أن يتصرف بوحشية اتجاه شخص آخر. إنه بريء لا يمكن لومه على شي. باختصار، لم يكن لديه أي فرصة. لقد وُلِد في ظروف خارجة عن تحكمه، وكانت حياته قصيرة ومعذَّبَة، ثم رحل وقضى. بالنسبة لملاحظ عادي فإن معاناته تنتهك أي مفهوم معقول عن العدل وسيمضي أبعد إلى تفنيد وجود إله يرى ويهمل وضعًا مثل هذا. بالتأكيد، فإن الشيطان كبش فداءٍ ملائم1، لكن إلقاء اللوم عليه يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته أولًا والرد عليه من جهة لماذا سيسمح إلهٌ له بالوجود في المقام الأول. لو أن هناك إلهًا في العالم، لكان سيكون السماح بمثل هذا العناء الوحشيّ المفرط بالحدوث سيبدو إما ممارسة شريرة لقدرته الكلية أو ترجمة عجيبة لخيريته. لا يوجد مفر من هذه المشكلة بالنسبة للأديان على أية حال، وهي تمثل أكثر التناقضات إزعاجًا ومضايقةً في أساطيرهم وميثيولوجياتهم. مشكلة معنى الحياة من وجهة نظر الأديان، فكل الأشياء الفيزيائية زائلة، وهي جهة نظر تُعطى تشديدًا فريدًا عليها، بسبب افتراض الاعتقاد الديني أن ما وفق الطبيعي يوجد في الواقع الموضوعي. المملكة فوق الطبيعية هي حيث تحدث كل الأحداث بالنسبة للمرء المتدين، وذلك على نحو أساسي بسبب أنها مكان كل الأشياء الخالدة والدائمة. ما يستطيع المرء أن يراه ويشعر به هو مجرد تلميح ولمحة عن الوعود المذهلة للروعة في مملكة ما فوق الطبيعة. من جهة أخرى، فإن نتائج عيش حياة بتهور لها دور في ذلك أيضًا. يمكن للمرء أن يعيش إما في نعمة أو بؤس وشقاء لكل الأبد، والأسلوب الذي يتصرف به في مملكة الوجود الفيزيائية سيقرر مصيره. هكذا، فإن الأديان تعطي الناسَ معنى نهائي للحياة يضمن النعمة والبهجة مهما قد تكون فظاعة أو تفاهة وجودهم الحاليّ طالما اتبعوا تعاليمها بصدد كيف يريد إلهٌ من الناس أن يتصرفوا. بالتالي، لماذا لم يجعل الإله الناس سعداء بشدة وخالدين فقط من البداية؟ ما فائدة هذا العالم لإلهٍ؟ ________________________ 1 في الإسلام معظم نصوص القرآن تقول بأن الله مصدر كل شيء بما فيه الشرور وهذا أسوأ لاهوتيًّا ومنطقيًّا، لكن له نظائر في كتاب اليهود والعهد الجديد المسيحي (راجع نقد العهد القديم، نقد كتاب اليهود باسم المؤلف لؤي عشري أو مرشد إلى الإلحاد أو راهب العلم مثلًا)، ومن قبلهم نصوص السومريين والبابليين والمصريين القدماء، نقرأ في القرآن: {... وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} و{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}، وعلى النقيض نصوص أخرى تقول بأنه تطهير للإنسان {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} و {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} وتحدثت نصوص أخرى عن الابتلاء والامتحان { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} ونادرة جدًّا النصوص التي تحدثت في الإسلام عن الشيطان كمصدر للشر والمرض، ولعل النص عن قصة أيوب حالة استثنائية فريدة في نصوص الإسلام {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} لو أن إلهًا صنع الإنسانَ ويعرف كل شيء عنه، فمن ثم أيُّ معلوماتٍ يمكن احتمالًا أن يحصل عليها من وضع الناس خلال اختبار كهذا؟ عند هذه النقطة الحاسمة تستمتع الأديان بأن تضع على نحوٍ إستِراتيجي مصطلحها المرتجَل "الإرادة الحرة"، والذي يُقصَد به أن يُضمَّن معناه أن إلهًا قد تنازل قصديًّا عن التحكم فيما يفعله الناس، لكن بفضل المرونة المعتادة في المعنى التي يتصف بها هذا المصطلح، فإنهم أيضًا يستخدمونه لتضمينه أن إلهًا لا يعلم ما سيُقدِم شخصٌ على فعله. لو أن ذلك صحيحٌ، فمن ثم فإنه ليس إلهًا بحكم التعريف، حيث أن افتقاده لكلية العلم يتضمن ما هو أقل من كلية القدرة. لو أنه ليس كليَّ العلم، فهو ليس كليَّ القدرة، ولو أنه ليس كليَّ القدرة فلماذا ننشغل بالصلاة والتعبد إليه؟ مهما يكن، فإن تصور العالم كتجربة إلهية أو أرض امتحان يترك ثقبًا منطقيًّا هائلًا في نظام الاعتقاد الديني عندما يُأخَذ في الاعتبار اثنتين من الصفات الأساسية لإلهٍ في وقتٍ واحدٍ. هل هذا كله نوع من لعبة مجنونة له؟ إذن فهو ليس خيِّرًا. هل هو لا يعرف حقًّا ما سيقدم الناس على فعله بحيواتهم ولذلك يحتاج هذا العالمَ ليقرر أيهم يستحق الجنة أو الجحيم؟ إذن فهو ليس كلي العلم ولا كلي المقدرة. التناقض هنا يمثّل طابعًا ساخرًا شديدًا لأن الكثير جدًّا من المؤمنين الدينيين يدّعون أن أديانهم تعطيهم شعورًا عميقًا بالمعنى والغرض، بدونه لن يكونوا قادرين على الانخراط في حيواتهم. رغم ذلك فلو نظر المرء بأي جهد إلى ما بُنِيّ عليه ذلك المعنى، فإن هذا سيقوده إلى مسار متناقص حيث تفقد قيمة وعودها بريقها. مشكلة العدالة الإلهية فيما بعد الحياة (الحياة الأخرى، البعث) أي نموذج للاعتقاد الديني (دين) يحتوي على مفاهيم تزعم أنها ستنشر العدل على الناس، مثل الجنة والجحيم أو الانمحاء والزوال أو الأعراف [البرزخ: موضع لأشخاص لا يدخلون الجحيم لكن ليس عندهم أعمال كافية لدخول الجنة_م] أو إعادة التجسد والتناسخ [كما في الهندوسية والبودية والجاينية]، لأن الأديان تفهم وتُشبِع الرغبة الاجتماعية الغريزية للبشر في أن تكافَأ الأفعال الأخلاقية وتُعاقَب الفعال الغير أخلاقية. في الواقع، لأي سببٍ سيريد المر عبادة إله لو أنه استبداديٌّ تمامًا فيما يفعله؟ وباعتبار أن الأديان تدعي نظام عدالة كثيرًا ما يستمر إلى الأبدية، فإن مقدار الرهان والمقامرة عالٍ عندما يتعلق الأمر باختيار وعبادة إلهٍ، كما شرحتُ احتمالية المكسب في رهان باسكال في الفصل الخامس. هناك مشكلتان في هذا الجزء من الاعتقاد الديني. فلو أن إلهًا خلق الإنسان وعدالته الأبدية تنتظر مخلوقاته البشرية لتقييم مقدار أخلاقهم، فلماذا يكون الناس مسؤولين عن العيوب التي وضعها إلهٌ في شخصياتهم وسماتهم؟ ثانيًا، ما هي العدالة بالضبط في مجازاة الجرائم المحدودة للإنسان بعقوبات لا نهائية أبدية فيما بعد الحياة؟ مجددًا، تدخل الأديان بارتجالٍ مفهوم الإرادة الحرة عند هذه النقطة، كأنها تقول: "انظر، الله خلقك، لكن أيًّا ما تفعل فهو قرارك". ناهيك عن النقاش الأسبق عن الإرادة الحرة ومعانيها الضمنية بالنسبة لكلية العلم وكلية المقدرة لإلهٍ، فإن الآلهة لا يمكنهم الاحتفاظ بكلا الشيئين. لا تستطيع الأديان أن تزعم وتؤكد باتساق منطقي أن إلهًا مسؤول عن خلق الإنسان وكل شيء آخر في الوجود ثم تقترح أنه على نحوٍ ما خالٍ من المسؤولية عن أي أفعال شريرة أثيمة للبشر بسبب المفهوم الغامض للإرادة الحرة. السبب والنتيجة يتموجان خلال كل الطبيعة والحياة، وليس هناك [على سبيل الجدل] سببٌ أعظم وأكبر من إلهٍ، كائن يُزعَم أنه مسؤول عن خلق كلٍّ من الإنسان والكون. ادعاء أن إلهًا ليس له مسؤولية عن مسار حياة الأشخاص مع محاولة البرهنة في نفس الوقت بأنه خلق كل الأشياء هو مثال آخر إضافي عن كيفية خيانة [تناقض] أفكار الاعتقاد بعضها لبعضها الآخر لو تُعُقِّبَت حتى تضميناتها المنطقية. في ضوء المراوغات والالتفافات الماكرة والمفيدة لمفهوم الإرادة الحرة في الدين، فإنه على نحوٍ واضحٍ بابٌ دوار مفاهيميّ مصمَّم للحفاظ على الصفات المرغوبة للإله أو الآلهة في وسط الحقيقة الغير مرغوبة والبغيضة للمعاناة البشرية. إن كان يجب على المرء [المتدين] إجازة بعض العنصر الاعتباطي التحكمي للإرادة الحرة، فإنه يضطر لفعل ذلك، خشية أن يتوقف عن أن يكونَ إلهًا. إن المعنى الضمني لذلك المفهوم لا يمكنه حماية إلهٍ [مزعومٍ] من اللوم على معرفته بالضبط ما سيقدم الأشخاص على فعله خلال حيواتهم على أية حال. خشية مماثلة ذات علاقة هي في السؤال عما إذا يمكن أن يُلام إلهٌ منطقيًّا لأجل الأخطاء التي يرتكبها الناس. فلو أنه يحتفظ وليده كل صفاته [المفترَضة] الأساسية، فإن الإجابة هي بوضوح نعم، وبما أن إلهًا [مفترَضًا] لا يمكنه إنكار مسؤوليته الكلية عن طبيعة وأفعال أي شخص محدَّد، فأيُّ نوعٍ من العدل هو أن يُكافَأ أو يعاقَب ذلك الشخص لأجل طبيعته وأفعاله إلى كل الأبدية [أبد الآبدين]؟ لو أن لإلهٍ وجودٌ، فإن الشخص هو ما صنعه إلهٌ ليكونه. لا توجد كمية إرادة حرة كافية في العالم لإضعاف تلك العلاقة السببية والارتباط [المفترَض] على نحوٍ كافٍ بحيث تضْمَن نوع العدالة الأبدية اللانهائية التي تدعيها الأديان. يمكن للمرء أن يتنازل للأديان عن كل الزيادة غير الضرورية لحرية الإرادة في العالم مقابل جعل الإله أو الآلهة يوقفون معاناة الإنسان، لكن ذلك يظل رغم ذلك لا يحميه أو يحميهم من الانزعاج المنطقي لكونه خلق الإنسان بحيث يكون قادرًا على الوحشية والعدوان من البداية. أما عن السؤال الثاني، وهو ما العدل في معاقبة أو مكافأة الناس لأجل التصرفات التي قاموا بها خلال حيواتهم المحدودة عندما تكون فترات تلك الأحكام أبدية؟ أين التناسب بين الجريمة والعقاب في نظامٍ مثلَ هذا؟ فقط حسٌّ ضالٌّ عن العدالة سيثني على فضائل مثل هذا النهج للأحكام، وهو يصير كريهًا على نحوٍ خاص عندما يضاف إليه النقاش السابق أعلاه فيما يتعلق بمسؤولية الإله أو الآلهة عن سلوكيات الناس. بعبارة أخرى، فإن نظام العدل الأبدي الخاص بالاعتقاد الديني هو كابوس حقيقي، ممتلئ بإساءة غير مناسبة خاصة بألوهية [مزعومة]. إن العزاء الذي يوجد في مفاهيمه هو أن رعبه مرتبط مباشرة بمخالفته للعقل. مشكلة التمييز(التفضيل، الاختيار) بين الأديان تقنيًّا، فإن هذه المشكلة الأخيرة ليست مسألة منطقية تتضمن وجود إله أو آلهة بقدر ما هي أحجية نظرية تتضمن وتتعلق بأديان العالم. كثيرًا ما يرفض المؤمنون الدينيون بشدة الإلحادَ كاستنتاج، وهو قرار متسق حيث أنهم قد قبلوا افتراضَيْ الاعتقاد الديني كتمثيل صحيح للواقع الموضوعي. رغم ذلك، فإنهم يظلون يجب أن يختاروا من بين الأديان المتاحة لكي يحققوا هدفهم. بعبارة أخرى، فإن رفضهم تطبيق التفكير القائم على العقلانية على سؤال وجود إله في الواقع الموضوعي يضع الإلحاد جانبًا مهمَلًا، لكن عندما يتعلق الأمر بمقارنة الأديان ببعضها الآخر، فليس هناك مثل هذا الصدام في الافتراضات ولا مقياس معقول للتمييز والتفضيل به بينها. لو أن هناك إلهًا وعبادته أمر مهم، فكيف سيختار المرءُ الدين السليم؟ باعتبار افتراضَيْ الاعتقاد الديني، فليس هناك طريقة للقيام بتمييز عقلانيّ حيث أنه لا توجد معايير للتحليل النقدي في تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان وليس غير الخضوع والإذعان لشخصية سلطوية أو كتاب مقدس، وهو ما يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته أولًا فيما يتعلق بالسؤال المطروح. لو أنهم تعامل مع زعم وتأكيد لما يناصره ويدَّعيه أي دين معيَّن بالتفكير القائم على العقلانية، فمن ثم سينتهي المرء إلى رفضها كلها بسبب جوهرها المشترك الأساسي الغير قابل للتنازل عنه والذي يحتوي على افتراضَيْ الاعتقاد الديني. على نحوٍ مقلق، فمعظم المؤمنين الدينيين لا يعترفون بنقطتهم العمياء في هذا الصدد. فمن منظورهم فإنهم أعضاء وأتباع للإيمان الوحيد الصحيح كما صنعه الإله الوحيد الصحيح [أو الآلهة الحقيقية أو البودا المستنير والمستنيرين البودوات الحقيقيين_م]، وهو ما كان سيُعتبَر حظًّا جديرًا بالملاحظة بالنسبة إليهم باعتبار أن الدين كثيرًا ما يكون ببساطة اكتُسِب بكونهم رُبُّوا في أسرٍ علمتهم نفس الدين الذي يعتنقونه. فيما يتعلق بالافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية، فإن الإجابة على السؤال عن كيف يمكن للمرء أن يختار الدين الصحيح هي أن السؤال نفسه خاطئ لأنه يفترض صحة الاعتقاد الديني. لا يمكن للمرء عقلانيًّا اختيار دينٍ. يمكن للمرء فقط الاختيار بين الاعتقاد الديني والتفكير القائم على العقلانية، ولو أنه اختار الأسبق منهما، فيمكنه من هناك فقط لعب لعبة تخمين. ولنعتبر منظورًا آخر لهذه المسألة. فإنه من السليم الافتراض في العصر الحالي بأن زيوس وأبولّو وبوسيدون، أو رع وأوزوريس، أو آنو وإنكي وعشتار، لا يُأَخذون على محمل الجد ككائنات حقيقية. بالتالي، فأي معلومات موثوقة قد قُرِّرَتْ بصددهم لإزالتهم من نقاش البشرية عما بعد الحياة؟ هل تم دحضهم؟ الإجابة هي أنه لا شيء بصدد هؤلاء الآلهة تم تفنيده، بل إن أساطيرهم ببساطة قد صارت منبوذة مكروهة بسبب تغيرات اجتماعية وثقافية. لا يستطيع المؤمنون الدينيون منطقيًّا تفسير كيف أنهم يسخرون من زيوس لكنهم يمتدحون إلههم ولا يستطيعون امتلاك أي أساس منطقي للتأكيد بأن أي ظاهرة معينة يعزونها إلى إلهٍ هي في الحقيقة وبالفعل بسبب إلههم هم كما وُصِف في دينهم وتعبدوه. ما لديهم هو تفكير عاطفي متنكر كتحليل تفكيري، وبينما تعمل الجاذبيات العاطفية على نحو طبيعي تمامًا بالنسبة للتعبير عن حب شخص أو تقديره وإعزازه لآخر، فإنها عديمة المعنى عندما يتعلق الأمر بالبرهنة عما إذا كان شخص ما يوجد من الأساس. كما آمل، فقد اتضح الآن سبب استعمال وقت كثير لإعداد المائدة [تعريف ودراسة المصطلحات] في النقاش. إن الأديان قادرة على صنع مظهر كاذب لتماسك داخلي بسبب أن مصطلحاتها ليس لديها أي معاني محددة معقولة، لكن أخطاءها مخبأة عن النظرة السطحية. إن الخدعة التي تستعملها الأديان لتختلق الصحة هي إنشاء مصطلحات تقصد إلى إنشاء أماكن وكائنات في الواقع الموضوعي والتي هي معرفة على نحو يكفي لأن تكون مغرية لكنها [تعريفاتها] غامضة مراوغة على نحوٍ كافٍ لمقاومة التفحص العقلاني. حتى الحد الأدنى المطلق لقائمة المفاهيم والتعريفات للاعتقاد الديني لا يمكنها التعايش مع صحبة بعضها الآخر [تتناقض] من منظور منطقي، وهو أمر جدير بالملاحظة باعتبار مدى التعقيد الذي يمكن أن تكون عليه. انعدام الصلة العملي لإلهٍ مع الطبيعة البحث العلمي الحديث قد قدَّم للبشرية كمًّا غير مسبوقٍ من الراحة والقابلية للتنبؤ فيما يتعلق ببيئتهم المحيطة. التفكر العادي في بعض منتجات المنهج العلمي التي أصبحت أساسية مفروغًا منها في حياة الناس يكشف عن الإنجازات الكبيرة للتفكير القائم على العقلانية كمنهج. لقد أنشأ المهندسون قنوات مترو أنفاق تحت الكم الضخم من الماء، وأنشؤوا ناطحات سحاب قادرة على تحمل قوة الأعاصير، وصمموا صواريخ ومركبات فضائية مكنت الإنسان من تجاوز جاذبية كوكب الأرض نفسه. أنتجت الأبحاث الطبية مضادات حيوية للسيطرة على وترويض أمراضٍ قضت على الكثير من الناس في الأجيال القديمة قديمًا، بينما تصنع مناعات بالأمصال والتطعيمات لإبادة أمراض أخرى تمامًا. طوّر الجراحون تقنياتٍ لتصحيح حالات القصور في أجهزة الجسد العديدة. وصولًا إلى درجة المقدرة على زرع أعضاء هامة. كل هذه المجالات تنبع وتنشأ من التفكير القائم على العقلانية، وتأثير تقدمها يتموج وينتشر خلال الحضارة ليزيد كلًّا من جودة وكم حيوات الناس. في الحقيقة، فإن إنسانًا عاش منذ مئة سنة ماضية فقط كان سيكون في حيرة واندهاش لإدراكه كم يمكن أن يصبح العالم غير متعرف عليه من جانبه في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن. لقد وُجِد البحث العلمي منذ حوالي ثلاثمئة سنة، إلا أن البشرية أنجزت خلال ذلك الوقت في مجال التحكم بالطبيعة بالتلاعب بها أو تثبيتها لتلائم احتياجاتهم أكثرَ مما أنجزته خلال كامل الوجود البشري السابق [على عصر العلم]. إن وسائلها المنهجية ليست خدعة سحرية، إنها تستوعب وتبلور وتعرِّف الطبيعة بالالتزام بالافتراض المنطقي للسببية في العالم الفيزيائي. في الحقيقة، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالفكر القائم على العقلانية تعمل على نحو جيد على اكتشاف العلاقات السببية السابقة وتعيين الأنماط في الطبيعة. لقد صارت ناجحة للغاية في مساعيها لدرجة أنها قد صنعت أعاجيب التكنولوجي المشار إليها آنفًا أعلاه، كثيرًا ما كان ذلك بالتعاون بين مجالات علمية عديدة. بالتالي، هل يتدخل إلهٌ في العالم عندما تنهار جسورٌ أو تعطل أجهزة إلكترونية؟ لا يوجد سبب للتفكير هكذا. في الواقع، فإن إخفاق وامتناع الآلهة في التدخل في العالم عندما يكرر الناس نتائج علمية معروفة جيدًّا ذو دلالة ومفحم. باعتبار أن مليارات من الناس يسيرون أو يقودون على الأرض كل يوم بدون أن ينطلق إلى الفضاء الخارجي بسبب توقف الجاذبية. تلك الظاهرة في حد ذاتها تجربة غير مقصودة تشهد بصمت على الحتمية الظاهرة للسببية الفيزيائية. إن المؤمن الديني التواق إلى اقتطاع مواضع في العالم الفيزيائي لأجل ضرورة إلهٍ لا يمكنه تفسير سبب عدم انتهاك ذلك القانون أبدًا. لو أن العالم الفيزيائي يتبع قانون السببية الذي يتفاعل مع عناصره حصريًّا، فمن ثم فإن وجود إلهٍ في الواقع الموضوعيّ غير ضروريّ لتفسير وجود أو عمل الطبيعة. بالتأكيد، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية غير قادرة حاليًّا على التفسير والتنبؤ بكل جانبٍ من العالم الفيزيائي، لكنها قد راكمت معلومات هائلة تتسم بالموثوقية الجوهرية. إن الآلهة هي مفهوم قائم على فكرة الكل أو لا شيء بسبب قدرتهم الكلية التعريفية، وكنتيجة لذلك، فينبغي على المرء منطقيًّا أن يراهم أو يراه في كل مكان أو لا يراه في أي مكان. باعتبار القدرة على التوقع التي وضعها البحث العلمي على أنظمة الطبيعة، فإن التوكيد هو على "ولا أي مكان". كمثال أخير على عدم وجود علاقة للآلهة، تفكر في المجال الرياضيّ في مجال علم الخبرة بشؤون التأمين على الحياة. للحديث بتبسيط، فإن خبراء التأمين هم محاسبون مع جانب إضافي هام من التعقيد. فالمحاسبون يراعون القيمة المستقبلية للمال فيما يتعلق بمفهوم الاستثمار. أما خبراء التأمين فيتخذون خطوة أخرى للتنبؤ بالتناقص التدريجي في جودة [سلامة] حيوات الناس، كمثالٍ: الموت. ففيما يتعلق بمسعى التنبؤ بالموت على وجه التخصيص، فإن خبراء التأمين يقومون بمهمتهم بتقييم اتجاهات ونسب الوفاة في صناعات ومواقع جغرافية معينة، أي أنهم يستخدمون أدوات قياس الاحتمالية والاتجاهات التاريخية للقيام بتقارير مستقبلية عن المجموعات الكبيرة. التنبؤات التأمينية لن تكون قادرة على تعيين أي أشخاصٍ سيموتون في مجموعة معينة، لكنها ستكون قادرة على الكلام بمستوى عالٍ من الدقة عن عدد الناس الذين سيموتون في إطار زمني معيَّن. في الواقع، فإن صناعات كاملة قد بُنِيَت على أكتاف علم التأمين واللمحات التنبئية عن المستقبل التي يقدمها. رغم ذلك، ففيما يتعلق بالسؤال الحالي المطروح، فإن التقنيات الحسابية لخبراء التأمين تبرهن على كم يمكن أن تكون الطبيعة قابلة للتنبؤ بها، حتى فيما يتعلق بالموت البشري، والذي كثيرًا ما يظن المتدينون أنه اختصاص للإله أو الآلهة. فلو أن الإله أو الآلهة يدْعًون البشر على نحوٍ روتينيٍّ إلى الحكم الأبديّ، فلماذا لا يبدو أن دعواته أو دعواتهم لا تنحرف قياسيًّا عن مجموعة توقعات خبراء التأمين؟ من منظور الطبيعة وقانون السببية الخاص بها، فلا شيء مميز أو فريد بصدد موت البشر. إنه قابل للتنبؤ به بنفس درجة القابلية مع أي سبب ونتيجة آخرين في الطبيعة لو قُدِّمَت المعلومات الكافية، وحقيقة افتقاد المعلومات حاليًّا لشرح ظاهرة طبيعية من أي نوعٍ لا يصنع سببًا مبرَّرًا لتقديم مفهوم تحكميّ اعتباطيّ مثل إلهٍ. لعل تجلي الفصام الأقصى لانعدام صلة إلهٍ ما بالطبيعة هو تعاقد [مؤسسة] دينٍ مع مهندسين ومعماريين لإنشاء مكان للعبادة. إن سلامة البناء ستقوم على المبادئ الهندسية، والتي تقوم على التفكير القائم على العقلانية، والذي يستخدم تقنيات اكتساب المعرفة التي يُستنتَج منها وفقًا للأدلة الحالية أن الإله أو الآلهة لا توجد. بالتالي، ما ستدفع المؤسسة الدينية تكاليفه للانتهاء من بنائه هو إنشاء نصب تذكاري لتكريم وعبادة كائن يدل النصب التذكاري نفسه بشدة ضمنيًّا على أنه لا يوجد. فهل يمكن أن يكون هناك احتمالًا سخريةٌ أكثر إتقانًا من ذلك؟! السببية الإجبارية فيما بين الآلهة والبشر (من خلق الآخر) قبل الانتقال إلى الفصل التالي الذي سندرس فيه الجدليات النهائية الشاملة ضد الاعتقاد الديني، فسيكون مفيدًا ومثمرًا أن نلقي نظرة أشمل ونحصل على منظورٍ للنقاش من رؤية أشمل وأكبر. إن كامل السؤال محل النقاش في هذا الحوار يدور حول شيئين: الآلهة [أو الإله] والبشر. فيما بين الآلهة والبشر، لا خلاف [بيننا] أن أحدهما خلق الآخر؛ السؤال الوحيد هو اتجاه تلك العلاقة السببية. هل البشر هم المخلوقات الفيزيائية لإلهٍ أو آلهةٍ والذي تفوق قدرته ما يستطيع البشر فهمه؟ أم هل الإله أو الآلهة هم المنتَج العجيب لخيال البشرية؟ تم تصوره لتفسير ما لم يستطيعوا تفسيره على نحوٍ عقلانيٍّ، بتفسيره على نحو خرافيّ سحريّ؟ إن إجابة أحد هذين السؤالين هي لا، والإجابة على أحدهما الآخر هي لا. تقرير كيفية المزاوجة على نحو صحيح للإجابة السليمة لكل سؤال منهما تمثِّل كامل الجدال. بصياغة المسألة بهذه الطريقة، فإنها تبدو كلعبة بسيطة، وفي حالة انعدام العاطفة بصدد ذلك فإنها تكون كذلك حقًّا. لكن للأسف، فإن العواطف تتدخل في السؤال وتصير ذات علاقة به على نحو غير ملائم، وبساطة ما هو محل النقاش تصير مشوَّشة. لو أن [الإله أو] الآلهة والبشر يمثلون سببًا ونتيجةً في اتجاهٍ ما، فإنه لذو دلالة أن أحد الاثنين فقط لديه دليل موثوق على وجوده حقًّا. إن تأكيدات ومزاعم الاعتقاد الديني أن إلهًا خلق كلًّا من الإنسان والكون يوجد حاليًّا، وأنه يهتم بالقرارات الأخلاقية للبشر، ليس له أي أساس سواء في الدليل القائم على الملاحظة أو الضرورة المنطقية. بالتالي، فإن الاتجاه العقلاني للعلاقة السببية هو أن البشر هم في الحقيقة خالقو الآلهة. بعبارة أخرى، فإن الآلهة مثالٌ على القدرة الإبداعية الخلاقة للعقل البشريّ منقلبًا على نفسه بالضرر على نحوٍ مروِّع باستحضار فكرةٍ تخيف العواطف وبحيث يكون لدى التفكير صعوبة معيقة بسبب غموضها. الاستنتاج بأن الآلهة والروح وما فوق الطبيعي عمومًا يشغلان فقط مجال الخيال البشري وليس الواقع الموضوعي هو [الاستنتاج] الأكثر منطقية. بالتأكيد، فإن إخفاق الأديان في الحصول على أحكام بالنجاح من تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هو بالضبط سبب كونها يجب أن تمجد وتعلي من شأن الإيمان كتقنية سليمة لاكتساب المعرفة لكي تبرهن على صحة وجود أماكنها وكائناتها الميتافيزيقية الرئيسية. رغم ذلك، فيوجد مكان واحد توجد فيه الآلهة والروح وما فوق الطبيعي على نحو يقينيٍّ: في خيال البشر. كون الأديان لا يمكنها تقديم دليل أو منطق معقول للبرهنة على وجودها خارج هذه الحدود يعني أن أيديولوجياتها لا تصلح كتمثيلات سليمة للواضع الموضوعي. آراء ختامية تأمل ممارسة فن السحر. يتخصص السحرة في خداع الحواسّ، كثيرًا ما يكون ذلك بطرق بسيطة على نحو بارع. إن مشاهدةَ خداعِ ساحرٍ يُحدِث الرهبة، والذهول، وشعورًا بأن المستحيل قد حدث. كيف يمكن لرجلٍ أن يرتفع في الهواء؟ كيف يمكن أن تُنشَر امرأةٌ نصفين لتظهر لاحقًا كاملة؟ كيف يمكن لرجلٍ أن ينقل نفسه خلال مسرحٍ في طرفة عين؟ الإجابة هي أن لا شيء من هذه الأشياء يحدث في الحقيقة، بل بالأحرى أن سببًا منطقيًّا مُخفَى جيدًا يسبب النتيجة. تتآمر [تتعاون] خفة اليد والإلهاء والأدوات المجهَّزة لخداع الجمهور ليعتقدوا بأن القوانين الطبيعية للكون قد انتُهِكَتْ على نحوٍ رائع هكذا. السحرة خبراء في إيجاد الثغرات في الإدراك البشري، وهم يعرفون كيف يتلاعبون بالأخطاء الإدراكية الوفيرة للعقل لتسلية جمهورهم. إلا أن هناك دومًا تفسيرات منطقية للخدع التي يقومون بها، قوانين الطبيعة لا تُخترَق أبدًا كما تبدو، وليس للسحرة قوى خاصة استثنائية. بالتالي، أن تصير ملحدًا [عقلانيًّا] ليس شعورًا مختلفًا تمامًا عن أن تُخبَر بكيفية القيام بخدعة سحرية في أن ما كان قديمًا يبدو لا يُصدَّق ومذهلًا يصير واضحًا وبسيطًا. يبدأ العقل في إدراك أنه ليس [قوانين] الطبيعة هي ما تم تغييرها على نحوٍ مستحيل، بل بالأحرى أن العقل نفسه قد أخطأ إدراك ما كان قبالته. يُحدِث هذا الإدراك شعورًا بوضوح الصورة وتوحد وتجمع كيان الذات، والذي سوف يُناقَش في الفصل التاسع. الشعور بتوحد كيان الذات هو نتيجة جانبية للفهم الفكري بأن سياق المرء الديني قد انهار وأخفق في نسخته [الشخصِ] العملية القابلة للتنبؤ للواقع الموضوعي عند الإدراك بأن العقل قد قام بأخطاء معرفية وإدراكية دعمًا للاعتقاد الديني. ما هو الإله؟ الإله هو فكرة، صيغت وصُكَّت بكلمة. لو كانت تلك نهايتها، لما كانت كلمة "الإلحاد" نُطِق بها أبدًا. لكن الأديان تعلن عن نفسها كقنواتٍ إلى آلهتها، وبالتالي تؤكد وجودهم في الواقع الموضوعي، ولا يقتنع التفكير القائم على العقلانية بذلك. إن التأثير المنتصر الكاسح لتقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية يكمن في سياسة صنع القرار التي تقوم بها فيما يتعلق بالواقع الموضوعي: إعطاء الأولوية والتفضيل للمعرفة الموثوقة. بلا شك، كانت البشرية ستحب معرفة كل نقطة عن الواقع الموضوعي والوجود البشري بيقين تام، لكن هذا غير ممكن. إن الخيار المتاح هو أن ما يقارب أكثر الهدف المثالي هو المتحصَّل عليه من معرفة موثوقة إلى حدٍّ كبير، وبحيث يتم نبذ التفسيرات المقدَّمة عن الواقع الموضوعي التي لا تُظهِر موثوقية معقولة، إلى أن تكتسب البعض منها. بناءً على هذه الفلسفة، فإن الإلحاد ليس الاستنتاج بأن الإله أو الآلهة لا يوجدون في الواقع الموضوعي، بل هو الاستنتاج بأن الاعتقاد بأنهم يوجدون وفقًا للأدلة الحالية [المتاحة] مثير للسخرية. 8- ثلاث جدليات لنبذ ونزع المصداقية عن الاعتقاد الديني ألست أدمر أعدائي عندما أجعلهم أصدقاءً؟ أبراهام لِنْكُلِن (من رؤساء أمِرِكا التاريخيين) لكامل الجزء الأول من هذا الكتاب كنت أعد العدة وأحضر المائدة للوصول إلى النقطة حيث تكون الافتراضات والمناظير الضرورية قد جُمِعَتْ لحشد تفنيدات الاعتقاد الديني. تعقب كل الالتفافات التي يتطلبها الاعتقاد الديني لكي يتم تصديقه كان هامًّا لأنه عندئذٍ فقط يمكن حصر الجوهر الأساسي للاعتقاد الديني في الزاوية، وهو ما يعمل جاهدًا على تجنب فعله به. كما سنرى، فإن الاعتقاد الديني يكافح بشدة لتجنب هذه المعالَجة لسببٍ وجيه. إن محترفيه [وممتهنيه المتكسبين منه] يشعرون أن الناس لو نجحوا في إلزام الدين بذلك، فمن ثم فإن ما سيتلو ذلك سيكون تحليل سماته، ولو صارت سماته عرضه للتفحص عن كثب، فإن كل المسألة ستُكشَف ماهيتها: لعبة محارة تختبئ في صدفتها [لعبة مراوغة]. لأجل الإسهاب سيكون هنالك ثلاثة تفنديات مقدَّمة للاعتقاد الديني، كل منها قائم بذاته. إن لديك على الأرجح فعليًّا حدسًا مستبِقًا عن إطار هذه الجدليات، لكنْ تجنَّبْ إغراء تجاوز التفاصيل. لقد قطعنا شوطًا طويلًا، والخطوة الأخيرة تستحق نفس التركيز ككل الخطوات الوسيطة السابقة لتحقيق معالجة كاملة للموضوع. فبعد لَأْيٍ ومشقة طويلة لقد وصلنا إلى قلب المسألة. جدلية الأسس 1-الإيمان ليس تقنية مقبولة لاكتساب المعرفة لأنه لا يقدم ادعاآت عن الواقع الموضوعي يمكن أن تقيَّم من جهة مصداقيتها. إن تعريف الإيمان هو قبول صحة تأكيد [زعم] في غياب كلٍّ من الأدلة القائمة على الملاحظة والمنطق السليم اللذين يبرهنان عليه على نحو معقول. من وجهة نظر إبستمولوجية [خاصة بعلم المعرفة] فإن الإيمان هو تقنية لاكتساب المعرفة تستلزم الخضوع لسلطةٍ، سواءً داخلية أو خارجية. رغم ذلك، فهذا يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته من جهة كيف يعلم المرء ما إذا كانت مثل هذه السلطة صحيحة. في العالم، لا يوجد نقص لدينا في كم الناس والمؤسسات التي تعلن عن نفسها على أنها سلطات للعديد من المواضيع، ولو كان المرء غير مزوَّدٍ سوى بالإيمان، فلن يكون لديه أي وسيلة منهجية ليحكم بها على سلطةٍ بأنها موثوقة وعلى أخرى بأنها احتيالية. بدون الأخذ بالأدلة أو المنطق، فإن الاختيار بين أيٍّ من هذه السلطات سيكون اعتباطيًّا تحكميًّا، وسيقوم القرار الحقيقي على الأرجح على اعتباراتٍ عاطفية. بالتالي، فإن الإيمان هو الكلمة المفتاحية الأساسية للاعتباطية أو التفكير القائم على العواطف، وكلاهما مليئان بالأخطاء عندما يُستعمَلان لمحاولة تفسير أسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي. ولخلوهما من معايير التحليل [النقدي] الذي يبرهن على الموثوقية المعقولة لقراراتهما، فإن الإيمان لا يقدم أي سبب أيًّا كان لوضع الثقة فيما يستنتجه. إن الوسائل المنهجية للعلم والرياضيات والمنطق هي حاليًّا أفضل الوسائل التي قد اخترعتها البشرية لتقييم مزاعم المعرفة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي على نحوٍ موثوقٍ، وإن الإيمان يخفق تمامًا بمجرد إبراز استعمالها. إن تفكيرًا عجيبًا حقًّا يقبع تحت سطح كل الجدليات التي تعتمد على الإيمان. فلنفترض أن شخصًا يعتقد أن القمر التابع لكوكب الأرض سيحترق غدًا. أيًا ما كانت السلطة التي يقدَّمها لتبرير إيمانه بهذا التأكيد [الزعم]، فإن سؤالًا بديهيًّا طبيعيًّا ينشأ بخصوص سبب وضعه ثقة في مصدر تلك المعلومة. ستفشل إجابته عن ذلك السؤال في أن يكون لها معنى معقول بسبب طبيعة الإيمان. إن تفكيره كالتالي: قمر كوكب الأرض سينفجر غدًا لأن السلطة التي قدمت تلك المعلومة قالت كذلك، وهو قد اختار السلطة الصحيحة لأنها قدمت أدلة ومنطق غير كافيين لتأييد هذا الإعلان. إن اعتباطية تفكيره واضحة، ولو كان الإيمان يقدم على الإطلاق معلومات صحيحة عن الأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي، فإن هذا يفوق الاحتمالات الممكنة لكونها تحتشد ضد ذلك بسبب سخرية الإيمان من الأدلة والمنطق المعقولين. لو كان الإيمان جزءً ضروريًّا من ادعاآت شخصٍ عن الواقع الموضوعي، فمن ثم فإنه ليس لديه برهان على الإطلاق، كل ما ليه هو تخمين غير مرجَّح. 2- ما فوق الطبيعي يُفترَض عدم وجوده في الواقع الموضوعي لأن وجوده لم يُبرهَن عليه على نحو عقلانيّ سواءً بالأدلة التجريبية القائمة على الملاحظة أو الضرورة المنطقية. بترك تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان المستبعَدة المنبوذة في التحري عن الأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي الاختيار الأكثر تفوقًا بوضوح. إن علامة مميزة للمنهج العلمي، بالتوافق مع التفكير المنطقي، هي أن الفرضية تُعتبَر باطلة حتى تثبت صحتها بتجربة معقولة قابلة للتأكيد المستقل والتكرار. في الواقع، فإن علماء المنطق سيدركون هذه القاعدة كنسخة عملية من رفض الجدليات القائمة على أساس الجهل، والتي هي أخطاء منطقية تعكس مسؤولية وعبء الإثبات على نحو غير معقول من الشخص المقترِح بأن لديه معرفة فريدة إلى المتشكك لكي يدحضها. أما بالنسبة للقضية الحالية، فإن وجود ما فوق الطبيعي هو تأكيد [زعم] عن حقيقة تتعلق بالواقع الموضوعي والتي تتطلب دليلًا معقولًا على وجوده الحقيقي أو براهين تبرهن على ضرورته المنطقية. فإن فشل مقترحو وجوده في تقديم مثل هذه البرهنة، فمن ثم فإن وجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي سيُفترض بطلانه حيث سيكون غير مُثبَت وبدون أساسٍ للاعتقاد العقلاني. أما عن قضية الأدلة التجريبية والقائمة على الملاحظة لصالح وجود ما فوق الطبيعي، فلا يمكن أن يكون هناك أيٌّ منها بحكم طبيعته وتعريفه. فلو وُجِد مثل هذا الدليل الإمبريقي [القائم على الملاحظة]، لكان يجب أن يكون فيزيائيًّا لكي يقدر الإنسان على إدراكه والشعور به كدليل، وبذلك سيتوقف عن أن يكون ما فوق طبيعي. بالتالي، فإن جمع أدلة إمبريقية على ما فوق الطبيعي [الميتافيزيقي] مستحيلٌ بسبب طبيعة حواس الإنسان فيما يتصل بما يُدعَّى عن ماهية ما فوق الطبيعي. لذلك، فإنه يجب على مقترحي الوجود الحقيقي لما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي أن يبرهنوا على تأكيدهم [زعمهم] بالبرهنة على أن تلك المملكة ضرورية منطقيًّا لتجنب إهمالها باعتبارها غير مُثبَتَة ومفهومًا خياليًّا. بالنسبة لتعليل سبب وجوب وجود ما فوق الطبيعي منطقيًّا، فإن غرابة الجدليات لصالح هذا الزعم ليس لها حدود، والعدد المذهل لها هو شهادة على جاذبية التخبط والتسكع النظري للاعتقاد الديني. على أية حال، فإن وجود مملكة ما وفق الطبيعة يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى الوجود. لا يؤدي تضمينها إلى أي إضافة مستقلة لتفسير وجود أو عمل العالم الفيزيائي. الزعم والجدال بأن جانبًا من العالم الفيزيائي غير معروف أو مفهوم لأنه ينشأ في مملكة ما فوق الطبيعة لا يضيف معلومة ذات معنى فيما يتعلق بكيفية عمل العالم الفيزيائيّ، ناهيك عن إثبات ضرورة ما فوق الطبيعي. وبتحديد أكثر، فلا يمكن أن يُعرَف شيءٌ عن مملكة ما فوق الطبيعة للإنسان باعتبارها تتحدى الحواسّ والتفحص البشري، وباعتبار ذلك، فكيف سيمكن للإنسان أن يعرف على الإطلاق على نحو موثوق أنها أساسية للكون حتى لو كانت حقيقية؟ لقد عُرِّفَ ما فوق الطبيعي قصدًا خارج مجال الإدراك البشري، والدفاع عن ضرورته المنطقية يعاني من نتائج عزل المفهوم لنفسه بهذه الطريقة. في حال كل الأمور الأخرى متساوية، فإن المنطق يفضِّل الاقتصاد [الشح] في التفسيرات، ومملكة ما فوق الطبيعة تضيف الكثير من التعقيد إلى نموذج العالم بدون أي فائدة تفسيرية. ولذلك، فإن ضرورتها المنطقية مشكوك فيها في أحسن الأحوال، وما ينقذها فقط من الإفلاس التامّ هو قدرة مناصريها ومقترحيها على اختراع مفاهيم تجريدية بلا توقف وربطها بما فوق الطبيعي بمحض قوة رغبتهم عوضًا عن سلامة المنطق. أما باستعمال تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، فليس هناك دليل إمبريقي معقول ولا ضرورة منطقية لوجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي، وبالتالي، فإن فرضية وجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي غير مُثبَتَةٍ ويُفترَض بطلانها. وبناءً على وضع المعلومات الحالية، فإن المكان الوحيد الذي يوجد ما فوق الطبيعي فيه على نحو موثوق هو خيال البشر. 3- الإله أو الآلهة يُفترَض عدم وجوده/ وجودهم في الواقع الموضوعي لأن وجوده لم يُبرهَن عليه على نحوٍ عقلانيٍّ سواءً بالأدلة الإمبريقية أو الضرورة المنطقية. مع نبذ الإيمان كتقنية صحيحة لاكتساب المعرفة، فإن أدوات التحري والبحث تصبح تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالفكر القائم على العقلانية. وبانهيار مملكة ما فوق الطبيعة، فإن التحري عن الإله أو الآلهة يقتصر الآن على الكون الفيزيائي. كما في [زعم] وجود ما فوق الطبيعي، فإن مقترحي فرضية وجود إله أو آلهة في الواقع الموضوعي يتحملون عبء حشد التأييد المعقول على نحوٍ كافٍ لذلك الادعاء، سواءً إمبريقيًّا [التجارب والملاحظات] أو منطقيًّا. إخفاقهم في القيام بعبء الإثبات سيؤدي إلى نبذ الفرضية باعتبارها غير مُثبَتة واستئناف الافتراض بأنها تمثل تصريحًا كاذبًا. بالنسبة لمسألة الأدلة الإمبريقية على وجود إله أو آلهة، فإن أي أحدٍ يبحث عن إلهٍ سيكون له وقت عصيب في محاولة إنجاز المهمة لأن افتقاد تعريفٍ دقيق صارم لا يقدم سبيلًا معقولًا لمعرفة إذا ما ومتى يجد المرء إلهًا. نفس المشكلة كانت ستحدث في محاولة استخدام البحث العلمي لتحديد مكان ما فوق الطبيعة، لكن ذلك لأجل حقيقة كون تعريف ما فوق الطبيعي يعمل على تعجيز ومنع المنهج العلمي كوسيلة مفيدة للتحري من البداية. على أية حال، فإن الإله أو الآلهة ليسوا بدون تعريف على نحو كامل، ولو أن شخصًا يبحث عن إله من خلال البحث الإمبريقي [القائم على التجارب والملاحظات]، فإن البحث عن وعيٍ لديه المقدرة على كسر قوانين الطبيعة وفق شروط تجريبية تحكمية عقلانية يبدو كنقطة بداية مقبولة. إن التعديل [أو المساومة] بهذه القاعدة الافتراضية يتجاهل جوانب تعريفية أساسية لمفهوم إلهٍ، لكن لو أن الأديان لا يمكنها إنشاء دليل يكفي للحد الأدنى، فمن ثم فإنها ستفشل أيضًا في أي اختبار يشمل صفات أخرى. وحيث أنه ليس هناك وعي في الطبيعة يمكن أن يشير المرءُ إليه على أن له القدرة على انتهاك قانون السببية في الطبيعة، فليس هناك دليل إمبريقيّ كافٍ للبرهنة على الوجود الحقيقي لإلهٍ. الكثير من الأديان تشير إلى قصص قديمة وأحداث تاريخية مزعومة للادعاء بأن وعيًا قد وُجد قديمًا والذي يلائم الصفة السالفة الذكر المتساوَم عليها لأجل وجود إلهٍ. رغم ذلك، فإن هذه التعليقات ذات علاقة قليلة إلى أدنى حد عندما يكون ما هو محل نقاشنا ما إذا يوجد إلهٌ اليومَ، وعن تلك القضية لا يوجد دليل على وعي حاليًّا في الواقع الموضوعي والذي يكون قد أظهر القدرة على انتهاك قوانين الطبيعة. أما فيما يتعلق بالأساطير القديمة عن الناس أو الآلهة الذين قاموا بالمستحيل على نحوٍ روتينيّ، فلا حاجة بنا إلى تحديها ما لم يمكن إثبات أن هذه الكائنات توجد اليوم، وهذا جهد يفشل على نحو قاطع طالما أن مملكة ما فوق الطبيعة قد أزيلت من الاعتبار. بالتالي، لا يوجد دليل إمبريقي (قائم على الملاحظة) على أن إلهًا يوجد في الواقع الموضوعي. أما عن مسألة الضرورة المنطقية لإلهٍ، فإن قانون السببية في الكون الفيزيائيّ هو الافتراض المركزي الرئيسي لهذا الشأن. بينما لم يتوصل البحث العلمي بعدُ إلى معرفة ما سبب [وجود] الكون، فليس هناك ضرورة منطقية للبرهنة على أن السبب كان له وعي، أو لو كان كذلك أنه لا يزال يوجد اليوم. ما سِوَى السبب الأول الغير معروف، فإن تسلسلات علاقات السببية [الأسباب والنتائج] في الطبيعة قد تم عزلها وفهمها بدرجة قوية ولا يبدو أنها تُنتهَك أبدًا، سواءً بالصدفة العشوائية أو الفعل المقصود من كائن واعٍ. كونُ بعض تسلسلات السببية في الطبيعة لم تُفسَّر بعد، فعلى نحوٍ مماثل لا يوجد سبب إيجابي إثباتي لإدخال إلهٍ في تلك المواقع (الفجوات في المعرفة) لتفسير العملية المتواصلة للكون. ففعل ذلك لا يقدم تفسيرًا للظواهر، وكذلك فإنه يعمل على خيانة [التناقض مع] مفهوم الإله بالتضمين بأنه يختار تجنب التلاعب والتدخل في تسلسلات السببية التي قد عينَّتها البشرية بدون تقديم حجة منطقية لذلك الامتناع. لا يوجد منطقيًّا حاجة لوجود إلهٍ في العالم الطبيعي لتفسير سواءً علاقاته السببية أو عمله. بالإضافة إلى ذلك، فإن نفس الجدليات المقدَّمة في الفقرات الآنفة أعلاه بخصوص الآلهة، تنطبق على نحوٍ مماثل على الروح والجنة والجحيم [والأعراف (البرزخ، المطهر)] والشياطين والملائكة [وسائر الكائنات والأماكن الميتافيزيقية]. كل هذه الأماكن والكائنات تفتقد كليًّا كلًّا من الدليل الإمبريقي والضرورة المنطقية في العالم الفيزيائي، وبدون وجود المملكة فوق الطبيعية كخيار متاح، فإن فرضية وجود أيٍّ من هذه المفاهيم في الواقع الموضوعي يُفترَض بطلانها بسبب الإخفاق في القيام بعبء [مسؤولية] الإثبات. وبدون الإيمان ليمنح هذه المفاهيم استثناآت وإعفاآت من التفحص العلمي والمنطفي، فإن إخفاقها في تحقيق درجة معقولة من البرهنة المعقولة على وجودها واضح. 4- الإلحاد اللاأدري [الغير متيقن] هو أكثر المواقف منطقية عن سؤال [قضية] وجود الإله أو الآلهة [من عدمه] وفقًا للأدلة الحالية لأن تقنيات اكتساب المعرفة القائمة على التفكير العقلاني لا يمكنها تقديم اليقين المطلق، إلا أن فرضية وجود الإله أو الآلهة في الواقع الموضوعي يجب أن تُعتبَر باطلة. [أعلنت كمترجم سابقًا رفضي الشخصي لمفهوم عدم الدراية أو الاأدرية، الإله الإبراهيمي بصفاته كخالق للكون والكائنات في ستة أيام يناقض الحقائق العلمية، لذلك أتوصل شخصيًّا إلى إلحاد إيجابي بصدد إله الأديان الشرقأوسطية المنبع اليهودية والمسيحية والإسلام ومشتقاتها ونظيراتها الأخرى كالبهائية والمورمونية وشهود يهوه والأديان التوحيدية الآسيوية الحديثة في اليابان وﭬيتنام وغيرهما، وربما معهم كذلك الهندوسية لتناقص قصصها ومفاهيمها في معظمها مع العلم ولاحتوائها على خرافات عن الخلق، وهذا موقف كثيرين من أبرز وجوه حركة الإلحاد المعاصرة في العالم الناطق بالإنجليزية في إنجلاند وأمِرِكا وأستراليا، لكن سنرى من كلام المؤلف التالي والسابق كذلك أن مفهومه الدقيق للاأدرية أقرب إلى مفهوم الإلحاد القويّ منه إلى المفهوم المعتاد للاأدرية]. مع نبذ الإيمان كتقنية موثوقة لاكتساب المعرفة والانهيار الناتج لمملكة الوجود فوق الطبيعية باعتبارها غير مثبتة إمبريقيّا وغير ضرورية منطقيًّا، فإن الأساطير المصاحبة الخاصة بالاعتقاد الديني تخسر فتحة هروبها من الوسائل المنهجية الموثوق بها لتقييم [حقائق] الواقع الموضوعي وكنتيجة لذلك تخفق. بالتالي، فإن الإلحاد هو أكثر المواقف عقلانيةً للاعتقاد به فيما يتعلق بوجود [الإله أو] الآلهة. وباعتبار أن معرفة الإنسان بالواقع الموضوعي ليس لديها منظور مرجعي موضوعي، فإنه لا يمكنه أبدًا تحقيق يقين مطلق كامل عن الأسئلة عن الحقائق المتعلقة بالواقع الموضوعي، مهما كان مدى دقة إدراكه وملاحظته بالمنهج والوسيلة العلمية والقواعد المنطقية. فنيًّا [تقنيًّا]، فإن درجة ما من عدم التيقن النظري في الإلحاد يجب أن توجد بسبب تقنيات اكتساب المعرفة المستعملة في الوصول إلى تلك النتيجة. ومع ذلك، فإن افتقاد الدليل لصالح وجود إله أو آلهة وانعدام ضرورته/ ضرورتهم المنطقية يعني أن عدم التيقن في الاستنتاج النهائي الخاص بالإلحاد قليلٌ إلى الحد الأدنى، إلى الحد الذي يجعل الاستنتاجَ عمليًّا يقينيًّا مؤكدًا. خلاصة لجدلية الأسس تهاجم جدلية الأسس بهاجمة جوهر ولب الاعتقاد الديني، محطمة إياه من الأساس وصولًا إلى الأجزاء العليا [الفروع]. بدون إيمان، فإن مفهوم المملكة فوق الطبيعية ينقلب رأسًا على عقب [يتحطم] كمفهوم يعكس على نحو سليم الواقع الموضوعي، وبالتالي من ثم، فإن بقية الميثولوجي [الأساطير] تسقط سقوطًا حرًّا سريعًا. صنع هذه الجدلية يحمل شهادة على سبب كون افتراضَيْ الاعتقاد الديني اللذين سلطنا عليهما الضوء في الفصل الثاني هما عنصراها غير القابلين للمساومة والتنازل. وبدون حمايتهما، فإن بقية المفاهيم في الاعتقاد الديني تخسر استنثناءها التحكميّ من تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، والتي تعمل على التنصل منه [=نبذها] باعتبارها غير صحيحة وغير موثوقة وغير مثبَتة. تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي ضوابط متعارضة تمامًا مع الاعتقاد الديني، وإن لم تستطع الأديان أن تبرر على نحو منطقي صحيح لماذا ينبغي أن تهرب تأكيدتها [مزاعمها] من تحليلها [تحليل تقنيات اكتساب المعرفة العقلانية] للواقع الموضوعي، فمن ثم فإنها يجب أن تنهار. الجدلية العملية 1- لو أن إلهًا يوجد، لكان قدَّمَ توجيهًا أوضحَ بخصوص السلوك الإنساني المقبول ولكان سيعمل على ضمان أن وجوده فوق الشك المنطقي. الآلهة لهم سمتا الخيرية وكلية القدرة بحكم تعريفهم، مما يعني أنهم باستنتاج بديهيّ لديهم القدرة على فعل أي شيء، وأن هذه الأفعال ستكون لأفضل ما في مصلحة الجنس البشري. خلال مجرى التاريخ، الكثير من العناء والعذاب قد تحمله البشر بسبب الخلاف الديني وحده، والذي نشأ من الخلافات الداخلية والخارجية. داخليًّا، خيضت حروبٌ على التفسير الصحيح للكتاب المقدس أو الأخلاق [أو اللاهوت]، مؤدية إلى تجزئة الأديان إلى مذاهب [نعرف في الإسلام حروب السنة والشيعة والخوارج والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والمعتزلة، والقائلين بخلق القرآن من عدمه، واضطهاداتهم المتبادلة لبعضهم الآخر، وغيرها تاريخيًّا_المترجم]. وخارجيًّا، خيضت الحروب المقدسة [ومن الفتوحات والجهاد_م] بين الأديان المتنافسة والتي أنزلت الهلاك والدمار بالسكان الذي كانوا سيئي الحظ على نحوٍ كافٍ ليكونوا في طريقها. باختصار، كان يمكن تجنب قدر كبير من الألم والحيرة البشريين بتدخل إلهٍ يعلن ببساطة عن صحة وجوده الحاليّ ويحدد كذلك بوضوح القانون الأخلاقي الذي يريد من الناس الالتزام به لكي يفضِّلَهم في الحياة الأخرى. عدم تدخل إلهٍ على هذا النحو يقترح أحد ثلاثة أشياء: إنه عاجز عن فعل ذلك، أو أنه لا يريد ذلك، أو أنه لا يوجد في الواقع الموضوعي [هنا يعيد المؤلف تكرار حجة ديـﭭيد هيوم الشهيرة والتي تُنسَب كذلك إلى إِبِكيورِس [أبيقور].] إن كان يوجد كائن يُعتقَد أنه إله لكنه غير قادر على التفاعل في العالم بهذه الطريقة، فمن ثم فهو ليس كليَّ القدرة. في الواقع، فإنه يكون أبعدَ ما يكون عن كليِّ القدرة. إن مطلب إظهاره لنفسه ببساطة وتوضيح كل من وجوده الحالي وقواعده [الأخلاقية] للبشرية هو طلب عمل تافه وثانوي بسيط وإن عدم قدرته على تحقيقه يوحي بأنه ليس فقط غيرَ كليِّ القدرة، بل بالأحرى عاجزٌ. يُفترَض ويقترَح أن [الإله أو] الآلهة هم الكائنات الذين قد خلقوا الكون نفسه. إن افتراض وجود كائن يمتلك قدرة استثنائية غير مسبوقة على إيجاد الكون بأكمله وفي نفس الوقت لا يقدر على التجلي والظهور في ذلك الكون يمثل تعارضًا مفاهيميًّا مثيرًا للضحك. لو أن إلهًا كان قد خلق الكون وكل شيء فيه، لكان سيكون الجهد الأقل له أن يظهر للبشرية ويبرهن ليس فقط على أنه يوجد حاليًّا، بل وأن لديه مطالب محدَّدة من البشرية فيما يتعلق بقراراتهم الأخلاقية. على أية حال، فإن كائنًا يفتقد مثل تلك القدرة لا يستحق العبادة، وعلى الأرجح للغاية لا يمكن وجوده منطقيًّا بسبب القدرة الخلاقة المذهلة [المفترَضة] التي كان سيحتاج لامتلاكها لكي يخلق كلًّا من الإنسان والكون بينما هو على نحوٍ ما يفتقد مجرد القدرة على الظهور ضمن خلقه. لو أن هناك كائنًا له وجود والذي يُفترَض أنه إلهٌ لكنه لا يريد توضيح وإجلاء التحيرات والمعضلات التي تحيط بوجوده في الواقع الموضوعي ورغباته، فمن ثم فإن خيريته [إحسانه] مشكوك بها. لو أن العالم كان كما يدعي المتدينون، أيْ: أرض اختبار وتبيين لمن يستحقون المكافآت الأبدية من إلهٍ، فمن غير العادل السماح ببدء اللعبة في ظل وجود الخلاف العقلاني حول القواعد. إن عدد الأديان والطوائف التي قد عرفها الجنس البشري مع قوانينها الأخلاقية المصاحبة لها يرينا الخلاف المثار حول ما يريده إلهٌ من الناس لو كان يوجد حقًّا. هناك ظلم كبير في ترك الأمر لمقامرات البشر حينما تكون مصائرهم الأبدية هي ما على المحك، وقراره بعدم توضيح كل من وجوده حاليًّا وأي سلوك سيؤدي إلى اكتساب ناجح لتأييده يمثل تناقضًا في [مفهوم] خيريته. سرية أو غموض القوانين [الشرائع] يتعارض مع الحس البشري بالعدالة، وهذا الصدع يصير أسوأ للغاية مع التهديد بعذاب وعناء أبدي في حال كون الشخص غير محقٍّ [في اختياره]. باختصار، فإن [افتراض] كائن قادر على تقديم هذا المستوى من التوضيح للبشرية لكنه يرفض هذه الدعوة سيكون غير محسن [خيريّ] وغير مستحق للعبادة بسبب ذلك. حتى لو كان المرء سيستنتج أن كائنًا كهذا يستحق العبادة لمجرد قوته غير المحدودة، فلن يكون المرء قادرًا على القيام بأي شيء غير من التخمين الاعتباطيّ لما يكونه السلوك الأخلاقي المفضَّل له. وهو ما سيكون إستراتيجية ضئيلة احتمالية النجاح. بالتالي، فإن رفض أو عدم قدرة إلهٍ [مزعومٍ] على البرهنة على وجوده للبشرية وكذلك توضيح التعليمات لكيفية اكتساب تفضيله يجعله كائنًا غير مستحق لاهتمام المرء. في الواقع فإن كلا النتيجتين يجعل وجود كائن كهذا غير مرجح في الواقع الموضوعي بسبب عدم الاتساق النتائج عن صفاته النظرية مع التسليم بتبطله وعدم فعله العملي. باعتبار عجز وعدم كفاءة تفسيري صمت إلهٍ ما بالنسبة لمسألة توضيح الأسئلة التي لدى البشرية عنه، فإن ما يتبقى هو الاستنتاج بأنه لا يوجد في الواقع الموضوعي. لو كان يوجد إلهٌ مع صفتي كلية القدرة والإحسان [الخيرية] كليهما، لكان بالتأكيد سيسره أن يكشف تلك الأديان والطوائف اللاتي يسئن استغلال اسمه ونفوذَه. في الواقع، فإن الأديان نفسها غريبة منافية للعقل من جهة أنها تتألف من رجالٍ يتحدثون زعمًا نيابةً عن الآلهة، وهو ما كان سيكون غير مقبول بالتأكيد لإله تحت أي ظروف. بالتالي، فإن انعدام الفعل العملي للإله أو الآلهة فيما يتعلق بتوضيح وجوده وقواعده لمخلوقاته يقترح بأن لا إله في الحقيقة يوجد في الواقع الموضوعي. 2- لو أن إلهًا يوجد، فإن عبادة واعتقاد المرء لن يكونا ضروريين لأنه كان [الإله] سيعطي الأولوية لمسؤولية المرء نحو السلوك الأخلاقي اتجاه رفاقه البشر. للآلهة [المزعومة] صفتان هما كلية القدرة والخيرية واللتان تجعلانهم ذوي صلة بالبشر من جهة الاهتمام بعبادتهم. لن يكون المرء مهتمًا بعبادة كائن يعتقد أنه غير قادر على حمايته من الخطر أو لا يهتم على نحوٍ كافٍ للقيام بذلك. رغم ذلك، فإن كائنًا يمتلك قوة غير محدودة كان سيكون من غير المرجح أنه يهتم بأن يعبده مخلوقاته. فرغم كل شيء، فإن قوة كائن قادر على إنجاز خارق مذهل كخلق كَوْنٍ لم يكن ليمكن تقديرها من قِبَل البشر، تلك الكائنات التي تمتلك أضأل مقدار من قدرة محتملة كهذه [على التقدير]. بالتالي، كان إلهٌ ما سيكون غير مبالٍ بمديح وتمجيد [تسبيح] البشر له لأنهم لن يكونوا قادرين على فهم ما يعبدونه. وحتى لو فهموا، فهو لن يكسب أي شيء من مثل هذا التمجيد. إن إلهًا ما لن يستفيد من تقديم الخضوع والولاء، وأقل من ذلك [احتياجًا] من الكائنات الذين هم من تصميمه. لو أنه حقًّا محسِنٌ [خَيِّر] ويهتم بالقرارات الأخلاقية للبشر، لكان سيقيِّم الأسلوب الذي يعامل به الناس أحدهم الآخر [فقط] وليس تعاملهم معه. تفكر في الظلم النتن الذي سينتج لو أن العكس صحيح، تحديدًا، أيْ أن الآلهة [أو الإله] يهتم فقط بسلوكيات المرء اتجاه رفاقه البشر بقدر ما تتدخل وتتعلق بعبادته، فلو كانت هذه هي الحالة، لاستطاع أكثر الناس شرًّا الإساءة إلى الجنس البشري وتعذيبه بدون عقوبة وبحصانة طالما أنهم يُبدون الاحترام الملائم لإلهٍ، أو_على نحوٍ أكثر بروزًا_ بدعوى أنهم يفعلون ذلك للدفاع عن أو تكريم الإله الصحيح. وعندما يفترض المرءُ أن ما يشعر به ويميل إليه هو ما يريده ويفضله إلهٌ ما لأجل أفضل ما في صالح البشرية، فسيتوهم أنه حر في أن ينزل الهلاك بحيوات الآخرين الذين لم يفعلوا له أي أذى، بالإضافة إلى الكذب في سبيل إرضاء إلهه. إن الاقتراح بأن إلهًا لا يحتاج أي شيء لكي يُحسِّن وجوده الخاص به أو يبقى حيًّا سيطلب أشياء كهذه يتناقض مع صفته الشخصية [المفترَضة] الخاصة بالإحسان. إن إلهًا مُحْسِنًا [خَيِّرًا] كان سيعتبر أي وقت يُقضَى في عبادته وقتًا مهدورًا كان يمكن أن يُستغَل في مساعدة كائناته الأخرى التي تحتاج حقًّا المساعدة. لا يمكن أن يفضل إلهٌ التعبدات والتكريمات غير الفعالة ولا المفيدة المقدمة له عن طريق كائنات لا تقدم قرابينها وصلواتها له أي غرض أو فائدة بالنسبة لمعاملة المرء العادلة والمحترمة لرفاقه البشر [وغيرهم من الكائنات-م]، إن كان لديه على نحو منطقيّ الصفة الشخصية للإحسان [الخيرية]. بناءً على سمته الشخصية الخاصة بالإحسان، فإن الإله كان سيحكم ويحلل استحقاق البشر بمجازاة جوهر تصرفاتهم [مع بعضهم الآخر] وليس الشكلية [الصلوات والطقوس]، أيْ بتفحص قابليتهم للتعامل المحترم اللائق مع من لن يمكنهم رد المعروف إليهم. لا يُفترض أن إلهًا ما سيتسم بكلية القدرة لكي يتفحص ويشعر بإمكانية التعامل والتصرف الذاتي للبشر المتمثل في عبادته. فرغم كل شيء، فإن الوعود بمكافأة عظيمة ودائمة تكمن في عقول البشر ومطامعهم، وإن عبادة البشر للآلهة توصَم وتتلطخ بإيثار المصلحة الشخصية [المتوهَّمة]. بعبارة أخرى، فإن سلوك وفعل العبادة لإلهٍ شكليٌّ طقوسيٌّ وغير ضروريّ وتملُّقيّ تزلُّفيّ. لو أن هناك إلهًا حقًّا يقيِّم تصرفات البشر على أساس قيمتها المحضة، لكان سيبحث عن اللحظات في حياة الشخص ليتفحص كيف عامل الناس الذين اعتقد أنهم لا يمكنهم عمل شيء لرد معروفه وإحسانه لهم. فعل ذلك كان سيكون تدقيقًا لجوهر شخصية الشخص وقابليته للتعامل المحترم والاحترام والخير بدون العنصر المشوش الخاص بالمكسب الذاتي الذي يعكر الصورة. من يستحق أكثرَ مكافاآتِ إلهٍ [مزعوم]؟ أهو الإنسان الذي يبدي لا مبالاة تامة اتجاه الفقراء في مجتمعه لكنه يصلي علنًا ليحصل على تفضيل إلهٍ ويزيد إمكانيًّا حسن سمعته بظهوره كمتواضع في عيون الآخرين؟ أم هو الإنسان الذي لا يؤمن بوجود إلهٍ لكنه يتبرع على نحوٍ مجهول بوقته أو ماله للمساعدة في إطعام أو تعليم الناس الذين ليس لديهم الإمكانيات لذلك بلا ذنبٍ منهم؟ لو أن الإجابة هي الأسبق [الأولى]، فمن ثم فإن المرء محكوم عليه من قِبَل كائن كهذا مهما كانت اختياراته [الأخلاقية]. فلو أنه كان محترمًا محسنًا للآخرين بدلًا من الإله أو الآلهة، فسوف يُرسَل إلى الجحيم لأجل إعطائه الأولوية لاحتياجات البشر على الاحتياجات النهمة [للتملق لإلهٍ أو] آلهة، أما لو لم يفعل، فسيجد جحيمًا من صنعه الشخصي ينسجم مع عيشه وجودًا باردًا مجردًا من الصلة الهامة مع البشرية. بغض النظر، فإن اختيارًا قاسيًا كهذا لا يمكن أن يوجد لو أن الإله [المزعوم] يتصف بصفاته الخيرة ويتجنب الفخ المنطقي الرديء لتفضيل الشكلية على الجوهر. 3-وجود إلهٍ ما مثارٌ للجدل إلى حدٍّ كبير لأن اقتراح أن وعي البشر ينجو ويبقى بعد موت الجسد لم يُبَرْهَنْ عليه عقلانيًّا سواءً بالأدلة الإمبريقية أو الضرورة المنطقية. كما تتضمن بنية المكسب النظري للمقامرة في رهان باسكال، فإن أبرز جوانب الاعتقاد والقناعة الدينية تتوقف على الاقتراح بأن وعي الكائنات البشرية بلا نهاية، أيْ أن الروح توجد. لو لم يكن الأمر كذلك وأن الوعي يخمد بموت الجسد، فإن وجود إلهٍ ما سيكون مثار جدل وخلاف في كون غضبه أو تأييده له فقط زمن محدود لتحمله في حياة الشخص. الكثير جدًا مما يؤدي إلى القناعة الدينية ينشأ من الوعد بأنه ليس فقط هناك حياة بعد الموت بل وكذلك أن خبرات الشخص القادمة خلالها ستعتمد على نحوٍ مفصليّ على تقواه [الدينية] خلال حياته الفانية. بدون الافتراض القائم على الإيمان بأن هناك حياة بعد الموت للبشر، فإن السؤال عما إذا يوجد إله أو آلهة في الواقع الموضوعي يصير أحد الاهتمامات الهامشية. إن هذا الجزء من الجدلية العملية يقوم على منطق مماثل للمقدم في جدلية الأسس، لكنه يركز على شيء ملموس أكثر، ألا وهو الجسد البشري. إن الإله هو فكرة لا يرغب أحد في أن يقدم برهانًا عليها بما يمكن للمرء ربطه بمستوى عمليّ، لأنه كائن يُزعَم أنه فريد واستثنائي بحقٍّ. من ناحية أخرى، تُعتبَر الروح النظير ما فوق الطبيعي [الغيبي] لشخصية الشخص وجوهره الكلي، وحقيقة كونها غائبة بشدة مثيرة للشك بالفعل. في الوضع الحاليّ للطب الحديث، لا يزال لدى البشرية الكثير لتعَلُّمِه عن كيفية معالجة الأمراض وتصحيح حالات قصور أجهزة الجسد. رغم ذلك، فإن ما لا يظهر عندما يزور المرء طبيب قلب أو أمراض باطنة أو عظام هو الروح، وهو ما ليس بصدفة لأنها_من الناحية التشريحية-لا توجد. هذا يعني أنه لا توجد مطلقًا أي أدلة إمبريقية على وجود الروح، ليس فقط في البشر بل وفي أي حيوان آخر على الكوكب. يجد المؤمنون الدينيون على الأرجح هذه النقطة واضحة وغير مستحقة للالتفات لأن الروح بنية فوق طبيعية، لكن الصعوبة التي يمر بها المرء لأجل افتقاد الأدلة الأمبريقية على إله لا يمكن انطباقها على الروح. لو أن الروح توجد فعلًا في الحقيقة، فمن ثم فإنها بحق ماهية الشخص، إلا أن لا أحد يمكنه إيجاد أي أثر لها. اللغة الشعرية المطاطية حول أن أعمق مشاعر الشخص وأكثرها إخلاصًا تمثل الروح لا تقوم بأي شيء للبرهنة على أن الروح هي في الحقيقة كائن يوجد في الواقع الموضوعي. لو كان هذا كل ما يمكن عمله للبرهنة على وجودها، فإن الروح ليست إلا سفينة تحمل أثمن البضائع، والتي لا تظهر أبدًا على الرادار ولا تدخل مرفأً. الضرورة النظرية للروح في الواقع الموضوعي غير مثبَتة كذلك مثل المملكة فوق الطبيعية عمومًا والتي يُزعَم أنها [الروح] جزءٌ منها، لكن الجدلية الحالية ستركز على ضرورة الروح في الطبيعة الفيزيائية. أليس تفسيرًا مُرضيًا كافيًا القول بأن عواطف وأفكار الإنسان الذاتية كلها وظائف لمخه؟ أيُّ سببٍ هنالك للاعتقاد بأن لها مصدرًا مختلفًا، ناهيك عن كائن حقيقي ليس له وجود في العالم الفيزيائي؟ لكي يكون النموذج الديني للخبرة والوعي البشري صحيحًا، مع تسليمنا بافتقاد الدليل الإمبريقي على وجود الروح، فإن العقل الفيزيائي كان سيحتاج إلى جهاز ما محول للما فوق طبيعي إلى طبيعي [فيزيائي] والذي سيعمل كمحوِّل لكي تكون الروح مقرَّ وعي وعواطف الشخص. التخمينات الإضافية على غرار نفس النهج هي مضيعة للوقت، ليس فقط بسبب الطبيعة الخيالية لما هو متناول هنا، بل وكذلك لأنه لا قوة تفسيرية إضافية للظرف الإنساني ستنتج عند الاستمرار في إضافة تعقيد كبير غير قابل للتفسير. إن وجود الروح_ككل الكائنات الأخرى في البنية الأسطورية للاعتقاد الديني_لا يحتاج إلى البرهنة على كونه مستحيلًا بمعنى الكلمة لأجل افتقاد الضرورة المنطقية في الواقع الموضوعي، ولغياب كلٍّ من تلك [الضرورة] والدليل الإمبريقي التجريبي، فإن وجودهن يمكن فقط أن يُفترَض بطلانه كخيالٍ ووهمٍ. لو أن الروح لا توجد، فإن السؤال عما إذا يوجد إلهٌ يكون له أهمية أقل بشدة حيث أن وعي المرء لن ينجو من الموت. بالتأكيد، فإن نفس الجدليات ضد وجود الروح تنطبق على نحوٍ مماثلٍ على الإله أو الآلهة، لكن الروح استثنائية في كونها يُدَّعَى أنها جزء من الناس [الشخص]، أيْ: شيء ما مرتبط على نحوٍ ما بأجسادهم الفيزيائية. وكون الروح لا يمكن تعيين مكانها في أي مكان في الطبيعة وأن وجودها ليس أساسيًّا لا غنى عنه منطقيًّا لنموذجٍ تفسيريّ للبشر يعني أنه لا يوجد سبب حاليّ للاعتقاد بأنها توجد في الواقع الموضوعي. إن نتائج كون الروح [مفهومها] سرابًا وخيالًا فقط في صحراء الخبرة والفكر الإنساني يتضمن الزيادة الجذرية الراديكالية للامبالاة البشرية بالآلهة والأديان وقدرتها المزعومة على التلاعب والتدخل في حيواتهم. بعبارة أخرى، فإن الشك الشديد في وجود الروح في الواقع الموضوعي لا يعني أن الآلهة كذلك لا يوجدون، بل بالأحرى أن وجودهم يصير نقطة جدال على نحو وثيق عندما يكون مسرح الأبدية لم يعد ضمن الحُسبان. موجز للجدلية العملية الجدلية العملية أقل اهتمامًا بتفنيد وجود الآلهة مما هي تركز على تقويض جوانب الاعتقاد الدين التي تدفع الناس على الاهتمام بما إذا كان يوجد إلهٌ في المقام الأول. تتضمن الجدلية الأولى الفرعية أن إلهًا يهتم بسلوك البشر كان سيقدم تعاليم أكثر حسمًا وتحديدًا مما هو متاح حاليًّا، والثانية تجادل بأن التعبد لإلهٍ نشاطٌ بلا جدوى بافتراضنا لصفاته المزعومة، والثالثة هي أنه لا يوجد على الأرجح حياة بعد الموت. بجمعهن معًا، فإن هؤلاء الجدليات الثلاثة يجادلن بأن عبادة إلهٍ مضيعةٌ للوقت وأن السؤال عما إذا كان يوجد إلهٌ ليس له أهمية عملية لحياة الشخص. إن مقصد الجدلية العملية هو أنه حتى لو كان سيوجد إله [على سبيل الجدل]، فإن التصرف الأكثر منطقية هو العيش بدون تفكيرٍ بانشغال ونشاطٍ بصدده. الجدلية الفوقية [الماورائية] 1- تقترح المصطلحات الدينية أماكن وكائنات تزعم وجودها في الواقع الموضوعي لكنها معرَّفة على نحوٍ غير كافٍ لكي تكون قابلة للاختبار. بالتالي، يجب أن يُفترَض بطلان مثل تلك الأماكن والكائنات. لكي نخوض عميقًا في الافتراضات غير المضمونة التي لا مبرر لها والتناقضات الغزيرة التي يقدمها الاعتقاد الديني، فقد أجَّلتُ أبسطَ الجدليات ضده حتى الآن، وهي أن الاعتقاد الديني فوضى [ترجمة بديلة: كمٌّ] متنافر غير متماسك من المفاهيم المعرَّفة على نحو رديء ضعيف. يحاول الاعتقاد الديني الركوب على حصانين في وقت واحد: إنه يريد أن يدعي السيادة على الواقع الموضوعي، بينما في نفس الوقت يحتجب عنه لأن قوته تأتي من مفاهيم بدون تعريفات ذوات معانٍ. هذه خدعة ماكرة تسمح للفشل المعجِّز للاعتقاد الديني أن يتنكر على أنه غموض [سرٌّ] مجيد. ما هي بالضبط تلك الأشياء والأماكن التي يدعي الاعتقاد الديني وجودها؟ ما هو الإله أو الآلهة؟ ما هي الروح؟ ما هو ما فوق الطبيعي [الغيبي، الميتافيزيقي]؟ إن التعريف بأدنى حد الذي قمت به في هذا الكتاب قد أُنشئَ للتكلم عن تضميناتها الأعلى وتنافرها، لكنها متصدعة معيبة عند مستوى أكثر جذرية. لماذا تبدو كل هذه المفاهيم كصور سلبية للمعرفة البشرية، أيْ أنها توجد قصديًّا في كل الأماكن التي لا تعمل فيها القوى التفسيرية الموثوقة المعوَّل عليها للإنسان؟ إن الفكرة المركزية الأساسية لكل أساطير الاعتقاد الديني هي ما فوق الطببيعي، ولهذا نوقِشَتْ كأحد افتراضيها الإلزاميين. إن ما فوق الطبيعي هو قوقعة الهروب لكل ما لا يقدر الدين على إثباته. إنها مستودَع الآلهة والأرواح والملائكة والشياطين والجنة والجحيم [والنرﭬانا وأتمان] وغيرها. لو أن هذه الكائنات والأماكن توجد حقًّا بالفعل في الواقع الموضوعي، فمن ثم لكان ما فوق الطبيعي سيبدو المكان الوحيد الذي يستحق المعرفة. بالتالي، فما هو؟ إن تعريفه على أنه "ليس شيئًا يمكن لأي أحد فهمه بينما هو حيٌّ" عديم الجدوى، إلا أن ذلك كل ما يقدمه الدين له. أما بالنسبة للآلهة، فكيف سيعرف المرء إلهًا لو أنه جاوزَ واحدًا [إلهًا] في الشارع؟ بدون تعريف لما يكونه الإله أو الآلهة في الحقيقة، كيف سيقدر المرء على التمييز بين رسول حقيقيّ ومجنونٍ أو محتالٍ؟ هذه التعريفات المحدودة إلى أدنى حد تقدم أرضية خصيبة وسببًا وجيهًا للفرد لأن يملأ الفراغات بما يشاء ويخمن الباقي. ما يصنعه مفهوم إلهٍ ما بتعريفه الحاليّ هو مجرد خيال ظل، رسم تخطيطي [إسكتش] لقوة لا يمكن تصورها والأمل والخوف. بدون وجود معلومات إضافية، فإن وجود [الإله أو] الآلهة في الواقع الموضوعي غير قابل للاختبار، لأن لا أحد يعرف عما يبحث. بالتأكيد، فإن ضبابية [غموض] التعريف يعمل على نزع استحقاقه للاعتبار والأخذ بجديّة لأن كل المزاعم والتأكيدات هي باطل مفترَضٌ حتى تثبت صحتها، ولا يمكن للمرء إثبات صحة فرضية لا يمكنه وصفها بدقة معقولة. إن لفاضحٌ وذو دلالة كون الأديان تضع تجربة واحدة فقط لاختبار صحة نظمها [تصوراتها] عن العالم، ألا وهي الموت، وأيُّ منظومة فكرٍ تجعل زوال المرءِ مستندًا ودليلًا ضروريًّا للحصول على دليل تأكيديّ إيجابيّ على ما تزعمه وتؤكده هي صنف مشكوك فيه حقًّا. حول تلك النقطة، فتفكر في إستِراتيجية المقامرة النظرية التي توظفها الديان بجعل الموت هو موقع مختبرها. لو كان كل شيء يقوله الاعتقاد الديني صحيح فمن ثَمَّ سيجد المرءُ بالفعل تلك المعلومات في الحياة الأخرى ما بعد الموت. أما لو كان الاعتقاد الديني غير صحيح رغم ذلك، فإن وعي الإنسان يتوقف بموت جسده، ولن يكون بالجوار لجلب الأخبار عن ذلك الزيف والبطلان إلى الآخرين الذين يعيشون بعده. إجمالًا، فهذا بحقٍّ موقف مرغوب فيه تُحسد عليه الأديان باتخاذها له: فالمرءُ إما سيحصل على دليلٍ على منظومة الاعتقاد عند الموت، أو لو أن النظام غير صحيح وباطل فلن يكون هناك أي مطالبات بالتعويضات [التصحيحات]. إن قدرة الأديان على الاستعمال الإستراتيجي لهذه الإستراتيجية هو نتيجة مباشرة لخمول مُعجَم [مصطلحات] الاعتقاد الديني. ورغم كل شيء، يستطيع المرء أن يختلق أي مجموعة من الحواجز [على التفكير] للحصول على دلائل تتعلق بتأكيداته [مزاعمه] لو أمكنه إقناع العقول المستقصية بالسماح بمرونة ومدى لا نهائي في تقريرِ ما يؤلف دليلًا، وإحدى الطرق الخبيثة للحصول على ذلك المجال المطاطيّ هو رفض تعريف مصطلحات المرء على نحوٍ معقول. لو كان نظامُ اعتقادٍ بيتًا، فإن محتوياته ستكون ذات أهمية كبيرة، وستكون مفاتيح أبوابه هي مفاهيم ومصطلحات النظام، ولو كانت هذه المفاهيم والمصطلحات معرّفة على نحوٍ رديء غامض، فلن تكون قادرة على فتح الأقفال، وسيظل محتوى البيت سرًّا. يستعمل الاعتقاد الديني تكتيكًا مماثلًا. ببرد السنون الدقيقة لمفاتيح أقفاله، فإنه يحول نفسه إلى صندوق أسود منطقي بدون وسيلة للدخول إليه، ومعزولًا بأمان من التمييز والتفحص، فإن منطقه يمسي غامضًا معتمًا على نحو غير مقبول. على نحوٍ مطلق، فإنه لمهمٌّ معرفة ما تعنيه الكلماتُ، خاصّةً عندما تدّعي البرهنة على مسائل تتعلق بحقائق عن الواقع الموضوعي. عندما تدعي أفكار معينة ومصطلحاتها ذوات العلاقة أن لها الأهمية التي تزعمها الأفكار الخاصة بالاعتقاد الديني، فإن الوضوح إلزاميٌّ حقًّا. إن العواطف الذاتية كالحب أو الرهبة تأبى التعريفات الدقيقة لأنها داخلية وهي تعابير عن قيم عوضًا عن حقائق. هذه ليست طبيعة ما فوق الطبيعي أو الإله أو الروح، رغم ذلك. يُزعَم ويُقترَح أن هذه المفاهيم توجد في الواقع الموضوعي، ولذلك فإن إخفاقها في أن تُعرَّف على نحو معقول يجعلها معزولة على نحو غير مقبول عن اختبار صحتها. وبما أن المرء لا يمكنه اختبار صحة هذه المفاهيم فإنها يجب أن يُفترَض بطلانها حيث أنه لا يمكن تقديم فرضيات معرَّفة جيدًا وقابلة للاختبار تتضمنها. كون المصطلحات الدينية تتفادى وتتهرب من التعريفات الدقيقة لا يجعل ما يؤكده ويزعمه الاعتقاد الديني عن الواقع الموضوعي صحيحًا على نحوٍ غامضٍ لا يُفسَّر؛ بالأحرى إنه يجعلها مفترَضة البُطلان. ملخص للجدلية الفوقية [الماورائية] في العديد من النقاط في هذا الكتاب، رجعتُ إلى الجدلية الفوقية، خاصةً عندما ناقشت الاعتبارات العملية المتعلقة بالأدلة على وجود إله. إن الجدلية الفوقية هجومٌ على المصطلحات الدينية نفسها لكونها رديئة التعريفات للغاية بحيث تكون غير معرَّفة من الناحية الحقيقة وبالتالي عديمة المعاني. في جوهرها، فإن الجدلية الفوقية هي تطبيق لقواعد التفكير المنصفة العادلة. لو أراد امرؤٌ ادعاء معرفة كائن ذي أهمية مذهلة في حيوات البشر، فمن ثَمَّ يُتَوقَّع منه أن يقدم مستوىً معقولًا من الدقة على الطاولة بصدد ماهية هذا الكائن بالضبط وكيف يعرف المرء ما سيعتقد به إن كان سيقبل اتباع دينٍ. السماح بغير ذلك هو فتح فجوة فكرية مبذرة تحث على محاولات مشؤومة شريرة للتحدث باسم كائن ذي قوة هائلة [مزعومة] وبالتالي اكتساب الخضوع المعطى لكائنٍ كهذا بالوكالة والنيابة عنه. الخلاصة لقد استعرضنا ثلاثة تفنيدات مستقلة للاعتقاد الديني، كلٌّ منها يستهدف نقاط ضعف مختلفة. يجب أن يُشار إلى أن إنشاءنا لثلاث جدليات ضد الاعتقاد الديني لا يُقَصد به بأي نحوٍ الإشارة الضمنية إلى أن هذه قائمة شاملة جامعة مانعة. إن جدلياتٍ واعتباراتٍ أخرى تركز على هذه الجوانب وجوانب غيرها للاعتقاد الديني ممكنة بالتأكيد. لقد قُصِد من الجدليات التي قد غطيناها أن تقدم تنوعًا: جدلية الأسس تهاجم الاعتقاد الديني في افتراضاته وأرضيته النظرية، والجدلية العملية تكافح الاعتقاد الديني من منظورٍ عملي بدون الانشغال بالخوض في طبيعته النظرية، والجدلية الفوقية تستجوب وتفحص نسيج وبناء الاعتقاد الديني نفسه بإلقاء الشك على الطبيعة المراوغة المتفلتة لمصطلحاته. ينبغي أن تُقرَأ هذه الجدلياتُ وملخصاتها العديدَ من المرات لدمج نقاطها الأساسية التي تركز وتشدد عليها في أفكار الذات. عند هذه النقطة، لاحظ كم قد أنجزنا. إن الغالبية العظمى من الناس في التاريخ الإنساني لم يكن لديهم رفاهية مواجهة الاعتقاد الديني بأسلوبٍ منظم ومدروس، وليس معنى هذا أن أفكاره معقدة، بل بالأحرى أنها مشوِّشة وتميل إلى إحداث التشويش العاطفي. ما أنقذنا من مستنقع تهديداته وتوجيهاته كان التزود بمعايير التحليل النقدي المعقول تمامًا والذي يضمن مستويات المعرفة الموثوقة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي ويمنع الخيال من القفز إلى استنتاجات لا مبرر لها. الكثير من النقاشات عن التفكير القائم على العقلانية والإلحاد قد توقفت عند هذه النقطة حيث دُحِضَ وفُنِّد الاعتقادُ الدينيُّ. رغم ذلك، فإن رحلتنا قد قطعنا نصفها فقط. فحتى الآن، قد عملنا على استخراج الدائرة [الكهربية] المعيبة [يقصد منظومة التفكير] الخاصة بالاعتقاد الديني من تفكيرنا. وقد صرنا لدينا فجوة في جانب متمم للهوية، ويجب أن نبني الآن هوياتنا الجديدة منهجيًّا، ونجد حلولًا جديدة عقلانية للأسئلة التي كان الاعتقاد الديني يجيب عليها قديمًا. الجزء الثاني إعادة بناء الهوية 9- الدروس العاطفية لنبذ ودحض الاعتقاد الديني في مقدرتنا أن نعيد إنشاء العالم من جديد توماس بين [إنجليزي الأصل ومن أعلام الاستقلال الأمِرِكيّ ونقد الملكية والدين] مع خروج الاعتقاد الديني من المشهد، فإن مرحلة إعادة البناء يجب أن تبدأ. كما قد نوقِش، فإن الاعتقاد الديني ما هو إلا مجموعة من الافتراضات عن العالم. للأسف بالنسبة للمهمة الحالية، فإنها كثيرًا ما تكون افتراضات عزيزة اعتُنِقَت لوقت طويل، ومع نبذها، فإن المرء يحتاج إلى الكفاح لإسقاط الآراء ووجهات النظر التي قد جذَّرَت نفسها في هويته ذاتها. الكثير من الناس يشعرون أن الاعتقاد الديني لا يصل إلى إقناعهم، إلا أنهم يظلون عالقين في افتراضاته لأنهم متحيرون بصدد كيفية امتلاكهم لعواطفهم بدونه. إن هذه الفجوة في التعليم والثقافة هي ما يبقي ناسًا أكثر بكثير في الاعتقاد الديني عما كان سيكون عليه الأمر لو اختلف الحال. إن تفكيك [التخلص من] المغالطات الفكرية للاعتقاد الديني ليس صعبًا للغاية باعتبار أدوات العصر الحديث، لكن الاعتماد العاطفي للمرء عليه هو ما كثيرًا ما يعمل على الهيمنة على قدرة تفكيره على اتخاذ قرارات عن قيمته. ونتيجة لذلك فيجب أن يكافح المرء ليكتسب ضابطًا عاطفيًّا، والذي هو مفهوم أساسي سندرسه عند نهاية هذا الفصل. رغم ذلك، فقبل ذلك فإننا سنغطي النتائج العاطفية المحتملة لهجر الاعتقاد الديني لكي نمكن الشخص من إحباط ما يمكنه توقعه من تركه. عواطف متركزة على الذات باعتبار كيفية يدمج دين الشخص السابق نفسه مع هوية الفرد، فإن معظم العواطف الداخلية المتعلقة بالانتقال إلى التفكير القائم على العقلانية المتسق عنيفة. ببساطة لأن عثور الشخص على طريقه للخروج من الاعتقاد الديني لا يعني أن عواطفه ستنسجم فوريًّا مع ذلك الاستنتاج. العادات القديمة تقاوِم وتصمد بشدة، والخروج من الاعتقاد الديني يتطلب تمرين العضلات العاطفية التي قد أعاق نموها وعود وأيديولوجي الاعتقاد الديني. في الإلحاد لم يعد هناك من بعدُ نظام دعم إلهيٍّ لمواساة الشخص عندما تعامله الحياة بقسوة، وهو الآن يفتقد القدرة على تأجيل أعمق أحلامه إلى حياة أخرى حيث ستُحقَّق [زعمًا]. أصبح منظور المرء أكثر واقعيةً. قبل تغطية أكثر العواطف جدية، فإن الدراسة ستبدأ بالشعور المبهج المنعش بتوحد وتجمع الذات. تجمع وتوحد الذات ترك الاعتقاد الديني يسبب شعورًا مدهشًا بالراحة عندما يكون الشخص قد حقق مستوى مقبولًا من اليقين الفكريّ فيما يتعلق باستنتاجاته. في الاعتقاد الديني تُمزَّق النفس إلى الجسد الفيزيائي والروح، أحدهما يحوز حق الدخول إلى ممالك مجهولة. في الواقع، فإن الوجود نفسه يتم تقسيمه إلى الفيزيائي والغيبي السحري، ويقبل المرء عجزًا فكريًّا كاملًا في محاولة فهم الأخير. إن نتيجة جانبية لاتباع والمشاركة في الاعتقاد الديني هي أحلام اليقظة وانتظار السحر [المعجزات] لتأتي لتعمل على التأثير على الحالم. بعبارة أخرى، فإن تقسيم نفس المرء والتوقعات على غرار هذه الفقرة يميل إلى جعل الشخص يَقْنَعُ بالجلوس والانتظار، متوقعًا دومًا أنه على نحوٍ ما وفي مكانٍ ما ستجده وتأتي إليه أهدافه. عند نبذ الاعتقاد الديني، فإن كل هذه الأماكن والنسخ الغيبية للنفس تتجمع وتتحد، ويشعر العقل بقوةِ كونِه أصبح حاضرًا وواعيًا بأعلى درجة. إنه شعورٌ ممدٌّ بالقوة والإثارة بالتزود بالقوة والوضوح والذي لا يتوقعه معظم الناس. فرغم كل شيء، فإن الأديان تؤدي مهمتها جيدًا فيما يتعلق بجعل الحياة بدونها تبدو مروعة وخالية، لكن حالما يتحدى المرء على نحو حاسم ذلك الزعم في أن يُثبَت، فإن جيشان الشعور بتجمع وتوحد الذات الذي يفيض ويجري داخل الشخص حقًّا لا يُنسَى. إن الشعور باجتماع الذات هو شعور مشابه للمعمودية [المسيحية أو الاهتداء الديني] مع فارق أن المعموديات [أو الاهتداآت] تنزع إلى أن تحدث على غير المتوقع بينما لا يدرك المرء بوعيٍ مادة الموضوع الذي يشعر نحوه بأنه قد امتلك به حقيقة عظيمة. في الواقع، فإن الشعور بتوحد الذات لا يتعلق باكتساب معرفة عظيمة، بل يتعلق براحة هجر معرفة معيبة ناقصة [مشوَّهة] مزعجة. تختفي الروح [الخيالية] في العقل، وما فوق الفيزيائي والطبيعي في الفيزيائي، والآلهة إلى الخيال. في الواقع، تصير الكثير من الأشياء الخرافية المتخيلة عن العالم والتي ليس لها بالضرورة علاقة مع الدين تحت تحكم المرء. كمثالٍ، لا تحتكر الأديان الادعاء بامتلاكها معرفة هائلة مربحة عن العالم والمستقبل، فهذه التقنية هي وستظل ادعاءً مفضَّلًا للدجالين والمحتالين، ومع التفكير القائم على العقلانية فإن الفضول المتردد الذي ربما كان لدى المرء اتجاه وسيط روحاني أو قارئ أوراق تاروت [بزعمه] يتبدد لنفس السبب الذي يجعل المرء لا يستجيز من بعدُ تعاليم رجال الدين. يبدأ المرء في فهم الصورة الكلية للأمر حيث أن محترفي مجالات العلوم الزائفة [الدجل] كلهم يتحدثون عن كائنات يدعون وجودها في الواقع الموضوعي بأساليب مشابهة على نحو مثير للريبة، يعني على نحوٍ غامض. تتطلب تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية الدقة والشفافية [الوضوح]، وكون محترفي تلك المجالات الأخرى يولعون بغموضهم يعني أن هناك أشياء لديهم يخفونها أو_على نحو أكثر تحديدًا_أشياء لا يمكنها أن تصمد أمام التفحص. الشعور بتوحد الذات هو الشعور العاطفي الذي يتزامن مع إدراكٍ واستيعاب فكريّ مثل هذا. إنه الشعور والإدراك بأنه مهما كانت الدرجة التي تبدو بها ظاهرة معينة كأنها لا تُصدَّق في الواقع الموضوعي فإن هناك دائمًا سبيلًا عقلانيًّا منطقيًّا لفهمها والحصول على إدراك فكري لكيفية حدوثها. إنه لمُغرٍ ومخادع أن نعتقد في الشعور بتجمع ووحدة الذات على أنه إشارة العقل إلى أنه قد وصل إلى المحطة النهائية في رحلته، لكن ذلك سيكون خطأً. الشعور بتوحد الذات هو خطوة مكافئة على طريق توازن جديد خاص بالتفكير القائم على العقلانية المتسق، لكنه ليس حفل تخرج [النهاية]. يُعدي [يلوِّث] الاعتقاد الديني هوية وتفكير الشخص بالكثير من الأفكار والافتراضات، والبعض منها سينكشف فقط مع الاستبطان [تفحص المرء لأفكاره] والنقاش والممارسة، وإن الشعور باجتماع الذات سيحدث قبل تعقُّب العقل لكل هذه العادات القديمة واستئصالها. مع ذلك، فإن الشعور بتوحد الذات يُظهِر تقدمًا كبيرًا للفرد بعيدًا عن الاعتقاد الديني، والمرء لن يحتاج للتخمين عندما يشعر به. لاحظ أن "اجتماع الذات" هو تسميتي لهذا الشعور، وهو ما يعطي المعنى باعتبار تذكري لذلك الشعور. لقد انشغلت بتسميته لأني وجدت أنه خبرة عالمية على نحو مدهش للناس الذين تركوا الاعتقاد الديني. إن كونها لم تُسَمًّ من قبلُ على حد علمي يدل فقط على التأثير الخانق [الكابح] للأديان والتابو الخاص بها في المجتمعات. بفضل نفس التأثير، فإن التأثيرات العاطفية المتبقية لترك الاعتقاد الديني والخروج منه سوف نمر بها على نحو ليس أقل فائدة وإثابة كذلك لو واجهناها على نحوٍ سليم. الأزمة الوجودية الأزمة الوجودية هي شعورٌ بفقدان المعني في حياة المرء بدون الاعتقاد في وجود إلهٍ. بلا ريب، فهذه هي المسألة ذات الأهمية القصوى لمن يفكرون في ترك الاعتقاد الديني. فرغم كل شيء، تعلِّم الأديان الناس بأن العالم وحيواتهم لا تساوي شيئًا مقارنةً بكائناتها الأسطورية، لذا يصير المؤمنون الدينيون معتادين على انخفاض تقديرهم لخبراتهم الفيزيائية الجسدية. بدلًا من منظورٍ طبيعيٍّ للعالم، فإن الأديان تصطنع معنى لأتباعها. رغم أن ذلك المعنى عجيب وعديم المنطق [تافه] حقًّا، فإنه هدف على الأقل. ولو كان الناس يائسين بدرجة كافية فسيقبلون أي غرضٍ لحيواتهم، مهما كان مدى كونه مرعبًا أو اعتباطيًّا على نحوٍ موضوعيّ. افتضاح ذلك المعنى يترك الشخصَ مع مشاعر الخسارة وانعدام المعنى وحتى الكآبة التامّة. إنه طبيعيٌّ كذلك الشعور بنوبات من الذعر عند التفكير في الأزمة الوجودية. إنه شعور مقلق وعازل، بينما سيمر المرء خلال هذه الفترة من الاضطراب، فيجب أن يتوقعه. كذلك فإن انهيار الاعتقاد الديني يؤدي على الأرجح إلى تقدير عميق للوقت الذي يملكه المرء في عمره، وتوقع إهدار كم أكثر منه على نحو غير محدود يمكن أن يسبب ضغطًا في حد ذاته. بغض النظر، فإنه لهامٌّ إدراك زوبعة العاطف الناتجة عن الأزمة الوجودية. إن التعامل مع المشاعر المشوشة والمزعجة يحتاج إلى تمارين لآليات التحمل العاطفي، والتي كانت قد ضمرت وتوقف نموها في ظل اتباع الدين. في الواقع، كثير من المؤمنين الدينيين الذين تحدثت معهم قالوا أشياء مثل: "أعتقد أني على الأرجح ملحدٌ، لكني فقط لا أقدر أن أعيش بدون معنى". من منظور أديانهم، فإن ما يشعر به هؤلاء الناس بصدد الخروج من الاعتقاد الديني يبدو مثل وادٍ سحيقٍ فاغِرٍ فاه في الهوية حسب خيالاتهم. إنه يبدو هائلًا وغير ممكن التحكم به أو التعامل معه. إنه يجعل المرء يرغب في الابتعاد عنه، والكثير من الناس يفعلون هذا بالضبط. بالنسبة للآن، فإن الأزمة الوجودية ستُناقَش لشرح ظهورها الحتميّ عندما يترك المرء الاعتقاد الديني. وفي الفصل 13 سأقدم حل مشكلة الأزمة الوجودية عندما أناقش مكان المرء فيما يتعلق بالنفس. عندما يكون المرء متدينًا، فإن يمكنه بسهولة تجاهل كل التعاسة والتكديرات في حياته بترك حلها لإلهه من خلال الصلاة أو الاشتراك في كنيسة [أو مسجد أو معبد]. أما مع فقدان هذه الخيارات، فإن المرء يُترَك مع إدراك ناقص للنمو لكيفية السيطرة على مشاعره والتعامل معها. وفي آخر الأمر تتطور موارد المرء العاطفية، وسأستعرض في آخر هذا الفصل تقنيات وموارد هامة لتيسير ذلك التطور. وكنظرة مختطفة على الحل المستعرَض في الفصل 13، فإن الأزمة الوجودية عَرَضٌ عاطفيّ لخطإ إدراكيّ، ورغم أن المرء سيحتاج إلى استعمال الموارد العاطفية للتعامل مع المسألة، فإن فكر المرء لا يجب إخراجه من الكفاح. في الواقع، فإن العبور الآمن من الأزمة الوجودية يتحقق بعمل كلٍّ من الفكر والعواطف في تعاون. في تجربتي، كانت الأزمة الوجودية مشكلة استنزفت وقتي ومصادري [قدراتي] العاطفية حينما عملت على تحرير نفسي من الاعتقاد الديني. عندما أتذكر مع أحد أصدقائي المشاعر التي جرت في كيان كل منا حينما تصارعنا مع قرارنا بنبذ الاعتقاد الديني، فإننا نتذكر كلانا مدًّا وجزرًا مميزًا [تغير في الحال المزاجية والمشاعر والأحكام_م]. في بعض الأيام، كنا نشعر أننا سئمنا وأتخمنا تمامًا من الدين وأننا مقتنعان بأنه ليس فقط خطأ على نحوٍ واقعيٍّ بل وسامٌّ ضارٌّ [كذلك]. وفي أيام أخرى، كنا نشعر باستسلامنا أو يأسنا لعدم قدرتنا على تسكين قلقنا، حيث خلطنا بغير إدراكٍ المنظور القائم على العقلانية مع وجهات نظر دينية كامنة مستترة. باستعادة الذكريات، فقد كنا نركض على نحوٍ متكرر بطيش إلى نفس الطريق الفكريّ المسدود ومن ثم كنا نصير مثبطي الهمة لفشلنا في إيجاد سبيل فيه. الكثير من الناس ممن لن يمكنهم التعايش مع الاعتقاد الديني في حيواتهم سينتهي بهم الحال بفعل ذلك لأنهم فقدوا الأمل في أن يقدروا على سد الفجوة في ذلك الانقسام وتجسيرها، وهو أمر سينتهي مع الجزء الثاني من هذا الكتاب. الشعور بالتشوش والارتباك الكثير قد رُبُّوُا على الدين قبل أن يمكنهم أن يوافقوا عن علمٍ وقصدٍ على اتباعه والمشاركة فيه. محمولين إلى داخل المؤسسات الدينية بينما لا يزالون رضعًا أو أطفالًا صغارًا، فقد تلقوا تأكيدات وتعزيزات بأن افتراضات الاعتقاد الديني والرسائل التي يقدمها الدين ليست فقط صحيحة، بل وقواعد موثوقة يُعتمَد عليها للمعرفة، ويصيرون مقتنعين بأن هناك إلهًا يوجد. عندما يتم نبذ ذلك الفهم الأساسي للوجود، فإنه يميل إلى ترك الشخص متحيرًا. أن يتنحى هذا الجزء الأساسي من المعرفة أمرٌ أكثر من محبِط [للبعض وليس الكل حتمًا_م]، إنه يبدو مستحيلًا تمامًا. الكثير من الخبرات السابقة التي كانت تُعزَى سابقًا إلى قوة إلهٍ تتطلب الآن تفسيرات جديدة، وانهارت أخرى حطامًا تمامًا كأوهام وسراب. كمجمل، فإن هذه الخبرات تسبب شعورًا بالتشوش. عند إدراك أن الكائنات التي قد عرفها المرء قديمًا وشعر بأنها عرفته كذلك لم يكن لها وجود قط، يشعر الشخص بالضياع. بخلاف الأزمة الوجودية، فإن هذا الشعور ليس شعورًا بانعدام المعنى، بل بالأحرى بالتحير في تفسير كيف يمكن أن المرء كان مخطئًا للغاية بصدد شيء هامٍّ للغاية. التحير هو نتيجة الحساب المذهل للوقت والعواطف والجهود المهدورة لاستثمارها في نظامِ اعتقادٍ اكتُشِف الآن أنه عديم الجدوى. في المراحل الأولى من ترك الاعتقاد الديني، لا يميل المرء إلى عمل تقييم حاكم لكيفية شعوره بصدد كل الوقت والجهد الذي لا يمكنه تعويضه. إن تركيزه يكون على النفس، وعلى وجه الخصوص إخفاق فكر المرء وذكائه في إدراك ما اتضح أنه ثغرة أمنية كارثية مفاجئة. إن انهيار نظام اعتقاد متكامل مثل دين المرء يؤدي إلى قيامه بعمل جرد لأفكاره وعملياته الداخلية، أي أن العقل حينئذٍ يُنبَّه إلى أن خطأه يدعو إلى تقييم لاستنتاجات أخرى. بالتأكيد، فإن المرء غير قادر على القيام بذلك المستوى من التصنيف العقلي وسحب الملفات على نحوٍ واعٍ وقصديٍّ، لكنه يصبح واعيًا بحجم المهمة المتناوَلة من خلال التوتر والتشوش الذي يطلقه انعدام أمن فكره. الخبر الجيد هو أنه فقط المعرفة والافتراضات التي يستنتج العقل أنها تعود إلى افتراضات الاعتقاد الديني وأساطيره المرافقة هي التي تخضع إلى فحصه التشخيصي. أما أي وجهات نظر تفتقد صلة واضحة بالدين لن تحمل نفس وصمة الاشتباه والريبة، أي أن العقل لا يدخل فجأة في حالة جنونية هوسية من الشك في الذات والاضطراب في كل كيانه. عوضًا عن ذلك بالأحرى، فإنه يعزل المواضيع والآراء التي تحمل صلة واضحة بالاعتقاد الديني ويعمل على نحو طبيعي في كل النواحي الأخرى. إن مشكلة تظهر على المدى البعيد من حقيقة أن المرء قد يعتقد بآراء بعيدة عن الاعتقاد الديني بدرجات متفاوتة، والتي رغم ذلك تقوم على [افتراض] صحة تلك الأيديولوجي الدينية، لكنها لن يُتعرَف عليها فوريًّا كذات صلة. يستطيع المرء فقط التعامل مع هذه المسائل حالما تظهر، لكنه كثيرًا ما يكون صادمًا إدراك كم الآراء والقرارات التي يبنيها المرء على الاعتقاد الديني. في شحذ الهمة والتقوّي على الجوانب السلبية لترك الاعتقاد الديني، فإنه لمهمٌّ الاعتماد على الأمور الإيجابية في العملية كذلك. بالنسبة لمسألة التحير والتشوش، فالخبر الجيد هو أن عقل المرء يتعامل مع المسألة طالما أدرك كيف كان مخطئًا، والخبر الأفضل هو أنه يمضي في تلك المهمة بأسلوب قصدي مدروس ومنهجي. بنبذ مجموعة من الافتراضات التي كان العقل مجبَرًا على استهلاك طاقة للاحتفاظ بها، فإن المرء سيشعر بإحساس بالراحة والبساطة في العالم. فبدون هؤلاء الافتراضات، يحرر العقل موارد وطاقات كبيرة بعدم احتياجه بعد الآن للتوفيق بين وجهات نظر ومناظير متناقضة عن الحياة والواقع الموضوعي والمعرفة، بطريقة اللاعب بقذف والتقاط الكرات المتعددة. بعبارة أخرى، فإن المرء يزيل عائقًا هائلًا عن الطريقة الطبيعية لعمل العقل عندما يترك الاعتقاد الديني، وباتساقه الموجَد حديثًا في الافتراضات التي يستعملها لتحليل المعلومات، فإن هذا سيحسِّن فقط اتخاذه للقرارات حيث أنه يتعلم التعامل مع المعلومات ومعالجتها بمعايير التحليل الدقيقة الصارمة. الندم بالندم، فإن المرء يركز بطريقة غير بناءة ولا مفيدة على الماضي، وكنتيجة فإن خطأ المرءِ المُدرَك يستمر في سرقة وقت من الحاضر. الوقت المهدور في الاعتقاد الديني يسبب ألمًا أكثر بضعفين مع الندم لأن عدم جدواه الفكرية واضحة للغاية من منظور خارجي، ولكن كذلك لأن تقدير المرء للوقت يزداد على نحو كبير مع ترك الاعتقاد الديني. وبالإضافة إلى الندم العامّ، قد تظهر أيضًا عواطف فيما يتعلق بأفعال معينة كان المرء قديمًا يقوم بها أو لا يقوم بها على أساس ولمجرد تعاليم دينه السابق فقط. وعلى نحو واضح، فإن مستوى الاستثمار الماضي المُدرَك في دينه السابق سيرتبط طرديًّا مباشرة مع مستوى الندم الذي يمر به عند تركه. بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه، فإن الندم شعورٌ من المؤكد أن المرء سيواجهه عندما يحرر نفسه من الاعتقاد الديني. وبخلاف الأزمة الوجودية، فلا يوجد حل فكري بارع للندم، سيحتاج المرء على نحو رئيسي لمكافحته بعواطفه لكي يهزمه، وهو أمر صعب. لا يوجد سبيل إلى العودة إلى الماضي لإعادة القيام بالأشياء التي قد يريد المرء عملها على نحو مختلف، ولا يوجد شيء سيقدم أي تعويض عن الوقت المهدر المستثمر في دين المرء السابق. كل ما يمكن عمله هو التعلم من أخطاء الماضي تلك للحماية من تكرارها. فبعد كل شيء، فالماضي لن يعود أبدًا مجددًا ولن يتكرر بنفس صورته تمامًا، لكن أنماطًا منه ستتكرر في الحاضر والمستقبل. الجهد العاطفي الذي ينفقه المرء في مواجهة وفحص الندم يُرجَّح أن يكون شاقًّا حيث يمكن أن يسبب كآبة كبيرة، لكن هناك أشياء ذوات قيمة يمكن استنقاذها منه رغم ذلك. بينما يتعامل المرء مع اندفاع الشعور العنيف بالندم [على إهدار الوقت والجهد في الدين] باستعمال التقنيات والمنظور المشار إليه لاحقًا في هذا الفصل، فإنه لهامٌّ أن يتذكر أن يتوقف ويشعر بالراحة أحيانًا لكونه على الأقل قد حل اللغز واكتشف الأمر والخدعة. الكثير من الناس يمضون كامل حيواتهم بدون أن يفهموا أبدًا طبيعة الاعتقاد الديني أو الانشغال بمواجهته قصديًّا، والوضوح الذي يكتسبه المرء بتخليص نفسه يجب أن يُستعمَل كغرفة غوصٍ يقوم فيها بالصعود لتنفس الهواء بينما يسبر غور أعماق الندم. إن الإحساس بالندم يحمل معلومات هامة للشخص، لكن الألم العاطفي المحيط به سيتطلب جهودًا للتخلص منه. يتبع في سبيل العقلانية والتنوير |
|
|
|
رقم الموضوع : [5] |
|
عضو عامل
![]() |
العزيز لؤي، لقد مررت لكي ألقي عليك التحيّة أيّها الكاتب الغزير و المعطاء.
مشاغلي و إن حالت بيني و بين قراءة آخر كتاباتك إلّا أنّها لن تحول بيني و بين إبداء الإعجاب بإصرارك و مثابرتك. هذه تحيّة صديق محبّ و مشجّع! استمرّ! |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [6] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
أخي الحبيب منشق، طبعا سنستمر، لأجل التضحيات الكثيرة التي قمها الكثيرون منا لأجل الحرية والعقل، إذا خسرنا العالم وكسبنا أنفسنا فهو نعم المكسب
عواطف متركزة على الآخرين الكثير من العواطف المتركزة على الداخل الناتجة عن نبذ الاعتقاد الديني هي كأمواج تصدم سفينة شعور المرء بالنفس، لكن عملية إزالة السم تسبّب أيضًا عواطف متوجهة خارجيًّا تؤدي إلى إعادة تفحص المرء لعلاقات معينة. هذه العواطف المتعلقة بالعلاقة بين الأشخاص نتيجة لقيام العقل بفحص تشخيصي وبحث عن السبب الذي جعله يقبل على نحو خاطئ الاعتقاد الديني في المقام الأول. يعطي العقل الإشارة لبدء بحثه عن حل المشاكل المؤدية إلى التحير والإرباك المزعج بسبب كون افتراضات وعقائد أساسية نُبِذَتْ. جزء آخر من العملية يتضمن تحري العقل عن الكيفية التي قام بها بالضبط بأخطاء في تقييم جودة المعلومات التي وثق بها على نحو كافٍ ليدمجها في هويته. بافتراض أن الشخص قد رُبِيّ على دينٍ، فإن المتهمين الأكثر احتمالًا بالتسبب في فشل العقل في هذا الخصوص هم الناس الذين قد وضع ثقته فيهم لتوصيل معلومات صحيحة له عن العالم بحيث سمح العقل بإهمال طلبه المعتاد للأدلة على التأكيدات على هذا الأساس. الشعور بالخيانة يعتمد مستوى ودرجة الشعور بالخيانة التي سيشعر بها المرء عند نبذ الاعتقاد الديني على مستوى اللوم الذي يقرره ويلقيه المرء على شخص معين في تلقينه الدينَ. بعض الناس في حياة المرء قد يكونون أبرياء وغير ملومين في زرع افتراضات الاعتقاد الديني [في ذهن الشخص] ولا ضمان صحتها، بينما ربما كان آخرون مساعدين في تلك العملية. إذا كان شخصٌ قد شجَّع قصديًّا آخرَ على قبول دين [وأفكاره]، فإن بعض مشاعر الخيانة من جانب ذلك الشخص محتملة. إن استنتج المرء أكثر من ذلك بأن ذلك الشخص قد شجعه قصديًّا على الاقتناع بالدين بدون اعتقاده هو نفسه به أو لاكتساب أفضلية ساخرة، فإن الشعور بالخيانة قد يتنامى إلى إحساس بالإساءة بسبب الاستغلال المُدرَك. على هذا الأساس، فإنه ليس غير شائع لتاركي الاعتقاد الديني أن يمروا بفترة من الغضب والشعور بالاستياء اتجاه رجال الدين الخاصين بدينه السابق بسبب تشجيعهم له على ممارسة الدين، وترويج الاعتقاد الديني، وإن المكسب الشخصي من قبول المرء لكليهما واضح. باكتساب المرء لتقدير جديد لما يعنيه أن يكون حيًّا الآن لأن افتراضات الاعتقاد الديني قد نُبِذَت، فيمكن أن يشعر المرء بأنه قد سُرِق منه وقت ثمين من قِبَلِ من يحكم بأنهم ينبغي أنهم يدركون على نحو معقول [أو بعضهم] أو ربما بالفعل يعرفون أن الاعتقاد الديني قد بُنِيَت أسسه على قواعد وأسس باطلة. إنه طبيعيٌّ أن يشعر المرء بالازدارء اتجاه الناس الذين قد شجعوه على أن يكون متدينًا اعتمادًا وبناءً على قصدهم المُدرَك [يعني مع علمهم بزيف الدين كحال بعض أمكر القسس والشيوخ المسلمين وسائر رجال الدين_م]، لكن القرار عما إذا سيقطع المرء علاقاته مع ناسٍ على أساس سلوكياتهم السابقة ليس شيئًا يُقَرَّر في لحظة غضبٍ. إن الشعور بإساءة الخيانة والاستغلال من قد اكتسبوا ذات يوم أشد الثقة يتسبب في عاصفة عاطفية ستهيمن على وتشوش قدرة المرء على التفكير بصفاء ووضوح. سيأتي وقتٌ لإعادة تقييم العلاقات وتقرير أيها يتم إنهاؤه بناءً على تقريرات المرء لعدم وقوع ملامة أو وجود نية قصدية لدى الأشخاص، بعد إعادة الصنع الناجح للهوية وتصفية العناصر الأكثر ضررًا في مخزون المرء العاطفي. لو صادف المرء مشاعر الكره الحقيقي أثناء تقييمه للشعور بالخيانة، فإن ضروريٌّ أن يواجهها فوريًّا, بعدما يدرك المرء بأنه قد تمت خيانته، قد يظهر الكره بسبب اشمئزاز طبيعي من البشر بسبب أفعالهم التي استغلت ثقته بطرق شريرة أو قاسية. رغم ذلك، فإن الكره آكلٌ ومؤذٍ للشخص الذي يستمر فيه، وإن وجوده في منظمة عواطف الشخص يشكل حالة طوارئ تبيح إيقاف كل الجهد العاطفي الآخر حتى تُصحَّح. عدم الثقة (الارتياب) بناءً على كم الشعور بالخيانة التي يشعر بها المرءُ ممن قد وضع قديمًا ثقته الاعتيادية الروتينية فيهم، فقد تحدث مشاعر الارتياب الشديد في الآخرين، خاصةً الشخصيات السلطوية. وبخلاف المشاعر الأخرى المناقشة سابقًا، فإن مستوى أساسي ذا أحد أدنى من الارتياب في الآخرين عقلاني وصحي في حياة الشخص، إن تجلى على نحو عقلانيّ وقام على مخاوف ودواعي قلق معقولة. رغم ذلك، فإن الارتياب الذي سيمر به الشخص خلال تلك المرحلة الانتقالية يُرجَّح أن يتمادى كثيرًا ويقارب كره الجنس البشري. فإن شخصًا ما في خضم عملية إزالة افتراضات الاعتقاد الديني من هويته سيميل إلى المبالغة في تقدير عدد الناس المتورطين في الأمر بخصوص ما يدركه على أنه خداعه واستغفاله الممنهَج، وهي مبالغة طبيعية في عملية التصحيح. من خلال الافتراض المركزي الأساسي للإيمان، يشجَّع الاعتقاد الديني على نحوٍ غير مبرر وغير قابل للدفاع عنه على الثقة الزائفة في محترفيه ونظرته الكونية. عندما ينبذه شخصٌ كباطل، فإن المشاعر الناتجة يمكن أن تسمم كامل البئر [تفسد كامل الأمر] فيما يتعلق برغبة الشخص في وضع الثقة في أي أحد عدا الذين يعرفهم بحميمية وعلى نحوٍ وثيق. إنه لمهمٌّ أن نتذكر أن الاعتقاد الديني يظهر بطلانه بوضوح دائمًا حالما يواجه المرء بتحدٍّ منظّم ويترك افتراضاته. رغم ذلك، فإن الاعتقاد الديني يبدو مختلفًا جدًّا من المنظور الداخليّ، وقد يتمادى مزاج المرء إلى حد بعيد في عدم الثقة بإدراك المرء أن معظم المؤمنين الدينيين هم على الأرجح صادقون ويعتقدون بإخلاصٍ بأن سلوكياتهم سليمة. تصور بندولًا معلقًا إلى سقف حجرة. بدون تدخل، فإنه سيبقى معلقًا إلى الأسفل ويظل ثابتًا. تصور بالإضافة إلى ذلك أن البندول مربوط إلى أقصى جانب منحنى حركته بحيث لا يمكنه التحرك. عند قطع الحبل الذي يثبِّت البندول في مكانه فإنه سيندفع إلى أقصى الطرف الآخر ويتأرجح ذهابًا وإيابًا، ويفقد ببطء حركته المتوافقة حتى يتوقف آخر الأمر. إن ارتياب المرء في هذا الوضع يتبع نمطًا مشابهًا. بسبب كون الإيمان عنصرًا أساسيًّا للاعتقاد الديني، فإن بندول ثقة الشخص يكون مربوطًا على نحوٍ زائف مصطنَع بأقصى درجاته من السذاجة وسهولة التصديق فيما يتعلق بدينه. عندما يهجر شخصٌ الاعتقاد الديني، فإن ثقته تنقلب إلى عدم ثقة وارتياب تامٍّ تقريبًا، حتى يصل آخر الأمر إلى النقطة حيث ينتهي العزم [القوة الدافعة] الخاصة بانهيار الاعتقاد الديني. عند تلك اللحظة، يكون المرء قد تحرر لاتخاذ قرارات عن استحاق الناس للثقة على أساس شخصياتهم والخبرات السابقة وسمعتهم العامة، بدون اضطراب انهيار الاعتقاد الديني الذي كان لا يزال يثير الاضطراب في داخله. عمومًا، فإن هناك مشاعر داخلية ستنتج عن ترك الاعتقاد الديني، وليس معنى ذلك أن كل شخص سيلاقيها كلها بلا ريب، بل بالأحرى أنها تمثل أعلى مستويات ردود الفعل العاطفية في النفس. إن ما سيشعر ويمر به أي شخص معيَّن سيكون فريدًا وفقًا لظروفه، والتزامه وتكرسه الديني، والأوضاع الاجتماعية، والسن، والخلفية الأسرية...إلخ. بالتالي، فإن النصائح العمومية أعلاه لا يمكن تخصيصها للتنبؤ بالخبرات المحدَّدة لشخصٍ. عوضًا عن ذلك، فإنها تهدف إلى دعم وشحذ قوى الشخص لمواجهة أقصى صدمة محتملة. لو أن امرئً مر بكل بكل الأنماط السلبية للمشاعر بدرجة عالية، فسيكون من المضمون التفكير في أن ذلك الفرد كان متكرِّسًا بدرجة عالية كبيرة في دينه، وأقنع آخرين بالمشاركة على الأرجح، ويرجح أنه أعطى الدين نفسَه كمًّا كبيرًا من وقته وماله. بعبارة أخرى، فإن مستوى استثمار وتكرس المرء المالي والاجتماعي المُدْرَك سيتناسب طرديًّا مباشرةً مع عدد وقوة العواطف السلبية التي سيواجهها عند تركه. لكونه اكتشافًا غير مفاجئ، فإن المرء ينبغي أن يتعاطف مع المتدينين ذوي الحماس، في ضوء هذا المفهوم. إلى درجة أنه عندما يكون لديهم أي تلميح لخطإ الاعتقاد الديني، فإنهم يشعرون كذلك بأن التحول العاطفيّ الذي ينتظرهم لو اختاروا مقاومته سيكون قاسيًا على نحوٍ استثنائيٍّ. التأثيرات الخارجية على الشخص ناهيك عن جهد الشخص الاستبطاني للعمل على تحقيق توازنه العاطفي، فإن خروجه من الاعتقاد الديني قد يكون له نتائج اجتماعية قد تسبب خلافًا إضافيًّا، خاصةً في محيط أسرة ومجتمع الشخص القريب. إن قرر المرء التوقف عن مشاركة الآخرين [في حضورهم] بيت [مُتعبَّدَ] الصلاة المعتاد أو الانسحاب من صلوات الأسرة، فإنه لن يستطيع الامتناع عن لفت نظر الآخرين إلى تغيره الداخليّ، وإن أسرته ومجتمعه المحلي هم الأشخاص الذين في أفضل موضعٍ لكلٍّ من إدراك تلك الرسالة وتكليف الشخص الثمن بسبب توصيله إياها. بالنسبة للبعض، فهذه احتمالية مرعبة. إن مستوى القلق والخوف بصدد إفشاء القرار بعدم الانخراط في الاعتقاد الديني بعد الآن سيتناسب طرديًّا مباشرة مع مدى تحمس أسرة ومجتمع المرء بخصوص دينهم، خاصةً لو كانت هذه المجموعات لها درجة عالية من التجانس فيما يتعلق بانتماآتهم. [في مجتمعات ذات أغلبيات إلحادية كالنمسا والسويد والنرويج والدنمارك وإسكتلندا وهونج كونج والكوريتين واليابان يولد الشخص في أسرة ملحدة من الأول أو في أسر دينية غير متدينة على الأغلب بطبيعة المجتمع فلا تكون هناك مشكلة، وفي مجتمعات أخرى ذات نسب إلحادية كبيرة ما بين 25-45% من الملحدين كفرانس وبريطانيا وجرمانيا [ألمانيا] وأستراليا وغيرها لا تكون مشكلة كبيرة في أغلب الحالات، لكن المشكلة ستظهر على نحو رهيب في الأوساط الدينية المتشددة كالدول الإسلامية والأوساط المسيحية الشرقية، وفي الغرب وربما إسرائيل كاستثناء في بعض مجتمعات المتشددين الحريديم من اليهود والمورمونيين والمسلمين، قد تصل الخطورة إلى القتل أو فقدان عمل ما أو السجن أو القطيعة الاجتماعية والخسائر الاجتماعية الفادحة ومقاطعة المجتمع التامة للشخص كأنه مجذوم، وفي حالة أمركا لا يكون الأمر بهذه الخطورة لكن له تبعات اجتماعية كبيرة فقط، كلما كان المجتمع متنوعًا وغير متدين في نفس الوقت وبدون تعصب كحال مجتمع استراليا مثلًا فيغلب ألا توجد مشكلة، أما في تركيبة متجانسة كالشعب المصري ذي التركيبة السنية الإسلامية-المسيحية الأرثوذكسية المتسم بالأصولية وانعدام الفكر الحر تكون التبعات شديدة للغاية غالبًا وفادحة وأحيانًا ذات درجات متنوعة من الخطورة أو القطيعة الاجتماعية، وفي حال مجتمعات طائفية تتسم بالتعصب كالعراق وسوريا ولبنان فالنتائج لا تقل فداحة رغم وجود تنوع لكنه مع انغلاق وتعصب_المترجم] لو أن المرء يعيش في قرية أو بلدة صغيرة حيث ينتمي [أو يذهب] كل شخص إلى نفس بيت الصلاة [المتعبَّد، الكنيسة، المسجد، المعبد]، فإن إمكانية انسحابه من الدين مروعة ومثبطة للهمة. لو أن الشخص فرد في أسرة كثيرًا ما تتكلم عن دينها وبتعابير متحمسة متوهجة، فإن تهديد علاقة انتماء المرء لأكثر المجموعات حميمية قد يكون خانقًا [مُسكِتًا]. أما إن كان المرء يعيش في مدينة كبيرة حيث هناك تنوع واسع من الانتماآت الدينية أو أن أسرته تقدم فقط صلوات شفوية شكلية عرَضية من آنٍ إلى آخر للاعتقاد الديني بأي نحوٍ، فإن الضغط الخارجي سيكون أقل أهمية بكثير. في الجزء الثالث، سنفحص بعض الجوانب المعيَّنة لتفاعلات المجموعة أو المجموعات لكي نتدارس كيفية عمل المجموعات على ممارسة ضغط مستتر على الأفراد لكي يبدل رأيه وسلوكه في هذا الصدد. بغض النظر عن الموقف الذي سيجد فيه المرء نفسه من جهة أسرته ومجتمعه فيما يتعلق بقضية رفضه للاعتقاد الديني، فإن النبذ الاجتماعي ودرجات أقل أخرى من الإدانة الاجتماعية تمثل مشاكل خطرة للأفراد، خاصة لو أنه طفلٌ أو شابٌّ راشد. لكي تبقى مستمرة، فإن الأديان تحتاج إلى ربط الناس سويًّا في مجموعات لكي تصطنع وضعًا حيث ستستقبل افتراضات الاعتقاد الديني ومعتقداتها تقوية وتعزيزًا تفتقده في الحياة العملية. فبدون تعزيز منتظم [لزعم] صحة هذه الاعتقادات من قِبَلِ رجل دينٍ وكذلك المجتمع ككل، فإنها ستميل إلى التعرض للهجر والإهمال، ولذلك فإنه ليس غير منطقي أن نتوقع تعاملًا قاسيًا فظًّا مع الأعضاء الهاجرين الذين اختاروا البقاء في المجتمع [مشكلة في المجتمعات المتدين فقط كما أشرت-المترجم]. فبأخذ كل شيء بعين الاعتبار، فإن هجرهم الناجح والخالي من المشاكل بسلامٍ من الدين سيشكِّل تهديدًا ضمنيًّا لوحدة المجموعة. اعتبار المرء معزولًا، إن ضغط مثل هذا الموقف على الفرد مُشْكِل، لكن عندما يؤخذ في الاعتبار بتزامنه مع الضغوط العاطفية المشار إليها سابقًا التي سيحتاج المرء لمكافحتها كنتيجة للعملية الجارية في داخله والخاصة به، فإن الموقف سيصير جديًّا حقًّا. في هذا الموقف، فإن النبذ الاجتماعي يفاقم ويزيد كل الحواجز العاطفية الداخلية للشخص، وقصديًّا أو غير ذلك فهذا يحقق هدف زيادة صعوبتها وعرقلتها بفاعلية قاسية. بالتخريب المحتمل للهياكل الداعمة التأييدية الأشرية والمجتمعية، فإن الضغط على الفرد ليطابق آراءَه مع تلم المجموعة يصل إلى ذروته. وبما أن الحاجة أم الاختراع، فإنه لا يُتوقَّع أن يتحمل الأشخاص العاديون بهذا القدر. في موقف حيث يعاني الشخص اضطرابًا داخليًّا خاصًّا به مع إزالة هياكل تأييده، فإن الأمر يحتاج من الشخص عزيمة استثنائية ليكون قادرًا على إيجاد الإرادة للاستمرار في قراره بالخروج من الدين، وقد يكون قرارًا مدروسًا جيدًا رغم ذلك. باعتبار ما هو على المحك والاحتمالية العالية لعدم مقدرة الشخص على ترك أسرته أو مجتمعه ببساطة، فإن الشخص يحتاج إلى القيام بقرار شخصي من تقديره. ما هي التكاليف والفوائد لخضوعه للاقتراحات بأن يتدين لكي يخفف بعض الضغط الاجتماعي المستعمَل [ضده]؟ هل يشعر بالحاجة إلى مشاركة الناس المحيطين به فيما يدرك أنه خطأ بالمشاركة في وممارسة الاعتقاد الديني؟ هل يحتاج إلى قبول أسرته ومجتمعه لكي يكون سعيدًا؟ ستتغير إجابات المرء على هذه الأسئلة مع الوقت، ربما بشدة، وإن محاولة الإجابة عليها أثناء مضي المرء في تحوله العاطفي سيكون تعجُّلًا ومجازفة غير ضرورية. هناك الكثير على المحك مما لا يسمح باتخاذ قرار متسرع بدون القيام بتقييم صادق لماهية نوع المخاطرة التي يقبلها المرء بمخالفته وخرقه للاعتقاد الديني علنًا. فبالنظر إلى نقاش الشعور بالخيانة في المقطع السابق، فقد حكمنا بالحذر منه لتجنب إنهاء العلاقات مع الناس الذين يشعر المرء بأنه خين من قِبَلِهم بسبب مناصرتهم للاعتقاد الديني بينما لا يزال المرء في حالة اضطراب عاطفي. في هذا المقطع (الفقرة)، فإننا نوسع تلك النصيحة إلى التوصية [كذلك] بأن يكون المرء حذرًا في تقييم احتمالية إنهاء الآخرين لعلاقاتهم به على أساس تركه ما كان قديمًا دينَهم المشترَك. أيًّا ما كان ما سيقرر المرء فعله بخصوص إخبار الناس في أسرته ومجتمعه بصدد فقدانه الاعتقادَ الديني، فإنه ينبغي أن يعرف أنه يقوم بمجازفة في كلا الاختيارين. فإن يختَرْ إخبار الناس يجازفْ بالتعرض لنبذ اجتماعي وعقوبات أخرى من جماعاته الاجتماعية ذات الصلة به. أما إن يقررْ عدم إخبار أي أحد يجازفْ بتعرضه لاضطراب داخلي ذاتي بسبب المشاركة في أنشطة يجدها سخيفة منافية للعقل إن لم تكن ضارّة تمامًا بحياة الشخص. كل ما يحتاجه المرء للتقرير قبل أن يقوم بقراره هو [تحديد] أين تقع أولوياته. حتى اليوم، ما زلت لم أشغل نفسي بإخبار بعض الناس في أسرتي أني ملحدٌ ببساطة لأن ذلك ليس ذا علاقة بعلاقتنا، وحتى لو كان له علاقة، فإن تخميني هو أنهم سيفكرون في أنفسهم "ومن يبالي؟!"، وشعرت مع آخرين بآراء الغير دينية على الأرجح وافتتحت الموضوع مع الوقت وبطريقتي. معظمهم اتفقوا معي، وبعضهم كانوا غير مبالين، وقليلون لم يحبوا الأمر. على نحو واضح، فإن بإيراد وإثارة موضوع الدين بأسلوبٍ غير تقديسيّ ولا محترِم، فإن المرء يخرق تابو اجتماعي، مما يمكن أن يكون له نتائج لا يمكن التنبؤ بها. للأسف، فإن إعطاء نصائح فردية مخصصة فيما يتعلق بالتعامل السليم مع هذه الأمور غير ممكن بدون الحصول أولًا على معلومات شخصية عن حياة الشخص وقواه الداخلية وموارده [قدرته على التصرف] وأولوياته، وينبغي أن يميل المرء إلى جانب السلامة لو أن عدم استقرار كبير في حياته يبدو وشيكًا. التقنيات والقوى الداخلية العاطفية بعض تلك العواطف المناقَشة قادرة على الهيمنة على الشخص لفترات طويلة من الزمن، والقراءة عنها هنا وتوقعها هو خط الدفاع الأول للمرء. رغم ذلك، فإن التوقع جيد فقط في موازنة الصدمة الأولية للنظام، وسيحتاج الأمر إلى مشاركة الجهد العاطفي على نحو سليم في العملية. وحيث أن المرء لم يعد يمكنه أن يستعمل من بعدُ الاعتقادَ الديني وأساطيره المرافقة له كمنظومة دعمٍ، فإنه يجب أن ينشئ تقنيات بديلة للإحلال محله. عمومًا، فإن فترة التعافي تستلزم تطويرًا وتمرينًا لآليات التحمل التي قد ضمرت وتوقف نموها، والتي قد تعرضت للإهمال والهجر بسبب اعتقاد المرء السابق بإلهٍ كان يعتبر كلية قدرته وخيريته مسلَّمة وبديهية. على نحو واضح، فلن يحتاج المرء لحشد مستوى التحمل الذي كان سيحتاجه في حالٍ أخرى [عدم إيمانه] لأجل حادث مزلزل للنفس، عندما يعتقد بأن مصالحه وأسرته وأحباءه يحميهم كائن مثل هذا. أما بدون الدين، فتحتاج عواطف المرء أن تنضج وتصير تحت تحكمه، وبينما قد تساعد محض قوة الإرادة الشخص على قطع معظم الطريق، فلا ينبغي أن يشعر المرء أن عليه أن يمضي فيه وحده تمامًا أو أنه قد فشل بالبحث عن مساعدة إضافية. اكتساب الانضباط العاطفي أولًا وقبل كل شيء، فإن ملاقاة العواطف السلبية وقوتها المتزايدة على نحو محتمل ينبغي أن تُعتبَر كفرصة عوضًا عن اعتبارها أزمة. عندما يشعر المرء بالبهجة أو الفرح فإنها خبرةٌ [أو شعور] رائع، لكن يصعُب أن يقال عن المرء أنه قد تعلم أي شيء منه. إن الألم والانزعاج [التعب] العاطفي ليس شيئًا يُخاف منه. في الحقيقة، فإنها كثيرًا ما تحتوي على حقائق شخصية هامة ضمنها وداخلها، ولن يكتشفها المرء أبدًا حتى يمكنه التمكن من التغلب على خوفه ويفهم الشعور بالمشاعر التي ترافقها. فمع أخذ كل شيء بعين الاعتبار، ما هي عواطف المرء؟ إنها توصيل المخ للإحساس الذاتي استجابةً للمثيرات، وأكثرها كراهةً كثيرًا ما يتألف من العناصر اللاواعية [ما دون الوعي] للمخ والتي تسرِّب إشارات إلى الجزء الواعي بالتعبير عن الخوف والإحراج والذعر...إلخ. بعبارة أخرى، فإنها تمثل معلوماتٍ عن النفس، وإن استكشاف معالمها وسبب ظهورها على السطح في بيئات معينة هي مهارة غائبة على نحو مؤسف عن التعليم الحديث. بالتأكيد، فإن القيمة الاجتماعية للتعليم المركِّز في التحليل والخبرة الفنية التقنية ودقة التفكير لا جدال فيها، لكن من يحققون أعلى مستوى من الإنجاز هم من يكتسبون كلًّا من الانضباط الفكري والعاطفي. لاحظ أنه لا ينبغي فهم التعبير "انضباط عاطفي" على أنه حالة روبوتية [آلية] حيث يكبح المرء نفسه فيها من الشعور بأي شيء. في الواقع، فإنها العكس تمامًا. باعتبارها نقيضًا للتوقف [عن الإحساس]، فإن الانضباط العاطفي يُحقَّق عندما يكافح المرء بفاعلية أكثر مشاعره إزعاجًا لكي يوقفها ويفك شفرة المعلومات التي تنقلها إلى الجزء الواعي من العقل. إن اكتساب الانضباط العاطفي هو مهمة في المرور بالمشاعر السلبية، وسبب عدم التناظر [بينها وبين المشاعر الإيجابية] هو لأن المرء لا يتهرب عامةً من المشاعر الإيجابية أو يستكشف سبب حدوثها. في الواقع، سيواجه الشخص مشكلة ومعضلة لو حاول تقرير ما قد جعله سعيدًا وحاول إعادة صنع تلك البيئة [التي جعلته سعيدًا] بقدر ما يمكن. رغم ذلك، فإن الناس لا تحب الشعور بالألم العاطفي، والسخرية وشر البلية ما يضحك [ومن المضحكات المبكيات] أنه بتجنبهم العملية الكاملة لمثل تلك العواطف فإنهم يحكمون على أنفسهم بجعل تكرر حدوثها أكثر. فباعتبار كل شيء، لا يمكن للمرء أن يتعلم أن يتطور عاطفيًّا أو يتغلب على الأمور التي تزعجه لو أنه يفشل في تبين المعلومات العميقة عن سبب كون هذه الأمور تجرحه من الأساس، وإن مشاعر المرء السلبية تمثل لحظة تدق فيها الفرصة الباب بلا انقطاع، إلا أن قليلين يميزونها كفرصة. فتمامًا كما يعرف المرءُ أن الألم البدني له مصدر محدد في الجسد وجرعات مناسبة من التصرف العلاجي للعلاج، فإن المرء يجب أن يتعلم أن يعيد فهم وتفسير الألم العاطفي كحزم كهربية عصبية من المعلومات التي تسبح في النهر الخارج من لا وعيه [ما دون الوعي الخاص به]، والذي سيكون إدراكه شيئًا نفيسًا رغم الألم البغيض لاسترجاعها. إن فرص التعلم عن النفس وتحسينها تحيط بالمرء تمامًا عندما يترك الاعتقاد الديني، ويجب أن تُنتهَز بنشاط [وحماس]. ما هو الندم؟ إنه شعور كئيب يدل على حزن الشخص على الإخفاقات الماضية المُدرَكة ويحتوي على وصفة كامنة للفعل لانتهاز الفرص المشابهة إن وعندما تأتي مرة أخرى. ما هو الإحراج أو الارتباك؟ إنه شعور محرق يلوي معدن تقدير المرء لنفسه ويشير إلى وجود الخوف وافتقاد الأمان في تصور المرء لذاته. إن هذه المشاعر كريهة وأحيانًا على نحوٍ لا يُحتمَل، ورغم الحاجة الواضحة إليها، فإن امتلاك رباطة الجأش والإرادة لفحصها في حينها هو فنٌّ يوجد قلة من الناس هم من يفهمونه حتى. للأسف، لا يقدم المجتمع الحديث المعاصر تدريبًا كافيًا لكيف ينبغي أن يواجه الشخص ويفسر ويفهم عواطفه، وهو حذف وإغفال لشيء يفسر على نحو كامل تقريبًا كيفية احتفاظ الأديان بأي موطئ قدم وتواجد في العالم في ضوء السخافة ومنافاة العقل الموضوعية لتأكيدتها [مزاعمها] الفكرية. مع كون الناس غير متعلمين لكيفية التعامل مع عواطفهم، فإن الأديان تحوز احتكارًا إلى حدٍّ ما على بنيوات [آليات] الدعم العاطفي، وإن يكن معيبًا متصدعًا بقدر ما هو عليه. إن آليات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي أدوات بارعة على نحو مذهل، صممها وحسَّنَها بعض من أكثر الناس استحقاقًا للتذكر في البشرية، لكنها لا يمكنها جعل الشخص متكاملًا [تكوين شخصية الشخص] وحدها. لتحقيق الشخص لتكامل شخصيته فإن قوة فكره يجب أن تُتمها المشاركة السليمة لعواطفه. تصور قضيبي سكة حديدية متوازيين يمتدان عبر المسافة. كلما نظرنا إلى هذين الخطين المتمايزين المنفصلين على مدى أبعد، فإنهما يظهران كأنهما يميلان باتجاه بعضهما البعض حتى يلتحما في الأفق. كذلك هي طبيعة هذين العنصرين المتكاملين المتممين لبعضهما الخاصين بهوية الشخص. إلا أنهما في كثير من النواحي يكونان نقيضين كاملين ومتنافسين شرسين، لكن حالما يطورهما المرء بصرامة منسَّقة، سوف يدرك أن لديهما السمة المتناقضة الخاصة بالتلاقي عند ذروة الإنجاز. بعبارة أخرى، فإن المنظور الذي يحصل عليه المرء من السيطرة على أحدهما يحمل تشابهًا مذهلًا للمنظور المحقَّق بالسيطرة على الآخر، وهو اندماج عجيب إلا أنه مبهجٌ بالفعل. إن أصعب جانب من تحقيق الانضباط العاطفي هو أن المرء يجب أن يكون صادقًا تمامًا مع نفسه بصدد كيف ولماذا شعر بأمور معينة، وهي ليست مهمة سهلة. لا أحد يحب الاعتراف بعيوبه الشخصية أو طبيعته الأقل [قيمةً]، لكن القدرة على فعل ذلك هي تحديدًا ما يعمل على التطهير منها وحجبها عن الظهور في سلوكيات الشخص. إن مصدرًا إضافيًّا آخر للتشوش والارتباك هو أن لا أحد يمكنه حقًّا مساعدة شخص حينما يقوم بمهمة الاستبطان [فحص أفكاره ومشاعره الذاتية]، وليس معنى ذلك أنه لا يمكن المساهمة بشيء من المصادر الخارجية، بل بالأحرى والأكثر تحديدًا أن جوهر المسألة سيكمن دائمًا داخل الشخص نفسه. إن يكن لا يريد مواجهة أكثر الجوانب إيلامًا من ملف حياته العاطفي، فلا أحد آخر سيقدر على فعل ذلك نيابةً عنه. مجددًا [نقول]، أن الهدف من جهد الشخص العاطفي هو إكمال نضج واتحاد النفس. إن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية تقدم أفضل الوسائل لتحليل القضايا المتعلقة بالحقائق، على وجه الخصوص فيما يتعلق بالواقع الموضوعي، وتقدم تقنية اعتراض المعلومات [لفك شفرتها ومعانيها] الخاصة بالانضباط العاطفي أفضل الوسائل لتقييم المسائل المتعلقة بالقيم والتقييمات الذاتية، خاصة فيما يتعلق بالنفس. عندما تنضج هاتان القوتان وتندمجان سويًّا، فإن الشخص سيحوز السيطرة والسيادة على كلٍّ من عالميه الداخليّ والخارجيّ، وستكون قدرته الكامنة في ذلك الوضع درامية [هائلة]. بالتأكيد، فإن الاعتقاد الديني يخرج هذه العملية عن مسارها ويسلب الشخص الفرص لاستبطان ذاتي مفيد مثمر بسبب تقيات الدعم العاطفي التي يقدمها. بالتأكيد، فإن الشعائر الدينية كالصلاة والاجتماعات تزود براحة عاطفية على المدى القصير، حتى لو كانت تلك الراحة المؤقتة مُنِحَت عن طريق زيفٍ وجاءت بالثمن الغالي من الاعتباطية والتحكمية الفكرية. بغض النظر عن ذلك، فإن تقنيات وتضمينات الاعتقاد الديني تبلِّد وتُبرِّر أسوأ مشاعر الشخص بأشياء خارج النفس، وبينما قد تعمل على تماسك الشخص لبرهة، فإنها لا تقدم أي عون ومعروف له على المدى الطويل. فبدون مواجهة المشاعر السلبية بأمانة وترك التذرعات، فإنها مقدَّرٌ لها أن يتكرر حدوثها. وعندما ستقتضي الانتقام الكريه [من الشخص بتفاقمها] لأجل تجاهلها، فعلى نحو مؤسف لن يدرك معظم الناس أبدًا أنها تمثل وسيلة أخرى يتواصل بها الجسد أجزاؤه مع بعضها لكي يعبر عن الألم الذي يتوسل به من الجزء الواعي من العقل لكي ينتبه ويريحه. العَيْشُ في اللحظة إحدى النتائج الطبيعية الحتمية لخبرة [الشعور] باتحاد وتجمع النفس هي تقدير المرء المتزايد للوقت، خاصة الوقت الذي لديه ليعيشه. فبحرق السفن الوهمية الخاصة بهروبه المستقبلي [من الموت إلى الخلود]، فإن المرء يشعر بأنه ملزَم بالفعل في الحاضر لاكتشاف العالم وعلاج العلل والمحن وجوانب الظلم التي قد يدركها. عَيْشُ اللحظةِ ليس تعبيرًا عن اللامبالاة بأي شيء قد يحدث في المستقبل، بالأحرى فإنه يعبر عن قبول الحاضر باعتباره الموقع الزمني الوحيد الذي سيوجد فيه أي أحد على الإطلاق. إن الغد لا يأتي حقًّا أبدًا، وحتى اللحظة التي مرت للتو قد مضت ولن تعود. العيش في اللحظة يدل على الاعتراف بهذا التقسيم للزمن. إن فهم العيش في اللحظة على أنه دلالة ضمنية للامبالاة وراحة البال واتباع مذهب المتعة الحرة كليًّا هو تعامل وفهم مرفوض للتعبير في نقاشي هذا. إنه معناه هنا يتضمن تقدير الفعل أكثر من الأمل، السرعة أكثر من التردد، والصراحة والمباشرة أكثر من المراوغة والتفادي. إن عيش اللحظة هو عدم اعتبار أي لحظة كأمرٍ مسلَّم به، لأن المرء لا يلهيه التردد أبدًا عن فعله الهادف ذي العزم في أي لحظة منها فيما يتعلق بالماضي أو المستقبل. إنه تقنية لتدعيم الهدف والغرض بتقديم التأثير والإنجاز له باستمرار. بالتأكيد، فإن المفهوم هو فكرة مثالية تخطيطية لا يمكن للمرء الوصول إليها على نحوٍ كامل لأن الناس لديهم كلٌّ من ذكريات قوية وكذلك مخاوف ضاغطة بصدد المستقبل، لكنه درسٌ عمليٌّ إدراكُ أن عيش المرء على نحو مُفْرِطٍ في جوانب حياته الماضية أو المستقبلية يسرق من حاضره. فلو اتبع امرؤٌ هذا النمط إلى الحد الأقصى فيمكن بسهولة أن يصحو ذاتَ يومٍ ويتعجب كيف قد مر به كل قطار العمر وجاوزه وفاتته كل حياته، والإجابة أن ذلك قد حدث بينما هو يتجاهلها عمليًّا. العيش في اللحظة هو إعادة ضبط عاطفية لموازنة خسارة الضمان المتضمَّن [الوهمي] الخاص بالاعتقاد الديني أن وعي المرء لن ينقضي ويموت أبدًا. ففي وجهة النظر الكونية الدينية، فإن لحظات المرء الحاضرة تُقلَّل قيمتها إلى حد انعدام القيمة بكونها يطغى عليها انهمار لا نهائي منها [اللحظات، وهم الخلود]. فمع اعتبار كل شيء، كيف يمكن أن يهتم كثيرًا بشيء واحد عندما يكون لديه عدد لا نهائي [مزعوم] منه؟ أين القيمة؟ إن ما يعلنه الاعتقاد الديني كتقديم [زمن] على نحو لا نهائيّ يجعل الشخص من منظور أكثر واقعية يقدر فرصه للفعل في الحياة على نحوٍ أقل وأبخس على نحوٍ لا متناهٍ بتدمير التقييم الذي كان سيقيِّمه في الوضع الطبيعي لوقته وعمره المحدود. بنبذ الاعتقاد الديني والعيش في اللحظة، فإن القيمة الطبيعية للحاضر تعود إلى التركيز الأصلي الصافي عليها، ويحتفل المرء باستعادة توازنه الطبيعي بملأ لحظاته بالأفعال الهادفة. إن أفعال المرء هي الوسيلة التي يحاول بها تقديم الإنجاز والتأثير للمعاني الخاصة به في حياته، وكون التضمينات الضرورية لهذه المعاني تمتد إلى الحاضر لا يعني على نحوِ واضح أن الشخص يفشل في عيش اللحظة. العيش في اللحظة هو تعبير عن تركيز كل أفعال وعواطف المرء في الآن والحاضر لكي يحقِّق الأهداف التي يبتغيها للغاية، أيًّا ما قد تكونه وأيَّان ومتى ما يتوقع أن يبصرها ويحققها. |
|
|
|
رقم الموضوع : [7] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
العثور على مجتمعات غير دينية
آخر موضوع يتعلق باكتساب الدعم العاطفي لمن يشعرون بأنهم مربوكون في المواقف حيث يكونون قد نبذوا الاعتقاد الديني لكنهم لا يزالون عالقين في مشاعرهم أو قد تقوضت بنيوات دعمهم العاطفي الطبيعية بسبب أفراد أسرتهم الانتقاميين الحقودين منهم أو دينهم السابق. إن ترك الاعتقاد الديني ليس شيئًا سهلًا فعله لأنه يمكن أن يكون وسيلة مفرطة في التبسيط لكلٍّ من التفكير والشعور، على نحوٍ شبيه بالإدمان. إنه لهامٌّ إدراكُ أن الحاجة للوصول إلى الآخرين للإرشاد والاستقرار [والتوازن النفسي] أثناء المرحلة الانتقالية طبيعيٌّ، ولا عيب أو خجل في ذلك. على نحو محزن، فإن معظم المجتمعات في العالم لا تتيح [وجود] نقاشات وحجج مضادة للاعتقاد الديني كمسألة معتادة، ومن احتاجوا إلى البحث عنها يتفهمون مشقات وعزلة العملية. [مع وجود مئات الكتب والبرامج الإنجليزية اللغة الإلحادية في العصر الحاليّ أعتقد أن احتكار الأديان للحقيقة والكلام يُعمَل على إنهائه في الغرب، ونحن كمترجمين وكتبة عقلانيين في بلدان العرب والمسلمين نقوم بأدوارنا الوطنية الإنسانية التنويرية محاولين كسر احتكار الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والمارونية وغيرها لوجهات النظر والأطروحات بناءً على خرافاتها، مع ذلك تظل هناك مشكلة الندرة الحقيقية للملحدين العرب اليوم وتبعثرهم على خريطة كل وطن مما يصعِّب لقاآتهم، لا توجد ربما مشكلة كهذه في دولة كبريطانيا أو فرانس أو أستراليا أو النروِيج والدنمارك والنمسا والسويد أو غيرها من ذوات النسب الإلحادية ما بين 25-80%] الخبر الجيد هو أن الشعور بالعزلة وهمٌ. الكثير من الناس قد تحملوا المشاعر والتحير المصاحبين للتعجب لكيفية إمكان ازدهار الأديان على هذا النحو الواسع، على الرغم من كونها سخيفة خرقاء عمليًّا. والكثيرون كذلك شعروا بالإحباط والكبح من قِبَلِ أسرهم ومجتمعاتهم الذين لم يفهموا على الأرجح لماذا لم يعد يمكنهم اتباع الاعتقاد الديني والمشاركة فيه. إلى درجة أن المرء يشعر بأن مشاعره تضطرب فوق المعدلات الآمنة على نحو معقول، فإن هدف المرء ينبغي أن يكون العثور على هؤلاء الناس والتواصل معهم. في العصر الحديث، قد صار الإنترنت وسيلة قيَّمة للمتشككين في الدين لكي يحصلوا على الدعم العاطفي والنقاشات الفكرية التي قد يحتاجها المرء بينما ينتقل [يخرج] من الاعتقاد الديني. بوضوح فإن رؤية ناس آخرين يتحدثون عن التفكير القائم على العقلانية والإلحاد يمكن أن يكون له تأثير مطمئن بأن نفس الشكوك والاهتمامات التي قد طفت [ترددت] في رأس المرءِ ليست نتاج جنون. إن كان المرء يعيش في مجتمع صغير، ويشعر برعب عميق من احتمالية معاقبة وأذية مجتمعه إياه لافتقاده الإيمان، فإن الإنترنت هو مُلتَجأ فريد ذو أمان لمثل هؤلاء المفكرين على أساس العقلانية حيث يمكنهم التعلم والتطور، ويجدون أنفسهم آخر الأمر مستعدين لعدم الاحتياج إلى ذلك الدعم والمساندة من بعدُ. بالتأكيد، فإن العثور على مجموعة عقلانية تقوم بلقاآت شخصية يخدم نفس الغرض، لو إن يشعر المرء بالقلق لاحتمالية الوصمة الشخصية في ذلك الصدد1، فيمكنه الاحتفاظ بمجهولية شخصيته على الإنترنت بينما يظل يحصل على المعلومات والصداقات التي يسعى لها. لقد شملتُ في قِسم العرفانات بالجميل في آخر هذا الكتاب العديد من الأشخاص الذين شهدت بنفسي امتلاكهم لمثل هذا التأثير على الآخرين في المجموعات على خط الإنترنت، وهناك الكثيرون الوافرون غيرهم الذين سيفعلون نفس الأمر عند الاحتياج إليه. لو جاءت الفوائد العاطفية للتفكير القائم على العقلانية والإلحاد كمفاجأة، فهذا مفهومٌ. إن الكثير للغاية من الحوارات بين المؤمنين والملحدين عن قضية وجود إله [من عدمه] تعمل كجهاز طرد مركزي يعزل العواطف عن الفكر، والملحدون معتادون جدًّا على الاحتياج إلى انتزاع وانتقاد الصلات العاطفية التي يدّعي المؤمنون الدينيون أنها لديهم مع آلهتهم لكي يسلطوا الضوء على عدم صلاحية استخدام العواطف للبرهنة على الحقائق في الواقع الموضوعي. للأسف، فإن هذا النمط المعتاد من الجدل له تأثير جعل الملحدين أحيانًا ينسون السيل الجارف من العواطف الذي ينتج عن الخروج من الاعتقاد الديني، إن كانوا قد احتاجوا على الإطلاق للقيام بالأمر. إنها عملية عاطفية واجتماعية وكذلك فكرية. ربما ما هو أكثر شيء مؤسف هو أن الإلحاد لديه جدليات عاطفية هائلة لصالحه وفي جانبه، لكن في سياق نقاش المؤمنين الدينيين، تُتَجاهَل الاعتبارات العاطفية لصالح توجيه ضربات منطقية حاسمة. رغم ذلك، فإن نقاش كلٍّ من التأثيرات العاطفية الإيجابية والسلبية لترك الاعتقاد الديني هامٌّ، وإن أملي الشخصي أن يقوم الملحدون أكثر بأخذ الوقت ليفهموا بعمق ثم يعرضوا للعقول الباحثة الفوائد العاطفية الغزيرة لكون الشخص مستقرًا ومُتَّسِقًا فكريًّا. إن المنطق والعقل سلعتان نفيستان، لكنها ليسا الوحيدين اللذين لدى الناس. إن مناصرة استعمالهما لاستبعاد مناقشة الفوائد العاطفية للإلحاد هو بخس [إنقاص قيمة] ما يقدمه بشدة ويعمل على التخلي ضمنيًّا عن أرضية للاعتقاد الديني والتي لا يستحق أن يشغلها وفقًا لقيمته. _________________________ 1 كمترجم لم أشعر بأي عار أو خوف أو خجل أو اهتمام برأي الآخرين من الأغلبية الدينية حينما أعلنت إلحادي وفكري الحر، ونبذي للدين (الإسلامي تحديدًا في تلك الحالة)، ولم أبالِ بهجر الأسرة وكل الأقارب تقريبًا لي، نظرًا لانشغالي الكافي بالكتابة والترجمة عن أي علاقات أو زيارات عائلية من الأساس! ربما أني شخصية توحدية إلى حد ما، ومع الوقت صار هناك علاقة محدودة مع بعض أفراد الأسرة. ويبدو من كلام المؤلف أن وضع أمِرِكا مشابه اجتماعيًّا إلى حد ما، لكن هناك القوانين تحمي حرية الفكر والاعتقاد والتعبير والنشر، الوضع في دول أخرى كبريطانيا العظمى وفرانس وجرمانيا والدول الإسكندناﭬية (الدنمارك والنرويج والسويد وآيسلاند) والنمسا وأستراليا ونيوزيلاند وغيرها هو جَدُّ مختلف حقًّا في مناخه الإلحادي المريح. العقلانية هي الوضع الطبيعي وهي شيء نفتخر به، ونواجه بصدورنا بدون اهتمام كل ما قد يفعله المتدينون المتعصبون، وبالتأكيد مررت بمرحلة مقابلة ملحدين مصريين أعزاء علي، وربما بعد إنهاء مشاريعي الفكرية أعود للتلاقي مع أفراد وأصدقاء حينما أتفرغ_المترجم. 10- عملية نزع السم الفكري لأنك عندما تحدق طويلًا في الهاوية، فإن الهاوية كذلك تحدق فيك. فريدرِك نتشه [فيلسوف جرماني ملحد بارز] في الفصل السابق، استعرضنا النتائج العاطفية لنبذ المرء افتراضاتِ الاعتقاد الديني، والموضوع التالي ليس منفصلًا تمامًا عن العملية العاطفية. رغم ذلك، فإن التغيرات الفكرية الخاصة بترك الاعتقاد الديني لها سمة الحدوث في نمطٍ خطيّ [ذي بعد واحد]، وهو ما يستحق عناية مستقلّة. للأسف، فإن الاعتقاد الديني يزرع بعض الأفكار الماكرة الهامة فيما يتعلق بما يقدِّره الشخص في العالم. في أغلب الأحيان سيغفل الهاجر للاعتقاد الديني عن هذه الأفكار لأنها عادة لا يُصَرَّح بها بوضوح، وعندما تصير مصرحة بوضوح، فإنها تؤدي إلى خطورة العثور على نحو خاطئ وهمي على منطق لها بطرق الخطإ والعودة إلى الاعتقاد الديني. بعبارة أخرى، فإن ذعرهم العاطفي [الهاجرين للأديان] يتغلب على استنتاجهم الفكري. إن افتراضات وأساطير الاعتقاد الديني تكون مركزية ومترسخة للغاية في المنظور الكوني للعقل [الديني والديني سابقًا] بحيث أنه لا يمكنه التخلص منها على مرة واحدة. فإنه يقوم بعملية حجر رديئة النوع. يتبع العقل مسارًا متوقَّعًا عند خروجه من الاعتقاد الديني، وعلى طول المسار فإنه يتخلى عن الأفكار التي لا يمكنه تبريرها من بَعدُ بينما يحاول الاحتفاظ بأفكار أخرى لا يزال يريدها. وعندما تنتهي العملية، فإنه يكون قد وصل لوجهته الجديدة، بنجاحه في التخلص التام من افتراضات الاعتقاد الديني والوصول إلى وضع توازن متسق. [المرحلة الأولى] الدين المصنَّع وفق اختياراتك إن نقطة البداية للعملية هي النقطة التي يمر بها كل المؤمنين الدينيين، بغض النظر عما إذا كان لديهم أي نية لترك الاعتقاد الديني، وهي مفهوم الدين المصنع وفق الرغبات. فعندما يضايق دينُ المرء أخلاقياتِه أو فهمه للمنطق أو العلم، فإنه أولًا سيعدِّل تفسيره للدين [معظم مزاعم الإعجاز العلمي المعاصرة عن القرآن عند ردها إلى أصولها النصية والتفسيرية والسياقية يتضح لنا أنها أخطاء علمية فادحة، وقام الأزهر في تفسير سورة التوبة بتفسير (المنتخب) بتحريف المعاني عمدًا وإخفاء الحقائق_م]. إن كان مصدر مادة المضايقة والإزعاج هي الكتاب المقدس للدين [كالكتاب المقدس أو القرآن أو الـﭭيدات أو النصوص الهندوسية أو التريبيتاكا البودية أو نصوص سوترات الماهايانا أو الـﭭاجريانا البودية.... إلخ] أو أي نص مقدس آخر [كتب التقاليد الرسولية كالدسقولية وقوانين الرسل وهبوليتُس والمجامع الكنسية ورسائل كلمنت وأغناطيوس أو كتب الأحاديث المحمدية أو كتابات الفقه أو التلمود والكتابات الربينية أو الساتاباثا براهمانات الهندوسية أو قوانين الرهبنة البودية والقوانين المخصصة للأتباع المدنيين البوديين...إلخ_م]، فمن ثم فإن الشخص سيختار أن يعتبر الفقرة محل الكلام على أنها مُساءٌ فهمها أو ترجمتها أو روايتها أو أنها مجازية أو قُصِدَ بها أن تُطبَّق فقط على الحضارات الأقدم. كل هؤلاء التبريرات هن منافذ هروب ممتازة للعقل الديني الذي لديه الهدف المزدوج لكلٍّ من تخفيف تنافره المعرفي والإداكي وكذلك عصمة إلهه [المزعوم] الأولية. في عقل الشخص الذي يقوم بعمل دين مصنَّع وفقًا لاختياراته، فإن أي خطإٍ مُدْرَك في الكتاب المقدس أو النص سيُسجَّل كخطإٍ بشريّ. مثل هذه المناورات المراوِغة تدل على الافتقاد الكامل للاهتمام لدى الشخص في هذه المرحلة فيما يتعلق بتفحص لب وجوهر افتراضات الاعتقاد الديني وكيف يكون رد فعل العقل [الديني] لحماية هذه الافتراضات من الانهيار الكامل لمنظومتها، وهو ما سيُحقَّق [انهيار النظام] لو تُصُوِّرَ الإله [المزعوم] محل الكلام [أو بالأحرى النص الديني] على أنه غير معصوم ولا منزَّه بأي طريقة. الظاهرة العالمية لعمل الدين وفق الاختيارات ليلائم ذوق من يمارسونه هو دليل عَرَضِيٌّ على حقيقة كون الأديان تقوم على نحو كامل تقريبًا على الكتب المقدسة، ويمكن قراءة الكتب المقدسة لتعني عمليًّا أي شيء 1. فكونه مليئًا بالمجازات والمصطلحات الغير دقيقة والتوجيهات المتعارضة أكثر الأحيان 2، فإنه لا يمكن اتباع الكتب المقدسة على نحو ممكن بحرفية التشريع الديني من قِبَلِ أيِّ أحدٍ لأن [بعض] مصطلحات تشريعها غير معرَّفة، كما فصَّلْنا في الجدلية الفوقية [الماورائية] في الفصل الثامن. لذا، فإن المفاهيم الجوفاء للاعتقاد الديني تُملَأ وتُعطى السمة والتأثير من جانب الناس الذين يقرؤونها ويرَوْنَ ما يريدون رؤيتَه فيها، وعندما يمعن شخصٌ النظرَ إلى مثيرات عاطفية هامة والتي هي غامضة وعديمة المعنى على نحو موضوعيّ، فإنه يميل إلى أن يرى نفسه، رغم أنه لا يدرك ذلك على الأرجح. يركِّز العقل البشري على الغموض لأنه يريد ملء فجوات المعنى فيما يتعلق بما يواجهه لكي يفهمه، _________________________ 1 في تراث المسلمين قال علي بن أبي طالب ردًّا على الخوارج حينما أدانوه بدعوى تحكيمه للرجال بدلا من القرآن أنه رد بأن القرآن حَمَّالُ أوجهٍ، يعني تفاسير محتملة عديدة، وجاء في رواية بمسند أحمد في رواية 656 عن حواره معهم: .... ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللهِ ، فَلا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى . فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ ، وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ ، فَأَمَرَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ : أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ . فَلَمَّا أَنِ امْتَلاتِ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ ، دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ : أَيُّهَا الْمُصْحَفُ ، حَدِّثِ النَّاسَ ، فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا تَسْأَلُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِينَا مِنْهُ ، فَمَاذَا تُرِيدُ ؟...إلخ الخبر، وهو في تاريخ الطبري وغيره بنحوه. وقال بعضهم بوجود عديد من التفاسير للنص الواحد كما نرى من تضارب التفاسير في تفاسير الطبري وابن كثير والزمخشري وغيرهم، ويوجد تفسير أصولي وآخر صوفي (مثل عرائس البيان) وآخر حرفي ظاهري (كتفسير المظهري وفقه ابن حزم) ومجازي وفقهي وسني وأشعري شبه سني وشيعي اثناعشري وزيدي، وإباضي ومعتزلي وإسماعيلي باطني...إلخ_م. 2- سأتحدث بالتفصيل في كتابي (موسوعة نقد الإسلام الشامل) بصورة متوسعة للغاية عن تناقضات وتضاربات التشريعات الإسلامية، والبشرى السارة للقراء أن كل أبواب نقد التشريعات تمت كتابتها، وهنا يذكر المؤلف عدم تعريف مصطلحات التشريع، ولا أعتقد أن هذا هو الحال مع كل الشرائع الدينية ولو أن هناك تضاربات وتناقضات وعيوب واضحة في كل تشريع دين ما، ربما ينطبق كلامه أكثر على اللاهوتيات والأفكار الغيبية كمفهوم الإيمان واختلافهم فيه، وبالتالي تكفير بعضهم لبعض ما بين معطلة ومؤولة ومشبهة ومتوقفة لصفات الإله الإسلامي البشرية في القرآن واعتبار متعصبي المسلمين الشيعة والسنة لبعضهم البعض كفارًا يحل قتلهم لمجرد اختلاف المذهب والفكر الخرافي، وللمذاهب الإسلامية كتب كثيرة عن الإيمان والمذهب والصفات وكلها تختلف عن بعضها، فالإباضية وكان معهم المعتزلة والخوارج التاريخيون مثلا يخالفون السنة والشيعة في القول بتكفير أهل "الكبائر" وخلودهم في الجحيم، بينما يؤمن الشيعة بالبداء أو تغيير الله للقدر وقراراته وهو ما يرفضه الباقون، وقال السنة بضرورة اتباع أبي بكر وعمر فيما ابتدعوه في دين الإسلام وإن خالف القرآن أو سنة محمد بدعوى أن هذه وصية من محمد ورفض أتباع باقي المذاهب ذلك وغيرها من خلافات، على غرار هؤلاء في القرون الوسطى كان المسيحيون في أوربا يقتلون ويعذبون وينفون بعضهم الآخر أو أفرادًا من المجتمع لمجرد خلاف لاهوتي نظري عديم القيمة _المترجم لؤي عشري. وليتجنب تعقيدًا إضافيًّا في موقف مُعضِل فعليًّا، فإنه يختار قِطَعًا من قالبٍ يعرفه على نحو أفضل: نفسه. إنه ارتداد رصاصٍ خاص بالفكر عجيب ومروِّع يبرهن على البارنويا [جنون العظمة والارتياب] التي لدى العقل [الديني] فيما يتعلق بالغموض وانعدام اليقين والشك التام في بيئته المحيطة. إن حل العقل لمعضلة معالجة بياناته [الدينية الخرافية] ما كان ليكون قضية [للتباحث] لو كان يدرك نفسه في عملية نقله، وكونه لا يدرك أبدًا غالبًا هو إخفاق مثير للارتعاش. بعبارة أخرى، فإن الناس تخفق في فهم أن القوى الإدراكية للعقل تفشل على نحوٍ معتاد روتينيٍّ بطرق متوقعة مكرَّرة ويبالغون في تقدير درجة مثالية قدرة العقل في كيفية تقييمه للبيانات. فيما يتعلق بالمصطلحات الدينية، فإن هذه الإخفاقات من ناحية الأفراد تُعزَّز باجتماع الناس في مجموعات تدرك كلها نفس الكلمات الأساسية المستعمَلة لكنهم يخفقون في فهم أنهم كلهم لديهم تفسيرات مختلفة لما تعنيه. عندما يتعبدون ويصلّون فإن كلًّا منهم يتشكى وينوح ويتوسل إلى بيت مرايا ضاحك لأنفسهم لكي ينقذهم ويساعدهم. إنهم يتعبدون لخيال ظل [سلوليت] سماويّ لأنفسهم في تصورها المثالي، منيعة من الموت وقادرة على أي شيء. عندما يرى المرءُ أفعال المتدينين في هذا الضوء والفهم، فإن الحزن العميق لصلواتهم سيدمي قلبه [بمعرفته لحقيقتها]: إنهم يطلبون المساعدة من أنفسهم، ولا يمكنهم تقديمها لأنهم مشغولون بانتظار أنفسهم لتستجيب. إنه ليُشَكُّ في إمكان وجود عجز عن الفعل مثير للغثيان أكثر من ذلك. على أية حال، فإن الدين المصنَّع وفقًا للاختيارات هو خطوة العقل الأولى في رحلته باتجاه التخلص من السم الفكري، وهو ظاهرة عالمية، حتى بالنسبة للمؤمنين الدينيين الذين لا ينتوون قط تركه. كما نوقش على نحو متكرر في الجزء الأول، فإن الأديان لا تقدم أي أسا عقلاني لصحة أطروحاتها الخاصة بها، مختلقة بيئة من الغموض ينجذب الناس فيها على نحو طبيعي إلى الأجزاء من دينهم التي تناسبهم على نحوٍ أفضلَ. وبسبب غموض أي دين معيَّن، فإن صنعه وفقًا للطلب من جانب أتباعه حتميّ ومحفَّز. ملاحظة من المترجم: توفير العلوم الحديثة في البيولوجي علم الأحياء وعلوم الكون والفيزياء مع قدر من علم الأديان العلماني العملي كفيل بإلغاء هذه المرحلة البدائية والمرحلتين التاليتين لها، وقد ظللت كمترجم كما اكتشفت الآن في مرحلة الدين الشخصي والروحانية الشخصية بدون إدارك واعٍ مني لمدة تسع سنوات تقريبًا من طفولتي وشبابي لم أمارس فيها الطقوس من صلاة وصيام إلا نادرًا جدًّا للغاية ولم أكن أحضر المساجد في الجُمَع إلا نادرًا كذلك، وسنة واحدة في الربوبية كمضيعة للوقت نتاج الجهل العلمي بالعلوم والنظريات العلمية الحديثة الممنوعة تقريبًا في الدول العربية باعتبارها كفرًا!، كان إلحادي بسن 21 سنة تقريبًا منذ عشر سنوات اليوم وهي ذكرى سعيدة لي_م]. الروحانية الشخصية عندما ينفِّر دينٌ شخصًا ما بعيدًا على نحوٍ كافٍ بمضايقاته لمنطقه أو أخلاقه، فإن الخطوة التالية التي سيتخذها العقل هي التضحية بمفهوم المشاركة في مجموعة عندما يصل الأمر إلى الاعتقاد بإلهه الذي صنعه وفق اختياراته. لا يزال الشخص لم يفكر في تحدي الافتراضات الأساسية للاعتقاد الديني، لكنهم يشعر أنه بأنه لا يمكنه تحمل جموده عندما يُعلَّم في مجموعات بسبب فساد ملاحَظ ونفاق...إلخ. إن حل العقل لهذا الضغط هو الخروج، وهو أمر منطقيّ. إنْ يشعرْ العقل بصدامات قاسية أو متكررة للغاية على السواء، كمثال: بين ما يحكم هو نفسه عليه بأنه أخلاقي [أو غير أخلاقي] وما يخبره الدين بأنه اخلاقي، إن العقل حينذاك لا يقفز إلى النقاش المخيف عما إذا يوجد إلهٌ حقًّا. عوضًا عن ذلك، فإنه يتجاهل أي أسئلة فيما يتعلق بالإله أو الآلهة، خصوصًا فيما يتعلق بوجوده وعصمته، ويتهم ويتجنى على رجال الدين ومفسري إرادة إلهه الذين قد حرفوا الرسالة والمعنى الصحيح. يكون الشخص على مركبة تغرق، ومفهوم الإله محمَّل بمثل هذه العاطفة والمعنى، بحيث أن كل شيء آخر مَحُوُز سيُلقَى من على سطح السفينة قبل أن يتم التفكر في ذلك المصطلح. كإضافة جانبية، تذكر ما يُقصَد بكلمة "دين" في هذا الكتاب: "منظومة اعتقادٍ تستخدم الاعتقاد الديني وتقوم بالشعائر واللقاآت لكي تتواصل مع أو تسترضي إلهًا أو آلهة". الروحانية الشخصية ليست دينًا من الناحية التقنية المصطلحية لأن الشخص قد انسحب من مجموعة منظمة من اللقاآت لكي يختار تناولًا وأطروحة أكثر شخصيةً، وأهمية هذه المناورة ستصير واضحة عندما نناقش ظاهرة المجموعات في الجزء الثالث. إن الطبيعة الاعتزالية للروحانية الشخصية يجعل وصف طبيعتها المحتملة عسيرة على الوصف لأنها تتخذ أشكالًا لا نهائية. فعند أحد طرفي المدى، يوجد من قد تتخذ روحانيتهم الشخصية كامل جوهر دينهم المصنع وفق اختياراتهم ويستمرون في الصلاة أو القيام بالشعائر، إنهم سينسحبون فقط من المجتمع الديني الذي كانوا ينتمون له قديمًا. وعند الطرف الأقصى الآخر للروحانية الشخصية، قد يحتفظ الشخص بمعنى غامض عن إلهٍ وبعض الأخلاقيات العامة بدون أن يشغل نفسه بالصلاة أو ممارسة أي طقوس على الإطلاق. بعبارة أخرى، فإن "الروحانية الشخصية" ليس مصطلحًا يتمتع بالوضوح الكبير، إنه الكثير من التجميع المتنوع للاعتقادات والممارسات الدينية التي قد تم تخفيضها أو تعديلها بشدة لتناسب الأذواق الشخصية مع السمة المميزة لترك الشخص للمجموعة الدينية. بعبارة أخرى، هناك تنوع ومدى من الأشكال للروحانية الشخصية، وأين سيختار العقل أن يحط في ذلك المدى ليس دومًا قابلًا للتنبؤ به. رغم ذلك، لكنه من المضمون أن نخمن أنه كلما كان الشخص مُطوَّقًا اجتماعيًّا وفكريًّا بدينه المصنع وفق الرغبات أكثر، كلما حملت روحانيته الشخصية تشابهًا أكثرَ معه. بغض النظر عن ذلك، فإن الشخص الذي يدخل مرحلة الروحانية الشخصية يفعل ذلك لأنه قد تعرض لمضايقة شخصية لشيء ما قد علمه له دينه [أو أحيانًا حسه الشخصي والإنساني أو معلوماته_م]، سواءً منطقي أو علمي أو أخلاقي، وقد سبّبت الملاحظة المسيئة وضعًا من التنافر المعرفي الشديد في داخله. من ناحية، فإنه يعتبر مصدر المعلومات المزعجة معصومًا منزَّهًا وفوق اللوم، ومن ناحية أخرى، فإن المعلومات تكون خاطئة أو مزعجة بشدة للشخص إلى درجة أنه لا يقدر أن يبتلعها [يقبلها]. عند هذه النقطة، يحتاج العقل إلى إزالة المثير [للإزعاج] بطريقة أو أخرى، وإن سبيله ذي الحد الأقل من المقاومة ليس بالتساؤل والشك في الإله (مما يسيء إلى افتراضات الاعتقاد الديني التي ما زالت سليمة لم تُمَسّ) أو الشك في نفسه (مما يتسبب في اعتلال داخليّ)، بل بدلًا من ذلك برفض مبلغي التعاليم الدينية [التعبير الإنجليزي الحرفي: ضرب مبلغي الرسائل بالنار، بمعنى الغضب من مبلغي الرسالة بدلًا من الرسالة وصاحبها]. من هنا، فإن الشخص يكون حرًّا في تفسير الكتاب المقدس للدين كما يراه ملائمًا، مستأصلًا عن قصدٍ ما يراه مضايقًا له وممتدحًا ومسبحًا بحمد ما يراه سارًّا مُرضِيًا. فباعتبار كل شيء، فإن اللغة الغامضة والمجازية للتوجيهات والتعاليم التي توجد في الكتب المقدسة تصاغ في العادة في شكل شخصي من قِبَلٍ أيٍّ من كان يقرؤه. الدين المصنع وفق الاختيارات والروحانية الشخصية يتشاركان تشابهات أساسية. في الواقع، إنهما تقريبًا متطابقان طالما اعتبرنا سماتهما النظرية. إن الفارق الجوهريّ بينهما هو عنصر العضوية والانتماء إلى مجموعة رسمية مؤسسية، وهو ما قد يبدو ذا أهمية ضئيلة، لكن على النقيض، فإن الاعتقاد الديني يحتاج تعزيزات المجموعة المنظَّمة لكي يستمر لأن رؤيته الكونية وتوجيهاته ستذبل وتضعف نتاج انعدام الصلة في بيئة حيث يسود التفكير القائم على العقلانية. وكما سنناقش في الفصل 15 عندما نستعرض السيكولوجية الجمعية الموظَّفة من قِبَلِ الأديان، فإن تطابق الرأي الذي يزوِّد بتعزيز ضروريّ للاعتقاد الديني يتدهور عندما يكون الشخص مستقلًا بنفسه، حرًّا من التلقينات [والاقتداآت والاتباعات] من طائفته [وجمهوره الديني]. الربوبية (المذهب الألوهي) بعد [مرحلتي] تصنيع الدين وفق الاختيارات والتحلل من اعتقاد المجموعة إلى الروحانية الشخصية، فإن الخطوة التالية التي يتخذها العقل هي باتجاه الربوبية. يوجد نكهات [أشكال] عديدة للربوبية، لكنها كلها تدور حول نفس المفهوم العامّ: هناك إلهٌ، لكنه لا يتدخل في العالم [إله خلق العالم ثم تركه كصانع الساعات_م]. إن جاذبية هذه الفلسفة هو أنها تحل الكثير من المشاكل المفاهيمية التي توجد عندما يشعر المرء بالضيق لوجود البؤس والعناء في العالم كنقيض ومع وجود إله، بينما يحافظ على رغبة المرء العامة في معنى نهائي. عندما يلاحظ المرءُ الوحشية والعناء والعذاب الإنساني، فإنه لصعبٌ أن يفهم سبب كون إلهٍ فاعل متدخِّل كان سيسمح لمثل هذه الأشياء بالحدوث، وكما نوقِشَ في وقت أسبق؛ فلا يوجد تفسير مقنِع منطقيًّا لذلك. يُحتمَل كذلك أن مفهوم الأخلاق الإنسانية كما صيغَتْ في مطلقات موضوعية [قصوى دينية] سيُحتفَظ به كناجٍ من الغرق من سفينة الاعتقاد الديني بحيث أن الشخص سيشعر أنه يرغب به. وطالما تمضي عملية الفرز والحجر الخاصة بالعقل للأفكار الدينية، فهذه هي محاولته الأخيرة. إن لم يمكنه قبول هذه القائمة ذات الحد الأدنى من الشخصيات والسمات الدينية، فمن ثَمَّ لن يتبقى شيءٌ من الاعتقاد الديني للتفكير فيه أو اعتناقه. الربوبية على مرمى حجر من الإلحاد. الإله الذي خلق العالم ثم غادر متطابق تقريبًا مع الإله الذي لا يوجد، خصوصًا لو لم يكن له اهتمام بالاختيارات الأخلاقية للبشر. يتوقف العقل عند هذه النقطة المفصلية لأن ما يحاول القيام به بيأس هو تجنب مواجهة أزمة وجودية عميقة والتي يشعر بأنها ستحدث لو تم التخلص من مفهوم الإله وإلقاؤه من على ظهر السفينة كحمولة زائدة. عندما يدخل الشخص في هذه المرحلة من التخلص من السم الفكريّ، فإنه يفشل في إدراك انه لا يزال على نحو خاطئ يحتفظ بما سأشير إليه لاحقًا باسم الافتراض النهائي، وهو نتيجة طبيعية ماكرة للجوهر العام للاعتقاد الديني. في حين كان العقل في الاعتقاد الديني قد عُلِّم ولُقِّن وقَبِلَ مفهوم أن حياة الشخص لها معنى نهائي أبدي متكامل مع هويته الدينية. فبدونه، فإن العقل سيُضطرُ على طرح بعض الأسئلة الأساسية جدًّا عن هويته، وإنه يشعر بقدوم أزمة ويتجنب على نحو طبيعي أزمة من ذلك النوع. رغم أن الربوبية هي أرض وسطى وموقف وسيط طبيعي، فإن الشخص لن يَقْنَعَ باتخاذها لوقت طويل لو كان قد قبل واعتنق التفكير القائم على العقلانية. إن الحجتين الكونية والغائية لهما عيوب نوقشت في الفصل 6، وهما لا يؤلفان بأي حالٍ أساسًا مقنعًا لتأييد الاعتقاد بإلهٍ. هاتان الجدليتان هما لب ما قد يُقنِع بوجود الربوبية على الإطلاق، فإن تفشلا_كما تفعلان بالفعل_ فلا يوجد أي شيء تبقى عمليًّا لتبرير اعتقاد المرء بوجودِ إلهٍ في الواقع الموضوعي. عندما تتوقف عملية إزالة السم الفكري الخاصة بالشخص عند الألوهية، فإن معتقداته تخدم فقط غرض حماية هويته، إنه نادرٌ_لو كان يحدث على الإطلاق_أن تمتد خارج [الفكر النظري] للشخص نفسه بسبب سلبية وانعدام الدور تمامًا الذي يعتقد أن إلهه يتخذه فيما يتعلق بمسائل العالم. رغم كونها قد تكون غير مكلفة بالمقارنة [بالدين]، فإن الفلسفة الربوبية تنهار مع ذلك لنفس السبب الذي انهار لأجله الاعتقاد الديني من الأول. إن الكلمة "إله" غير محددة التعريف وليس هناك برهان إضافي على أن مفهوم الإله ضروري لتفسير وفهم طبيعته ووجوده، وليس هناك يقينًا أي دليل إمبريقي [قائم على الملاحظة] على وجود إلهٍ. بلا شك، فإن الكثير من الناس الذي نبذوا الاعتقاد الديني عقليًّا ينتهي بهم المطاف كربوبيين، لأنها [الربوبية] تبدو أنها تقدم تسوية مريحة. لكن على أساس [الحاجة إلى] كلٍّ من الاتساق الفكري والانضباط العاطفي، فإني أوصي بالتقدم عن تلك المرحلة الجذابة على نحو غريب لأن خوفًا شديدًا على وشك أن يُواجَه في المرحلة القادمة، وهو ما يمثل فرصة هامة للتفحص والمعرفة الشخصيين، وما إن يتم المرور بها، فإن التوازن الأخير النهائي للإلحاد في الانتظار. العدمية بعدما يترك المرء الربوبية، فإنه يكون قد تخلص من أحمال وعبء كل شيء خاص بالاعتقاد الديني. لكن يُرَجَّح تمامًا أنه لا يزال يحتفظ ببعض الافتراضات الخبيثة الدقيقة [الدينية] عن طبيعة وجوده، لكن لم يعد لديه شيء باقٍ يَتعرف عليه كاعتقاد ديني. فبسبب شوكة فكرية ماكثة باقية في جنبه [يعني رواسب فكرية ضارة_م]، فإن المرحلة التي يدخلها تطرح مشاكل هامة لمن يخوضها بدون فهم أين تكمن تلك الشوكة. حينما يصل المرء إلى هذا المستوى، فإنه يقف على حافة نسيان العاطفة. لا شيء له معنى، وخاصة وأقل منهم جميعًا حياته. كل شي يبدو مفقودًا. العالم يبدو غريبًا بشعًا ويلعب على نحو غير لائق بممثلين لا يدركون زيادتهم عن الحاجة على نحو مثير للشفقة وأدوارهم التافهة، وتشعر النفس بأنها خاوية وفارغة من أي معنى. الشعور بالعدمية اتجاه كل شيء بكل النواحي يدل على المرحلة الفكرية التي تتطابق مع الأزمة الوجودية الموصوفة في الفصل السابق. إنهما وجهان لنفس العملة وتؤدي إلى مشاعر عميقة بانعدام المعنى والضياع. لا شيء يجعل الشخص يرتعد أكثر من فقدان المعنى في حياته، وقد قام الاعتقاد الديني بكلٍّ من حل ومفاقمة المشكلة لأتباعه في نفس الوقت. التماس المعنى في حياة المرء هو سبب كبير لكون الناس تنجذب اتجاه الاعتقاد الديني، لكن الأديان في نفس الوقت تضخم حلها المقترح إلى أزمة وجودية بجعل الناس معتمدين حصريًّا عليها وتقترح أنه لا شيء آخر يهم. كما سنرى، فإن الاعتماد العاطفي لن يختبره عادةً المؤمنون الدينيون العاديون، لكن من يريدون بالفعل تركه سرعان ما سيدركون أن الجحيم الذي قد هددهم به دينهم يوجد بالفعل في الحقيقة، بواسطة كون الأديان قد تلاعبت من خلال الافتراضات المركزية المزروعة في أذهان أتباعه فيما يتعلق بما ينبغي على الشخص أن يقدره في الحياة. إنه ليس جحيم الرسوم المتحركة المليء بالشياطين أو الزبانية الحمر الجارين هنا وهناك بمذارٍ ثلاثية الرؤوس أو الجحيم القوطي أو الخاص بالرسامين الكنسيين الأكثر ظلامًا المليء بأدوات التعذيب المتقنة والصرخات المعذَّبة، بل بالأحرى جحيمٌ من الصمت والخواء. للأسف، هناك فقط مخرج واحد. بينما يكون المرء في مرحلة العدمية هذه، فإنه يضطرب اضطرابًا عميقًا لعجزه عن إجابة هذا السؤال: "ما هو المعنى النهائي للحياة؟" للإفلات، يجب أن يكون لدى المرء الإدراك بأن مشكلته تكمن في الافتراض الدقيق عن الوجود الذي يقوم به عندما يسأل هذا السؤال من الأساس، تحديدًا: الافتراض النهائي [أو افتراض الغرض النهائي]، والذي سيعالج بعمق في الفصل 13. مع التفكير القائم على العقلانية، قد استنتج المرء أن الآلهة والروح لا توجد، لكن افتراض وجود غرض نهائي قد أفلت على الأرجح غير مُستبان [مرصود]. إن مصدر الانزعاج المروع الذي يشعر به المرء عندما يكون في خِضَمِ الوضع الذهني العدمي هو التطبيق غير الواعي لمفهومٍ دينيٍّ على وجهة نظر كونية قائمة على التفكير العقلانيّ. بنبذ الافتراض النهائي [الأقصى، المتمثل في الغرض النهائي أو الإله_م]، فإن الشخص يحقق وضع إلحاد عاطفي، بمعنى أن الاسترخاء والراحة المصاحبة لمشاعره ودوافعه ينسجم مع فكره. إن خوض العدمية فرصة كبيرة للتطور العاطفي والنضج، ولا ينبغي تفويتها وإهدارها. إن تقدير محدودية الوعي وشعور ضرورة الاستعجال المصاحب له والذي يغمر الشخص عندما يترك المعاني الضمنية للتفكير القائم على العقلانية تُشرَّب وتغمر رؤيته الكونية تمامًا يشير إلى الانهيار التام لمنظومة الاعتقاد الديني [في ذهن الشخص]. عندما يُواجَه على نحو سليم، فإن الخوف من انعدام المعنى ينقشع ويتبدد كما تفعل كل المخاوف، وتعود القوة التي كانت له على الشخص إليه. إن تدفق التزود بالقوة يميز ويدل على اختتام عملية إزالة السم الخاص بالاعتقاد الديني وبداية الانتقال إلى إعادة التعلم بفعالية ونشاط كيفية عيش الحياة في انسجام وتناغم مع اتساق المرء العاطفي والفكري1. التوازن الأخير للإلحاد عندما ينبذ الشخص أخيرًا كامل شخصيات دينه الخرافية وكذلك افتراضاته الدقيقة الكامنة فيما يتعلق بمكانه في العالم، فإنه يكون قد حقق وضع [=حالة] الإلحاد. لقد أُعْطِيَتْ عواطفُه الوقت الذي تحتاجه لتنضج وتقبل أن ما قرره فكره انعكاسٌ صحيح للواقع الموضوعي. لقد قُرِّرَ أن افتراضات التفكير القائم على العقلانية تنتج أفضل التقديرات التنبئية والموثوقية، وحينذاك فإن كل ما يحتاجه الشخص هو إعادة تحديد مرجعيته بالنسبة للعالَم. إن المُطلَق والدائم لم يعد لهما وجود؛ وما تبقي هو النسبيّ والمؤقت. لقد تنحى الغامض وما فوق الطبيعي لصالح المحدَّد والطبيعيّ. أصبحت الحياة أكثر دقة وتعقيدًا. إن أسلوب تفكير الكل أو لا شي يبدو الآن مبالغًا ___________________ 1 ملاحظة: هنا طرح المؤلف وجهة نظر سلبية عن العدمية والمذهب العدمي كمفهوم لليأس والتحطم الذاتي، لكن هناك شكل آخر للعدمية الفكرية_وإن كنت لا أتبناه_اتخذه أشخاص متميزون فاعلون كألبير كامو الأديب والفيلسوف الفرنسي ويظهر في رواياته بشدة كرواية الموت السعيد وكتابه الفلسفي (سيزيف) وجون ماكِيِ John Mackie الفيلسوف الإنجليزي الملحد العظيم والفيلسوف الرائع العظيم الراحل برتراند راسل البريطاني الذي قد نرى في كتاباته عدمية إيجابية فاعلة سامية جميلة فانظر ترجمة الهيئة المصرية العامة للكتاب لكتابه (عبادة الإنسان الحر)، والأديب القصصي chuck palahniuk المشهور برواية نادي القتال Fight Club العدمية وقد صُنِع منها فلمًا أشهر بنفس العنوان مثل فيه الممثل براد بت وترجمها د.أحمد خالد توفيق ترجمة حذف منها قليلًا من العبارات الإلحادية الساخرة في آخر الصفحات، لكن الأصل الإنجليزي متاح، وغيرهم، والحق يقال أن العدمية بآرائها مذهب فلسفي يحتاج فهمه إلى دقة وتعمق فلسفيين، فقد يُفهَم على نحو خاطئ أن العدميين لا يعتقدون بالأخلاق الإنسانية مثلًا وهذا غير صحيح، هم فقط لهم رؤى عميقة عن وضعية كل شيء بالنسبة للقيم والأفكار والمنطلقات، واتباع العدمية ليس كل شخص يقدر عليه لأنه يحتاج صلابة شخصية شديدة وعمقًا فكريًّا، يمكن اعتبار العدمية مذهبًا من مذاهب الإلحاد ومدارسه التي قد نسمي منها الوجودية والسارترية الوجودية والنتشوية وربما القصيمية نسبة لعبد الله القصيمي وهكذا، ومنها الحديثة المعاصرة Modern Atheism وهي أقواها وأجلّها برأيي لأنها التي تسلحت بالعلوم الحديثة والمنطق والتركيز الشديد وأبرز شخصياتها ملحدون ناطقون بالإنجليزية من أمركا وإنجلاند بريطانيا العظمى وأستراليا لكن هناك من مفكريها فرنسيين وعربًا وناطقين بالإسبانية وإسرائيليين وغيرها من جنسيات في مختلف المجالات العلمية وبدرجات مختلفة من ظهور فكرة الإلحاد، لكن هذه المدارس كلها تجليات لفكر الإلحاد مع اختلافات في فلسفة الحياة والمنظور وربما نقطة التركيز، ومن العجيب كم الكتب المترجمة العلمانية التنويرية من كل اللغات إلى العربية إلى جانب المكتوبة بالعربية بأصالة من قبل مفكرين حقيقيين أصليين أقوياء الفكر وعدم حدوث أي تطور فكري للعرب لأن معظمهم أمم لا تقرأ من الأساس للأسف_م] في التبسيط، وحتى مشبوهًا. الاعتقاد الديني الميلودراميّ المؤثر يظهر كساذج وطفوليّ. رغم ذلك، فإن ملحدًا جديدًا مبتدئًا قد يكون متحيرًا في فهم كيفية عيشه حياته من هذا المنظور الجديد، وهو تحير مفهوم باعتبار تغيره الشخصي. بالنسبة للآن، فسيكون التركيز على كيفية إدارة الشخص حياته إستِراتيجيًّا من منظور مؤقت، واعتبار امتلاكه لمعنى يريد حمايته أو تحقيقه أمرًا مسلمًا به. إن قدرة البشر على صنع والاحتفاظ والتلاعب بالأفكار المجردة في عقولهم هي سلاح ذو حدين. فن ناحية، فإن القدرة على توليد مثل هذا التجريد قد مكنت الإنسانَ من صنع أشياء وتقنيات لتحسين حياته نفسها واللاتي لا نظائر لهن [التقنيات] تمامًا في باقي مملكة الحيوان. ومن الناحية الأخرى، فإن العقل الإنساني لديه القدرة على إرباك نفسه بمقدرته الإبداعية الخاصة به بالخلط على نحو خاطئ بين اختلاقات داخلية محضة مع الطبيعة الحقيقية للواقع الموضوعي. إن مثالًا مناسبًا للمقام والمقال على ارتداد الرصاص هذا هو الموضوع الحالي، ألا وهو الاعتقاد الديني، والذي يتألف من أفكار بُنِيَتْ في وعلى أساس التجريد الذي يخطئ الناس إدراكه على نحو معتاد على أنه جزء من الواقع الموضوعي. الخبر الجيد هو أن هناك دروسًا بسيطًا متاحة للفرد بفضل الطبيعة باقي مملكة الحيوان، والتي ليس لديه الآن معيقات لرؤية نفسه كجزء منها. إن البشر لديهم تعقيدٌ إضافيّ كبير ليس لدى الحيوانات الأخرى، لكن سلوكيات الحيوانات الأخرى يحتوي على دروس لتعلُّمها عن السلوكيات المتناغمة المبادِرة المتوقِّعة [لما سيحدث]. كمثال، فلا يبدو أن الظبي أو الأيل عالقٌ في أزمة وجودية. ولا يبدو الكلاب مكتئبين لأجل فشل بالنسبة لحيواتهم لأنها خرجت عن السبيل الذي كانوا يعتقدون به. هذا لأنهم يعيشون اللحظة. ففي حين ورغم أن بعض الحيوانات أذكياء حقًّا وقد اكتُشِف أنهم أذكر بكثير جدًا مما كان قد حَسِبَه الإنسانُ في الأول، وإن دروسهم للإنسان تنشأ من بساطتهم بالمقارنة [مع الإنسان]. فبرأيي، فالحيوانات الأخرى لا تتوقع أي شيء عن الطبيعة للتواؤم والتكيف مع وجودهم. فإن يَصِر الطعام أو الماء مستَنفَدًا في منطقة معيَّنة، فإنهم يستجيبون لتلك الظروف فينتقلون إلى موقع جديد، بدون البقاء في الضيق أو أخذ الأمر على محمل شخصي. أما البشر فقادرون على النوح والتشكي من المواقف غير المرغوبة ولا المواتية في الحياة ويميلون إلى إهدار الكثير من الطاقة في تلك العملية، وبذلك يُفاقِمون موقفًا مُشكِلًا فعليًّا من الأول. بالتأكيد، فإن الطاقة التي قد يضيعها المرء في هذا الصدد كان يمكن أن يُستَغَل في تقرير كيفية اتخاذ الخطوات لتحقيق هدف المرء المرغوب على نحوٍ حقيقيٍّ، وطالما لا يُنجز المرءُ هذا فإن عجزه عن منع الماضي من الحكم على حاضره وتشويهه سيكلفه تكاليف في شكل وقتٍ. في الإلحاد [منظوره]، فإن الوقت هو العملة العليا المُطلقة لأن المرء لا يمكنه الاستنتاج على نحو عقلاني بأن وعيه سينجو ويبقى بعد الموت الفيزيائي لجسده. لو أن هناك اختبارًا ومقياسًا [كحجر محك الذهب المستعمَل قديمًا لقياس جودته touchstone] في التوازن الأخير الخاص بالإلحاد، فإنه كون المرء يجب أن يتوقف عن انتظار الأمور لتحدث له [من تلقاء نفسها]. العالم الطبيعي لا يدين للإنسان بأي شيء، وإن يُرِدْ شخصٌ تحقيق السعادة والأحلام التي يرغب بها لأجل حياته بغض النظر عن نوعها، فإن احتمالية نجاحه تصل إلى حدها الأقصى ببدء [القيام] بمحاولات مبادِرة لتحقيقها بنفسه. إن قدرة الشخص على تضبيط وتعديل مساره وسلوكه في الحياة ليأخذ في حسبانه التغيرات في البيئة المحيطة أو الظروف علامةٌ مميِّزة لمستوىً عالٍ من تحقيق القوة الفكرية والعاطفية. أما في الاعتقاد الديني، فإن طبيعة الشخص تصير جامدة متخشبة مع توقعات وترتيبات شبه تعاقدية مع قوى غير مرئية [وهمية] تجعله يشعر كما لو أنه لا يحتاج إلى الخضوع للظروف، بينما قد يفكر آخرون فيها بتدبُّرٍ. فباعتبار كل شيء، فإن المؤمن الدينيّ يعتقد أن كائنًا كليَّ القدرةِ يؤيدُ وجودَه [وجود الشخص] ولا يمكنه التوقف عن الامتلاء على نحو غير مفهوم بمشاعر التخويل [والاصطفاء والاستخلاف والإيثار] في نواحٍ معيَّنة. رغم ذلك، فإن العقلية المثالية لملحدٍ هي عكسُ الجمودِ. إن ضربات العالم والحياة ستأتي إلى حياة الشخص كما تشاء [كيفما اتفق وحدث]، والشخص المتصلب يُرجَّح أن تقصفه مقذوقاتها. أما إن تكن رؤية المرء الكونية وأفعاله عوضًا عن ذلك تتسم بالمرونة والسلاسة التكيفية، فإنه لن يجد عواصف ومصائب الحياة أقل حدوثًا، بل بالأحرى أقل احتمالية لأن توقع الضرر أو تكلفه الوقتَ بسبب حدوثها. تفكَّرْ في قوة الماء كإحدى قوى الطبيعة. فمن بعض النواحي، فإنها أقوى مادة في العالم. إن الأودية الفسيحة مثل "الوادي أو الأخدود العظيم" The Grand Canyon تشهد على القوة التي يمكن أن تمارسها [من جهة حفره للوادي _م]. إلا أنها ليس لديها القدرة أن تتحطم قصديًّا بنفسها (الماء ليس صلبًا لذلك لا يتكسر_م)، وإن مرونتها التكيفية يمكن أن تُرَى بتدفقها في قوالب عديدة الأشكال شاهدةً على كيفية تقولبها بعفوية مع محيطاتها البيئية. إن هذا نموذج وقدوة طبيعية لحالة الشخص العقلية التي ينبغي أن يحاول ملحدٌ ناشئٌ [مبتدئ] أن يُعزِّزها ويصقلها. المرونة والقدرة على التكيف هي قوى داخلية من الهام توليدها عقليًّا بدون القصص الخيالية للاعتقاد الديني. إن العالم سوف يوجه الضربات للشخص بغض النظر عن ذكائه، وإنه يحوز أفضل الاحتمالات لتحمل أسوئها بجعل عقليته مرنة بحيث لا يضربه [أو يهزه] شيءٌ مطلقًا 1. ____________________________ 1 ومن الرائع قول أبي العلاء المعريّ: ووجدت الزمانَ أعجمَ فظًّا وجُبار في حكمها العجماء إن دنياك من نهارٍ وليلٍ وهي في ذلك حية عرماء أعجم: لا عقل له، فظًّا: غليظًّا، جُبار: يعني لا دية ولا قصاص منه لأن الحيوان الأعجم قليل وبسيط العقل لا يحاكم وفي فقه الحديث المحمدي (العجما جُبار)، والحية معروفة يعني الثعبان شبّه تعاقب الزمن وانتهاء العمر والزمن بحية تتمثل في اليوم بليله ونهاره. جراند كانيون أو الأخدود العظيم هو أخدود بالغ العمق و الاتساع، يقع في الجزء الشمالي الغربي من ولاية أريزونا الأميركية، ويعبر عددا من ولايات أمريكا بدأً من جبال روكي امتدادا إلى سواحل كاليفورنيا. يعتبر أحد أروع المشاهد الطبيعية في العالم. يبلغ طوله 349 كيلومترا. أما أقصى عمقه فيناهز 1,740 مترا. نشأ الأخدود الكبير بسبب نهر كولورادو الذي شق مجراه عبر صخور هضبة كولورادو في خلال 40 مليون سنة ، كاشفا بذلك الطبقات الأرضية المختلفة التي تكونت عبر نحو 2 مليار سنة من التاريخ الجيولوجي للقارة الأمريكية . |
|
|
|
رقم الموضوع : [8] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
ملاحظة على مراحل الانتقال الفكري
لا ينبغي أن يشعر المرءُ بالإحباط إن وجد أنه يتأخر ويمكث في أي الأوضاع والمراحل الانتقالية المفصَّلة أعلاه. في الواقع، فإن عددًا كبيرًا من الناس يمكث في مرحلة الروحانية الشخصية لكمٍّ ضخمٍ من الوقت، على الأرجح لأنها تمثل موقعًا مريحًا، ينطوي على كلٍّ من الاستقلال الشخصي عن الدين والدعم العاطفي المستمر من مفاهيمه. للأسف، فإن الناس [المتحررين من خرفات الأديان_م] كثيرًا ما لا يرون أنماط حيواتهم يتكرر حدوثها في الآخرين، وإن مراحل إزالة السم المدروسة هنا قد تحملها ومر بها الكثير للغاية جدًّا من الناس، بما فيهم نفسي، الذين قد شعر كلٌّ منهم أن لا أحد آخر [غير نفسه] سيفهم تجربته وخبرته. حتى مع المعرفة المستبقة المفيدة ذات الأفضلية لهؤلاء المراحل، فهنالك عملية نضج عاطفي ينبغي العمل عليها تتم وتُدار في تناسق وتعاون مع هؤلاء المراحل الفكرية1. في الواقع، فإن الفصلين 9 و10 يشكلان زوجًا لا ينبغي أن يُقرآ في معزل عن أحدهما الآخر؛ إنهما يتتمان ويضيفان إلى بعضهما الآخر. وإن فهم النصائح المُعطَاة الخاصة بكلٍّ منهما هو خطوة ممتازة لبدء عملية إعادة بناء هوية الشخص وهي البداية التي سيُبنى عليها مفاهيم عليا وبحوث ونقاشات قريبًا. __________________________ 1 إن ما يطرحه المؤلف هو أشبه بمراحل للعلاج والتعافي النفسي والفكري مع تخبطات فكرية سيمر بها الأشخاص اللذين يعيشون في مجتمعات ودول شمولية تمنع الكثير من المواد العلمية والفكرية والفلسفية الأساسية كحال الدول العربية والإسلامية وبعض قطاعات المجتمع الأمِرِكيّ، لكن لا أعتقد أن أشخاصًا في مجتمعات متقدمة تتيح وتدرّس العلوم الحديثة كالنشوء والتطور والنظريات الكونية والفيزيائية وتاريخ الفلسفة الغربية ومدارسها وتتيح علمي الأديان والآثار الحقيقيين، سيحتاجون للمرور بمعظم هذه المراحل من الأساس، فهي احتياجات أشخاص ممن تعرضوا لعملية تسميم وحشو مخ شديدة شمولية مع حجب المعلومات والحقائق الغير مرغوبة من خلال النظم الحاكمة والاجتماعية، وأنا كمترجم وحتمًا كثير من القراء العرب مروا بهذه المراحل أو بعضها، وقد شهدت حتى مرور بعضهم بها في منتدى الملحدين العرب (طيب الذكر المغلق المنتهي) متحولين من مسلمين مستقلي الفكر أشبه بالمعتزلة والقرآنيين إلى ربوبيين ثم ملحدين أو لادينيين لا أدريين (متبني عدم الدراية)، وربما من كان ملاصقًا أكثر لهم يمكن أن يحدثنا عن أزماتهم الوجودية والنفسية العنيفة بسبب رواسب السموم الدينية الفكرية وعنف وشمولية المجتمعات الإسلامية تكون عامل ضغط عنيف ورهيب عليهم، لقد ظللت لسنة كاملة ربوبيًّا في حيرة ببساطة بسبب المنع الشديد في تلك السنين السالفة للمواد العلمية كالتطور البيولوجي، إلحادي النهائي ساعد فيه سماح العصبة العلمانية المباركة المتنفذة في الحكم والتعليم (في عصر مبارك وسوزان تميم رغم كل التحفظات الصحيحة على فساد حكمه) بوجود نظرية النشوء والتطور في منهج العلوم لإحدى سنوات التعليم الثانوي، وكنت احتجت شراء الكتاب لمراجعة معلومات بسيطة درستها قديمًا فوجدت تعديل المنهج الدراسي المذكور به، ولقلة المواد عن التطور البيولوجي آنذاك ولاحتياجي الشخصي ترجمت مقالًا عن Wikipedia ثم كتابين مهمين عن الموضوع، وبفضل جهود رجالنا المجتهدين العرب ممن هم معنا على نفس الجبهة والكفاح صار يوجد اليوم مئات المقالات عن التطور وعلوم الكون والفيزياء المتاحة على النت وكذلك عشرات الكتب المترجمة عن تلك المواضيع المنشورة نتيًّا أو ورقيًّا، توجد شمولية شديدة وتشويه ومصادرة للحق عن التعبير عن الرأي موجهة ضد نظرية التطور وغيرها، كذلك توجد ندرة نسبية في الكتب عن علمي الأديان والتاريخ والآثار الصحيحين، مقارنة بكم الكتب الملفقة والخرافية الشمولية، كان لقراءتي كتب علم الأديان السليمة الصادقة سليمة المعلومات والمحايدة دور كبير كذلك في تكوين فكري النقدي، وأدين بالشكر لكل من قرأت لهم_م. تطبيقات للتفكير القائم على العقلانية قبل أن نستأنف مع الخطوات الأعلى لإعادة بناء هوية المرء، فإن التركيز سيتحول أولًا إلى تمرين عضلات المرء الفكرية الموجَدة حديثًا فيما يتعلق ببعض الأفكار وأصحاب المهن التي يجدها كثير من الناس عجيبة أو عصيّة على الفهم. إن نبذ الاعتقاد الديني قد أزال عقبة كؤود كانت أمام فهم هذه الألغاز. الآن، فإن الأمر ببساطة هو مسألة تمكين التفكير القائم على العقلانية من العمل والإدارة بدون تحويل مساره على نحوٍ تحكميٍّ اعتباطيٍّ. إن المواضيع التالية هي بمثابة عملية تنظيف منزلي هامة لتفكير المرء القائم على العقلانية. لقد اخترتها لأنها الأمور التي يشير إليها عادةً معظم الناس على أنها "حمقاء" أو "مخطئة بوضوحٍ"، لكن قلة من يعرفون كيفية تفسير السبب بالضبط. كملحد ومفكر على أساس العقلانية، فإنه لهامٌّ أن يقدر المرء منهجيًّا نظاميًّا على فهم سبب عدم اعتقاده في شيءٍ ما. في الواقع، الكثير من الناس يعتبرون الموقف والنظرية الإلحادية "غبية" أو "خاطئة على نحو واضح"، لكن ذلك لأنهم يجيبون وفق الاعتقاد الديني، والذي لا يفهمون افتراضاته على الأرجح. يستطيع الملحدون الناشئون [المبتدئون] القيام بما هو أفضل من ذلك، وبالفعل يجب عليهم إن يريدوا تجنب تكرار الأخطاء التي شجعتها وحفّزتها أديانهم السابقة والصدمة الناتجة للنظام [الفكري] التي مروا بها وتحملوها عندما كُشِفَتْ. كما سنرى، فإن استعمال التفكير القائم على العقلانية على نحوٍ كامل شامل ومتسق وثابت على المبدإ سيجعل متطرفي المجتمع المنهَكين يتراجعون إلى الخلف وينغلقون على أنفسهم بإحكام. الخرافات والدجل ما فائدة [وضع يد أو عين أو خرزة زرقاء أو حدوة حصان على بيت المرء أو طبعة كف بالدم على مخرج البيت أو شبشب أو حذاء قديم على السيارة أو في رقبة الحيوان_م] أو حمل رجل أرنب في مفاتيح سيارة المرء؟! ما خطورة وجود قطة سوداء [أو غراب_م] في طريق المرء؟! الكثير من الناس والثقافات أنشأت خرافاتٍ كهذه، ورغم أنها كلها تبدو سخيفة منافية للعقل على نحو جَلِيٍّ، فإنه لمضمونٌ القول بأن معظم الناس سيفضلون عدم رؤية قطة سوداء تمر أمامهم أبدًّا [أو سماعهم غرابًا ينعق_م]. بعبارة أخرى، هناك جزء صغير من [شخصية وعقلية] الشخص يعطي الخرافة مقدارًا ضئيلًا وكسرة من التصديق، ولو أنه رأى قطة سوداء تمر من أمامه أو به فربما سيفكر: "حسنٌ، كان يمكنني تجنب ذلك". لكن ما الذي في الخرافات ويجعلها لا تُصدَّق ومع ذلك مثيرة للاهتمام في نفس الوقت؟ ما هي السمات العامة للخرافة؟ إن كل الخرفات هي بروتوكولات طمأنة تهدف إلى جمع الحظ السعيد أو درأ وإبعاد الحظ السيئ في المستقبل، أو أنها علامات فأل تتنبأ بإما الحظ الجيد أو السيئ الآتي. ويكون بها عادةً كذلك طلسم [أو طوطم أو رمز] يصنع البيئة الخرافية، وفي قلب كل خرافة يكمن مفهوم الحظ. ما هو الحظ؟ كيف يعرفه المرءُ عندما يراه؟ هل يمكن أن يكون لدى المرء أي معيار موثوق يُعتمَد عليه ليُقرِّر به متى يؤدي الطلسم الذي يحمله إلى الحظ في الحقيقة؟ تفكَّرْ في السيناريو التالي: شخصان، علي ونبيل، كلاهما لديه رجل أرنب في جيبه [أو بخرته أمه أو زوجته في الصباح أو دعا له والداه أو صلى الفجر_م] وكلاهما واقف في الطابور بجوار بعضهما في بنك عندما اقتحمه لصوص ساطون. فسرقوا المال وفي أثناء خروجهم أطلق أحدهم النار على ثُرَيَّا [نجفة]، والتي سقطت على عليٍّ، جاعلةً إياه يحيا مشلولًا من عند الرقبة فما أسفل، بينما لم يتأّذَ نبيلٌ. هل عملت قدم الأرنب الخاصة بنبيلٍ؟ هل فشلت الخاصة بعليٍّ؟ لقد كانا على نحو أساسيٍّ في نفس الموقف عند نفس المكان ولحظة الزمان مع نفس وسيلة الحماية، إلا أن أحدهما عانى من أذى رهيب بينما لم يحدث ذلك للآخر. بعبارة أخرى، فمع كون كل التباينات والمتغيرات الأخرى متساوية بقدر ما يمكن، فإن كل ما يتبقى لتقرير لماذا تعرض علي أو نبيل لأمر إيجابي أو سلبي هو المفهوم الغامض للحظ. والآن، عد واقرأ الفقرتين السابقتين باستبدال كلمة "الحظ" بكلمة "الله، أفعال الله وأمر الله ومشيئته"، و"قدم الأرنب" بأي أداة أو رمز مقدس. إنها ليست صدفة أن القوة المنطقية للنقاش لم تتغير. إن سر السبب يكمن في التفكير فيما تعنيه كلمتا "الإله" و"الحظ" حقًّا، واستعمال تفكير منطقي مطابق لما ورد في الجدلية الفوقية [الماورائية]، أي حقيقة أن لا أحد يمكنه تقديم معنى دقيق على نحو معقول لكليهما يعني أن كلا المفهومين مشبوه و"رائحته مشمومة مفضوحة". بهذه الطريقة، فإن الخرافات تتجنب تدميرها وتفنيدها على نحو حاسم بالتفكير المنطقي المعتاد لأنها تستعمل مصطلحات ومفاهيم غامضة وغير علمية على نحو متأصِّل ولذلك تقاوم فحص سلامتها وصحتها. الكثير من الناس يعرفون بالحدس أن الخرافات غير منطقية أو غير عملية، لكن يصعُب [على الدينيين وذوي الرواسب الدينية] رزع الباب في وجها باستمرار لأن أخطاءها مخبأة في مصطلحاتها، والتي نادرًا ما تؤخَذ بعين الاعتبار ضمن التفكر العادي. بالتأكيد، للمؤمن الديني الحرية بأن يسهب الكلام ويخوض فيه عن إلهه وأخباره السارة المُحْسِنة، لكنه لن يقدر على البرهنة على كيفية معرفته أن يوجد في المقام الأول. لن يقدر على أن يحدد على نحو معقول أين يوجد إلهه الآن 1. بختصار إنه لا يعرف أي شيء عن إلهه؛ إنه ببساطة يشعر بمشاعر غريبة ويملأ الفراغات [جهله بحقيقتها] بتشخيص وتجسيد غامض. نفس الأمر ينطبق على الحظ، عدا الجانب التشخيصي. [حتى في الأديان ____________________ 1 قارن مع قول أبي العلاء المعريّ: زعمتموه بلا مكانٍ ولا زمانٍ ألا فقولوا هذا كلام له خبيءٌ معناه ليست لنا عقول القديمة كانت توجد آلهة للحظ عديدة منها نايكي اليونانية والإله بس المصري_م] هاتان الكلمتان تعبران عن مفاهيم متماثلة، إنها كلمات مالئة لفراغات [المنطق والدليل] والتي يستعملها الناس عندما يشعرون بمعنى شخصي في حدثٍ لكنهم حائرون في شرح السبب. الفارق الوحيد في اختيار أحدها أو الآخر [أو عدم فعل ذلك] هو ما إذا يريد شخصٌ تحميل شخصنة دينية لموقفٍ ما. ماذا عن الرسالة التسلسلية التي يقولون بوجوب نقل عدة نسخ منها إلى آخرين وهكذا دواليك [عادة تكون رسالة دينية ولا توجد في حدود علمي عادة كهذه في ثقافة المسلمين العرب، لكني أذكر إرسال شيعي رسالة أثناء درس ما بعد صلاة الجمعة في المسجد للشيخ السني المصري حسن عيسى عبد الظاهر في قطر _وكان يقدمه كإضافة تطوعية مجانية للراغبين في الاستزادة ومن لديهم أسئلة_بمسجد بمنطقة أم غولينا يوصيه بنسخها عددًا من المرات وفيها تسليمات على آل البيت مع مبالغة شيعية معتادة، فأمر الشيخ السني بتمزيقها بعدد المرات التي يوصي الشيعي بكتابتها مازحًا، ثم عاد فاستغفر وانتقد الشيعي، فربما العادة موجودة عند بعض الشيعة، ويوجد أمور شبيهة عند المسلمين كوجوب الصلاة والسلام كلما ذكر اسم محمد أو الأذكار كلما عطس أو دخل الحمام أو بعد تبرزه أو نام أو مارس الجنس أو أكل أو أنهى طعامه أو ارتدى ثوبًا جديدًا وغيرها، يا للهول!_م]. الرسالة المتسلسلة هي وثيقة خرافية يوصَى أن يوصلها المرء إلى عدد من الأصدقاء أو أفراد الأسرة وتعد زعمًا بمكافآت كبيرة سيحصل عليها الناس على نحو غير صدفوي لفعلهم ذلك، وبعض المعاناة المرعبة التي سيعانيها الآخرون لكسرهم التسلسل. هل يبدو ذلك مألوفًا؟ ينبغي أن يكون كذلك، فهذا الوصف المزعوم هو بالضبط ما يكُونُه الكتاب المقدس لدينٍ. رسالة متداوَلة ليس لديها دليل أو منطق على الإطلاق لكل وعودها بالسعادة أو الضرر الذي سيقع زعمًا على من إما سيواصلون أو يكسرون ويوقفون تداولها وتنقلها، وكذلك بالمثل يفعل الكتاب المقدس لدينٍ بحيث يأمر الناس بالعيش وفقًا لتعاليمه ونشر كلمته ودعوته. كلا الوثيقتين تعملان بنفس المبدإ لأجل تكاثرهما وانتشارهما: إنهما يعتمدان على خوف الشخص من المجهول وعدم قدرته على إدراك أن تقنيات التفكير القائم على العقلانية الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية تنطبق [على الأمر]. ما الذي سيسبب سقوط كل شعر امرئٍ لو لم ينسخ 27 نسخة من رسالة ويرسلها إلى أصدقائه؟ ما الذي سيرسل شخصًا إلى مكان يُدعى الجحيم أو جهنم إن لم يلقن أطفاله وأسرته شرائع وتقاليد الكتاب المقدس [كالقرآن والبيبل وغيرهما]؟ لا يمكن لأحد الإجابة. كل ما يشعرون بأنهم أحرار في التعليق به وقوله هو وضع تلك التهديدات، ومن ثم فإنهم يكونون قانعين بالمجازفة باحتمالية أن المرء لن يمتلك انضباطًا كافيًا ليكبح خياله من الإصابة بالذعر. نظريات المؤامرة ما هي سمات نظرية المؤامرة؟ إن نظرية المؤامرة هي أي فكرة لتفسير أحداث والتي تزعم أدلة على مؤامرة مفترَضة، معتمدة بشدة على الإيماآت والتلميحات والأمور متعددة التفسيرات، وتتضمن دومًا تقريبًا مؤامرة وراء الستار من جانب أناس ذوي نفوس. العلامة المميزة لنظرية المؤامرة هي الاعتماد الشديد على التلميحات والمعاني المتضمنة، رغم ذلك، فإن الأدلة المفضلة [لها] تأتي في شكل زعم وجود إثم وخطيئة من خلال تداعي الأفكار أو الأدلة الظرفية الضعيفة والاقتراحية للغاية. بالتأكيد، ليست كل نظريات المؤامرة تُصنَع متماثلةً. فبعضها أكثر قابلية للتصديق بكثير من أخرى لأن لديها كمًّا أكبر من الأدلة الظرفية أو جودة أفضل منها، فيما تبدو أخرى كأنها تختبر عن قصد حدود التصديق والسذاجة البشرية. بعبارة أخرى، يجب على المرء أن يحلل الأدلة بناءً على مصادرها والموثوقية الإجمالية قبل أن يمكنه الانشغال بالاهتمام ووضع أي اعتبار لما تزعم أنها تبرهن عليه. على نحو محزن، فهناك ناس استحوذت على عقولهم البارانويا [جنون العظمة والارتياب] والذين يختارون نوعيات القصص حول الأحداث التي تؤكد مخاوفهم، وهو عمل عقول تسمح لعواطفها بالطغيان على قدرتها الفكرية. كل امرئٍ يعرف شخصًا واحدًا على الأقل منشغل ذهنيًّا وعاطفيًّا بنظريات المؤامرة، وكثيرًا ما يفتتحون الموضوع بعبارة على غرار: "أنت لا تعرف بهذا حقًّا؟!" أو "هذا سيذهلك ويبرجل عقلك". بعبارة أخرى، إنهم يميلون إلى إظهار شخصية تدعي معرفة كل شي، وهو أمر مفهوم باعتبار عمق المعرفة والمعلومات التي قد أقنعوا أنفسهم بأنهم قد حازوها. أما في حالة وجود التفكير القائم على العقلانية بالوضع الطبيعي، فإنه يمكن استعمال طريقة للفهم واضحة ومطَّرِدة منتظمة لأي نظرية مؤامرة محددة، وهي أن درجة تصديق المرء ينبغي أن تزداد في تناسب طرديّ مع جودة وموثوقية الأدلة التي يقدمها أحدٌ ما لتأييدها، أما الجاذبيات العاطفية فلن تصلح. في الحقيقة، فإن العواطف لا تصلح ولا تفيد بأي حالٍ عند القيام بتقارير عن مسائل الحقائق فيما يتعلق بالواقع الموضوعي، وانجذاب الآخر إليها مثير للشك والاشتباه. وكما مع حالة الخرافات والشعوذة، فإن الاعتقاد الديني يتّبع نمطًا مماثلًا هنا. في الواقع، فإن الاعتقاد الديني يمثّل نظرية المؤامرة القصوى. فبدون أساس مقنع على نحو معقول من الأدلة أو المنطق، فإن الناس الذين يحوزون كلًّا من الاعتقاد الديني ونظريات المؤامرة عمومًا يفعلون ذلك من منظور عاطفي غير مفيد، والاستنتاجات التي يستنتجونها يعتنقونها بيقينٍ. بالفعل، كيف يمكن ألا يكونوا متيقنين؟ إن امرئًا قد اتخذ قرارًا بقبول ما هو أقل من التأييد الاستدلالي والمنطقي المعقول لما يعتقد به، وفي أثناء ذلك نبذ عين الأدوات التي كانت ستمكنه من إضافة مادة إلى مستوى معرفته، بدونها [الأدلة] فإنه يتصرف على نحو أساسي على أساس الإيمان. وكما مع حالة الاعتقاد الديني، فإن عملية [الاعتقاد بـ] نظريات المؤامرة تحمل كل العلامات المميزة لعقول عاجزة عن تأسيس أنفسها وأفكارها على أساس معلومات يُعتمَد عليها وموثوقة، وهي تسبب انزعاجًا وضغطًا لا يُصدَّقان في حياة الشخص. أما بجعل عقائد المرء متوقفة على الأدلة والمنطق المعقول، فإنه يكون لديه مرساة أو وتد لتثبيت وترسيخ فكره من تلاعب وتقاذف رياح أهواء عواطفه لها، ولا يوجد عاطفة أكثر قدرة على إحداث ذلك الاضطراب من الخوف. ولكونهم متشاركين في البارانويا المميزة لأتباع نظرية المؤامرة، فإن المؤمنين الدينيين مصابين بالبارانويا [التظنن، جنون الارتياب] على نحو لا نهائي ومتصل بصدد حتى الهمس بأنهم لا يؤمنون بإله [أو فعل أو قول أي شي مخالف للتعاليم الدينية الخرافية أو مجرد التفكير فيه] لأنهم قد لُقِّنوا أنه في كل مكان ويسمع كل شيء. إنهم يمكن أن يكونوا بارانويين بصدد تفويت الكنيسة [أو المسجد] أو صلاة لنفس السبب. إنهم كلهم يلعبون لعبة لا يمكنهم الفوز فيها لأن عواطفهم قد تلاعبت ضدهم بأسلوب الغش والثلاث ورقات وترتيب الأوراق لصالحها من البداية. قراءة الطالع أو الحظ والقراآت الروحية وعلوم زائفة دجلية أخرى إن جوهر قراءة الطالع والقراآت الروحية والعلوم الزائفة الأخرى هو زعمها بامتلاك مقدرة استثنائية على التنبؤ بأحداث المستقبل. يستخدم محترفو هذه المجالات تقنيات وأدوات عديدة لجمع المعلومات [زعمًا] مثل أوراق التاروت والكرات البلورية وقراءة خطوط كف اليد [أو بقايا كوب القهوة_م] أو دخول في غشية [ترانس]. وبينما يجمعون المعلومات من هذه المصادر [بزعمهم]، يبدؤون في سرد بعض تفاصيل جوانب من حياة الزبون على نحو صحيح والتي قد حدثت له من قبلُ ثم يستأنفون بتقديم أخبار مزعومة عما سيحدث له في المستقبل. إن محترفًا ممتهنًا ماهرًا يمكنه جعل هذه التجربة تبدو صحيحة وجِدِيّة وقورة على نحوٍ مقلق. إذن، ما الذي يحدث حينذاك؟ كيف يمكن أن يكون لدى أولئك الناس تلك القدرات؟ بالتأكيد، الإجابة أنهم لا يمتلكونها، لكن فهم كيفية صنعهم لتأثيراتهم أدق من فضح السحر الفيزيائي المادي. تظهر الحيل السحرية على أنها تنتهك قوانين الطبيعة، ويمكن للمرء دائمًا أن يتحرى فيزيائيًا ماديًّا ويستنتج أن لها تفسيرًا منطقيًّا. الروحانيون ومن يشبههم يمارسون خدعًا شبيهة، لكنهم يفعلون ذلك مع المعلومات الشفهية بدلًا من الاستحالة الفيزيائية [المزعومة]. وحيث أنها هكذا، فإن سحرهم مخبأ بأمان في عقولهم، لذا فكل ما يمكن اختباره وفحصه هو ما يقولونه. فيما يتعلق بممتهني العلوم الزائفة، فإن الخدعة هي مرة أخرى مجددًا أن لا شيء مما قيل محدَّد على نحوٍ كافٍ بحيث يكون قابلًا للاختبار أو قابلًا لمحاولة التكذيب. ما الذي يبدو أشبه بنبوءة روحاني متنبئ: هذا الشخص سيكون لديه مشاكل مالية في المستقبل القريب، أم أن: ذلك الشخص سيخسر 683 دولارًا في سوق البورصة هذا الثلاثاءَ القادم عند الساعة 3, 42 عصرًا ؟ بعمل تعليقات غامضة تميل إلى عالمية القابلية للانطباق، فإن المحترف [للدجل] يترك زبونه يملأ الفراغات بما يراه ملائمًا. المال واهتمامات الحب وأفراد الأسرة الميتين كلها نطاقات ملائمة للمحترفين الروحانيين لأن كل أحدٍ [دينيٍّ] تقريبًا له اهتمام بسماع تنبؤات عن كلٍّ منها. إنهم يدرسون كذلك ردود فعل واستجابات الشخص لأسئلة سَبْرِية اختبارية لترشد اتجاه ما سيتنبؤون به. تُعرف هذه التقنية الشائعة بالقراءة الباردة وسنناقشها في الفصل 14 عندما ندرس كذلك أسلوب نصب القراءة الساخنة. إن القراءة الباردة هي تقنية دقيقة ماكرة قد تبدو قوية تمامًا لو أن الشخص يراها فقط تُعمَل معه وليس لديه فرصة أخرى لرؤية أساليب المحترف. بغض النظر عن ذلك، فإنها وسيلة لجعل الزبون بدون وعي يقدم معلومات شخصية، والتي بدورها تقدم نبوآت لاحقة أكثر إثارةً للإعجاب. لو أن الشخص سيجلس خاليًا من تعابير المشاعر أمام روحاني بدون الإجابة على الأسئلة، فستبدو نبوآته أقل إثارة للإعجاب. مثل السحرة، فإن الكهنة [ورجال الدين وأشباههم ممن يتخصصون في الدجل_م] ومحترفو علوم زائفة أخرى يهدفون إلى الظهور على أنهم قادرون على انتهاك وكسر قوانين الطبيعة بدون فعل ذلك في الحقيقة أبدًا. يمارس السحرة براعة وخفة اليدين، أما محترفو العلوم الزائفة فيمارسون براعة العقل. كلا الفريقين يحاول تحقيق المعادلة السليمة للغموض الذي يبدو مثل التحديد والدقة. فباعتبار كل شيء، فإن أي أحدٍ يذهب إلى روحانيٍّ (أو إلى بيت صلاة وتعبد) يريد أن يصدق أن المحترف يمكنه فعل ما تقول لافتة أعماله أنه يقدر على فعله. في العموم، فإن كل ما على المحترف فعله هو أن يكون حادَّ الملاحظة ويترك رغبة الزبون الأولية المستعدة لتصديق أنه يعرف مستقبله تقوم بالباقي. هل يرتدي الزبون خاتم زواج أو خطوبة؟ في أي فئة سنية عامة هو؟ ما نمط الثياب التي يلبسها؟ كل امرئٍ يريد أن يعتقد أنه فريدٌ على نحوٍ كاملٍ، لكن الناس يتبعون أنماطًا. والمحترفون الناجحون للدجل سيكونون قادرين على تبين هذه الأنماط واستعمالها للتنبؤ وحزر تخمينات جيدة عن حياة الشخص. تفكر في التشابهات المذهلة بين الأديان وأسلوب عمل هذه العلوم الزائفة. تقدم الكتب المقدسة تنبؤات غامضة عما يحمله المستقبل لأتباعها، كثيرًا ما تكون في سياق أعظم آمال الشخص وأسوأ مخاوفه، وبعض الكهنة ورجال الدين يحاولون حتى القيام بنسخٍ من القراءة الباردة أو الساخنة في تجمعاتهم ولقاآتهم الدينية [انظر النبوءة الإسلامية المضحكة مثلا: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة!، التي تنطبق على مليون حدث، وغيرها_م]. هنالك قاسم ووريد مشترك في كل هذا، تحديدًا: ادعاء المعرفة الكبيرة العظيمة وعدم قول أي شيء محدد على الإطلاق. بالتأكيد، فإن ذلك النمط قد كررناه تكرارًا مضجِرًا، لكنه ينبغي أن يبدو أيضًا مريحًا في برهنته على أن الخدع اللغوية للدجّالين قد جُعِلَتْ الآن واضحة وذات طبيعة ونغمة واحدة. فرغم خلفيتهم المسرحية الجميلة المشوّشة وخداعهم، فإنهم ليسوا إلا تجار غير أخلاقيين يبيعون نكهات مختلفة من نفس الحلوى العقلية [الرديئة المغشوشة والمسمومة]. الكائنات الميتافيزيقية [فوق الطبيعية] غير الدينية الأرواح والأشباح والأرواح الهائمة القلقة قد استحوذت على مخيال البشر لقرون. سواء أكان مستشفى عقلي مهجور، أو منزل مُقْفر، أو خط أنفاق سكة حديدية قديم، فإنه الأرواح والأطياف تهيم وتسكن كما يُزعَم أي مكانٍ له التاريخ المناسب لها. الأبنية المزعوم أنها مسكونة تبدو دائمًا قديمة وذات تاريخ أسود مظلم في ناحيةٍ ما. الناس الذين يزعمون أنهم قد تفاعلوا مع أشباح كثيرًا ما يقولون أنهم سمعوا أصواتًا ضعيفة أو شعروا بتغيرات مناخية أو كان لديهم قلق مروع عام بصدد المكان الذي كانوا فيه. تحدث هذه الأحداث دائمًا تقريبًا في ظلام الليل وعادةً يكون لدى الشخص الذي يشعر بوجود الأرواح معرفةٌ بالتاريخ الفريد للبناء الذي يشعر فيه بها. يشترك أحيانًا الروحانيون كذلك في هذه المواقف لكي يقرروا وجود الأرواح، وإن جلسات استحضار الأرواح مسرح أحداث أندر يُستحضَر فيه [زعمًا] ما فوق الطبيعي بمساعدة الروحاني أو الوسيط الذي يدَّعي امتلاكه وثيقة وخصوصية بهذه المملكة الغريبة. بعبارة شائعة، فهذه هي مملكة ما فوق الطبيعة، موطن عدد لا يُحصى [زعمًا] من المخلوقات الرهيبة التي لا تُقهَر ذوات الاهتمام العجيب بالبشر. وبينما تنزع كثير من هذه المخلوقات إلى وجود روابط لها مع الأساطير الدينية، فإن الكثير منها تشغل مملكة الخوف العامّ حيث أن الأديان كثيرًا ما لا تنشغل بالإشارة إليها مباشرةً. بالتأكيد، لقد استهلكنا فعليًّا كمًّا كبيرًا من الوقت في الجزء الأول للبرهنة على أنه لا سبب للظن بأن المملكة فوق الطبيعية توجد حقًّا في الواقع الموضوعي، ولذا يجب أن يكون هناك تفسير آخر لهذه الظواهر. بالنسبة لي، فإنه لذو دلالة بليغة أن كل لقاآت الأشباح تقريبًا تحدث في الليل. فمثلما تشغل الظاهرة السابقة في هذا القسم (نبوآت المنجمين والدجالين) الأماكن المظلمة المستترة في عقل الشخص، فإن الأشباح والأرواح تشغل الأماكن المظلمة في رؤيته. فعندما يدخل شخصٌ بيتًا قديمًا متداعيًا أو بناية يبدو عليها القِدَم، فإنه يكون مُهيَّأً مستعدًا لمقابلات مع الأشباح، أي أنه يتوقع رؤية مثل هذه الأشياء بناءً على الفلكلور عن الأشباح. إن كانت الأرواح توجد حقًّا، فإنها ممنوعة على نحو غريب من الظهور في البنايات الجديدة أو في ضوء النهار. ترينا حقيقة أن الروحانيين والوسطاء الروحيين قد اشتركوا في هذا المجال كيف أن محترفين آخرين للعلوم الزائفة الدجلية قد قاموا بالاستغلال التطفلي لاستعداد مفهوميّ تطفليّ قد زرعته الأديان فعليًّا من قَبْلُ. [يُزعَم] أن الأشباح إما أرواح هائمة لا يمكنها دخول السماء أو شياطين عالقة في المملكة الفيزيائية [الطبيعية]. كلا هذين المفهومين مُقتبَس مباشرةً من الأساطير الدينية، وتلك المجالات والأنشطة الزائفة الدجلية تستعمل المفاهيم الدينية لتصنع على نحو فعال شراكة غير مرغوبة مع الأديان. مع التفكير القائم على العقلانية، فإن المرء يمكنه أن يستنتج فقط أن ما يُشعَرُ به في الأركان المظلمة للأماكن القديمة والأقبية الرطبة هو خوف المرء الشخصي، وقد جُسِّد من خلال الأفكار الخرافية التي قد غُرِسَتْ ثقافيًّا في عقله وقد تُصُوِّرَت وأُسْقِطَتْ على الظلام غير واضح المعالم رديء التعريف. خلاصة إن الدرس االمشترك في كل هذه المجالات هو أن امتلاك دقة في التفكير واللغة وسيلةٌ للانتصار على خوف المرء من الأشياء التي يُزعَم وجودها في الواقع الموضوعي. لو أن خوفًا ما غير عقلاني ولا أساس له من الصحة ولا إثبات، فإن أفضل فرصة لدى المرء لاكتشاف ذلك هي ترتيب أفكاره بدقة صارمة بدون السماح بعامل الذعر بالتأثير على التقييم. ورغم ذلك، فلو كان خوفٌ ما صحيحًا وراجحًا فإن مراعاة الدقة في الأفكار للعمل على معالجة المشكلة هو على نحو مماثل أفضل فرص المرء لمواجهة وإيقاف المشكلة. بعبارة أخرى، فإن دقة المرء ستمكنه من إحداث أكثر التصرفات حسنَ تخطيطٍ واتساقٍ لتخليص نفسه من الموقف. إن فهم أن أكثر مخاوف المرء جموحًا وشدة يكمن في خياله وأن باقي هذه الأخطار الوهمية الخارجية الظاهرية هو في الحقيقة إسقاطات من داخل نفسه، هو مصدر كبير للشعور باتحاد وتوحد النفس. هذه الحفنة من الدروس وحدها ينبغي اعتبارها قَيِّمة ومفيدة على نحو كافٍ للتسبب في شعور كبير بالراحة والطمأنينة بأن بعض أكثر الجوانب إثارة للقلق والخوف من الفلكلور والأساطير تنتمي إلى نفس الفئة والتصنيف كالآلهة، يعني على وجه التحديد: القصص الخرافية التي قد خرجت عن السيطرة. إن يرغبْ المرءُ في التحكم بخوفه، فإنه يحتاج فقط إلى التفكير بدقة، وبذلك سيتخذ أفضل إستراتيجياته المتاحة للتغلب عليه. 11 مكان الشخص فيما يتعلق بالكون عندما أصبحتُ مقتنعًا بأن الكونَ طبيعيٌّ، وأن كل الأشباح والآلهة أساطير، حينذاك تغلغل عقلي وذاتي وكل قطرة من دمي وشعوري، بهجة الحرية. إن أسوار سجني انهارت وسقطت. روبرت جرين أنجرسول Robert Green Ingersoll [شخصية أمِرِكية تاريخية، سياسي وخطيب ومفكر] بعد التخلص من الاعتقاد الديني، قدّم الفصلان 9 و10 وسائل ومناظير رؤية للمرء لتحقيق تصفية وتطهير نفسي وعاطفي يُحتاج إليه كثيرًا. وحيث أن الجزء الثاني قد قُرِّر أن يُشبه عملية إعادة بناء منهجية، فإننا قد ناقشنا ودرسنا مسائل ذات أهمية عاطفية أساسية في مستهله لأن الاشتراك في والاتباع طويل الأمد للاعتقاد الديني هو إدمان عاطفي في المقام الأول وعلى نحوٍ رئيسيّ، وكنتيجة لذلك فإن العمل على استقرار النفس لا يمكن أن يكون سوى أولى أولويات العمل. عواطف المرء لديها القدرة على أن تهزم وتطغى على التفكير بسهولة، وما لم تُقدَّم أدواتٌ أولًا للعمل على استقرار النفس، فإن أي إنشاآت فكرية تُنشَأ بتعجل كانت ستنهار في الهزات العاطفية الثانوية. أما الآن، فيمكن بدء إعادة البناء الفكري المتكامل، وإن أول قالب حجر يوضع في مستوى الأساس الجديد للهوية سيكون تحديد مكان الشخص في الكون. أما مجال الحجر الذي سيوضع على قمته [البناء] فسيكون غرضه أضيق وسيركز في مكان الشخص فيما يتعلق بالمجتمع. ومجال وغرض الحجر الأخير سيكون أكثر ضيقًا وسيركز في مكان الشخص فيما يتعلق بالنفس. مبتدئين بمكان الشخص في الكون، فإن الدراسة ستتعمق وتخوض في أحدث ما توصل إليه العلم في مجالات علمية عديدة، وستبزغ قصة جديدة عن وجود الكون والإنسان وكل شيء تختلف على نحو مذهل عن قصص النشأة والأصول التي قالت بها الأديان. وحيث أن الدراسات العلمية الشاملة المتوسعة تخرج عن الغرض من هذا الكتاب وخبرة مؤلفه، فإن هذا الفصل سيفحص فقط الفهم المقبول حاليًّا للعديد من الأحداث الهامة في تاريخ الكون ذات العلاقة بهوية الشخص. إن التفسيرات التالية تصل ما بين مجالات متنوعة، تتضمن الكيمياء والأحياء والفيزياء وعلم الفضاء والفلك، ولو كان اهتمام القارئ بهذه المجالات يفوق الدراسة الموجزة المقدَّمة، فإن الاطلاع على النصوص والكتب العلمية أو الدوريات والجرائد العلمية لأجل توضيح فني إضافي سيكون ملائمًا. أصل الكون ونشأته _ الانفجار العظيم في العصر الحاليّ، يتفق علماء الفضاء والفيزيائيون أن الكون بدأ كمفردة ضئيلة شديدة الكثافة والتي انفجرت وأرسلت كل المادة التي بداخلها على شكل جزئيات تتسارع في حركتها. هذا الانفجار هو ما يشار إليه باسم الانفجار العظيم، وإن استعمال مصطلح "مفردة" هو مجرد طريقة أكثر لباقة لقول جملة "شيء لم يسبق له نظير في المعرفة الحالية للإنسان". وفقًا لتلاقي النتائج الخاصة بالعديد من الوسائل العلمية التي تقوم على التقدير الاستقرائي لجوانب معينة من الكون الحالي بالعودة في الزمن، لقد حدث الانفجار العظيم منذ حوالي 14, 5 مليار سنة ماضية، رغم أن لا أحد يعرف بعدُ كيف تُسُبِّبَ به أو كيف ولَّد ذلك الكم الهائل من الطاقة والمادة. في الواقع، يدعي العلم فقط أن لديه معرفة معقولة عما حدث في لحيظة ما بعد الانفجار العظيم، وبالتالي تظل المفردة نفسها لغزًا. رغم ذلك، فبعد الانفجار العظيم عملت قوانين الكون على الطاقة-المادة المُطلَقة حديثًا، وبدأت المادة تتجمع مع بعضها في تكتلات على نحو غير متساوٍ بسبب تأثيرات الجاذبية [فيما بينها]، مما أدى في النهاية إلى تشكل النجوم والكواكب، بما في ذلك منظومة البشر الشمسية والشمس والأرض. يزعم ويؤكد [كهنة وأتباع] الأديان [حاليًّا] _[عدا البودية والجاينية وربما التاوية] أن إلهًا قد أوجد وتسبب في الكون من خلال التسبب في المفردة التي أدت إلى الانفجار العظيم. على نحو واضح، فهذا تعبير وتجلي للجدلية الكونية، محزومة ومعبأة في شكل مصطلحات علمية، والتي [الجدلية] قد تم القضاء عليها فعليًّا. [لاحظ أن الدجالين كزغلول النجار ومصطفى محمود استغلوا جهل الناس العوام في مجتمعات الفقر والجهل بماهية نظرية الانفجار العظيم من الأساس، وروجوا أكاذيبهم وتربحوا منها، في حين تتناقض نصوص القرآن والكتاب المقدس مع العلم الحقيقي لأنها لا تتكلم عن مفردة شديدة كثافة المادة، بل تفترض أنه في البدء تمامًا وجدت مادة وأرض هذا الكوكب وسماء وفق مفهوم بدائي جدًّا هي سماء الأرض المتصورة كمسطحة وليس كوكبًا وفي نفس الوقت سماوات خرافية لباقي الكون معها والنجوم والكواكب منثورة بداخلها كأشياء ضئيلة ومصابيح لمجرد إسعاد بشر وتعريفهم بالاتجاهات والمواسم في حين يتم إلقاء بعضها على الأرض لرجم شياطين! نجوم بأضعاف حجم الكوكب تلقى عليه بدلا من فهم أنها شهب ونيازك تحترق كليًّا أو جزئيًّا باحتكاكها بالغلاف الجوي، من أين جاءت مادة وأرض وسماء قبل الانفجار العظيم حسب القرآن والكتاب المقدس؟! بعد الانفجار العظيم بدأت المادة كجسيمات تحت ذرية تألفت منها بقوة الانجذاب ذرات الهيدروجين الأولوية ومن اندماجاتها النووية بفعل الجاذبية الضاغطة نشأت النجوم كمفاعلات نووية حرارية أنتجت كل باقي العناصر الفيزيائية بدمج ذرات الهيدروجين، مفاهيم النصوص الدينية البدائية لا تمت بصلة لما يقول به العلم الحديث، الفارق بين عمر الكون ككل وكوكبنا أكثر من عشرة مليارات سنة، نصوص الدين لا محل لها من الإعراب علميًّا_م]. لو عرف [كهنة ومحترفو] الأديان كلمة "إله" على أنها تعني ببساطة قوة ما غير معروفة، لكان سيكون اختلاف في الدلالة اللفظية [السيمانطيقية] بينهم وبين العلم، بحيث يكون كلا الفريقين يدعو نفس الشيء باسم مختلف، أي: "إله" في مقابل "المفردة". لكن بالتأكيد، لا تعرف [نصوص] الأديان المصطلح بمثل هذا الحد الأدنى. إنها تستأنف بتشخيص القوة، وإعطائها شخصية، والادعاء بأنها لا تزال توجد اليوم، والزعم بأن لها اهتمام خاص بالبشرية، والاقتراح والادعاء بأنها تتكلم [أو تكلمت] مع ناس معينين، والإعلان بأنها تهتم بقرارات البشر الأخلاقية. بقدر ما يتعلق بالعلم، فلا دليل أمبريقي [قائم على التجربة والملاحظة] أو ضرورة منطقية لأيٍّ من هؤلاء الاستنتاجات، ومن منظور التفكير القائم على العقلانية فإن المفردة هي فقط نقطة ومرحلة غير معروفة من تسلسل السببية. إن الأسئلة بخصوص الانفجار العظيم وحدود الكون محيرة مثيرة للدوار لأن مقياسها يعتبر العقل البشري مقارنة به قزمًا تمامًا. [الكون كفراغ ومساحة ليس له حدود، لكن لعل للمادة كم محدود رغم ضخامته_م]. في تاريخهم القصير، فإن البشرية قد حازوا مؤخرًا فقط القدرة على مد حواسهم على نحو مقصود إلى ما هو خارج كوكب الأرض، والكثير جدًّا من التقدم في المعرفة البشرية فيما يتعلق بالانفجار العظيم قد حدث في آخر خمسين سنة. على نحو غير مفاجئ، فإن التقدم حاد الارتفاع في المعرفة فيما يتعلق بنشأة الكون تتوافق مع تطور وتحسن الأدوات ذوات القوة والحساسية، وخاصة تكنولوجي [تقنية] الكمبيوتر. إن سرعة معالجة الكمبيوترات للبيانات قد أتاحت ملاحظات وحسابات كانت سابقًا مستحيلة، سواءً بسبب السرعة المتطلبة للملاحظة التي ستحدث ستكون أسرع للغاية من قدرة العين البشرية لتقيسها وتلاحظها بدقة أو بسبب أن كم البيانات التي سيحتاج المرء إلى تحليها في التجربة ستكون أضخم بكثير من أن تُجمَع في كم معقول واقعي من الوقت يدويًّا. بعبارة أخرى، ستستمر نظرية الانفجار العظيم في تحسينها وصياغتها خلال السنوات القادمة. أما حاليًّا فإنها أحدث ما وصلت إليه المعرفة العلمية مع وجود علامة استفهام كبيرة في مركزها، والتي يعجز التصور عن تفسيرها بسبب كلٍّ من مسافتها الزمنية واستعصائها على الملاحظة. لقد اقتُرِحَتْ الكثير من الأفكار لمحاولة صياغة البيانات المتاحة في إطار يفسر ليس فقط المُفرَدة بل وكذلك ما وُجِد قبلها وخارجها. يُحتمَل أن هناك حدًّا لما يمكن للعلم فهمه في هذا الخصوص إن لا يستطع اختراع وسيلة لمد حواس الإنسان على نحوٍ ما خارج الكون نفسه، وهي فكرة تبدو هي نفسها غير مفهومة. رغم ذلك، فإن اتجاه البشرية الحاليّ الخاص بزيادة سرعة معالجة الكمبيوترات للبيانات على نحوٍ هائل وحساسية الآلات والأدوات العلمية يمكنه تقوية احتمالات الحصول على تفسيرات مقبولة بالفعل في المستقبل على تلك الأسئلة التي تبدو مستحيلة [الإجابة] الآن. فرغم كل شيء، فلا أحد كان يمكنه تصور أن العلماء سيتمكنون من تحديد ومعرفة كل ما لديهم حاليًّا عن المسألة بقدر ما وصل إليه العلم فيها الآن. أصل ونشأة الحياة_النشوء الذاتي التلقائي باعتبارنا تشكل كوكب الأرض والوجود كمسلَّمة، فإن فارقًا أساسيًّا ينشأ بين الماضي والحاضر، تحديدًا: كيف يمكن أن تنشأ كل [أشكال] الحياة المزدهرة حاليًّا التي توجد على الأرض من ماضٍ شكَّل كوكب الأرض ككرة مركَّبة من العناصر؟ بالتالي، كيف بدأت الحياة على الأرض؟ الإجابة على هذا السؤال والمصطلح العلمي لظاهرة كيفية إمكان نشوء الحياة العضوية من مواد غير عضوية هو (النشوء العفوي الذاتي abiogenesis). لاحظ أن النشوء الذاتي ليس له علاقة بنظرية الانفجار العظيم. فالنموذجان متمايزان ومستقلان ويعتمد كلٌّ منهما على مجال علمي مختلف. يتناول النشوء الذاتي وجود الأرض والكون كمقدمة ومسلَّمة لكي يفسر كيف يمكن أن تكون الحياة قد بدأت من ثَمَّ. عن هذه المسألة لا توجد نظرية علمية واحدة مفضلة حصريًّا لتفسير كيفية بداية الحياة على الأرض، على نحو رئيسي لأن هناك طرق عديدة معروفة كوسائل عملية يمكن بها نشوء المواد العضوية من مواد غير عضوية. إحدى هذه السيناريوهات هو ما يُعرَف بالحساء البدائي، والذي يصف أرضًا عتيقة بدائية، غير معروفة للإنسان، أمكن فيها لمكونات الغلاف الجوي والماء مع الشحنات الكهربية للبرق إنتاج أحماضٍ أَمَيْنِيَّة، وحدةُ بناءٍ للحياة. العثور مؤخرًا على جزيئات عضوية معقدة في النيازك والغبار الكوني قد كشف بأن مثل تلك المواد ليست بهذه الندرة في الكون كما كان قد اعتُقِدَ قديمًا. ما بين احتمالية تكونها من تفاعلات كيميائية أرضية عديدة أو احتمالية قدومها في أشياء فضائية، فإن تفسير كيفية إمكان نشوء الجزيئات العضوية في ومن مواد غير عضوية ليس صعبًا على نحو مدهش. رغم ذلك، فإن الجزيئات العضوية هي نصف القصة فقط، والطريقة التي أمكن بها أن تنتظم لتشكيل خلية قادرة على التكاثر أقل مبتوتية فيها، رغم عدم انعدام وجود العديد من التفسيرات المقنعة. تحتوي الخلايا في حياة العصر الحاليّ على بنيوات معقدة مثل أغشية خارجية قوية ومواد جينية وبروتينات وعُضَيَّات. بالتأكيد، فإن الخلايا الأولى لم تكن مثلها بأي حال، ويصعب البرهنة على أرجح ترتيب للعمليات للاتحادات الكيميائية البدائية لتُصاغ إلى خلية، بالدرجة الأولى لأنه لم تظهر نظرية يتضح أنها مسار إلزامي كان يجب أن يحدث هو [وليس غيره]. على نحو واضح، فإن حياة العصر الحاليّ تقدم خريطة طريق لما كانت ستحتاجه خلية أساسية أولية، لكن الفاصل الزمني والظروف الغريبة للتفاعلات الكيماوية للأرض العتيقة البدئية والإمكانيات المحضة للاختيارات المتعددة لكيفية إمكان حدوث الأمر تجعل إنشاء تفسير واحد للعملية التي قد حدثت حقًّا في الحقيقة مهمة صعبة. مجددًا، فهذه أهمية تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية. فبالنسبة للعين العادية، يمكن للمرء أن يلاحظ الكائنات الحية تولد حصريًّا من كائنات حية أخرى [من نفس نوعها]، ومفهوم أنها أمكن أن تنشأ على الإطلاق بطريقة أخرى [في البدء بالتطور] يبدو مستحيلًا. على نحو مماثل، يبدو الزمان مُطَّرِدًا متماثلًا، ويستحيل على المرء تصور وسيلة يُغيَّر فيها الزمان حقًّا. رغم ذلك، فإن زيادة الجاذبية لها التأثير على إبطاء الزمن، وما كان المرء ليخمن شيئًا مثل هذا من الملاحظة الاعتيادية لأن سطح الأرض ينتج تأثيرًا جاذبيًّا موحَّدًا على الزمن لمن يقفون عليه. في الواقع، فإن الأقمار الصناعية في مدارتها حول الأرض يجب أن يكون [في تصميمها] لديها ساعاتها الداخلية معدَّلة قليلًا لتعويض التأثير القليل الذي لجاذبية الأرض عليها. بعبارة أخرى، فالأشياء ليست دائمًا كما تبدو، والحس البديهي المشترك عندما يتعلق بفهم الواقع الموضوعي لا يفيد. ما يصل إليه الحس البديهي فقط في هذا الحقل هو مجموعة من المفاهيم الجامدة المتحيزة المتصورة مسبقًا التي قد قُرِّرَت بالملاحظات الاعتيادية، والتي لم تُحسَّن بالوسائل والمناهج الصارمة، وقد وُجِدت خصيصًا للدفاع عن أوهام وأهواء الإدراك. عندما يتم إدخال مثل هذا الحس البديهي في وسط شروط استعمال تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية لفهم الواقع الموضوعي، فإن استعماله يعادل القفز مسبقًا إلى النتائج التي سيقاوم [صاحبها] بعناد وإصرار مناقضتها وتكذيبها بالأدلة. لعل للحس البديهي استعمالاته في مكان آخر في التفاعلات بين الناس، لكن في البرهنة على مسائل الحقائق المتعلقة بالواقع الموضوعي فإن يؤدي إلى مقدرة إبداعية فقيرة جدًّا فيما يتعلق بفهم وتفسير الأدلة التي تناقض استنتاجاته. بالنسبة لهذه المسألة، فإن كلمة "حياة" بها عائق كبير لفهم النشوء الذاتي لأنها كلمة ومفهوم محمَّل بحس بديهي خاص بالحضارات القديمة. فكما عرفها الناس تاريخيًّا، اعتُبِرَتْ الحياةُ على أنها متمايزة جوهريًّا عن الطبيعة الغير حية، ومن وجهة نظر اعتيادية فإن هناك جاذبية حس بديهية مريحة للتقسيم الثنائيّ المتضمَّن في الكلمة. لكنْ مع تركيز تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية في أصغر مكونات الطبيعة، فإن الناس قد علموا أن لا شيء فريدَ بصدد الكائنات الحية فيما يتعلق بما يكوِّن أجسادها، أي أن الاختلاف بين "الحياة" والمواد الغير حية هي مسألة شكل وليس جوهر عند المستوى الكيميائي. إن الناس والكائنات الحية استثنائيون بالفعل، لكن ليس في كل شيء، وإن أوهام الإدراك الخاصة بالملاحظة الغير محسنة الماضية قد دخلت القاموس باستتار، رابطةً الخيال بغير قصد مع افتراضاتها. ما نعنيه بكل هذا أنه لو كان لدى المرء صعوبة فهمٍ للنشوء الذاتي أو كيف أمكنه خلق الحياة، فإن التريث وأخذ خطوة إلى الخلف لتقييم ذخيرتك وحصيلتك اللغوية والمفاهيم التي تتضمنها وسيلةٌ حكيمة للتخلص من الحس البديهي القديم لصالح لمواكبة والتلاؤم مع ما تقوله الأدلة المعاصرة الحالية الأكثر تفوقًا والأعلى منزلةً. على نحو مؤسف، فإن معظم الناس لم تسمع قط عن النشوء الذاتي في سياق تعليمهم المدرسيّ العاديّ، على الأرج لافتقاد نظرية علمية قاطعة لتعليمها عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإن النشوء الذاتي قالب بناء أكثر دقة وبراعة لقصة وجود الإنسانية [وكل الكائنات الحية]. فمن منظور الاعتقاد الديني، فإن بؤرة قصة نشأة الحياة تقفز مباشرةً إلى البشر، ولا يوجد مفهوم ديني مناظر يحاول منافسة مفهوم النشوء الذاتي [ربما عدا البودية في نصوصها ولعل أكثرها أصالة التريبيتاكا الباليّة Pali Tripitaka، فهي تقول بصياغات بدائية من الفكرة مخلوطة مع أساطير دينية ميتافيزيقية، انظر مثلًا The Agganna Sutta وسوترا شبكة البراهماوات Brahma Net Sutra، حتى أن الأولى منهما تذكر بداية الحياة بدون جنس لكنها تحوي تفسيرات خرافية طبعًا_م]. في الواقع، فإن قصة وأسطورة الخلق المتمايز اللحظي الخاصة بالأديان قد استُبدِلَت بخطوتين وجزئين هما كل من الخطوة الأولى الخاصة بالنشوء الذاتي والخطوة الثانية هي التطور، ويمثلان سويًّا رواية متصلة متكاملة. نشأة وأصل الإنسان [وسائر الكائنات الحية]_ التطور البيولوجيّ عند تلك المرحلة آنذاك، جاء الكون ثم الحياة الأولية البدائية كلاهما إلى الوجود. إذن، كيف جاء البشر إلى هنا؟ الإجابة هي نظرية التطور العلمية، والتي هي تفسير مؤيد تمامًا وللغاية بالأدلة لتفسير تنوع أشكال الحياة، بما في ذلك نشأة وأصل الإنسان. فبناءً على مقارنة سجلات المتحجرات وتسلسلات الحمض النووي منزوع الأُكْسُجِن DNA والتركيبات التشريحية، يؤكد علماء الأحياء في العصر الحديث أن أشكال الحياة المعقدة المتنوعة الموجودة على الكوكب اليوم قد تطورت في الحقيقة من خلايا بدائية بسيطة، والتي وُجدت منذ حوالَيْ 3, 5 إلى 4 مليارات سنة ماضية. على نحوٍ واضحٍ، فإن هذه الكائنات الأولى كانت أبسط أشكال الحياة، لكن كونها طورت القدرة على التكاثر والانقسام الخلويّ أدت آخر الأمر إلى التنوع الجدير بالملاحظة لأشكال الحياة الموجودة على الكوكب اليوم. وكما مع استقلال كلٍّ من نظرية الانفجار العظيم ونظرية النشوء الذاتي، فما إذا كانت هذه الخلايا الأولى قد تشكلت بالنشوء الذاتي غير ذي صلة بفهم التطور، لم تُصمَّم وتُصَغ نظرية التطور لتفسير وجود الحياة، بل هي تفسير لكيف أمكن للحياة الموجودة فعليًّا أن تتطور إلى مثل هذا التنوع الكثير للغاية. لتصور كيفية عمل التطور، تفكَّرْ في نوع معين من البَكتيريا التي تسبب الأمراض للبشر. إن يكتشف البشر مضادات حيوية تنجح في قتلها، فإن عاملًا بيئيًّا جديدًا يكون قد قُدِّم والذي سيؤثر على مجموعات أفراد البكتيريا. فبسبب الطفرات الجينية العشوائية فإن بعض هذه البكتيريا قد يكون لديها بالصدفة مقاومة للمضاد الحيوي، أم التي لا تحوزها فستموت أسرع في المتوسط وسيكون لها فرصة أقل لتكوين نسل يرث مادتها الوراثية، وخصوصًا عدم قدرتها على مقاومة المضاد الحيوي. وفيما يتعلق بالجيل التالي من البكتيريا فإن السمات الجينية [الوراثية] لأفرداه ستكون على الأرجح مماثلة لتلك البكتيريا التي كان لديها في الأصل الطفرة للنجاة من المضاد الحيوي لأن تلك النماذج سيكون لها أفضلية في تكوين نسل بنجاحٍ. ومع مرور الأجيال واستمرار المضاد الحيوي في إنقاص أعمار تلك البكتيريا التي لا يمكنها البقاء والنجاة في وجوده، فإن ما ربما بدأ كصفة نادرة في أفراد المجموعة سيصير صفة شائعة. هذا المثال على التطور هو حالة اكتساب البكتيريا مقاومةَ مضادٍ حيويٍّ. لقد عمل المضاد الحيوي كآلية انتخاب لسمة معينة في البكتيريا، وقد تطور أفراد المجموعة استجابةً لذلك التغير في البيئة. المثال السابق أعلاه يُعرَف أحيانًا على نحو غير مساعد بالتطور على مقياس ضئيل microevolution، أيْ التغير في تكرار صفاتٍ موروثة ضمْنَ نوعٍ بسبب تغيرات بيئية، وما يُعرَف بالتطور الكبير macroevolution هو تطور المجموعات السكانية [مجموعات أفراد النوع] على المدى الطويل والذي يؤدي إلى تكوين أنواع جديدة تمامًا. لا يوجد اختلاف أساسي جوهري بين هاتين العملتين ما خلا الزمن، والتقسيم الثنائي المصطنَع الذي يقومان به يمثل مثالًا آخر على المفاهيم المتحيزة مسبقة التصور التي تتسبب في الأخطاء تمامًا مثل النقاش السابق بخصوص كلمة "الحياة". بعبارة أخرى، فإن التطور الكبير هو المصطلح الذي يستعمله من لا يمكنهم دحض عملية اكتساب مجموعات أفراد البكتيريا مقاومةَ المضادات الحيوية أو إنشاء البشر لسلالات مختلفة من الكلاب والمواشي وغيرها، لكنهم لا يمكنهم فهم التغيرات طويلة المدى الزمني في النوع. كمثال: تطور نوع محدود بحياة الماء إلى حيوان بريٍّ. إن عدم الاتساق المتصدع لمثل هذا التفكير هو أنتيكة وأثر تاريخي، وإن جاذبيته تنشأ من تشويه وإفساد أوهام الإدراك الاعتيادية الخاصة بالماضي للأدلة المختبَرة جيدًا تحت الظروف التحكمية الخاصة بالعصر الحديث. بعبارة أخرى، التطور هو التطور، ولو أن تضمينات معينة لها تبدو عجيبة، فذلك بسبب الكم الهائل من الزمن وافتقاد الأنواع [الأقدم، عدا كمتحجرات لبعضها أو آثار جينية] مما قد عمل على إبهام العملية على الحس البديهي [ليس خبرة يومية نعرفها على المدى القصير لحيواتنا في المعتاد]. من خلال هذا المنظور، فإن وجود البشرية وعلاقتها مع باقي أشكال الحياة على الأرض له قصة بديعة. فمتطورين من أكثر أشكال الحياة بدائيةً خلال كم هائل من الزمن، ليس البشر إلا مجرد حلقة أخرى في السلسلة. الإنسان جزءٌ من مملكة الحيوان، وليس فوقها. ليس هناك شيء استثنائي بأصالة بصدد البشر مقارنة بالحيوانات الأخرى فيما يتعلق بما يكوِّن خلاياها وأجسادها. في الحقيقة، فإن الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان فريدًا بحقٍّ ينبع من قوة العقل الكبيرة التي يحوزها، مقارنةً بباقي الأنواع. إننا نكتشف أن عزلة الإنسان على الكوكب ظرفٌ فرضه على نفسه كالحبس الانفرادي، وقد أضافت الطبيعة نفسها سياقًا إضافيًّا لذلك [كتطور المخ المتميز وافتقاد الفرو_م]. وبدون مفاهيم الروح ومنفذ الهروب الخاص بما فوق الطبيعي، فإن الناس ليس لديهم سوى أجسادهم وموطنهم ومصلحة شخصية في الحفاظ على سلامة كليهما. السيادة والسيطرة على الطبيعة أصبحت عملية إدارية إشرافية، وإن قدرة الإنسان على التلاعب بـ وتغيير بيئته عليها تحفظ وتنبيه على المسؤولية الشخصية. لقد قوبلت نظرية التطور العلمية بمقاومة شديدة متطرفة من قَبَلِ الأديانِ، وإن كراهيتها لها بسبب التدمير الغير مقصود العرضي الذي تقوم به لمفاهيم الاعتقاد الديني. كمثال، في أي مرحلة بالضبط من عملية التطور تطورت الروح [الخرافية]؟ هل ظهرت فقط حالما أصبح الإنسان نوعًا [من خلال تطوره من أنواع أقدم]؟ متى بالضبط أصبح الإنسان الحديث نوعه الخاص به لأجل ذلك الغرض؟ إن المفاهيم الأساسية المركزية للأديان [عدا البودية والجاينية والتاوية_م] ورؤيتها للإنسانية في العالم مرتبطة بالتفكير والتصور المتعصب البديهي الخاص بناس الماضي ما قبل عصر العلم، بحيث أن الاعتقاد الديني لا يمكنه قبول التفسيرات التي أنتجها وقدمها البحث العلمي، لكي لا يتغلل في أيديولوجيته ويهيمن عليه التفكير القائم على العقلانية. إنه هذا الإحراج الأيديولوجي هو ما جعل [كهنة ومحترفي] الأديان يهاجمون ويهجون نظرية التطور العلمية لأجل غرض البقاء. حقًّا لا يستطيع [كهنة ومنتفعو وأتباع] الأديان أبدًا أن يعترفوا بأن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية قد فسرت وتعرفت على نحو صحيح على سلسلة من السببية بمثل هذه الأهمية والاتساع في الطبيعة على أن سببها التطور. فبفعلهم ذلك سيعترفون بأن صلتها بالعصر الحديث متضائلة نظرًا لكون الألغاز غير المحلولة الخاصة بهوية ونشأة الإنسان في الكون قد فسرها بوضوح صافٍ منافسهم [العلم]. عوضًا عن ذلك، فإن الأديان يجب أن ترفض اللعب المنصف بأن تؤكد بأن نظرية التطور لم تُثبَت كيقينٍ وفي النفس الوقت تدعي أن وجود إلهٍ لم يُدحَض بيقينٍ. يفضح هذا الإجراء المتعذر الدفاع عنه المتسم بازدواجية المعايير بعدم اتساقٍ ووقاحةٍ الحالة الميؤوس منها للاعتقاد الديني في العصر الحديث. إن كانت نشأة وأصل الإنسان غير استثنائية ولا إلهية مقارنةً بأشكال الحياة الأخرى، فمن ثَمَّ لماذا يتعب الناس أنفسهم بالذهاب إلى بيوت الصلاة والتعبد؟ لقد أجابت الأديان على سؤال لماذا لا تتعبد الحيوانات الأخرى لإلهٍ بالتعليق بأنها بدون أرواح وغير استثنائية [في الحقيقة ربما هذا رأي المسيحية وفلاسفة وكتبة لاهوتها وليس الإسلام لأن فيه بالأحاديث (مسند أحمد طبعة الرسالة (5587) (1863) و (2474) و (2480) و (2705) و (3216) والبخاري (5515) ، ومسلم (1958)) ذكر النهي عن اتخاذ ذي الروح غرضًا بالسهام للتسلية ففي الإسلام كل الكائنات لها روح لكن ليس كلها له عقول، ويزعم القرآن في عدة نصوص أن الحيوانات بل والجمادات تتعبد لله! لكن الإسلام كالمسيحية واليهودية يضيف مفهوم الاستثنائية والتميز للبشر باعتبارهم مخيَّرين لهم حرية الإرادة في حين أن الحيوانات والجمادات والملائكة الخرافية مسيَّرة للتعبد بدون إمكانية معصية، ويبدو أن كثيرًا من هذه المفاهيم مستمد ومقتبس من الهاجادة الربينية اليهودية، راجع بحثي عن ذلك، وتتناقض خرافة الخلق في ستة أيام مع حقيقة التطور وتفاصيله الدقيقة العلمية بشدة_المترجم]، وأنها إلى حد كبير ديكور في مسرح حيوات الناس. من ناحية أخرى، فإن التضمينات الأكثر توسعًا للتطور هو أن الحيوانات الأخرى ليس لديها آلهة أو أديان لأنها تفتقد القدرة على تخيل وتصور المفهوم، وليس لأنها أشياء مهمَلة في الوجود في عيني إلهٍ. كما ينبغي أن يكون قد صار واضحًا من تكرارنا [له]، فإن الملاحظات الاعتيادية للواقع الموضوعي المشرعنة والمنظمة في الاعتقاد الديني تسقط فريسة لنفس الخطأين على نحوٍ متكرر: إنشاء جدليات على أساس الجهل [بتفسير الأشياء] وإعطاء الأولوية للشكل على الجوهر. ولا سيما خطورة خطإ الملاحظة الاعتيادية للأنماط في الواقع الموضوعي وافتراض أن العين المجردة لن تفشل أبدًا في تقديم تفسيرات صحيحة. نهاية الجنس البشري _ لا تنبؤات حاليّة إذن، فالكون والحياة والجنس البشري كلهم قد جاؤوا إلى الوجود. فما هي نهاية القصة؟ في العصر الحاليّ، لا يقوم التفكير القائم على العقلانية بأي تنبؤ عن نهاية قصة الجنس البشري. لقد قام العلم بالتنبؤات عن أحداث أكبر تتضمن هلاك البشرية، مثل نفاد وقود شمس منظومتنا الشمسية وتحولها إلى سوبرنوﭬا، مما سيدمر الكوكب. لقد افتُرِضَ كذلك أن الشمس ستصير أسخن قبل أن تبدأ في التحول إلى سوبرنوﭬا، محولة المياه إلى سلعة منقرضة منعدمة على كوكب الأرض ومنهية فعليًّا الحياة البشرية هنا. أما بالنسبة لنهاية الكون نفسه، فإن الكثير من النماذج قد افتُرِضَتْ، لكن ليس هناك إجماع موثوق بعدُ عن المسألة. أما بالنسبة لكل هؤلاء الكوارث التي ستقضي على الجنس البشري، فإن الخلاصة والنتيجة النهائية ليست أقل من مليار سنة تفصلنا عن ذلك، ومعظم السيناريوهات تتجاوز هذا الإطار الزمني بكثير. لوضع ذلك الكم من الزمن في تصورنا ومنظورنا، فإن البشرية قد وجدت على الأرض لحوالي 200 ألف سنة فقط، أي أن تهديد الهلاك المُزمَع قدومه للبشرية من خلال هذه الأحداث هو لا شيء. إن احتمالية أرجح لنهاية البشرية هي التصادم المحتمل لنيزك ضخم مع كوكب الأرض، ماحقًا الأماكن التي يضربها ومدمرًا النظام البيئي لباقي الكوكب، وهو ما ليس غير مرجح جدًّا لكنه كذلك ليس وشيكًا. بعبارة أخرى، فإن البشرية ليس عليها تقييدات زمنية مقصودة مفروضة عليها من مصادر خارجية. لو أن الحياة البشرية ستنتهي، فإنه لمرجَّحٌ للغاية أن أفعال البشر الخاصة بهم ستسبب ذلك قبل أن يفعله حدث خارجيٌّ ما. إن الجاني المحتمَل لإفناء البشر الذاتي لأنفسهم سيكون تغيير الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل المحظورة للنظام البيئي، مؤديةً إلى دمار مكتسح متلاطم للسلسلة الغذائية وتغيرات خطيرة شديدة لمناخ الأرض. لو ساهم الإنسانُ في بداية هذه السلاسل السببية [الأسباب، والنتائج والعواقب] فإن استمرار وجوده سيكون عرضة للخطر الشديد ومحل شك للغاية. على النقيض، تقوم الأديان بتنبؤات عن نهاية البشرية. بالتأكيد، فإن [نصوصها] تقول أكثر بكثير من أن إلهًا سيظهر يومًا ما لإنهاء العالم، وقد تنبأ [بعض] الباحثين الدينيين بموعد ذلك اليوم عدة مرات في تاريخ البشرية، كلٌّ منها نتج متنبَّأً بها في سياق الزمن البشري المحدود التافه. [في ثقافة المسلمين حاول بعضهم ذلك باستنتاج ذلك من أحاديث محمدية، أحد السخفاء المتربحين كتب كتابًا بعنوان (عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي عليه السلام) مستنتجًا بسماجة وسخف لا نهائي_ على أساس حديث البخاري 2269 وباقي كتب الحديث بمثله وهو مقتبس من مثل العمال في الكرم من الأناجيل كمتَّى 20_ أن عمر البشر انتهى تقريبًا ولم يعد باقيًا سوى كسور من الزمن أقل من مئة عام! وأكيد في الثقافات المسيحية واليهودية والهندوسية مئات المحاولات الهوسية_م]. على نحوٍ مزعجٍ، فإن الأديان تميل إلى التركيز على نهاية العالم، وباعتبار التضمينات المنطقية للآليات والعوامل الداخلية للاعتقاد الديني، فليس صعبًا إدراك السبب. فكامتداد للاعتقاد الديني، فإن الحياة الأخرى [المزعومة] هي حيث يُفترَض أن كل أحلام المرء ستصبح حقيقةً لمن آمنوا، ويفترض أن كل الأمور الخاطئة ستُصحَّح، وستُزال وتنتهي كل المتاعب والانزعاجات. بعبارة أخرى، تساوي الأديان عادةً بين إفناء البشرية والحصول على العدل التام الحقيقيّ. أما من منظور التفكير القائم على العقلانية واستنتاجه المرافق الخاص بالإلحاد [الواقعية، العقلانية]، فإن منظورًا يربط إفناء البشرية مع بركاتٍ مطمئنة يبرهن على فِيتشِية [فِتشية، ولع مرضيّ هوسيّ] مزعجة ومقابرية مشؤومة [ولع وهوس بالموت]، وإنه لَسببٌ رئيسيٌّ لكون الملحدين لا يرتاحون للاعتقاد الديني. إن شخصًا يتوقع إيجاد فردوسٍ عند الموت يمكن أن يقترب على نحو خطير من تمني لو أن هذه الحياة قد انتهت، وبدون حمل الأمتعة البالية المرافقة للاعتقاد الديني، فإن المنخرطين في التفكير القائم على العقلانية لا يفهمون مثل هذه التوليفة من الحوافز. *************** إنه لهامٌّ أن نفهم أن نظريات الانفجار العظيم والنشوء الذاتي والتطور هي نماذج مستقلة. كلٌّ من هذه الأفكار جزءٌ مختلف من صورة مركَّبة أكبر، وبينما تتعاون معًا في قصةٍ عن الكون والبشر والكائنات الحية، فإن كلًّا منها تقوم على نحو مستقل على محتوياتها وسماتها وفرضياتها. وكما وُضِّحَ، فإن نظرية التطور لا تفسِّر نشأة الحياة، بل هي تفترض [تسلِّم كمسلَّمة بـ] وجود الحياة، وتصف كيف تصير الحياة متنوعة [في أشكالها وأنواعها]. والنشوء الذاتيّ لا يفسر نشأة الكون، بل هو يفسر كيف أمكن أن تبدأ الحياة في كونٍ وُجِد من قبلُ فعليًّا. تقدم الفيزياء معظم طريقة الفهم للانفجار العظيم، بينما الكيمياء هل الأساس الرئيسي لنظرية النشوء الذاتي، وقد فسر البيولوجي [علمُ الأحياءِ] التطورَ. بجمعها سويًّا، فإنها تمثل تفسيرَ العلمِ الحاليَّ لحقيقة الإنسان والكائنات وعالمهم وكيف جاؤوا إلى الوجود. إن القصة ليست مثالية ولا مكتملة، لكن الذكاء الذي تعلم به البشر تمكين حواسه على نحو فعّال عبر هوة سحيقة مذهلة من الزمن بتتبع أنماط السببية في الطبيعة رجوعًا إلى الخلف لا يمثل ما هو أقل من معجزة للتفكير والذكاء. حتى لو كانت [جدلًا] المجالات العلمية في مهد طفولتها المطلقة وتفتقد تفسير أيٍّ من هذه الأحداث [وهي ليست كذلك]، فإن التفكير القائم على العقلانية كان سيظل يصف ويحكم على الحلول التي يقترحها الاعتقاد الديني بأنها غير كافية ولا كفؤة وعديمة المعنى على نحوٍ مذهل. كيف يمكن بالضبط أن تكون الإجابة المزرية المرفوضة "الله" مساعدةً على فهم تكون الكون أو نشأة الحياة؟! فباعتبار كل شيء، فإن الكلمة نفسها تعني القليل، ولا تفسر شيئًا، وتدل على تخلي عن الرغبة في البحث والتقصّي أكثر. بعبارة أخرى، فإن التفسيرات التي يقدمها الاعتقاد الدينيّ تسقط لأنها ليس لديها تأييدات خاصة بها، وليس لأن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية قد دمرتها. |
|
|
|
رقم الموضوع : [9] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
12- مكان الشخص فيما يتعلق بالمجتمع
عش حياةً صالحةً. لو أن هناك آلهة وهم عادلون، فلن يهتموا بمدى التكرس الذي كنت عليه، بل سيرحبون بك بناءً على القيم التي عشت وفقًا لها. أما لو كان هناك آلهة لكنهم غير عادلون فلا ينبغي أن تعبدهم. أما لو لم يكن هناك آلهة فسوف تمضي [تنتهي]، لكنك ستكون قد عشتَ حياةً نبيلة والتي ستعيش في ذكريات محبيك. ماركُس أُورِلْيَس Marcus Aurelius [امبراطور يوناني عادل ملحد رواقي مشهور بكتابه (التأملات)] بعدما أسننا إطارًا مفاهيميًّا جديدًا للواقع الموضوعي ومكان الشخص في المدى الواسع، فإن الخطوة التالية هي تقريب الصورة إلى مجال الاهتمام التالي ذي العلاقة، أيْ: مكان الشخص فيما يتعلق بالمجتمع، والذي سنفهمه بالنقاشات والبحوث عن مفهومي الأخلاق والعدل. عبر تاريخ الإنسانية، استهلك الفلاسفة محيطاتٍ من الحبر على موضوع الأخلاق، ولا يزال النقاش والبحث يتطور في العصر الحاليّ. في الواقع، لن يوجد نهاية له أبدًا طالما وُجِدَ البشرُ. بغض النظر عن ذلك، فإن تناولًا ومعالجة شاملة لكل الآراء الفلسفية حول الأخلاق غير ضرورية لتقديم وجهات نظر عملية محتاج إليها لبناء هوية الشخص. إن أطروحة مكان الشخص فيما يتعلق بالمجتمع المقدمة هنا بالارتباط مع الأخلاق ستشبه عملية إنشاء نظام تشريعي قانوني حيث أن المفاهيم ذوات آلية مشابهة لأسباب مشابهة. بصياغة معيار أخلاقي واستعراض آليات تعزيزه وتحديد كيفية تقييم ما إذا كان شخصٌ قد نفّذه واحترمه، فإن مكان الشخص في المجتمع سيصبح واضحًا من منظورٍ تشريعي وتنفيذي وقضائي. ورغم أنني سأستعمل قالب النظام القانوني كنموذج تنظيميّ للنقاش، فتذكر أن ما هو قانوني ليس دائمًا أخلاقيًّا والعكس صحيح. إن القانون والأخلاق العلمانيين متشابهان، لكنهما ليسا متطابقان. تكوين معيار أخلاقيّ في اللغة والاصطلاحات القانونية يوجد مفهوما القواعد والمعايير. القاعدة هي توجيه مطلق، مثل: التوقف عند إشارة توقفٍ، أما المعيار فهو تقدير شخصي مع خطوط إرشادية عامة مرافقة له، مثل: الخضوع والالتزام عند إشارة خضوع. كلا المفهومين له أفضلياته وعيوبه [مشاكله]. فالقواعد لها أفضليتا اليقين والسهولة: إن لا ينفذ المرء بدقة ما تقوله القاعدة فمن ثم فإنه ينتهكه ويكسره. لا يوجد غموض أو حاجة للتفسير. من ناحية أخرى، فللقواعد عيب كونها صارمة وغير مرنة، مما يؤدي في الوضع الأخلاقي إلى عدم مراعاة وصرف وإبطال عوامل المواقف. لا توجد منطقة وسطى في القواعد، والقواعد الأخلاقية هي ما تصفه وتأمر به الأديان. مع هجر الاعتقاد الديني، لا يحتاج المرء إلى العيش بقواعد مطلقة، والتي هي ترقية كبيرة على إنسانيته. القواعد نموذجية للمواقف الأخلاقية ذات البساطة التامة أو الطبيعة الرهيبة على مستوى عالمي بحيث لا يُلتفَت إلى عوامل المواقف وظروفها، لكن تفاعلات البشر أكثر تعقيدًا إلى درجة أن هذه الحالات البسيطة نوادر واستثناء على القاعدة. عوامل وظروف المواقف ذات أهمية، والقواعد تُبْطِلها بطبيعتها. أما عيب المعايير فأنها تحتاج جهدًا أكثر لتطبيقها حيث يجب تقييم معلومات أكثر قبل أن يتمكن المرء من اتخاذ قرار عما إذا كان هو أو آخر قد أخل بها وخرقها. رغم ذلك، فإن أفضلية المعايير هو أن بها مرونة للتعامل مع المواقف المعقدة، والتي هي سمة محتاج إليها بشدة في موضوع الأخلاق. إنه خيالٌ دينيٌّ مروِّع فكرة وجوب اعتبار الأخلاق وتصورها بطريقة استبدادية، خُلُوًّا من الاعتبارات الدقيقة. لإضافة طبقة أخرى من التعقيد، فإن القيم الأخلاقية ليست ثابتة، وهي تنشأ وتنقرض خلال الزمن لأسباب عديدة. تفكر في قيمة حرية التعبير، والتي هي محرمة وملعونة (أناثيما) ورجس عند معظم الأديان. إن المفهوم الديني للتجديف [الزندقة، الهرطقة، الكفر، الازدراء] يحول بطبيعته دون حرية التعبير، ولو لم تكن قد تطورت أخلاق الإنسانية أبعد مما تقوله الأديان لما كانت حرية التعبير والكلام أصبحت قيمة هامة [للأسف هذا في دول الغرب ودول متقدمة أخرى، وليس حال العرب ودول المسلمين، ففي عصرنا لا يزال يتعرض للسجن المفكرون الأحرار لمجرد كلمة أو جملة أو حق في التعبير كفاطمة ناعوت وإسلام البحيري والسيد أحمد القبانجي وعشرات ومئات غيرهم_م]. كمثال أكثر معاصرةً، تفكر في التغيرات في الأخلاق بسبب الزيادات الحالية في [أعداد أفراد] المجموعات السكانية البشرية. منذ قرون ماضية عندما عاش البشر جزءً فقط من الزمن الذي نعيشه في العصر الحالي [بسبب تقدم الطب والتغذية وتحسين الظروف وخلافه_م] وكان سكان العالم أقل بالمقارنة، لم يكن تكوين أسرة كبيرة أمرًا غيرَ أخلاقيٍّ على الإطلاق لفعله. أما في العالم المعاصر مع تكاثر سكاني سريع النمو وضغطه على الموارد الطبيعية فإن إنجاب عدد كبير من الأطفال ربما بدأ يُعتبَر غيرَ أخلاقيّ. عندما يفكرون في الأخلاق، فإن معظم الناس تميل إلى التفكير في وتصور قيم أخلاقية محدَّدة، لكن تلك [القيم] يمكن أن تتغير وفقًا لعوامل وظروف المواقف. بالنسبة للنقاش الحالي، فإن الالتفات للقيم الأخلاقية أولًا يمثل مثالًا لوضع العربة أمام الحصان. عوضًا عن ذلك، فيجب أن يوضَع ويُصاغَ معيارٌ أخلاقيٌّ، ثم سنتشأ وتنبع القيم الأخلاقية التي يقر بها الناس ويستعملونها في حيواتهم منه.هل يمكن صياغة مقياس اختباري [حجر اختبار] أخلاقي ثابت والذي يكون مع ذلك يتسم بالمرونة للاستجابة لعوامل وظروف المواقف؟ بالفعل، هذا ممكن، ومثل افتراضات التفكير القائم على العقلانية، فإن المعيار الأخلاقي هو على الأرجح معيارٌ يستعمله المرء للتمرد والتحدي لبعض تعاليم دينه السابق على كل حالٍ. المعيار الذهبي "عامل الآخرين كما ستريد أنتَ أن تُعامَل، ولا تعامل الآخرين بما لن تريد أن تُعامَل به". يُعرَف على نحوٍ أشهرَ بالقاعدة الذهبية، لقد أعيد تسميتها هنا لأنها ليست في الحقيقة قاعدةً، بل هو معيارٌ. المعيار الذهبيّ له الجاذبية المزدوجة لكونه يقدم مدى واسع من قابلية التطبيق والاستعمال على حالات لا حصر لها من الأخلاق المتوقفة على المواقف، بينما في نفس الوقت ينشئ قيمًا أخلاقية ذات قابلية للاستعمال وملاءمة عامة. إن فاعليتها الواضحة البسيطة تنشأ من ربط مصلحة المرء الشخصية مع مصلحة الآخرين كأساسٍ لاتخاذ القرار الأخلاقي. باستعمال التقمص العاطفي [الشعور بالآخرين] عن طريق نفسه ومشقاته وآلامه [ومسراته]، فإن المعيار يبني كامل أساسه على مصلحة الشخص الأنانية ثم يطهر تلك الأنانية بتحويلها إلى تقمص عاطفي [تعاطف] ليوجَّه نحو الآخرين خارجيًّا، وهي وسيلة ذكية لتهذيب الجوانب الأقسى من الطبيعة البشرية. كلما رأى المرءُ نفسَه في الآخرين أو رأى الآخرين كامتدادٍ له كان أرجح أن يمارس اتخاذ قرارات أخلاقية إيجابية فيما يتعلق بهم. باعتبار البساطة التامة للمعيار، فإن قدرته على إعادة توجيه حوافز الشخص الأنانية إلى حافز للتعاون مع رفيقه وأخيه الإنسان أو الإحسان إليه، ذات فاعليه فاتنة. المعيار الذهبي له جاذبية جوهرية للناس من كل الثقافات والمواقع الجغرافية، هو ما ليس مفاجئًا عند التفكر فيه. فمن رأيي، إن المعيار يحقق قدرًا كبيرًا فيما يتعلق بإنشاء مقياس معقول لما سيعتبره المرء منصفًا وعادلًا في المجتمع، وبدون قبول وإجماع عام تقريبًا للمعيار في مجموعة سكانية ما، فإن العيش في مجتمع مثل هذا سيكون مستحيلًا من وجهة نظر نظرية. لو لم يوجد معيار أخلاقي له أساسه ورسوخه في الاحترام والالتزام المتبادل له، فمن ثم فإن نسيج ولُحمة مجموعة كهذه والتي لم تتمكن من التشكل كبيئة مجتمعٍ ستفتقد القدرة على تقديم أمن وثقة قابلين للتنبؤ بهما بين أفرادها لكي تجعل تضحية أي فردٍ بجزء من حريته الشخصية للمشاركة في المجموعة جذابًا. وباعتباره حجر الأساس للحضارات البشرية، فقد يأتي اليوم بالفعل عندما تعتبر الحضارات نفسها محظوظة لنجاتها من الشر الطائش بسبب المعيار الذهبي الذي قد شجعته كل الأديان. بعض التعاليم الدينية تأمر أتباع [الأديان] بتصرفات متناقضة للغاية مع جوهر المعيار الذهبي بحيث يبدو ادعاء الأديان بأنها على النقيض تُجِلُّه وتكرِّمه كاذبًا وزائفًا. تعطي الأديان الأولوية للآلهة [والتعاليم الدينية العنصرية والشمولية]، وليس البشر، إلى درجة أن التعاليم الدينية تخرق وتنقض جوهر المعيار الذهبي أو قيم التضحية التي يتضمنها، إنها [الأديان] غير أخلاقيةٍ ومسيئةٌ عدوانيةٌ. بالفعل إنها غير إنسانية بطبيعتها، لأنها تضحي بالاحترام واللياقة اللذان يجب أن يوجههما المرء إلى رفيقه الإنسان على مذبح كائن يعتقدون أنه من عالم آخر [خرافي]. كما سنرى في المقطع القادم عندما نناقش آليات التعزيز الأخلاقي، فإن النسخة الدينية من الأخلاق وتحويلها الماكر للغرض [من الأخلاق] يلائم ويؤدي إلى التسبب في أذى اعتيادي لعملية اتخاذ القرار الأخلاقي بجعل المؤمنين الدينيين ينسحبون عاطفيًّا من المجتمع البشري ولا يبالي فعليًّا بضغط ما كان سيكون في حال أخرى [لولا التعصب الديني] مصادر متعددة قوية للضغط والإلحاح الأخلاقي. أما عن مسألة إنشاء قيم أخلاقية محددة عن طريق المعيار الذهبيّ، فتفكر في بعض الأمثلة. بالنسبة لي، فإنه يشجع على السلوك الخيري الإحساني والحماية الشائعة للضعفاء. إن فكر المرء في الأوقات التي كان فيها يعاني نقصًا في الموارد والأصدقاء، فإنه يقدر بعمق وشدة ويحب من وقفوا معه وساعدوه على استعادة تمساكهم. إن الشخص الراغب في المساعدة والتعاطف معه، ومن خلال المعيار الذهبي وتضمينه الفلسفي فإنه [الشخص] يُظهِر ذلك المستوى من الاحترام والتعاطف للآخرين في فعلٍ يستحق الثناء والمديح، متأصِّلًا في ونابعًا من التقمص العاطفي الخاص بالمرء لأجل مأزق الآخر. على النقيض وبحرية الاختيار، يمكن للمرء عوضًا عن ذلك أن يستغل على نحوٍ انتهازيٍّ أفضل أفعال وعواطف رفيقه الإنسان عندما يكون هو في أضعف مواقف واكثرها قابلية للانجراح، وإن للمعيار الذهبي احتقار معتاد لاتخاذا قرارات مثل تلك. ما كان المرءُ ليريد أن يُستغَل إلى أقصى حدٍّ، وإن إدانة مثل تلك النزوات والحوافز هو قرار سهل من منظور أخلاقيٍّ، لا يوجد ما يستحق الاحترام فيمن يهجرون ويتخلون عن أو يستغلون رفاقهم البشر عندما يحتاجونهم إلى أقصى حد أو يكونون بدون ملجإٍ للدفاع عن أنفسهم. قيمةٌ أخرى يتضمنها المعيار الأخلاقي هي ترك الناس في شؤونهم طالما أن سلوكياتهم لا تؤدي إلى أذى الآخرين. بعبارة أخرى، فإن تجلي المعيار في هذه القيمة يتضمن ضمان والتسليم بخصوصية الآخرين من خلال لا مبالاة عامة بالسلوكيات التي لا تخصهم [الآخرين الناظرين لأفعالهم] مؤيَّد مواتٍ. فباعتبار كل شيء، يوجد شيءٌ ما في حياة كل أحدٍ سيكون مضايقًا لأحدٍ آخرن لكن كون الشخص متضايقًا مستاءً لا يعطيه الحق الأخلاقيّ في التدخل في أو الاعتراض على سلوكه [الشخص الآخر]. أما بالنسبة للكلمة المستعمل على نحو معتاد، وهي "الاستياء" أو الشعور بالإهانة أو المضايقة، فهي مسألة ذوق شخصيّ، تُوظَّف عندما تُعارَض أحاسيس المرء [بما لا يوافقها ويناقضها]، وإن اعتباطيتها وتحكميتها لا نهائية. إن الأخلاق الصحيحة لا تستجيب ولا تخضع للشعور بالاستياء، بل الأخلاق تعرِّف الإساآت الحقيقية. التعامل بوحشية وبطش مع من لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم عداونيّ مسيء، خيانة من أعطوا ثقتهم مسيء. أما إن يكن اتخاذ الشخص لقراراتٍ ما لا يسبب الضررَ لأي أحدٍ آخر إلا أنها مع ذلك تضايق شخصًا ما، فإذن فإن قراراته ليست مسيئة لذلك الشخص، بل هي ببساطة لا تتفق معه. [أعتقد كمترجم أن مفهوم الأخلاق النفعية (البراجماتية) العملية هذا يحتاج ترسيخه أكثر في المجتمعات العربية والإسلامية، يجب ترسيخ واحترام جميع الحريات الشخصية كنقد الخرافات وخزعبلات الأديان وحرية التعبير والكلام والكتابة والنشر والفكر والاعتقاد والسلوك والملبس والمأكل والمشرب ونمط الحياة وحرية البحث والتجريب العلمي واحترامه ودعمه والحرية الجنسية وحرية السلوكيات الجنسية واحترام حقوق المثليين وغيرها من قضايا، كل ذلك في حدود عدم الإضرار بالآخرين ومراعاة الأخلاق العلمانية الإنسانية العامة، ولا يوجد مجتمع يتقدم بدون هذه القيم في العصر الحالي، ولنا في جارتنا إسرائيل العدوة الشقيقة مثال بارز، دولة نشأت على قيم العلمانية وأسسها بنو يهود ملحدون في معظمهم كهرتزل وكتابه التأسيسي للدولة يشهد بفكره العلماني الليبرالي، فاحترمت قيم العلمانية والعلم الحديث والحريات، وبوسعنا القول من اطلاعي القليل على حالهم السياسي والحضاري أنه لولا وجود تل أﭭـيـﭪ لما وجدت القدس المحتلة بحفنة متعصبيها الذين تجعلهم إسرائيل واجهة قاسية لها ضد عرب القدس، ولولا وجود المجتمعات العلمية الملحدة الأمركية لما تفوق المجتمع السياسي والعسكري المسيحي المتعصب الأمركي وقام بغزواته وشروره العسكرية والسياسية._م] كمثال أخير، فإن المعيار الذهبي هو مصدر إحساس البشر بالنفاق. فالقيم والأحكام التي يعتبرها الشخص مناسبة للتطبيق على قرارات الآخرين ينبغي أن تنطبق على نحو مساوٍ مماثل على الشخص الذي يوظفها، وإن لم يتم ذلك فيجب أن يكون هناك سبب منطقي قويّ للاختلاف والتباين. وبالتالي، فإن المعيار الذهبي يتضمن بالضرورة إحساسًا ومفهومًا للمساواة والتعامل المنصف بين كل البشر. أما إن يرغب شخصٌ من الآخرين توفيق سلوكياتهم مع معيار أعلى مما سيطبقه على نفسه، فإن نفاقه يكون واضحًا [حينذاك]، لا يحتاج الناس إلى تفكير واعٍ نشط للشعور بأن مثل ذلك التفضيل للذات منفِّر كريه وعلامة على شخصية انتهازية ذات نسيج وبنية أخلاقية مشكوك فيها. أما فيما يتعلق بالاحتكار الذي تدعيه الأديان لموضوع الأخلاق، فإن ألعن جانبٍ لادعائها هو أن مراعاة والتزام الشخص [الديني] بالمعيار الذهبيّ كثيرًا ما يعمل كفعل لا إرادي تلقائي. يعلم الشخص عندما يسيء إلى أحدٍ بغض النظر عن اعترافه الحقيقيّ بهذه الحقيقة، وأن لا يؤمن بأن هناك إلهًا يراقب لا يؤدي إلى أي اختلافٍ بأي حالٍ لشعوره بلا أخلاقية أو أخلاقية القرار والفعل لأن المعيار الذهبي وقيمه لا تتأصل في ولا تنبع من التهديدات الدينية المنسوبة لإله [أو قانون غيبيّ في حال البودية بمعظم مذاهبها]. بل على النقيض، فإن المعيار الذهبي هو مفهوم المعاملة بالمثل يتأصل كليًّا في كيفية معاملة الناس بعضهم البعض في التفاعلات الاجتماعية. الكثير من الغرباء يعيشون في المجتمع، وإن سببًا رئيسيًّا لتعاونهم وتسامحهم مع بعضهم الآخر هو عملهم وفق الافتراضية الأساسية بأن لا انحراف وانتهاك عام للمعيار الذهبي سوف يحدث، وهو ما لا علاقة له بإلهٍ [مزعوم] يراقب المسألة. بالتأكيد، تتسبب بعض المواقف العصية باتخاذ قرارات صعبة قاسية تجبر الفرد على القيام بدور أخلاقي مزعج لا يبدوا فيه أفضليات أخلاقية واضحة في الخيارات المتعددة. لكن بالنسبة لمعظم الوقت_رغم ذلك_فإن الناس ينخرطون في تفاعلات لا تُحصى لها حلول أخلاقية روتينية معتادة، وتحدث قراراتهم وأحكامهم بدون تفكيرٍ واعٍ. فإن يرَ المرءُ شخصًا عجوزًا يسقط أمامه فإنه يهرع فورًا لسنده. وإن يرَ المرء شخصًا ينشج بخفوت في الشارع فإنه يحاول مواساته بسؤاله عما إذا يكون بخيرٍ وما أصابه. هذه القرارات هي أفعال تلقائية بدون تفكير تنفي الادعاء المتغطرس من جانب [نصوص وأتباع] الأديان بأن الناس لا يمكنهم أن يكون محترمين وذوي لياقة مع بعضهم البعض بدون قبول الاعتقاد الديني. ففي كلا هذين الموقفين، ليس هناك فكرة عن إله أو آلهة أو أبدية في اللحظة التي يقرر فيها الشخص أنه يريد أن يساعِد. هناك فقط الإنسان بإنسانيته والوقت الحاضر، والفهم الغريزي بأن شخصًا آخر احتاج المساعدةَ التي كان سيريدها الفرد لنفسه [لو كان محلَّه، وبحكم التقمص العاطفي يساعد المحتاج_م]. أخلاق الضرورة_الأعذار والتبريرات يمثل المعيار الذهبي البطاقة والتذكرة التي تسمح لشخصٍ ما بالانضمام إلى جماعات مهمة في كلٍّ من أسرته ومجتمعه الأكبر الأوسع، وهو يعمل كغراء لُحْمة المجتمع الإنساني [وإسمنت لصق قوالب بنائه المتمثلة في الأفراد]، خاصةً فيما يتعلق بالتفاعلات والعلاقات الغير أُسَرية. وبالرغم من كل القيمة والفائدة الهائلتين اللتين يقدمهما المعيار الذهبي فإنه مع ذلك غير مثاليّ، فهو يفشل عندما يجد شخصٌ ما نفسَه في موقفِ ضرورةٍ حيث يكون هو أو غيره في خطر شخصي كبير. في مثل تلك اللحظات، فسيجد أن المعيار لا يسمح أخلاقيًّا بالأفعال التي قد يشعر بأن عليه القيام بها. إن القرارات الأخلاقية هي توظيفٌ لمستوى وحدود الفرصة للسلوك المحترم اللائق التي يقدمها العالَم لشخصٍ ما، ولذلك فإن الأخلاق يمكن أن تكون رفاهيةً أحيانًا. إن الرجل المتضور جوعًا وفي مسغبةٍ لن يميل إلى مراعاة أحاسيس شخص أغنى؛ إنه يحتاج ببساطة لأكل ما يقدر على الحصول عليه، حتى لو كان عليه سرقته. لا يمكن أن يُتوقَّع أخلاقيًّا من شخصٍ أن يمتنع عن الحاجات الأساسية لبقائه حيًّا لكي يحترم معيارًا أخلاقيًّا سيقتله للالتزام به. هذا لا يعني أن الشخص الذي تصرف لحماية حياته الخاصة به في مواقف كهذه لم يقم بقرار غير أخلاقي لأنه قد فعل. رغم ذلك، فإن لا أخلاقيته في تلك اللحظة معذورة ومُقالة على نحو ممكن بسبب الضرورة التي وجد نفسه فيها، وخصوصًا لو اعتُبِر غير ملومٍ في كونه في تلك الضرورة في المقام الأول. بالتالي، فإن المعيار الذهبي يتطلب تلطيفًا وتعديلًا لأجل مثل تلك الضرورات، والذي يأتي في شكل الأعذار والمبررات [المسوِّغات]. بالاستعارة مجددًا من اللغة القانونية، فإن العذر هو دفاع لأجل خطإ وعدم التزام المرء الأخلاقي لادعاء إعفاء من المعيار الذهبي، والمسوِّغ هو دافع عن انتهاك وخرق أخلاقي بالبرهنة على أن عدلًا أسمى قد تحقق في الحقيقة بانتهاك ذلك المعيار. بعبارة أخرى، فإن العذر ليس شيئًا سيتحمس له المجتمع لكنه سيغفر لأجله. من ناحية أخرى، فإن المسوِّغ سيُستحسَن على الأرجح باعتباره قرارًا قد أفاد المجتمع ككلٍّ. سيصبح هذا المصطلحان في بؤرة رؤية أوضح مع الأمثلة. تصور شخصًا مُعدَمًا [فقيرًا] لا يملك ما يكفي لتزويد طفله السقيم بأدوية مهمة. عند إدراكه بأن الطفل في ألم رهيب لا يلين والذي سيصير أسوأ إن لا يمكنه تدبر الأدوية الضرورية، فإنه يدخل صيدليةً مع مسدس ويسرق من العاملين الأدوية التي يحتاجها ابنه ولا شيء أكثر. بينما تشكل قراراته انتهاكًا للمعيار الذهبيّ، فسيجدها كثيرون على الأرجح معذورة. لقد أدرك بعقلانية الخطر الكبير على طفله وكان غير قادر ماليًّا على شراء الشيء الذي سيخففه، ولذا فقد اتخذ خطواتٍ لإنجاز ضرورته الأخلاقية مع تقليل الإضرار بالآخرين إلى أدنى حدٍّ. وعلى نحو هام لأجل الأغراض الأخلاقية، فهو لم يسمح لإغراء المكسب المحتمَل لخرقه الأخلاقي بأن يجعله [خرقه] يمتد على نحوٍ مواتٍ إلى ما هو أبعد مما حفَّزه في الأول، تحديدً: تدبير الأدوية الهامة الضرورية. أما إن قاده اتخاذه لذلك القرار إلى الشعور فجأةً بأنه مخوَّل بسرقة أشياء أخرى من الصيدلية والتي لم تحفّز ضرورته واضطراره الأخلاقي، فإن تلك القرارات لن يكون لديها أعذار مقبولة سارية وستخضع للتطبيق العاديّ للمعيار الذهبيّ. في مواقف كهذه، فإن القواعد الأخلاقية المطلقة الخاصة بالأديان لديها مشاكل كبيرة في العثور على تطبيق معقول لأن قيمتين مهمتين قد صارتا في صدام مباشر أحدهما مع الأخرى. هناك قيمة تقول بأن الأب ينبغي أن يوفر ما يحتاجه طفله ويحميه، لكن هناك قيمة أخرى تأمر بعدم سرقة شخصٍ ما من الآخرين. [في الإسلام بأصله لا يوجد أعذار وجاء في الحديث: لعن الله السارق يسرق البيضة فتُقطَع يده (البخاري 6783 وغيره)، إلا أن التطبيقات الخاصة بعمر وعائشة وعثمان وباقيهم لاحقًا وضعت اعتبارًا للضرورات كالسرقة بسبب الجوع الشديد المفضي إلى احتمالية الموت وغيرها، ويظل هناك نقد لشمولية وإطلاقية القواعد وأخطائها وعيوبها الكثيرة بالنسبة للإسلام لكن هذا له كتابات أخرى من قلمي_م]. لأجل الأغراض العملية، فإن الشخص في هذا الموقف سيقوم بعمل قراره بناءً على اختيار أقل الشرين، كما وُصِف في السيناريو الافتراضي، ويعمل التعاطف الاجتماعيّ عى تقليل العواقب الأخلاقية الخاصة بالخرق الذي حدث. رغم ذلك وبالمقارنة، ففي العالم النظري للمطلقات الخاص بالأديان، فإن مثل هذا الفرد قد هزمته وتغلبت عليه ظروفه. والآن، تصور شخصًا نائمًا في الليل عندما سمع حفيفًا في بيته. وبعدما صحا لتفقد الأمر، لاقى هجَّامًا [لص منازل] والذي هاجمه. في المقاومة التالية لذلك قتل الرجلُ الهجَّامَ. فنيًّا وحرفيًّا، فإن قراره بمقاتلة المقتحِم سيكون خرقًا للمعيار الذهبي، لكن باعتبار الظروف، فإنه هجر الرجل لتوجيهاته الأخلاقية ليس معذورًا بل مسوِّغًا مبرَّرًا. فهو لم يكن ملومًا كما يُفترَض في صنع الورطة، وكانت يده مجبورة كذلك في الشجار الناتج. وفي حين أنه قد خرق وكسر المعيار الذهبي، فإن الظروف أعطته مسوِّغًا لفعل ذلك، يعني على وجه التحديد حماية حياته الخاصة به وربما أسرته. مرة أخرى، فإنها ستكون أخلاقًا مشكوكًا فيها تلك التي تحرِّم أفعاله، ويرجَّح أن حتى الأديان ستعتبرها بلا لومٍ بسبب الخطر الواضح الذي يمثله الموقف. يفهم كل البشر أن التهديدات والأخطار على سلامة جسد الشخص تشكِّل ظروفًا استثنائية وبذلك تمنح مراعاة خاصة. في سياق التفاعل والعلاقات الاجتماعية، يمثل المعيار الذهبي عمل القرار الذي يجب على الناس القيام به في أي تعامل اجتماعي عاديّ. رغم ذلك ففي ظرف طارئ مُلحٍّ يتوقف هدف المجتمع الخاص بتقديم استقرار وأمن مُتوقَّعين لأفراده، وإن التسويغ الضروريّ الطارئ الممكِّن لكسر المعيار يمثِّل الاعترافَ بأن المجتمع قد فشل على نحو مؤقت في الحفاظ على جانبه من الصفقة [العقد الاجتماعي]. في حالة كهذه، فإن [الجزء من] حرية الشخص الفردية [الكاملة الفوضوية] المضحَّى بها سابقًا قد أُعيدَت إليه أخلاقيًّا حتى انتهاء الضرورة. وكما في حالة السيناريو والمثال الافتراضيّ للأعذار [حالة سرقة الأدوية]، فإن ترخيصَ مسوِّغٍ في ظرف خرقه الأخلاقي لا يتضمن أنه يمكنه إنزال الهلاك بوحشية وإفراط بمن قد يسببون له الحالة الطارئة والاضطرار. سيُقيَّم سلوكُه وفقًا لمُجمَل الظروف، فلو اتخذ لنفسه حرية زائدة متطرفة مع إعفائه الأخلاقي الطارئ، فهذا في حد ذاته يمكن أن يُعتبَر غير مقبول أخلاقيًّا. ************ إذن، فما هو الشيء الذي ندعوه أخلاقًا؟ وما هي وظيفته؟ يشعر الناس غريزيًّا بأنهم يريدون الانتماء إلى مجتمع أو مجموعة ذات حجم ما، لكن لا مجتمع يلائم أبدًا كلَّ رغبات أي فرد معيَّن فيه. يضحّي الفردُ ببعض جوانب حريته الشخصية لكي يحصل على حماية ومنافع المجموعة [الجماعة]، وتزداد كلٌّ من قدرة وقوة وإمكانيات الجماعة بزيادة رقم آخر [فرد]. بعبارة أخرى، فإن المجتمع مقايضةٌ صعبةٌ بين الحرية الفردية وحماية الجماعة [للفرد]. الأخلاق هي المفهوم الذي يقيس به الناسُ وجودَ العدلِ في التفاعلات الإنسانية، وخصوصًا في المجموعات مثل المجتمعات. لا يمكن أن يوجد عدلٌ بدون وجود أوزان [مثاقيل] لوضعها في موازينه، وإن الأحكام بالأخلاقية أو اللاأخلاقية هن [= يتوقفن على] هؤلاء الأوزان فقط. الأخلاق هي المفهوم الذي يستعمله المرءُ للحكم على مدى استحقاقية قرارات شخص آخر للمديح أو الإدانة فيما يتعلق به وبالأطراف ذوي الصلة [بالموقف]، وإن قيمها تتغير بتغير الأفراد وظروفهم والمجتمع. إن الاعتقاد بالفكرة الخيالية القائلة بأن القيم الأخلاقية جامدة وليست سوى أكثر القرارات خيرية أو دنسًا وشرًّا عمومًا فكرة مخادعة كاذبة بل ووحشية حقًّا في الحقيقة عندما يكون لها تأثير إقناع شخصٍ ما بالتوقف عن الشفقة والرحمة لأنه يرفض أن يأخذ في اعتباره أي اعتبارات خاصة بالمواقف. الأخلاق تتحسن وتتدهور، وعندما تفعل هذا أو ذاك فإن هذا بسبب كون التعاطف والتقمص العاطفي العام لمجتمعٍ ما يتقلَّب على نحوٍ مماثل. إن قيمة محددة أخرى يتضمنها المعيار الذهبي والتي تستحق دراستها قبل تحويل الانتباه عن مصطلحات المعيار الأخلاقي إلى آليات تعزيزه، ألا وهي المغفرة. لا يمكن أن يتصرف الناس دائمًا على نحوٍ سليم، وفي بعض الأحيان تكون هذه الأخطاء فاضحة فظيعة. كل شخص له جانب من تاريخ حياته والذي يندم على كيفية معاملته فيه شخصًا ما، وهو أمر لا يمكن تجنبه. البشر يمكن أن يكونوا أحيانًا أنانيين ولا مبالين على نحو بشع بمشاعر الآخرين. رغم ذلك، فإن المعيار الأخلاقي يراعي ويحسب حساب قيمة الصفح والمغفرة، وإن من يخطئون ويسيئون إلى الآخرين ثم يعتذرون بإخلاص بمحاولة تصحيح الضرر الذي قد فعلوه يستحقون الغفران. ربما لن يحمي منح مثل ذلك الغفرانُ الشخصَ [أحيانًا] من السجن البدني أو عذابات ضميره الشخصي، لكن في حال الإظهار الصحيح الملائم لتأنيب الضمير الصادق، يمكنه وينبغي أن يتلقى التعاطف والشفقة من الشخص الذي قد أساء هو إليه بقيامه بالقرار [والفعل]، يعني ممن يحتاجه منه أكثر من أي أحد. فباعتبار كل شيء، سيرغب أي شخصٍ [في حال ارتكابه لخطإ وإساءة] مثل هذه المغفرة له. إن النقطة والمقصد الهام هو أن الأخلاق والمعيار الذهبي لا يتعلقان بمطالبة الناس أن يكونوا كاملين مثاليين. إن التعقيد المحيِّر للحياة يقدِّم تنوعًا واسعًا للغاية من المواقف والمعضلات أكبر من [إمكانية] ألا يقوم الناس بخطإ أبدًا، وحتى خطإٍ فظيع مقزز. إن توقع أن يعيش الناس حيوات مثالية [بلا أخطاء] هو عيش حيوات محكوم عليها بخيبة الأمل. فعلى نحو واقعي، فإن مسألة قيمة الشخص تتعلق بأفكاره ودوافعه وسلوكياته وأساليبه، فإن تكن في الأكثر كريهة رديئة أو استغلالية، فمن ثَمَّ فإن الحكم على شخصيته ليس أمرًا عويصًا. أما بالنسبة للشخص الذي سينبغي أن يعتبره المرءُ أخلاقيًّا فإن مراعاته للمعيار الذهبيّ رغم ذلك لن تكون مثالية أبدًا؛ بل هو فقط الشخص الذي يندم بعمق وشدة عندما يفشل في تحقيقه والالتزام به. آليات التعزيز الأخلاقي في خلال الدارسة والنقاش المطوَّل لبناء دستور أخلاقي، فإنه يخطر على الذهن أن مثل هذا المعيار الأخلاقي سيكون مضيعة للجهد إن لم يكن لديه نظام إجرائيٌّ لضمان تقويته وتنفيذه، وهو ما يقوم به بالفعل. إن عملية اتخاذ المرء للقرار الأخلاقيّ لديها في الحقيقة درجات عديدة من التعزيز، سواءً داخليًّا أو خارجيًّا، وإن مقوياته ومعززاته [وفارضاته] المتضمَّنة هي الناس الذين يشكِّلون الجماعات والدوائر الأساسية التي ينتمي الشخص إليها وتحدد هويته. قبل نقاش آليات التعزيز الأخلاقي لملحدٍ، فإن استطرادًا لفهم جانب هام من الأخلاق الدينية سيكون ضروريًّا. إن الأجوبة على الأسئلة والقضايا الأخلاقية ليست دائمًا متوافقة بالنسبة للمؤمنين الدينيين والمتشككين1، وليس معنى ذلك أنهم يختلفون دومًا وكثيرًا لأنهم لا يفعلون [ليسوا كذلك]. في الموقف المتطابقة، فإنهم سيتوصلون إلى إجابات وحلول متشابهة للغالبية العظمي للمعضلات والأسئلة الأخلاقية. إن الاختلافات ذات الدلالة البليغة في الدستور الأخلاقيّ لكلٍّ من الفريقين ينشأ ويبرز في المواضع حيث لا تتفق حلولهم، هو دالّة ونتيجة لكيفية رؤية كلُّ فريقٍ منهما أساس ما يجعل السلوك البشريّ أخلاقيًّا. إن المفتاح لفهم دقائق الاختلاف هو إدراك أن ما تعنيه الأديان بكلمة "أخلاق" ليس على الإطلاق ما يعنيه الإلحاد بها، وقبل فحص آليات التعزيز الأخلاقي في المجتمع لشخصٍ قد ترك الاعتقاد الدينيّ، فإن نقاشًا لمفهوم الخطيئة [الإثم، الذنب] الدينيّ سيلقي الضوء عن الكيفية بالضبط التي تجعل بها الأديانُ الأخلاق مسألة غير بشرية تمامًا. الخطيئة في الجزء الأول، لم أناقش البنية الأخلاقية للاعتقاد الدينيّ، على نحو رئيسيٍّ لأن ذلك لم يكن ذا صلةٍ بهدف تحليل وفحص وجود الأماكن والكائنات الميتافيزيقية وفق الأساطير الدينية. رغم ذلك، فإن السلطة الأخلاقية المدّعَّاة للأديان هي السبب الرئيسي على الأرجح لإجازة العوامّ [في الدول الدينية الغير متقدمة] لغرابتها الموضوعية. في الحقيقة، تصوغ الأديان [وممثلوها] كل شيء تقوله في مصطلحات دينية، حتى الأفعال التي لا يبدو أن لها أي علاقة واضحة بالأخلاق. كمثال، ما هو بالضبط الغير أخلاقي في استعمال موانع الحمل سواءً لمتزوجين أو غير متزوجين أصدقاء؟! إن الربط مع الأخلاق يبدو محيرًا، رغم أن الكثير من الأديان يرفض [رجال كهنوتها ووعظها] السماح لأتباعها باستعمال موانع الحمل على أساس اعتراضات أخلاقية. على نحوٍ مفاجئٍ، فإن دفاعًا قويًّا يمكن القيام به بأن عدم الاستعمال المنتظم لموانع الحمل غير أخلاقي [في بعض الحالات] لكونه يزيد احتمالية الخطورة الغير ضرورية لحالات الحمل [نتيجة ضعف أو مرض الزوجة أو الشريكة الجنسية أو فقر الطرفين أو غير ذلك] أو انتقال الأمراض [الوراثية للطفل وربما الجنسية للشريك في حالة استعمال العازل الذكري]. إن احتكامات أخلاقية معينة تنشأ من الأديان، وهي تَشْرَح بدقة هامة مساعِدة على فهم بنيتها وتركيبتها الأخلاقية. ففي جوهرها ولبها، لا تتعلق أخلاق الاعتقاد الديني بأن يكون المرء محترمًا أو سالكًا السلوكَ اللائقَ مع الناس؛ بل هي تقوم على عدم الإساءة إلى الآلهة أو إغضابها [أو مخالفة النصوص والتعاليم الدينية عمليًّا ______________________________ 1 المتشككين: الملحدين أصحاب منهج الشك والتحرّي وعدم التسليم بدون برهان، وليس كما قد يفهم عوام جاهلو المتدينين أنه يعني المتحيرين الذين لا يهتدون سبيلًا إلى إيمان أو إلحاد أو دين من عدمه_م. _م]. وإن كون دينٍ ما له أوامر وقواعد أخلاقية تدين الأفعال التي تؤذي الناسَ مجردُ مصادفةٍ. كل ما يهم في أخلاق دينٍ ما هو ما إذا كانت أفعال المرءِ مسيئة لإله الدين، وأقل ما يمكن قوله عن هذا أنه معيار اعتباطي [تحكمي استبدادي]. وهكذا، فإن أساس الدستور الأخلاقي للأديان هو مفهوم الخطيئة، والتي هي "جريمة" أو إساءة ضد الإله أو الآلهة. بحيث أن ارتكاب المرء لأذية الآخرين من رفاقه إخوته البشر أو الإساءة إليهم بدون ارتكاب خطيئة دينية [كحالات قتل المخالفين في الاعتقاد أو تطبيق الحدود الإجرامية الإسلامية الشمولية بحكم الإرهاب الديني_م] لا تدخل [حسب اعتقادهم] في حساب ودينونة الشخص النهائية بل وقد تُشجَّع [بدعوى أن فعل تلك الشرور هو خير وله ثواب_م]. أما مع نبذ الإله [أو الآلهة] والاعتقاد الديني عمومًا، فإن مثل هذه الأخلاق [المذهب الأخلاقي] مروعة لأنها تنكشف على أنها غير مؤسَّسة على أي طريقة تفكير ثابتة حازمة لمنعها من التخبط والتذبذب على نحوٍ شديد، مهما كانت درجة حسن نواياها [المزعومة]. بالفعل، فإن كل الأديان لديها أتباع أو طوائف وجماعات متطرفة رادِيِكالية تضع الأخلاق في زقاق مظلم ومسار إرهابي ظلاميّ حيث قد لا يكون العدوان على الآخرين بدون إساءة فعلية منهم مقبولًا فحسب، بل مأمورًا به. لا يوجد حدود ولا تقييدات لما يجعل الإيمان الدينيُّ الناسَ قادرين على فعله ضد بعضهم الآخر باسم إلهٍ. فباعتبار كل شي، فإن التقمص العاطفي والتعاطف الغريزي المتأصل نحو الآخرين يُتغلَّبُ عليه بسهولة برؤيتهم كأشرار، وحالما يُقوَّض ذلك التقمص العاطفي [الشعور بالآخرين بتصور نفسك مكانهم]، فإن أفعالًا مروعة رهيبة بحقٍّ يمكن دائمًا أن يبررها داخليًّا الشخصُ الذي يرتكبها. ورغم كونها انتزعت اللقب والصفة بالزيف وبمرسوم عالٍ شموليٍ، فإن الأديان كانت [ولا تزال في الدول الدينية] ناجحة تمامًا في تصوير ووضع نفسها باعتبارها السلطات والمرجعيات الأخلاقية في عالَمٍ يتخبط في محيطٍ متلاطمٍ من الفساد الأخلاقيّ، وإن كيفية صنعها هذا النجاحَ لأنفسها رغمَ اعتباطية واستبدادية أخلاقها يستحق التفحص والبحث. هناك بعض الأفعال تعتبر مدنِّسة وأثيمة للغاية لدى البشر على مستوى غريزيّ متأصل، إلى درجة أن المرء يمكنه أن يفترض على نحوٍ مضمونٍ أنها عالمية، مثل القتل المتعمد. القتل المتعمد هو إنهاء حياة شخص آخر مع سبق القصد والتخطيط بدون أي عذر أو مسوِّغ مثل الجنون أو الدفاع عن النفس. التصريح بأن القتل المتعمد غير أخلاقيّ وغير مقبول لا يمثل رأيًا غريبًا عن الآراء السائدة. وعلى النقيض، فإن إظهار طبيعة وسمة مُحْسِنةٍ للمحتاجين هي سمة للإنسانية محترمة للغاية عبر الثقافات بحيث أنها تقترب على الأرجح من الاستحسان والإجماع العالمي. وكما مع حالة القتل العمد، فإن توصية الأديان بأن يكون الإحسان جزءً من حياة أي شخص محترم هو بالمثل لا يفيد قضية الأديان. أما في محكمة الأخلاق الدينية، فإن الأديان قد تعلمت أن تزعم بأن القرارات والقيم الأخلاقية الواضحة خاصة بها لكي تكتسب التصديق، والتي من ثم تستعملها للكلام والحكم والتدخل في أي موضوعٍ يتراءى لها، مسلَّحةً بالسلطة الأخلاقية المعطاة الشرعية لها على نحو خاطئ آنذاك. هذه حيلة ماكرة، والتي تحصل على حق التحدث في أي موضوع من منظور استعلائيّ مستقوٍ بالتلميح الضمني ببساطة بأن نفس البوصلة الأخلاقية التي قد قررت من قبلُ أن القتل المتعمد خطيئة لديها كذلك تضمينات أخلاقية عن أمور أخرى. تخيل لو كان هناك دينٌ ذو دستور أخلاقيٍّ لا يجعل القتل خطيئة [خاصة قتل أفراد نفس المجموعة كالمعتاد من الأديان في معظمهما_م]. سيتصور المرء أن قلة سيهتمون بما يقوله من أمور أخرى بسبب التناقض الهائل لذلك الإغفال مع ما يشعر البشر على نحو طبيعيٍّ بأنه السلوك الاجتماعي السليم الملائم نحو الآخرين. على نحو مشابه، فإن الأديان تحتاج إلى وتستمر في تعديل دساتيرها الأخلاقية لكي تحافظ على صلة مع المجموعات السكانية التي تتطور أخلاقياتها تلقائيًّا. إنْ يصبحْ ضغط مجموعة سكانية ضد أمر ديني معيَّن قويًّا على نحوٍ كافٍ، فإن كل ما يحتاج الدينُ فعلَه هو إعلان أن النص الديني التشريعي مثيرُ المشكلةِ مجازيٌّ أو أسيئت ترجمته أو تفسيره أو قُصِدَ به زمانٌ أقدم، وسيتكيف الدين ليتلاءم مع جمهوره. حتى الآن، كان النقاش ممارسة نظرية تركِّز في خطف والسطو على السلطة الأخلاقية من جانب الأديان لكي تكتسب احترامًا وخضوعًا على مدى واسع، لكن الحقيقة العملية هي أن الناس سيُفصِّلون ويعدِّلون التقييدات والقواعد الأخلاقية الخاصة بأديانهم لتحسين تناسبها مع إحساسهم الخاص بهم بالصواب والخطإ. بتذكر النقاش في الفصل 10 عن صنع الدين وفقًا لاختيارات الأشخاص، فإن الأخلاق هي المجال الرئيسيّ الذي سيعدِّل فيه الناس بينما يصوغون دينهم وفقًا لرؤاهم ورغباتهم، وكثيرًا ما يكون ذلك بطرق داخلية غير محسوسة ولا واعية، وهم يقومون بذلك لأن لديهم إحساسهم الخاص بهم بالأخلاقيات والذي على الأرجح لا يتوافق بالكامل مع ما تعلِّمه وتأمر به أديانهم. مع ذلك، فما هو هامٌّ فهمُه في هذا النقاش عن الخطيئة هو أن معاملة الناس الآخرين في حد ذاته ليس محل التركيز والمقصد في الأخلاقيات الدينية. فأولًا وقبل كل شيء، فإن استحسان إلهٍ [أو نص ديني ومحترفي الأديان] فيما يتعلق بسلوك المرء يجب تحقيقه، بحيث أنه لو كانت تلك القرارات الأخلاقية لا تؤذي الآخرين فإن ذلك يكون علاوة وفائدةً عَرَضيّة للمجتمع. في الواقع، فإن الأخلاق كمفهومٍ هي مقياس الشخص لقيمة قراراته المتخذة في مجتمعٍ ما وهي كذلك وسيلة يحكم بها على قرارات الآخرين. وبما أن الاعتقاد الديني يعتبر المجتمع البشري على أنه ومضة ضعيفة وغير مثيرة للاهتمام في الوجود، فإن الاستيلاء والسطو على المفهوم من قِبَلِ الأديان هو مزاوجة غير مناسبة خاطئة مرعبة. القانون العلماني كما لاحظنا في مستهلِّ الفصل، فإنه لمهمٌّ أن ندرك أن القانون العلماني المدني ليس أخلاق الشخص، ولا يُدَّعَى أنه كذلك. القانون العلماني هو قائمة من العواقب والتبعات لسلوكيات معيَّنة قرر المجتمع أنه إما لن يتسامح معها أو أنه سيريد أن يشجعها. القوانين [والدساتير] هي تسويات صعبة لعدد كبير من المصالح المتنافسة المتنازعة والتي تحاول إيجاد توازنٍ اجتماعيٍّ مُحسَّنٍ إلى أفضل درجة ممكنة لأجل استقرار وأمان مَنْ تحكمهم. بعبارة أخرى، فإن القانون العلمانيُّ له أهداف مختلفة قليلًا عن تحقيق القرارات الأخلاقية، وحيث أنه كذلك، فإن القانون العلمانيّ يمكن أن يتناقض أحيانًا مع الحس الأخلاقيِّ للمرءِ. كمثال، فإن القانون العلمانيّ لا يطالب أبدًا على الأغلب بوضع الشخص نفسه في خطر لإنقاذ حياةِ آخرَ، لكن من وجهة نظر أخلاقية فإن فعلًا كهذا هو دومًا تقريبًا مستحقٌ للثناء والإطراء. على الجانب الآخر من العملة، فإن القانون العلمانيّ المدنيّ قد يطالب عمليًّا بسلوكيات تتناقض مع ما يشعر شخصٌ ما بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي. ففي الماضي في الولايات المتحدة الأمِرِكِية، قوبلت القوانين المؤسِّسة للتفرقة على أساس اعتباطيّ عِرِقيٍّ بالعصيان المدني [من بعض المواطنين الأكثر إنسانية وذكاءً وثقافةً] لأجل ذلك السبب بالتحديد. وحتى في العصر الحالي، فإن ما يُعرَف بالقائمين بالتطهير whistleblowers [يعني المندسين لكشف الفساد والإبلاغ عنه] العاملين مع الحكومة قد يشعرون بأنهم يناقضون رسالة القانون وجوهره لأن تأنيب ضمائرهم يجعلهم لا يستطيعون تحمل أنفسهم في حياتهم لو لم يخالفوا [رسالة القانون، حيث يشعرون أنهم يخونون من ائتمنهم وعاشروه مثل موظفي ومديري شركة واحدة أو فرع إداري حكومي واحد أو أفراد عصابة ما_م]. إن الأغراض المخصَّصة لكلٍّ من القانون العلمانيّ والأخلاقيات تتداخل إلى حد كبير، لكنها لا تتطابق. لا يُراد بالقانون العلماني أن يُوظَّف كدستور للأمور المدنية أو مجموعة شاملة من الأخلاقيات؛ إن عقوباته أقسى بكثير وتكاليف القيام به أعلى بكثير من تخصيصه بهذه الطريقة والغرض. يهدف القانون العلمانيّ بوضوحٍ إلى خلق مجتمع مستقر لا تنقطع فيه التوقعات العقلانية للعدالة. عمومًا، فإنه يمثل الحد الأدنى للسلوك المقبول لشخصٍ ما من منظور المجتمع. إن مجتمعًا ما يصبح نموذجيًّا وقدوةً يُحتذَى بها بالجهود الإضافية والمجاملات والاحترام والإحسانات التي يختار مواطنوه تكريسها به، وليس لأن مثل هذه الأفعال مأمورٌ بها قانونيًّا، بل لأن أفراد العامة يرغبون فيها. باعتبار أن تمثيل مجموعة المعززات والفارضات الأخلاقية مؤلف من المجتمع نفسه، فإن القانون العلمانيّ أحدُ وسائل الحماية العملية لنسيج مجتمع في جمهورٍ [يقبل أو] لا يقبل [معظمه أو بعضه] عقيدةَ وجودِ إلهٍ وكل تهديداته ووعوده المرافقة [المزعومة]. إن الأسلحة التنفيذية والقضائية للقانون العلماني_أيًّا ما كان الشكل والصيغة التي يتخذها_يعمل على تقديم عوائق هامة للسلوكيات المعتدية على الآخرين، لو اعتبرنا أن الوعيد بدينونة روح المرء في جحيم أبدي هو أقصى العقبات والعوائق السلوكية [وليس ذلك صحيحًا لأن كثيرين من المؤمنين يتجاهلون ذلك عمليًّا ولو لا شعوريًّا لأنه خرافة حينما يتزعزع إيمانهم ومعه أخلاقهم الضعيفة التأسيس المبنية على خرافات لا على قناعة بالأخلاق نفسها وقيمتها_م]، فمن ثَمَّ فإن ضمان خسارة الجسد لحريته الشخصية في السجن خيارٌ ثانٍ ملائم مفيد. كثيرًا ما يقوم المؤمنون الدينيون بالتأكيد المزعج بأن لا شيء يكبح الناس عن تمزيق بعضهم الآخر إلى أشلّاء كالكلاب الضارية الهاربة من أرسانها ومقاودها بدون التهديد المرتقَب الخاص بإلهٍ ليجعلهم يفكرون مرتين، وهو ما يقدِّم لمحة مثيرة للقلق عن أفكار من يقومون بملاحظة وتعليق كهذا. باعتناق وجهة النظر بأن القانون العلماني المدني ليس رادعًا للسلوكيات المؤذية، فإن المعنى الضمني هو أن الفرد نفسه لا يعترف بسلطة القانون المدني إذا وعندما يتعارض مع التعليم والأمر الديني أو الرسالة الدينية. بعبارة أخرى، فإن [مثل ذلك] الشخص يقترح أنه قادر ويمكن له خرق أي قانون علماني، بغض النظر عن خطورة الجريمة أو الأذى، بالتضمين بأن القانون الإلهي [الديني] هو المصدر الوحيد لكبح المرء. وفي ضوء تحكمية واعتباطية آراء وتعاليم الآلهة [والأديان]، فإن المؤمنين الدينيين هم من لديهم احتمالية خطيرة للسلوكيات الهمجية الوحشية على نحو مثير للقلق والانزعاج. المأثرة والسمعة عندما لا يؤمن شخصٌ بوجود إلهٍ، فإن أولوياته يتغير ترتيبها، وتشرع مآثره وتراثه بين أصدقائه ومحبّيه يتخذ قيمة أعلى. نظريًّا، فإن المأثرة لن تعني شيئًا على أي حال لمؤمن دينيٍّ لأنه قد قبل وجهة نظرٍ عن هذه الحياة باعتبارها مجرد محطة توقف باتجاه تحقيق [مصير] الحياة الأخرى القادمة التي ينتظره فيها الهدف والدافع الحقيقي لنوازعه وأفعاله. أما الملحدون فلا يفترضون مثل هذا الافتراض، وإن الرغبة في عيشِ حياةٍ يمكن أن تتذكرها أسرة المرء [والبشرية أو جزء منها] بإعزازٍ وتقدير واحترام كبير عالٍ تَكُوُن ذاتَ أهمية كبيرة. بسبب تلاشي خرافة الحياة الأخرى الدينية في العالم الفيزيائي الواقعي [في عقل الملحد]، فإن الملحد لا يوجد لديه أي شيء آخر يقدره فيما بعدَ موته النهائي. بالتأكيد، فإن معظم المؤمنين الدينيين سيتفقون على لا أحدَ سيريد عيشَ حياةٍ ستلقي ذكراه في الخزي والعار بين أسرته وأصدقائه. رغم ذلك، فإنهم يتفقون على تلك الملاحظة في تمردٍ وخلافٍ لدينهم، وليس بسببه. فلو أنهم كانوا ملتزمين بإخلاصٍ للمعاني الضمنية لاعتقادهم الديني، لما كانت كل أمانيهم وعواطفهم فيما يتعلق بكيفية رؤية الآخرين لهم ستعني أي شيء مقارنةً بما يعتقدون بأنه يرضي الإله. رغم عدم الاتساق النظريّ من جانب المؤمنين في وضع أي قيمة للمفهوم [المأثرة]، فإن مآثر وتراث المرء بين أسرته ومحبيه [والبشرية] هو آلية تعزيزٍ هامة ثقيلة الشأن للقناعات الأخلاقية لكلٍّ من الملحدين والمؤمنين الدينين على السواء. تعزز السمعةُ اتخاذ القرارات الأخلاقية بطريقة مشابهة حيث أنها النظير الحي لمآثر المرء، والاختلاف الوحيد بينهما هو أن السمعة تتضمن أن الشخص محل الكلام لا يزال حيًّا. وكما في حالة المأثرة، فإن شخصًا ما ذو وجهة نظر كونية إلحادية سيحافظ على سمعته بإعزازٍ حيث أنها تمثل الرأي العام الذي تعتقده أسرته ومجتمعه عنه. فمع سمعة سيئة سيجد نفسه معزولًا عن الناس، وبدون إله [وهمي] للالتجاء إليه [كحيلة نفسية]، فهذه عاقبة رهيبة. مجددًا، فإن من يعتقدون بوجهة نظر دينية سيقدرون بالتأكيد قيمة سمعتهم لأسباب عملية حيث سيحتاجون إلى الحفاظ على التواصل الاجتماعي المفيد مع الآخرين، بوضوحٍ ليكونوا فاعلين في المجتمع. رغم ذلك، فإن الاعتقاد الديني يجعل سمعة المرء نظريًّا مفهومًا تافهًا وعابرًا. لو أن امرئًا [دينيًّا] سيأخذ دينه بجدية، فستكون آراء البشر الآخرين بخصوص سلوكياته أمرًا عديم المعنى والأهمية، يناسب فقط من التهوا ونسوا هدفهم النهائي الخاص بإرضاء إلههم والوصول والانضمام إليه. باختصار، فإن السمعة تعني الكثير في حياة أي شخص لأسباب عملية، وإن تقويضها بسلوك غير لائق هو إحباط وخسارة لبنيوات الدعم البشري الذي يحتاجه كل شخص. الشعور بالعزلة عن البشر الآخرين بسبب اعتبارهم قرارات الشخص الأخلاقية وسمعته كريهة منفرة هو مصير رهيب، ويتجنبه الناس على نحو طبيعي. في الواقع، إن مفهومي المأثرة والسمعة ليسا اهتمامين مستقلين على نحو كامل عن آخر آلية تعزيز أخلاقية: الضمير. الضمير بلا جدال، فإن ضمير الشخص هو المعزز الرئيسيّ لسلوكه الأخلاقي، على نحو رئيسي لأنه لا يمكنه تجنب عينه المراقبة. هناك بعض الأفعال التي لا يستطيع شخصٌ ما بوضوحٍ تحمل واستجازة فعلها لأن ضميره يشعر بالاشمئزاز من ذلك السلوك، ولفرض وتعزيز إرادته على اتخاذِ الشخصِ القرارَ، فإن الضمير ينشئ العقبتين القويتين الخاصتين بالشعور بالذنب والقلق. إن مفهوم الضمير هو تركيب وإنشاء نفسيّ لأجل الوعي والهوية الاجتماعيين، وعندما يشعر الضمير بأن ما يفكر فيه الشخص خطأٌ، فإنه يعمل على كبح اتخاذه للقرار والفعل. في الواقع، لا آلية تعزيز أخلاقي أخرى يمكنها العمل بمثل هذه الشدة على شخصٍ ما كضميره، وإن يخالف أوامره فإن تأنيب الضمير الذي سيوجِده هائل على نحوٍ طبيعيٍّ. إنها ليست قصة غير معتادة أن بعض الناس ممن ارتكبوا جرائم خطيرة يسلّمون أنفسَهم إلى السلطات لأنهم وجدوا أنهم لا يمكنهم تحمل الحياة وأنفسهم لو فلتوا بجرائمهم. وكمثال أخف، فإن الناس يعتذرون على نحو معتاد بعضهم من بعضٍ لأجل انتهاكات جدية للثقة والصداقة لأنهم يعلمون أنهم كانوا مخطئين. على نحو جَلِيٍّ، تؤثر بعض الجوانب المشوِّشة المختلطة للسمعة والرفقة والصداقة الشخصية في مثل هذا القرار، لكن الضمير لا يقوم بدور صغير فيه. لكي نرى كيفية عمل الضمير، فيجب أن يتأمل المرءُ موقفًا حيث يفكر شخصٌ في قرارٍ يَتوقع فيه أنه يمكنه القيام بقرار وفعل غير أخلاقي لمصلحته مع الإفلات من آليات التعزيز الأخلاقية الخارجية. فمحميًّا بأمانٍ من عواقب القانون العلماني المدني وخراب ذكره وسمعته، فإن الشخص يكون في أقصى حالات عدم تقيده وجموحه. بلا ريب، فإن خروقات ومخالفات الأخلاقيات أرجح حدوثًا في هذا الموقف بدون الضغوط المضاعَفة لآليات التعزيز الأخلاقي الأخرى، لكن الناس عند مثل مفارق الطرق هذه سيواجهون مع ذلك فكرة الحياة باستغلال شخص آخر. إن كان الفرد قد أدمجَ الدستور الأخلاقي في هويته، فيرجَّح أن يستمر في سلوكه الأخلاقي حتى مع الغياب المُدرَك لآليات التعزيز الأخلاقيّ الأخرى، وبالتأكيد فهذا هو قمة الأخلاقيات. ************** إن معاينة وفحص آليات التعزيز الأخلاقي يمكن تصورها في إطار بديل. تصوَّرْ دوائرَ متحدة المركز خاصة بالأُلفة حول شخصٍ، وهو في المركز، أسرته وأصدقاؤه في الحلقة التالية، أفراد مجتمعه في التالية، وآخرًا المجتمع ككل في الحلقة الخارجية. أما بخصوص آليات التعزيز الأخلاقية فهذه الحلقات قد نعتبرها على نحو غير محكم من المركز ونحو الخارج: الضمير والمآثر والضمير والقانون العلمانيّ. مع استثناء الضمير، فإن آليات التعزيز الأخلاقي تتطابق مع الجماعات ذات الصلة التي ينتمي الشخص إليها، وإن عملية استحسانهم أو استنكارهم ورفضهم هي ما يستعمل الضغط الأخلاقيّ. البشر حيوانات اجتماعية، وإن التهديد بالنبذ من المجموعات الرئيسية التي تشكل أجزاء كبرى من هويتهم يخلق عوائق كبرى لاتخاذ القرارات الغير أخلاقية. بالتأكيد، فإن الضمير كبنية نفسية لهوية الشخص الاجتماعية هو الإجراء الاحتياطي النهائي وحائط الصد الأخير الذي يأخذ في حسبانه كل هؤلاء المجموعات وعلاقة المرء بهن. بالفعل، فإن الضمير هو الحارس النهائي لهوية المرء، وإن سيطرته تقدم تأثيرًا مضاعِفًا للاهتمام بإرضاء الآخرين. أما باستخدام ورقة رابحة [وسيلة هيمنة] عبارة عن إلهٍ للهيمنة على كل آليات التعزيز الأخلاقي الأخرى والدوائر ذات الصلة الخاصة بالانتماء الإنساني، فإن الاعتقاد الديني لا يقوم سوى بتقويض كل هذه الطبقات من الحماية. اعتبارات العدل: المقصد وإمكانية التوقع والمعقولية يرتبط بأخلاقيات البشرية رغبتهم في العدل، أي الحاجة للشعور بأن اتخاذ القرارات الإيجابية يُكافَأ بينما اتخاذ القرارات السلبية يتلقى العقوبة. إن الأخلاق والعدل مفهومان مرتبطان على نحو وثيق. في الواقع، فإن التواصلات الاجتماعية الخاصة بالعقل البشري ترغب لها أن تشابه قانون السبب والنتيجة. باستمرار استعمال التشبيه الجزئي ببناء نظام قانونيّ على طول هذا الفصل، فإن إنشاء معيار أخلاقي سيعتبر (السلطة التشريعية) وتعيين آليات تعزيز وإلزام أخلاقي لذلك المعيار سيعتبر (السلطة التنفيذية) سيكونان كلاهما بلا مقصد لو لم يُراعَ تقييم الانحرافات عن والخروقات للمعيار الأخلاقي وتحديد العواقب (يعني: السلطة القضائية). رغم ذلك، فإن الأمور أكثر تعقيدًا من مجرد إعطاء أحكام متعجلة، وقبل تناول الوسائل التي يمكن لآليات التعزيز الأخلاقي ذات الصلة عن طريقها تحقيق العدل، فإن اعتبارًا دقيقًا يجب إعطاؤه لعملية التقييم الخاصة بكيفية تقرير المرء ما إذا كان شخصٌ قد امتثل على نحو مقصود لجوهر المعيار الأخلاقي. لأجل استقصاء هذه الاعتبارات، فإني سأنشئ معيارًا نظريًّا للحكم على أخلاقية قرارات الأشخاص. عند تقرير ما إذا يكُون قرار معيَّن أخلاقيًّا، فإن المسألة تتعلق بالمسؤولية الشخصية، وكلاهما متعلقان بالفرد ورؤيته للآخرين. لبدء النقاش، تفكر في وجهة نظر عن الأخلاق فيها تبرِّر النتائجُ دائمًا الوسائل. فوقًا لذلك إن يسبب قرار امرئٍ مجموعة إيجابية نهائية من النتائج، فمن ثمَّ فإنه مستحقٌ المديحَ من هذا المنظور الأخلاقي، وأما فعلٌ يتسبب مجموعة سلبية نهائية من النتائج فهو مزدَرَى ذميم. على هذا الأساس، فتفكر في معيار القضاء الأخلاقي التالي كمُنْطَلَق: القرار الأخلاقيّ هو ذلك الذي يسبب نتائج إيجابية نهائية، مع الأخذ في الاعتبار كل نتائجه الفعلية. تأمل السيناريو الافتراضي التالي وفقًا لهذا المعيار: تُبصِر أَنْجِلا ساميًا وسيارته تصطدم بعمود نور أو أسلاك هاتف، مما جعله يفقد الوعي. ولأنها شمت رائحة جازولين [جاز] يتسرب من السيارة وخشيت أنها قد تنفجر، هرعت أنجلا إلى سامي. ولكون السيارة محطمةً من الاصطدام، فقد عانت وقتًا عصيبًا في سحبه من السيارة، والتي لم تنفجر قط في الحقيقة كما خشيت. لاحقًا، وجد الأطباء الذين فحصوا ساميًا أن جذب أنجلا من السيارة قد جعل جرحًا ثانويًا من الاصطدام يتحول إلى تضرر شديد ودائم في العمود الفقري. في النهاية، لن يمشي سامي مجددًا أبدًا، ولم تنفجر سيارته قط. بالتالي، فإن فعل أنجلا الخاص بسحب سامي من السيارة كان غير ضروري في النهاية لإنقاذ حياته. مفترضين هذا التسلسل من الأحداث، فإن المعيار أعلاه سيقترح أن أفعال أَنْجِلا كانت غير أخلاقية حيث أنها لم تؤَّدِ في الحقيقة إلى نتائج إيجابية نهائية. في الواقع، بل أدت أفعال أنجلا إلى ضرر إضافي رهيب لسامي ما كان ليحدث لولا تدخلها. إلا أن الاقتراح بأن أفعال أنجلا لا تستحق الإطراء يتعارض مع ويسيء إلى الأحاسيس البشرية. فإن أفعالها تبلغ حد البطولة في مخاطرتها بنفسها لإنقاذ سامي. بالتالي، ما هو المتناقض المتنافر بين المحاولة الأولى لتحديد معيارٍ للعدل الأخلاقي وشعور المرء الغريزيّ بالعدالة والإنصاف في تقييم مسؤولية الشخص؟ تنشأ المشكلة من استعمال المعيار للنتائج الفعلية الناتجة عن قرار أنجلا بدلًا مما قد قصدت فعلَه. ما الذي يجعل فعلًا أخلاقيًّا؟ أَمَا يقصد الشخصُ فعلَه أم ما يحدث وينتج فعليًّا؟ عندما يقوم شخص باتخاذ قرار [قيام بفعل]ـ فإنه لن يكون لديه معرفة تامة بالظروف التي سيفعل ويتصرف فيها. وفي سياق السيناريو الافتراضي السابق، أنجلا لم يمكنها أن تعرف ما إذا كانت السيارة لن تنفجر أو أن إنقاذ سامي سيسبب مثل هذا الضرر الهائل. إن اعتبار المرء مسؤولًا أخلاقيًّا عن حقائق الأمور التي لم يمكنه معرفتها في وقت قيامه بقراره وفعله يبدو غير عادل. وحتى لو كان يعرف، فإن الشخص ليس متحكمًا في كل جانب مما يحدث عندما يتصرف. فلماذا سيُعتبَر جانب لاحق من الحَدَث، حدث كون سامي كان عالقًا في السيارة، على أنه عامل في تقرير ما إذا كانت قد قامت بقرار أخلاقي في اللحظة التي هرعت فيها لإنقاذه؟! ففي الوقت الذي قامت فيه بقرارها لم تكن تعلم سوى أنه كان في خطر، وقد شعرت بأنها كانت تخاطر بنفسها لصالحه بالركض إليه. إن المفهوم المحتاج إليه في المعيار لإزالة وصمة الظلم الأساسي في هذا الصدد هو القصد والنية. ما الذي قصد شخصٌ فعلَه عندما قرر الفعل والتصرف؟ هل كان دافعه حميدًا أم حقودًا شريرًا؟ فلنفترض أن أنجلا قد رأت اصطدام سيارة سامي واختارت عدم فعل شيء. ففي حين كانت الأحداث ستنجلي وتؤول إلى تقديم نتيجة أفضل لحياته مما لو تصرفت هي، فإن قرارها كان سيكون قائمًا على اللامبالاة بسلامته وصالحه في ضوء الظروف الخطيرة كما قد رأتها وأدركتها. إن كونه يخالف الاحتمالات ويخرج من الحادث بدون جرح خطير مسألةٌ منفصلة، ظهرت بعد الواقعة [الحادثة]. من منظورها عند اللحظة التي كانت ستقوم فيها بقرارها، فقد كان [سامي] على شفا الموت، وبينما ربما لا يكون بالضرورة عدم فعلها لشيء غير أخلاقي، فلن يكون هناك يقينًا أي شيء يستحق الإطراء بخصوص قرارها بالبقاء متفرجة. بالتالي، فإن المحاولة الأولى لعمل معيار للعدل والحكم الأخلاقي تحتاج تنقيحًا لإعطاء الأولوية لنوايا ومقاصد الشخص على النتائج الفعلية لأفعاله. [كالتالي:] القرار الأخلاقي هو القرار الذي يُقْصَد به التسبب في نتائج إيجابية نهائية، قياسًا مع [=مع اعتبار] كل نتائجه الفعلية. الآن، تفكر في سيناريو آخر. يمر عليٌّ برجل مشرَّد بلا منزل، يُدعى زيدًا، كلَّ يومٍ في طريق سيره إلى عمله. وفي أحد الأيام الباردة على نحو استثنائي يرى عليٌّ أن زيدًا لا يبدو بخير ويسأله [علي] إن كان يمكن أن يشتري له إفطارًا ساخنًا لتهدئة البرد والقشعريرة، فيوافق زيدٌ. جالسًا في مطعمٍ، شرع زيدٌ بامتنانٍ يرتشف القهوة ويجرش ويتمطَّق [يحدث أصواتًا أثناء تناوله الطعام] إفطاره. بعد شرب عدة أكواب من القهوة لتدفئته، أمسك زيدٌ بصدره ثم مال ساقطًا على الطاولة. لاحقًا، قرر الأطباء أن الزمن الذي قضاه زيد في الشارع خلال السنوات قد كان له ضرر وضريبة على جسده وأنه عانى من ضغط دم عالٍ غير معالَج من بين عدة اعتلالات مزمنة أخرى. بشربه عدة أكواب من القهوة سريعًا متتاليًا فإن ضغط دمه ارتفع إلى درجة تعرضه لأزمة قلبية شديدة حادة فمات. بينما يبدو ظاهريًا أخلاقيًّا وخيِّرًا، فإن سلوكَ عليٍّ لم يتلقى حكمًا إيجابيًّا عندما حُكِم عليه بالمعيار الحالي. وفقًا لصيغته الحالية، يتطلب معيار العدل الأخلاقي أنه ينبغي أن يُؤخَذ في الحسبان كل النتائج الناتجة عن قرار عليٍّ بالتصرف عند تقييم أخلاقية سلوكه، لكن أينبغي أن يكون هذا جزءً من التقييم الأخلاقي؟ لإضافة منظور آخر للظلم الاعتباطي التحكمية الخاص بالمعيار فيما يتعلق بتقييم مسؤولية المرء الشخصية، تصور أن زيدًا لم يمت في المطعم، بل بدلًا من ذلك شكر عليًّا وغادر. وحالما خرج من المطعم تعثر زيدٌ في صدعٍ في الرصيف فسقط عنه إلى الشارع حيث قتلته سيارةٌ قادمة. فنيًّا، ما كان زيد سيمشي في ذلك الاتجاه في ذلك الوقت لولا قرار عليٍّ بأخذه معه للأكل، وزلَّة زيد التي أدت على موته الآن تؤخَذ في الاعتبار عند تقييم سلوك عليٍّ. بالمصطلحات واللغة القانونية، سيقول المرء أن قرار علي بأخذ زيد للأكل كان سببًا من الناحية الواقعية الفعلية لموته في كلا الحالتين، لكن لم يكن السبب المباشر (الأدنى). إن سبب كون فعل عليٍّ لن يكون سببًا مباشرًا لموت زيد هو لأجل مفهوم إمكانية التوقع. فبينما ينبغي أن يضع معيارٌ [سليم] للحكم الأخلاقي بعض التقدير والأهمية لنتائج قيام الشخص بالقرار، فإنه يجب كذلك أن يعزل تسلسلات السببية الكاملة [وينتقص منها] لأجل أغراض التقييم. أفضل وسيلة منطقية ومناسبةً لفعل ذلك بها هو بأخذ اعتبار ونظرة على تفكير الشخص عندما فكَّر في قراره. عندما يقف شخص عند لحظة اتخاذ قرار في حياته له معانٍ ضمنية أخلاقية، فإنه لا_وفي الحقيقة لا يمكنه أن_يأخذ في حسبانه كل التتابعات المحتملة لتعاقبات السببية [الأسباب والنتائج] التي سوف تنتج عن قراره. إن ما يعتبره ويتفكر فيه هو تسلسلات السببية التي يتوقع حدوثها كنتيجة لقراره. ومن خلال النقاش بخصوص القصد ومكانه في الاعتبارات الأخلاقية، فقد أصبح واضحًا أن إحضار إدراك متأخر لربطه مع قرارٍ بناءً على نتائجه الواقعية ليس ما سيتفق مع مفهوم الأخلاق، ونفس الأمر ينطبق هنا على نحوٍ مماثل. إن يكن الهدفُ هو صياغة معيار للمسؤولية الشخصية، فإن التخبط في سلاسل السببية الغامضة المرنة وسيلة ظالمة وغير قابلة للتوقع، تؤدي إلى نتائج تناقض ما كان المرء سيتوقع أن يراه ينتج من معيار للحكم والعدل الأخلاقي. بالتالي، فإن المعيار يحتاج إلى تعديله مرة أخرى لكي يأخذ في الاعتبار مفهوم إمكانية التوقع. القرار الأخلاقي هو الذي يُقصَد به التسبب في نتائج إيجابية نهائية، باعتبار نتائج القرار متوقعة في الحقيقة. إن أول محاولتين لصياغة المعيار كانت إحداهما قائمة على النتيجة والأخرى مركزة على الخارج، والآن أصبح قائمًا على الدافع ومركزًا في الداخل. فبعد إضافة مفهومي القصد وقابلية التوقع فهذه ليست مفاجأة، لكنه يلفت الانتباه إلى نقطة هامة بصدد الأحكام الأخلاقية: النتائج الواقعية لاتخاذ المرء لقرارٍ ما ليست ذات علاقة إلى حدٍّ كبير. الأخلاق هي مقياس لمدى استحقاقية الثناء [أو الذم] الخاصة برغبات وقرارات الفرد المتخَذة فيما يتعلق بالآخرين، وليس بالضرورة البراعة التي ينفذها بها في العالم الخارجيّ. لكن قبل الوصول إلى الصيغة النهائيّة للمعيار، تفكر في سيناريو افتراضيٍّ آخرَ. تصور أن ماجدًا مصابٌ بفصام مشخَّص. عندما يأخذ أدويته فإنه يدرك العالم على نحو مستقر، ويكون عضوًا نافعًا في المجتمع. رغم ذلك فإنه لم يأخذ علاجه منذ أسابيعَ، وهو يعاني من انفصال ذُهانيٍّ عن الواقع. وأثناء سيره في الخارج، سمع أصوات صرخات آتية من داخل منزل جارته، فاقتحم البابَ ليرى رجلًا يهاجم جارته سارة. فهاجم ماجدٌ الرجل بينما طلبت سارة الشرطة. عندما وصلت الشرطة علموا أن سارة وصديقها [خليلها] كانا يتحدثان سويًّا على نحو عاديٍّ عندما اقتحم ماجد الباب برجله وهاجمهما وأن لا شجار قد كان يحدث [بينهما] في الحقيقة. في هذا الموقف، كان ماجد قد أراد ذاتيًّا وهميًّا أن يقوم بقرار أخلاقي، لكن إدراكه للأحداث كان محرَّفًا للغاية بحيث أنه لا يستحق على ما قد فعله. وحيث أن المعيار الأخلاقي الحالي سيقوم حاليًّا بامتداح سلوكه، فإن ذاتيته التامة المحضة تحتاج إلى تخفيفها بسمة وناحية المعقولية الموضوعية. النية الذاتية للتسبب في نتائج إيجابية نهائية عن طريق قرار (فعل) ليست كافية لاستحقاق المديح الأخلاقي. يجب أن يكون مقصد ونية المرء أيضًا معقولًا موضوعيًّا. كمثال أكثر ملائمة واحتمالية، تفكر في أبٍ يعتقد أن ضرب ابنته كل ليلة سيعلِّمها الانضباط ويجعلها في النهاية شخصًا ناجحًا في الحياة. من الناحية الذاتية، فهو يقصد خيرًا لو أنه يعتقد حقًّا في سلوكه [وصحته ونتيجته]، لكن سلوكه غير معقول للغاية في وسيلته موضوعيًّا، مما يجعله يسبب على الأرجح ضررًا خطيرًا لكلٍّ من صحتها العقلية النفسية والجسدية، إلى درجة أن نواياه الحقيقية تصير تافهة ذابلة بالمقارنة. إن جانب المعقولية الموضوعية بارز أيضًا في مسألة أخذ الشخص في اعتباره النتائج الممكن توقعها الخاصة بقرار أخلاقي معيَّن. إن يتخذ شخصٌ قرارًا ويفشل في توقع نتائجه التي كان ينبغي عليه أن يتوقعها، فإن قراره يتسم بعدم المسؤولية بحيث أنه لا ينبغي كذلك أن يُعطَى تقديرًا عاليًا [يعني سيُعتبر خاطئًا فاسدًا]. تخيل أن سليمًا هو أبٌ يخطط لعبةً لأطفاله يُسمِّيها البحث عن الكنز. لبدء اللعبة، أعطى سليمٌ أطفالَه الصغار إشارة ودلالة تقودهم إلى موضع سيجدون به دلالة أخرى، والذي يقودهم بدوره إلى موقع آخر حتى يعثرون آخر الأمر على الكنز. إن أطفاله يحبون لعب هذه اللعبة وهي تأخذ من سليم وقتًا طويلًا لتصميمها. ولافتقاده أماكن التخبئة، وضع سليمٌ دلالة [مفتاحًا إرشاديًّا] تحت صخرة في وسط شارع طريق سريع بقرب منزلهم. وبينما ذهب أطفاله للعثور على ذلك المفتاح الإرشاديّ، تسابقوا في حماسٍ وإثارة عابرين الشارع بدون أن ينظروا، مما تسبب في جعل سائق يحيد ليتجنبَ صدمهم. فتعرض السائق لحادثٍ أدى إلى إصابته بجرح خطِر. على العموم فإن سليمًا أبٌ صالح لتكريسه الكثير من الوقت لشغل أطفاله بالعمل سويًّا في نشاطٍ ممتع. ومع ذلك فبتخبئة مفتاح إرشادي في منطقة كثيرة حركة سير السيارات كهذه، فإن سليمًا قد قام بقرار وحكم رديء للغاية ولم يراعِ أو فشل في فهم بعض الأخطار المتوقعة على نحو معقول لكلٍّ من أطفاله وسائقي السيارات. بعبارة أخرى، فإنه قد اتخذ قرارًا أخلاقيًّا ذاتيًّا داخليًّا وأفسده بفشله في مراعاة المعقولية الموضوعية. [فإذن سيكون المعيار الأخلاقي كالتالي:] القرار الأخلاقيّ هو القرار العقلاني والمقصود به في الحقيقة التسبب في نتائج إيجابية نهائية، مع مراعاة نتائج القرار المتوقعة في الحقيقة وكذلك أي نتائج أخرى ينبغي توقعها على نحو معقول. في العموم، لا يحتاج الناس تفكرًا نظريًّا لكي يكون لديهم حس بديهيّ سليم تقريبًا عما إذا يكون فعلٌ أخلاقيًّا أم لا. رغم ذلك، فإن الشمولية والمفاهيم المطلقة التي تروِّج لها الأديان تبسيطية للغاية ومحرومة من أي دقة فيما يتعلق بتقييم قرارات المرء الأخلاقية والتي تترك الناس [الدينيين] للقيام بالكثير من العمل المتطلَّب عندما يتعلق الأمر بمراعاة ظروف الموقف الأخلاقي. اتخاذ وجهة نظر إطلاقية شمولية عن الأخلاق يعني عدم إعطاء تعقيد القرارات الأخلاقية أو طبيعة الأخلاق نفسها تفكيرًا جديًّا أبدًا. إن دوائر وعوامل اتخاذ القرار الأخلاقي ليست منفصلة، وعند نقطة تقاطعهم تحديدًا تكمن الصعوبة في تقييم قيمة جوهر وبِنْية الشخص الأخلاقية. الكثير من الاعتبارات يجب تقديرها وترتيب أولوياتها من عديد من المناظير، وإن طبقات التعقيد العميقة التي تستدعي هذه العملية هي شيء يفضل الاعتقاد الديني تجنبه. لإعطاء صورة ذهنية توضيحية، فإن المعيار الذهبي هو المعيار الأخلاقي الذي ينشئ القيم والسلوكيات التي تشكّل مصطلحات التشريع الأخلاقي، وأما معيار الحكم الأخلاقي فينظر إلى مجمل الظروف في تفكير الشخص في الوقت الذي يُظهِر فيه قيمةً أو سلوكًا معيَّنًا ذا تضمينات أخلاقية لكي يقرر ما إذا كان القرار المتخَذ مستحقًا للثناء أو مُخزِيًا أو في موضعٍ ما بين الاثنين. إن القصد وإمكانية التوقع والمعقولية هن العناصر الرئيسية في الحكم على ما إذا يكون قرار شخصٍ ما أخلاقيًّا، وهن السبب لكون الشخص الذي قد يكسر ويخرق تقنيًّا قيمة أخلاقية أنتجها المعيار الذهبي قد لا يتلقّى حكمًا أخلاقيًّا سلبيًّا بسبب عملية تفكيره الداخلية عندما قام بذلك. ************** لا يوجد سبب لمحاولة حفظ واستظهار المعيار النظري المُصاغ توًّا. إنه بوضوحٍ توضيح أكاديميّ لجوانب اتخاذ القرارات التي يستجيب ويتعامل معها الحس البشريّ بالأخلاق. بالإضافة إلى ذلك، فإنه لن يكون ذا فائدة عملية كبيرة في مواقف العالم الواقعي حيث لن يكون لدى المرءِ الوقتُ أبدًا تقريبًا ليقيِّم على نحوٍ كامل كل عواقب الأفعال العديدة المتنوعة التي يمكنه القيام بها، وحتى لو كان حقًّا لديه ترف مثل هذا الوقت، فإن المعيار المُصاغ غامض للغاية في تفاصيل هامة عن أن يكون مفيدًا للحياة اليومية. إن أهمية محاولة إظهار تفاصيل اعتبارات الحكم الأخلاقي [أكثر من درجة وضوحها في الحقيقة] هو فهم أن الأخلاق كمفهوم لا تتعلق بنتائج قرار المرء، بل هي محالة لإلقاء نظرة على الدوافع الداخلية لشخصٍ ما في الوقت عندما يقوم بقرارٍ (فعلٍ) لتقييم مدى إظهاره للاهتمام والاحترام والمسؤولية اتجاه الآخرين. إن هناك أسبابًا وجيهة لكون عبارة "الغايات تبرر الوسائل" تبدو قاسية من منظور أخلاقيّ. فبالتركيز كليًّا على النتائج الخارجية [للأفعال] فإنه يفوِّت غرض الأحكام الأخلاقية، والتي ينبغي أن تركز على معرفة دافع الشخص الداخلي الذاتي فيما يتعلق بكيفية معاملته للآخرين. إن مفاهيم القصد وإمكانية التوقع والمعقولية تبلور لب وجوهر اتخاذ القرار الأخلاقيّ لكي يكون وفق هذا النموذج. العدل العمليّ قبل إنهاء النقاش المطوَّل عن الأخلاق والعدل، فإني سأقوم بوقفة لبرهة لتفحص واستعراض الوسائل التي يمكن بها مكافأة أو معاقبة قرار أخلاقي تطبيقيًّا وعمليًّا. كما قد رأينا من خلال النقاش عن آليات التعزيز الأخلاقي، فهناك مجوعات وكيانات عديدة التي ينتمي إليها المرء وتعرِّف هويته والتي كلٌّ منها مستعدة لتحقيق عدلها بناء على قراره الأخلاقيّ المتخَذ، وبسبب أغراضها وعلاقاتها وتعاوناتها المختلفة مع الشخص، فإن وسائل تحقيقها للعدل تَتّخذ أشكالًا وطرقًا مختلفة. العدل في محكمة [في ظل] القانون العلماني تعمل آلية التعزيز والإلزام الأخلاقي الخاصة بالقانون الرئيسي بالدرجة الأولى كإجراء احتياطيّ أخير وحائط صد أخير لأجل سلامة المجتمع، حيث أنه كذلك، فإن أنظمته التشريعية والإلزامية والعدلية تهتم أكثر بتحريم القرارات (الأفعال) المؤذية أكثر مما هي تهتم بتشجيع المحسنة الخيِّرة، وهذا عدم تناظر لا تتشاركه معه آليات التعزيز الأخلاقي الأخرى في مباشرتها لتحقيق العدل [ومفهومها عنه]. وإنه لتوضيحٌ هامٌّ في كل هذا الفصل، فإن القانون العلماني والدساتير الأخلاقية تتشاطر تشابهًا كبيرًا، لكنها ليست متطابقة. هذا الموضوع يواصل هنا كملحق ضروري عن اختلافاتهم في الغرض والوسائل. فيما يتعلق بمسألة العدل، فإن القانون العلماني يتبع عامة دستورًا للمعاملة بالمثل [والمساواة] حيث تستحق الأخطاء ضد الآخرين عقوباتٍ متناسبة [مع خطورة الجرائم] للشخص الذي سبَّبها وقام بها. فلو سبب امرؤٌ خرابًا لمُلكية [أملاك، منزل] آخر، فإن ذلك الشخص يدين لمالك المنزل بالمال المساوي لتكلفة الإصلاحات. ولو جرح أو أذى امرؤٌ شخصًا آخرَ فإنه من ثم مسؤول عن فواتير ذلك الشخص الطبية. وفيما يتعلق بخلق إحساس بالكمال في التعويضات المالية القانونية، فإن القانون العلماني عمومًا ليس لديه مشكلة في منظور "عين بعين" عندما تتعلق المسائل المتناوَلة بالمال فقط وهو بسيط ولا يتضمن عقوباتٍ تنساق إلى الوحشية. رغم ذلك، فعند مستوى معيَّن من الوحشية في السلوك البشري، فإن القانون العلماني لديه سياسة تعلِّل سبب أنه لا يمكنه تحقيق العدل [في تلك الحالات] في شكل معاملة بالمثل تامة بالضبط. إن أحد الأسباب النظرية هو أن الوسيلة التي يحكم بها القانون العلمانيّ لا تقدِّم مستويات كافية من اليقين في القرار [القضائي] بحيث يكون تطبيق عقوبات قائمة على المعاملة بالمثل في قضايا كبيرة الحجم مقبولًا. إن ما هو على المحك والمُراهن عليه في مثل تلك العقوبات سيكون خطير الأهمية للغاية، بحيث أن تنفيذها على شخص قد يكون الحكم عليه أقل من يقينٍ يوقظ شبح احتمالية تنفيذ عقوبة جسدية وحشية على شخص لا يستحقها. وأحد الأسباب العملية هو أن القانون العلمانيّ يجب أن ينفّذ عقوباته، وإن تنفيذ العدل بوحشية وخشونة بالطريقة التي تُفهَم من المقدمة المنطقية للمعاملة بالمثل أكثر رجعية بكثير مما يمكن لحكومة علمانية أن تجيزه. يكفي أن نقول أنه يوجد بعض الجرائم التي لا يمكن أن يكون لها عقوبة معاملة بالمثل من منظور القانون العلماني. إن فظاعتها وقذارتها تزعج جوانب الشخصية الإنسانية للغاية بحيث أن القانون العلماني لا يمكنه هو نفسه أن يلمسها بدون أن يصير مُلوَّثًا بلاإنسانيتها. [معظم دول العالم الإسلامي في العصر الحديث تركت التشريعات القرآنية الحرفية نظرًا لشدة وحشيتها كقطع يد السارق والجلد والرجم ومعاملة المثل لمن جرح أو تسبب في عاهة لشخص، واستحالة تصحيح الأمور لو اتضح أن المتهم المدان بريء، وسبقت الدول ذات الخلفية الثقافية المسيحية الغربية العرب والمسلمين زمنيًّا وعمليًّا بكثير في هذا الصدد_م] أما القرارات الأخلاقية الإيجابية المتخذة فلن تكون في العادة محط اهتمام القانون العلماني، وهذا نتيجة للغرض منه في ضمان الأمان، وليس التناغم والانسجام. إن آلية القانون العلماني تلائم الأهداف التهذيبة التقويمية والتأديبية القصاصية والردعية بنسب مختلفة [من هذه الأغراض]، وإن غرضه محدود كنتيجة لذلك. إنه لقابلٌ للمناقشة ما إذا يكون القانون العلماني في خللٍ لكونه يتعامل بالمعيقات لإبعاد الدوافع [للجرائم]، لكن كما يقوم النظام حاليًّا، فإن العدل الذي يقدمه القانون العلمانيّ بارد محايد غير شخصيّ، ويركز على نحو رئيسي في تصحيح الأخطاء. _م]. وإن كون دينٍ ما له أوامر وقواعد أخلاقية تدين الأفعال التي تؤذي الناسَ مجردُ مصادفةٍ. كل ما يهم في أخلاق دينٍ ما هو ما إذا كانت أفعال المرءِ مسيئة لإله الدين، وأقل ما يمكن قوله عن هذا أنه معيار اعتباطي [تحكمي استبدادي]. وهكذا، فإن أساس الدستور الأخلاقي للأديان هو مفهوم الخطيئة، والتي هي "جريمة" أو إساءة ضد الإله أو الآلهة. بحيث أن ارتكاب المرء لأذية الآخرين من رفاقه إخوته البشر أو الإساءة إليهم بدون ارتكاب خطيئة دينية [كحالات قتل المخالفين في الاعتقاد أو تطبيق الحدود الإجرامية الإسلامية الشمولية بحكم الإرهاب الديني_م] لا تدخل [حسب اعتقادهم] في حساب ودينونة الشخص النهائية بل وقد تُشجَّع [بدعوى أن فعل تلك الشرور هو خير وله ثواب_م]. أما مع نبذ الإله [أو الآلهة] والاعتقاد الديني عمومًا، فإن مثل هذه الأخلاق [المذهب الأخلاقي] مروعة لأنها تنكشف على أنها غير مؤسَّسة على أي طريقة تفكير ثابتة حازمة لمنعها من التخبط والتذبذب على نحوٍ شديد، مهما كانت درجة حسن نواياها [المزعومة]. بالفعل، فإن كل الأديان لديها أتباع أو طوائف وجماعات متطرفة رادِيِكالية تضع الأخلاق في زقاق مظلم ومسار إرهابي ظلاميّ حيث قد لا يكون العدوان على الآخرين بدون إساءة فعلية منهم مقبولًا فحسب، بل مأمورًا به. لا يوجد حدود ولا تقييدات لما يجعل الإيمان الدينيُّ الناسَ قادرين على فعله ضد بعضهم الآخر باسم إلهٍ. فباعتبار كل شي، فإن التقمص العاطفي والتعاطف الغريزي المتأصل نحو الآخرين يُتغلَّبُ عليه بسهولة برؤيتهم كأشرار، وحالما يُقوَّض ذلك التقمص العاطفي [الشعور بالآخرين بتصور نفسك مكانهم]، فإن أفعالًا مروعة رهيبة بحقٍّ يمكن دائمًا أن يبررها داخليًّا الشخصُ الذي يرتكبها. ورغم كونها انتزعت اللقب والصفة بالزيف وبمرسوم عالٍ شموليٍ، فإن الأديان كانت [ولا تزال في الدول الدينية] ناجحة تمامًا في تصوير ووضع نفسها باعتبارها السلطات والمرجعيات الأخلاقية في عالَمٍ يتخبط في محيطٍ متلاطمٍ من الفساد الأخلاقيّ، وإن كيفية صنعها هذا النجاحَ لأنفسها رغمَ اعتباطية واستبدادية أخلاقها يستحق التفحص والبحث. هناك بعض الأفعال تعتبر مدنِّسة وأثيمة للغاية لدى البشر على مستوى غريزيّ متأصل، إلى درجة أن المرء يمكنه أن يفترض على نحوٍ مضمونٍ أنها عالمية، مثل القتل المتعمد. القتل المتعمد هو إنهاء حياة شخص آخر مع سبق القصد والتخطيط بدون أي عذر أو مسوِّغ مثل الجنون أو الدفاع عن النفس. التصريح بأن القتل المتعمد غير أخلاقيّ وغير مقبول لا يمثل رأيًا غريبًا عن الآراء السائدة. وعلى النقيض، فإن إظهار طبيعة وسمة مُحْسِنةٍ للمحتاجين هي سمة للإنسانية محترمة للغاية عبر الثقافات بحيث أنها تقترب على الأرجح من الاستحسان والإجماع العالمي. وكما مع حالة القتل العمد، فإن توصية الأديان بأن يكون الإحسان جزءً من حياة أي شخص محترم هو بالمثل لا يفيد قضية الأديان. أما في محكمة الأخلاق الدينية، فإن الأديان قد تعلمت أن تزعم بأن القرارات والقيم الأخلاقية الواضحة خاصة بها لكي تكتسب التصديق، والتي من ثم تستعملها للكلام والحكم والتدخل في أي موضوعٍ يتراءى لها، مسلَّحةً بالسلطة الأخلاقية المعطاة الشرعية لها على نحو خاطئ آنذاك. هذه حيلة ماكرة، والتي تحصل على حق التحدث في أي موضوع من منظور استعلائيّ مستقوٍ بالتلميح الضمني ببساطة بأن نفس البوصلة الأخلاقية التي قد قررت من قبلُ أن القتل المتعمد خطيئة لديها كذلك تضمينات أخلاقية عن أمور أخرى. تخيل لو كان هناك دينٌ ذو دستور أخلاقيٍّ لا يجعل القتل خطيئة [خاصة قتل أفراد نفس المجموعة كالمعتاد من الأديان في معظمهما_م]. سيتصور المرء أن قلة سيهتمون بما يقوله من أمور أخرى بسبب التناقض الهائل لذلك الإغفال مع ما يشعر البشر على نحو طبيعيٍّ بأنه السلوك الاجتماعي السليم الملائم نحو الآخرين. على نحو مشابه، فإن الأديان تحتاج إلى وتستمر في تعديل دساتيرها الأخلاقية لكي تحافظ على صلة مع المجموعات السكانية التي تتطور أخلاقياتها تلقائيًّا. إنْ يصبحْ ضغط مجموعة سكانية ضد أمر ديني معيَّن قويًّا على نحوٍ كافٍ، فإن كل ما يحتاج الدينُ فعلَه هو إعلان أن النص الديني التشريعي مثيرُ المشكلةِ مجازيٌّ أو أسيئت ترجمته أو تفسيره أو قُصِدَ به زمانٌ أقدم، وسيتكيف الدين ليتلاءم مع جمهوره. حتى الآن، كان النقاش ممارسة نظرية تركِّز في خطف والسطو على السلطة الأخلاقية من جانب الأديان لكي تكتسب احترامًا وخضوعًا على مدى واسع، لكن الحقيقة العملية هي أن الناس سيُفصِّلون ويعدِّلون التقييدات والقواعد الأخلاقية الخاصة بأديانهم لتحسين تناسبها مع إحساسهم الخاص بهم بالصواب والخطإ. بتذكر النقاش في الفصل 10 عن صنع الدين وفقًا لاختيارات الأشخاص، فإن الأخلاق هي المجال الرئيسيّ الذي سيعدِّل فيه الناس بينما يصوغون دينهم وفقًا لرؤاهم ورغباتهم، وكثيرًا ما يكون ذلك بطرق داخلية غير محسوسة ولا واعية، وهم يقومون بذلك لأن لديهم إحساسهم الخاص بهم بالأخلاقيات والذي على الأرجح لا يتوافق بالكامل مع ما تعلِّمه وتأمر به أديانهم. مع ذلك، فما هو هامٌّ فهمُه في هذا النقاش عن الخطيئة هو أن معاملة الناس الآخرين في حد ذاته ليس محل التركيز والمقصد في الأخلاقيات الدينية. فأولًا وقبل كل شيء، فإن استحسان إلهٍ [أو نص ديني ومحترفي الأديان] فيما يتعلق بسلوك المرء يجب تحقيقه، بحيث أنه لو كانت تلك القرارات الأخلاقية لا تؤذي الآخرين فإن ذلك يكون علاوة وفائدةً عَرَضيّة للمجتمع. في الواقع، فإن الأخلاق كمفهومٍ هي مقياس الشخص لقيمة قراراته المتخذة في مجتمعٍ ما وهي كذلك وسيلة يحكم بها على قرارات الآخرين. وبما أن الاعتقاد الديني يعتبر المجتمع البشري على أنه ومضة ضعيفة وغير مثيرة للاهتمام في الوجود، فإن الاستيلاء والسطو على المفهوم من قِبَلِ الأديان هو مزاوجة غير مناسبة خاطئة مرعبة. القانون العلماني كما لاحظنا في مستهلِّ الفصل، فإنه لمهمٌّ أن ندرك أن القانون العلماني المدني ليس أخلاق الشخص، ولا يُدَّعَى أنه كذلك. القانون العلماني هو قائمة من العواقب والتبعات لسلوكيات معيَّنة قرر المجتمع أنه إما لن يتسامح معها أو أنه سيريد أن يشجعها. القوانين [والدساتير] هي تسويات صعبة لعدد كبير من المصالح المتنافسة المتنازعة والتي تحاول إيجاد توازنٍ اجتماعيٍّ مُحسَّنٍ إلى أفضل درجة ممكنة لأجل استقرار وأمان مَنْ تحكمهم. بعبارة أخرى، فإن القانون العلمانيُّ له أهداف مختلفة قليلًا عن تحقيق القرارات الأخلاقية، وحيث أنه كذلك، فإن القانون العلمانيّ يمكن أن يتناقض أحيانًا مع الحس الأخلاقيِّ للمرءِ. كمثال، فإن القانون العلمانيّ لا يطالب أبدًا على الأغلب بوضع الشخص نفسه في خطر لإنقاذ حياةِ آخرَ، لكن من وجهة نظر أخلاقية فإن فعلًا كهذا هو دومًا تقريبًا مستحقٌ للثناء والإطراء. على الجانب الآخر من العملة، فإن القانون العلمانيّ المدنيّ قد يطالب عمليًّا بسلوكيات تتناقض مع ما يشعر شخصٌ ما بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي. ففي الماضي في الولايات المتحدة الأمِرِكِية، قوبلت القوانين المؤسِّسة للتفرقة على أساس اعتباطيّ عِرِقيٍّ بالعصيان المدني [من بعض المواطنين الأكثر إنسانية وذكاءً وثقافةً] لأجل ذلك السبب بالتحديد. وحتى في العصر الحالي، فإن ما يُعرَف بالقائمين بالتطهير whistleblowers [يعني المندسين لكشف الفساد والإبلاغ عنه] العاملين مع الحكومة قد يشعرون بأنهم يناقضون رسالة القانون وجوهره لأن تأنيب ضمائرهم يجعلهم لا يستطيعون تحمل أنفسهم في حياتهم لو لم يخالفوا [رسالة القانون، حيث يشعرون أنهم يخونون من ائتمنهم وعاشروه مثل موظفي ومديري شركة واحدة أو فرع إداري حكومي واحد أو أفراد عصابة ما_م]. إن الأغراض المخصَّصة لكلٍّ من القانون العلمانيّ والأخلاقيات تتداخل إلى حد كبير، لكنها لا تتطابق. لا يُراد بالقانون العلماني أن يُوظَّف كدستور للأمور المدنية أو مجموعة شاملة من الأخلاقيات؛ إن عقوباته أقسى بكثير وتكاليف القيام به أعلى بكثير من تخصيصه بهذه الطريقة والغرض. يهدف القانون العلمانيّ بوضوحٍ إلى خلق مجتمع مستقر لا تنقطع فيه التوقعات العقلانية للعدالة. عمومًا، فإنه يمثل الحد الأدنى للسلوك المقبول لشخصٍ ما من منظور المجتمع. إن مجتمعًا ما يصبح نموذجيًّا وقدوةً يُحتذَى بها بالجهود الإضافية والمجاملات والاحترام والإحسانات التي يختار مواطنوه تكريسها به، وليس لأن مثل هذه الأفعال مأمورٌ بها قانونيًّا، بل لأن أفراد العامة يرغبون فيها. باعتبار أن تمثيل مجموعة المعززات والفارضات الأخلاقية مؤلف من المجتمع نفسه، فإن القانون العلمانيّ أحدُ وسائل الحماية العملية لنسيج مجتمع في جمهورٍ [يقبل أو] لا يقبل [معظمه أو بعضه] عقيدةَ وجودِ إلهٍ وكل تهديداته ووعوده المرافقة [المزعومة]. إن الأسلحة التنفيذية والقضائية للقانون العلماني_أيًّا ما كان الشكل والصيغة التي يتخذها_يعمل على تقديم عوائق هامة للسلوكيات المعتدية على الآخرين، لو اعتبرنا أن الوعيد بدينونة روح المرء في جحيم أبدي هو أقصى العقبات والعوائق السلوكية [وليس ذلك صحيحًا لأن كثيرين من المؤمنين يتجاهلون ذلك عمليًّا ولو لا شعوريًّا لأنه خرافة حينما يتزعزع إيمانهم ومعه أخلاقهم الضعيفة التأسيس المبنية على خرافات لا على قناعة بالأخلاق نفسها وقيمتها_م]، فمن ثَمَّ فإن ضمان خسارة الجسد لحريته الشخصية في السجن خيارٌ ثانٍ ملائم مفيد. كثيرًا ما يقوم المؤمنون الدينيون بالتأكيد المزعج بأن لا شيء يكبح الناس عن تمزيق بعضهم الآخر إلى أشلّاء كالكلاب الضارية الهاربة من أرسانها ومقاودها بدون التهديد المرتقَب الخاص بإلهٍ ليجعلهم يفكرون مرتين، وهو ما يقدِّم لمحة مثيرة للقلق عن أفكار من يقومون بملاحظة وتعليق كهذا. باعتناق وجهة النظر بأن القانون العلماني المدني ليس رادعًا للسلوكيات المؤذية، فإن المعنى الضمني هو أن الفرد نفسه لا يعترف بسلطة القانون المدني إذا وعندما يتعارض مع التعليم والأمر الديني أو الرسالة الدينية. بعبارة أخرى، فإن [مثل ذلك] الشخص يقترح أنه قادر ويمكن له خرق أي قانون علماني، بغض النظر عن خطورة الجريمة أو الأذى، بالتضمين بأن القانون الإلهي [الديني] هو المصدر الوحيد لكبح المرء. وفي ضوء تحكمية واعتباطية آراء وتعاليم الآلهة [والأديان]، فإن المؤمنين الدينيين هم من لديهم احتمالية خطيرة للسلوكيات الهمجية الوحشية على نحو مثير للقلق والانزعاج. المأثرة والسمعة عندما لا يؤمن شخصٌ بوجود إلهٍ، فإن أولوياته يتغير ترتيبها، وتشرع مآثره وتراثه بين أصدقائه ومحبّيه يتخذ قيمة أعلى. نظريًّا، فإن المأثرة لن تعني شيئًا على أي حال لمؤمن دينيٍّ لأنه قد قبل وجهة نظرٍ عن هذه الحياة باعتبارها مجرد محطة توقف باتجاه تحقيق [مصير] الحياة الأخرى القادمة التي ينتظره فيها الهدف والدافع الحقيقي لنوازعه وأفعاله. أما الملحدون فلا يفترضون مثل هذا الافتراض، وإن الرغبة في عيشِ حياةٍ يمكن أن تتذكرها أسرة المرء [والبشرية أو جزء منها] بإعزازٍ وتقدير واحترام كبير عالٍ تَكُوُن ذاتَ أهمية كبيرة. بسبب تلاشي خرافة الحياة الأخرى الدينية في العالم الفيزيائي الواقعي [في عقل الملحد]، فإن الملحد لا يوجد لديه أي شيء آخر يقدره فيما بعدَ موته النهائي. بالتأكيد، فإن معظم المؤمنين الدينيين سيتفقون على لا أحدَ سيريد عيشَ حياةٍ ستلقي ذكراه في الخزي والعار بين أسرته وأصدقائه. رغم ذلك، فإنهم يتفقون على تلك الملاحظة في تمردٍ وخلافٍ لدينهم، وليس بسببه. فلو أنهم كانوا ملتزمين بإخلاصٍ للمعاني الضمنية لاعتقادهم الديني، لما كانت كل أمانيهم وعواطفهم فيما يتعلق بكيفية رؤية الآخرين لهم ستعني أي شيء مقارنةً بما يعتقدون بأنه يرضي الإله. رغم عدم الاتساق النظريّ من جانب المؤمنين في وضع أي قيمة للمفهوم [المأثرة]، فإن مآثر وتراث المرء بين أسرته ومحبيه [والبشرية] هو آلية تعزيزٍ هامة ثقيلة الشأن للقناعات الأخلاقية لكلٍّ من الملحدين والمؤمنين الدينين على السواء. تعزز السمعةُ اتخاذ القرارات الأخلاقية بطريقة مشابهة حيث أنها النظير الحي لمآثر المرء، والاختلاف الوحيد بينهما هو أن السمعة تتضمن أن الشخص محل الكلام لا يزال حيًّا. وكما في حالة المأثرة، فإن شخصًا ما ذو وجهة نظر كونية إلحادية سيحافظ على سمعته بإعزازٍ حيث أنها تمثل الرأي العام الذي تعتقده أسرته ومجتمعه عنه. فمع سمعة سيئة سيجد نفسه معزولًا عن الناس، وبدون إله [وهمي] للالتجاء إليه [كحيلة نفسية]، فهذه عاقبة رهيبة. مجددًا، فإن من يعتقدون بوجهة نظر دينية سيقدرون بالتأكيد قيمة سمعتهم لأسباب عملية حيث سيحتاجون إلى الحفاظ على التواصل الاجتماعي المفيد مع الآخرين، بوضوحٍ ليكونوا فاعلين في المجتمع. رغم ذلك، فإن الاعتقاد الديني يجعل سمعة المرء نظريًّا مفهومًا تافهًا وعابرًا. لو أن امرئًا [دينيًّا] سيأخذ دينه بجدية، فستكون آراء البشر الآخرين بخصوص سلوكياته أمرًا عديم المعنى والأهمية، يناسب فقط من التهوا ونسوا هدفهم النهائي الخاص بإرضاء إلههم والوصول والانضمام إليه. باختصار، فإن السمعة تعني الكثير في حياة أي شخص لأسباب عملية، وإن تقويضها بسلوك غير لائق هو إحباط وخسارة لبنيوات الدعم البشري الذي يحتاجه كل شخص. الشعور بالعزلة عن البشر الآخرين بسبب اعتبارهم قرارات الشخص الأخلاقية وسمعته كريهة منفرة هو مصير رهيب، ويتجنبه الناس على نحو طبيعي. في الواقع، إن مفهومي المأثرة والسمعة ليسا اهتمامين مستقلين على نحو كامل عن آخر آلية تعزيز أخلاقية: الضمير. الضمير بلا جدال، فإن ضمير الشخص هو المعزز الرئيسيّ لسلوكه الأخلاقي، على نحو رئيسي لأنه لا يمكنه تجنب عينه المراقبة. هناك بعض الأفعال التي لا يستطيع شخصٌ ما بوضوحٍ تحمل واستجازة فعلها لأن ضميره يشعر بالاشمئزاز من ذلك السلوك، ولفرض وتعزيز إرادته على اتخاذِ الشخصِ القرارَ، فإن الضمير ينشئ العقبتين القويتين الخاصتين بالشعور بالذنب والقلق. إن مفهوم الضمير هو تركيب وإنشاء نفسيّ لأجل الوعي والهوية الاجتماعيين، وعندما يشعر الضمير بأن ما يفكر فيه الشخص خطأٌ، فإنه يعمل على كبح اتخاذه للقرار والفعل. في الواقع، لا آلية تعزيز أخلاقي أخرى يمكنها العمل بمثل هذه الشدة على شخصٍ ما كضميره، وإن يخالف أوامره فإن تأنيب الضمير الذي سيوجِده هائل على نحوٍ طبيعيٍّ. إنها ليست قصة غير معتادة أن بعض الناس ممن ارتكبوا جرائم خطيرة يسلّمون أنفسَهم إلى السلطات لأنهم وجدوا أنهم لا يمكنهم تحمل الحياة وأنفسهم لو فلتوا بجرائمهم. وكمثال أخف، فإن الناس يعتذرون على نحو معتاد بعضهم من بعضٍ لأجل انتهاكات جدية للثقة والصداقة لأنهم يعلمون أنهم كانوا مخطئين. على نحو جَلِيٍّ، تؤثر بعض الجوانب المشوِّشة المختلطة للسمعة والرفقة والصداقة الشخصية في مثل هذا القرار، لكن الضمير لا يقوم بدور صغير فيه. لكي نرى كيفية عمل الضمير، فيجب أن يتأمل المرءُ موقفًا حيث يفكر شخصٌ في قرارٍ يَتوقع فيه أنه يمكنه القيام بقرار وفعل غير أخلاقي لمصلحته مع الإفلات من آليات التعزيز الأخلاقية الخارجية. فمحميًّا بأمانٍ من عواقب القانون العلماني المدني وخراب ذكره وسمعته، فإن الشخص يكون في أقصى حالات عدم تقيده وجموحه. بلا ريب، فإن خروقات ومخالفات الأخلاقيات أرجح حدوثًا في هذا الموقف بدون الضغوط المضاعَفة لآليات التعزيز الأخلاقي الأخرى، لكن الناس عند مثل مفارق الطرق هذه سيواجهون مع ذلك فكرة الحياة باستغلال شخص آخر. إن كان الفرد قد أدمجَ الدستور الأخلاقي في هويته، فيرجَّح أن يستمر في سلوكه الأخلاقي حتى مع الغياب المُدرَك لآليات التعزيز الأخلاقيّ الأخرى، وبالتأكيد فهذا هو قمة الأخلاقيات. ************** إن معاينة وفحص آليات التعزيز الأخلاقي يمكن تصورها في إطار بديل. تصوَّرْ دوائرَ متحدة المركز خاصة بالأُلفة حول شخصٍ، وهو في المركز، أسرته وأصدقاؤه في الحلقة التالية، أفراد مجتمعه في التالية، وآخرًا المجتمع ككل في الحلقة الخارجية. أما بخصوص آليات التعزيز الأخلاقية فهذه الحلقات قد نعتبرها على نحو غير محكم من المركز ونحو الخارج: الضمير والمآثر والضمير والقانون العلمانيّ. مع استثناء الضمير، فإن آليات التعزيز الأخلاقي تتطابق مع الجماعات ذات الصلة التي ينتمي الشخص إليها، وإن عملية استحسانهم أو استنكارهم ورفضهم هي ما يستعمل الضغط الأخلاقيّ. البشر حيوانات اجتماعية، وإن التهديد بالنبذ من المجموعات الرئيسية التي تشكل أجزاء كبرى من هويتهم يخلق عوائق كبرى لاتخاذ القرارات الغير أخلاقية. بالتأكيد، فإن الضمير كبنية نفسية لهوية الشخص الاجتماعية هو الإجراء الاحتياطي النهائي وحائط الصد الأخير الذي يأخذ في حسبانه كل هؤلاء المجموعات وعلاقة المرء بهن. بالفعل، فإن الضمير هو الحارس النهائي لهوية المرء، وإن سيطرته تقدم تأثيرًا مضاعِفًا للاهتمام بإرضاء الآخرين. أما باستخدام ورقة رابحة [وسيلة هيمنة] عبارة عن إلهٍ للهيمنة على كل آليات التعزيز الأخلاقي الأخرى والدوائر ذات الصلة الخاصة بالانتماء الإنساني، فإن الاعتقاد الديني لا يقوم سوى بتقويض كل هذه الطبقات من الحماية. اعتبارات العدل: المقصد وإمكانية التوقع والمعقولية يرتبط بأخلاقيات البشرية رغبتهم في العدل، أي الحاجة للشعور بأن اتخاذ القرارات الإيجابية يُكافَأ بينما اتخاذ القرارات السلبية يتلقى العقوبة. إن الأخلاق والعدل مفهومان مرتبطان على نحو وثيق. في الواقع، فإن التواصلات الاجتماعية الخاصة بالعقل البشري ترغب لها أن تشابه قانون السبب والنتيجة. باستمرار استعمال التشبيه الجزئي ببناء نظام قانونيّ على طول هذا الفصل، فإن إنشاء معيار أخلاقي سيعتبر (السلطة التشريعية) وتعيين آليات تعزيز وإلزام أخلاقي لذلك المعيار سيعتبر (السلطة التنفيذية) سيكونان كلاهما بلا مقصد لو لم يُراعَ تقييم الانحرافات عن والخروقات للمعيار الأخلاقي وتحديد العواقب (يعني: السلطة القضائية). رغم ذلك، فإن الأمور أكثر تعقيدًا من مجرد إعطاء أحكام متعجلة، وقبل تناول الوسائل التي يمكن لآليات التعزيز الأخلاقي ذات الصلة عن طريقها تحقيق العدل، فإن اعتبارًا دقيقًا يجب إعطاؤه لعملية التقييم الخاصة بكيفية تقرير المرء ما إذا كان شخصٌ قد امتثل على نحو مقصود لجوهر المعيار الأخلاقي. لأجل استقصاء هذه الاعتبارات، فإني سأنشئ معيارًا نظريًّا للحكم على أخلاقية قرارات الأشخاص. عند تقرير ما إذا يكُون قرار معيَّن أخلاقيًّا، فإن المسألة تتعلق بالمسؤولية الشخصية، وكلاهما متعلقان بالفرد ورؤيته للآخرين. لبدء النقاش، تفكر في وجهة نظر عن الأخلاق فيها تبرِّر النتائجُ دائمًا الوسائل. فوقًا لذلك إن يسبب قرار امرئٍ مجموعة إيجابية نهائية من النتائج، فمن ثمَّ فإنه مستحقٌ المديحَ من هذا المنظور الأخلاقي، وأما فعلٌ يتسبب مجموعة سلبية نهائية من النتائج فهو مزدَرَى ذميم. على هذا الأساس، فتفكر في معيار القضاء الأخلاقي التالي كمُنْطَلَق: القرار الأخلاقيّ هو ذلك الذي يسبب نتائج إيجابية نهائية، مع الأخذ في الاعتبار كل نتائجه الفعلية. تأمل السيناريو الافتراضي التالي وفقًا لهذا المعيار: تُبصِر أَنْجِلا ساميًا وسيارته تصطدم بعمود نور أو أسلاك هاتف، مما جعله يفقد الوعي. ولأنها شمت رائحة جازولين [جاز] يتسرب من السيارة وخشيت أنها قد تنفجر، هرعت أنجلا إلى سامي. ولكون السيارة محطمةً من الاصطدام، فقد عانت وقتًا عصيبًا في سحبه من السيارة، والتي لم تنفجر قط في الحقيقة كما خشيت. لاحقًا، وجد الأطباء الذين فحصوا ساميًا أن جذب أنجلا من السيارة قد جعل جرحًا ثانويًا من الاصطدام يتحول إلى تضرر شديد ودائم في العمود الفقري. في النهاية، لن يمشي سامي مجددًا أبدًا، ولم تنفجر سيارته قط. بالتالي، فإن فعل أنجلا الخاص بسحب سامي من السيارة كان غير ضروري في النهاية لإنقاذ حياته. مفترضين هذا التسلسل من الأحداث، فإن المعيار أعلاه سيقترح أن أفعال أَنْجِلا كانت غير أخلاقية حيث أنها لم تؤَّدِ في الحقيقة إلى نتائج إيجابية نهائية. في الواقع، بل أدت أفعال أنجلا إلى ضرر إضافي رهيب لسامي ما كان ليحدث لولا تدخلها. إلا أن الاقتراح بأن أفعال أنجلا لا تستحق الإطراء يتعارض مع ويسيء إلى الأحاسيس البشرية. فإن أفعالها تبلغ حد البطولة في مخاطرتها بنفسها لإنقاذ سامي. بالتالي، ما هو المتناقض المتنافر بين المحاولة الأولى لتحديد معيارٍ للعدل الأخلاقي وشعور المرء الغريزيّ بالعدالة والإنصاف في تقييم مسؤولية الشخص؟ تنشأ المشكلة من استعمال المعيار للنتائج الفعلية الناتجة عن قرار أنجلا بدلًا مما قد قصدت فعلَه. ما الذي يجعل فعلًا أخلاقيًّا؟ أَمَا يقصد الشخصُ فعلَه أم ما يحدث وينتج فعليًّا؟ عندما يقوم شخص باتخاذ قرار [قيام بفعل]ـ فإنه لن يكون لديه معرفة تامة بالظروف التي سيفعل ويتصرف فيها. وفي سياق السيناريو الافتراضي السابق، أنجلا لم يمكنها أن تعرف ما إذا كانت السيارة لن تنفجر أو أن إنقاذ سامي سيسبب مثل هذا الضرر الهائل. إن اعتبار المرء مسؤولًا أخلاقيًّا عن حقائق الأمور التي لم يمكنه معرفتها في وقت قيامه بقراره وفعله يبدو غير عادل. وحتى لو كان يعرف، فإن الشخص ليس متحكمًا في كل جانب مما يحدث عندما يتصرف. فلماذا سيُعتبَر جانب لاحق من الحَدَث، حدث كون سامي كان عالقًا في السيارة، على أنه عامل في تقرير ما إذا كانت قد قامت بقرار أخلاقي في اللحظة التي هرعت فيها لإنقاذه؟! ففي الوقت الذي قامت فيه بقرارها لم تكن تعلم سوى أنه كان في خطر، وقد شعرت بأنها كانت تخاطر بنفسها لصالحه بالركض إليه. إن المفهوم المحتاج إليه في المعيار لإزالة وصمة الظلم الأساسي في هذا الصدد هو القصد والنية. ما الذي قصد شخصٌ فعلَه عندما قرر الفعل والتصرف؟ هل كان دافعه حميدًا أم حقودًا شريرًا؟ فلنفترض أن أنجلا قد رأت اصطدام سيارة سامي واختارت عدم فعل شيء. ففي حين كانت الأحداث ستنجلي وتؤول إلى تقديم نتيجة أفضل لحياته مما لو تصرفت هي، فإن قرارها كان سيكون قائمًا على اللامبالاة بسلامته وصالحه في ضوء الظروف الخطيرة كما قد رأتها وأدركتها. إن كونه يخالف الاحتمالات ويخرج من الحادث بدون جرح خطير مسألةٌ منفصلة، ظهرت بعد الواقعة [الحادثة]. من منظورها عند اللحظة التي كانت ستقوم فيها بقرارها، فقد كان [سامي] على شفا الموت، وبينما ربما لا يكون بالضرورة عدم فعلها لشيء غير أخلاقي، فلن يكون هناك يقينًا أي شيء يستحق الإطراء بخصوص قرارها بالبقاء متفرجة. بالتالي، فإن المحاولة الأولى لعمل معيار للعدل والحكم الأخلاقي تحتاج تنقيحًا لإعطاء الأولوية لنوايا ومقاصد الشخص على النتائج الفعلية لأفعاله. [كالتالي:] القرار الأخلاقي هو القرار الذي يُقْصَد به التسبب في نتائج إيجابية نهائية، قياسًا مع [=مع اعتبار] كل نتائجه الفعلية. الآن، تفكر في سيناريو آخر. يمر عليٌّ برجل مشرَّد بلا منزل، يُدعى زيدًا، كلَّ يومٍ في طريق سيره إلى عمله. وفي أحد الأيام الباردة على نحو استثنائي يرى عليٌّ أن زيدًا لا يبدو بخير ويسأله [علي] إن كان يمكن أن يشتري له إفطارًا ساخنًا لتهدئة البرد والقشعريرة، فيوافق زيدٌ. جالسًا في مطعمٍ، شرع زيدٌ بامتنانٍ يرتشف القهوة ويجرش ويتمطَّق [يحدث أصواتًا أثناء تناوله الطعام] إفطاره. بعد شرب عدة أكواب من القهوة لتدفئته، أمسك زيدٌ بصدره ثم مال ساقطًا على الطاولة. لاحقًا، قرر الأطباء أن الزمن الذي قضاه زيد في الشارع خلال السنوات قد كان له ضرر وضريبة على جسده وأنه عانى من ضغط دم عالٍ غير معالَج من بين عدة اعتلالات مزمنة أخرى. بشربه عدة أكواب من القهوة سريعًا متتاليًا فإن ضغط دمه ارتفع إلى درجة تعرضه لأزمة قلبية شديدة حادة فمات. بينما يبدو ظاهريًا أخلاقيًّا وخيِّرًا، فإن سلوكَ عليٍّ لم يتلقى حكمًا إيجابيًّا عندما حُكِم عليه بالمعيار الحالي. وفقًا لصيغته الحالية، يتطلب معيار العدل الأخلاقي أنه ينبغي أن يُؤخَذ في الحسبان كل النتائج الناتجة عن قرار عليٍّ بالتصرف عند تقييم أخلاقية سلوكه، لكن أينبغي أن يكون هذا جزءً من التقييم الأخلاقي؟ لإضافة منظور آخر للظلم الاعتباطي التحكمية الخاص بالمعيار فيما يتعلق بتقييم مسؤولية المرء الشخصية، تصور أن زيدًا لم يمت في المطعم، بل بدلًا من ذلك شكر عليًّا وغادر. وحالما خرج من المطعم تعثر زيدٌ في صدعٍ في الرصيف فسقط عنه إلى الشارع حيث قتلته سيارةٌ قادمة. فنيًّا، ما كان زيد سيمشي في ذلك الاتجاه في ذلك الوقت لولا قرار عليٍّ بأخذه معه للأكل، وزلَّة زيد التي أدت على موته الآن تؤخَذ في الاعتبار عند تقييم سلوك عليٍّ. بالمصطلحات واللغة القانونية، سيقول المرء أن قرار علي بأخذ زيد للأكل كان سببًا من الناحية الواقعية الفعلية لموته في كلا الحالتين، لكن لم يكن السبب المباشر (الأدنى). إن سبب كون فعل عليٍّ لن يكون سببًا مباشرًا لموت زيد هو لأجل مفهوم إمكانية التوقع. فبينما ينبغي أن يضع معيارٌ [سليم] للحكم الأخلاقي بعض التقدير والأهمية لنتائج قيام الشخص بالقرار، فإنه يجب كذلك أن يعزل تسلسلات السببية الكاملة [وينتقص منها] لأجل أغراض التقييم. أفضل وسيلة منطقية ومناسبةً لفعل ذلك بها هو بأخذ اعتبار ونظرة على تفكير الشخص عندما فكَّر في قراره. عندما يقف شخص عند لحظة اتخاذ قرار في حياته له معانٍ ضمنية أخلاقية، فإنه لا_وفي الحقيقة لا يمكنه أن_يأخذ في حسبانه كل التتابعات المحتملة لتعاقبات السببية [الأسباب والنتائج] التي سوف تنتج عن قراره. إن ما يعتبره ويتفكر فيه هو تسلسلات السببية التي يتوقع حدوثها كنتيجة لقراره. ومن خلال النقاش بخصوص القصد ومكانه في الاعتبارات الأخلاقية، فقد أصبح واضحًا أن إحضار إدراك متأخر لربطه مع قرارٍ بناءً على نتائجه الواقعية ليس ما سيتفق مع مفهوم الأخلاق، ونفس الأمر ينطبق هنا على نحوٍ مماثل. إن يكن الهدفُ هو صياغة معيار للمسؤولية الشخصية، فإن التخبط في سلاسل السببية الغامضة المرنة وسيلة ظالمة وغير قابلة للتوقع، تؤدي إلى نتائج تناقض ما كان المرء سيتوقع أن يراه ينتج من معيار للحكم والعدل الأخلاقي. بالتالي، فإن المعيار يحتاج إلى تعديله مرة أخرى لكي يأخذ في الاعتبار مفهوم إمكانية التوقع. القرار الأخلاقي هو الذي يُقصَد به التسبب في نتائج إيجابية نهائية، باعتبار نتائج القرار متوقعة في الحقيقة. إن أول محاولتين لصياغة المعيار كانت إحداهما قائمة على النتيجة والأخرى مركزة على الخارج، والآن أصبح قائمًا على الدافع ومركزًا في الداخل. فبعد إضافة مفهومي القصد وقابلية التوقع فهذه ليست مفاجأة، لكنه يلفت الانتباه إلى نقطة هامة بصدد الأحكام الأخلاقية: النتائج الواقعية لاتخاذ المرء لقرارٍ ما ليست ذات علاقة إلى حدٍّ كبير. الأخلاق هي مقياس لمدى استحقاقية الثناء [أو الذم] الخاصة برغبات وقرارات الفرد المتخَذة فيما يتعلق بالآخرين، وليس بالضرورة البراعة التي ينفذها بها في العالم الخارجيّ. لكن قبل الوصول إلى الصيغة النهائيّة للمعيار، تفكر في سيناريو افتراضيٍّ آخرَ. تصور أن ماجدًا مصابٌ بفصام مشخَّص. عندما يأخذ أدويته فإنه يدرك العالم على نحو مستقر، ويكون عضوًا نافعًا في المجتمع. رغم ذلك فإنه لم يأخذ علاجه منذ أسابيعَ، وهو يعاني من انفصال ذُهانيٍّ عن الواقع. وأثناء سيره في الخارج، سمع أصوات صرخات آتية من داخل منزل جارته، فاقتحم البابَ ليرى رجلًا يهاجم جارته سارة. فهاجم ماجدٌ الرجل بينما طلبت سارة الشرطة. عندما وصلت الشرطة علموا أن سارة وصديقها [خليلها] كانا يتحدثان سويًّا على نحو عاديٍّ عندما اقتحم ماجد الباب برجله وهاجمهما وأن لا شجار قد كان يحدث [بينهما] في الحقيقة. في هذا الموقف، كان ماجد قد أراد ذاتيًّا وهميًّا أن يقوم بقرار أخلاقي، لكن إدراكه للأحداث كان محرَّفًا للغاية بحيث أنه لا يستحق على ما قد فعله. وحيث أن المعيار الأخلاقي الحالي سيقوم حاليًّا بامتداح سلوكه، فإن ذاتيته التامة المحضة تحتاج إلى تخفيفها بسمة وناحية المعقولية الموضوعية. النية الذاتية للتسبب في نتائج إيجابية نهائية عن طريق قرار (فعل) ليست كافية لاستحقاق المديح الأخلاقي. يجب أن يكون مقصد ونية المرء أيضًا معقولًا موضوعيًّا. كمثال أكثر ملائمة واحتمالية، تفكر في أبٍ يعتقد أن ضرب ابنته كل ليلة سيعلِّمها الانضباط ويجعلها في النهاية شخصًا ناجحًا في الحياة. من الناحية الذاتية، فهو يقصد خيرًا لو أنه يعتقد حقًّا في سلوكه [وصحته ونتيجته]، لكن سلوكه غير معقول للغاية في وسيلته موضوعيًّا، مما يجعله يسبب على الأرجح ضررًا خطيرًا لكلٍّ من صحتها العقلية النفسية والجسدية، إلى درجة أن نواياه الحقيقية تصير تافهة ذابلة بالمقارنة. إن جانب المعقولية الموضوعية بارز أيضًا في مسألة أخذ الشخص في اعتباره النتائج الممكن توقعها الخاصة بقرار أخلاقي معيَّن. إن يتخذ شخصٌ قرارًا ويفشل في توقع نتائجه التي كان ينبغي عليه أن يتوقعها، فإن قراره يتسم بعدم المسؤولية بحيث أنه لا ينبغي كذلك أن يُعطَى تقديرًا عاليًا [يعني سيُعتبر خاطئًا فاسدًا]. تخيل أن سليمًا هو أبٌ يخطط لعبةً لأطفاله يُسمِّيها البحث عن الكنز. لبدء اللعبة، أعطى سليمٌ أطفالَه الصغار إشارة ودلالة تقودهم إلى موضع سيجدون به دلالة أخرى، والذي يقودهم بدوره إلى موقع آخر حتى يعثرون آخر الأمر على الكنز. إن أطفاله يحبون لعب هذه اللعبة وهي تأخذ من سليم وقتًا طويلًا لتصميمها. ولافتقاده أماكن التخبئة، وضع سليمٌ دلالة [مفتاحًا إرشاديًّا] تحت صخرة في وسط شارع طريق سريع بقرب منزلهم. وبينما ذهب أطفاله للعثور على ذلك المفتاح الإرشاديّ، تسابقوا في حماسٍ وإثارة عابرين الشارع بدون أن ينظروا، مما تسبب في جعل سائق يحيد ليتجنبَ صدمهم. فتعرض السائق لحادثٍ أدى إلى إصابته بجرح خطِر. على العموم فإن سليمًا أبٌ صالح لتكريسه الكثير من الوقت لشغل أطفاله بالعمل سويًّا في نشاطٍ ممتع. ومع ذلك فبتخبئة مفتاح إرشادي في منطقة كثيرة حركة سير السيارات كهذه، فإن سليمًا قد قام بقرار وحكم رديء للغاية ولم يراعِ أو فشل في فهم بعض الأخطار المتوقعة على نحو معقول لكلٍّ من أطفاله وسائقي السيارات. بعبارة أخرى، فإنه قد اتخذ قرارًا أخلاقيًّا ذاتيًّا داخليًّا وأفسده بفشله في مراعاة المعقولية الموضوعية. [فإذن سيكون المعيار الأخلاقي كالتالي:] القرار الأخلاقيّ هو القرار العقلاني والمقصود به في الحقيقة التسبب في نتائج إيجابية نهائية، مع مراعاة نتائج القرار المتوقعة في الحقيقة وكذلك أي نتائج أخرى ينبغي توقعها على نحو معقول. في العموم، لا يحتاج الناس تفكرًا نظريًّا لكي يكون لديهم حس بديهيّ سليم تقريبًا عما إذا يكون فعلٌ أخلاقيًّا أم لا. رغم ذلك، فإن الشمولية والمفاهيم المطلقة التي تروِّج لها الأديان تبسيطية للغاية ومحرومة من أي دقة فيما يتعلق بتقييم قرارات المرء الأخلاقية والتي تترك الناس [الدينيين] للقيام بالكثير من العمل المتطلَّب عندما يتعلق الأمر بمراعاة ظروف الموقف الأخلاقي. اتخاذ وجهة نظر إطلاقية شمولية عن الأخلاق يعني عدم إعطاء تعقيد القرارات الأخلاقية أو طبيعة الأخلاق نفسها تفكيرًا جديًّا أبدًا. إن دوائر وعوامل اتخاذ القرار الأخلاقي ليست منفصلة، وعند نقطة تقاطعهم تحديدًا تكمن الصعوبة في تقييم قيمة جوهر وبِنْية الشخص الأخلاقية. الكثير من الاعتبارات يجب تقديرها وترتيب أولوياتها من عديد من المناظير، وإن طبقات التعقيد العميقة التي تستدعي هذه العملية هي شيء يفضل الاعتقاد الديني تجنبه. لإعطاء صورة ذهنية توضيحية، فإن المعيار الذهبي هو المعيار الأخلاقي الذي ينشئ القيم والسلوكيات التي تشكّل مصطلحات التشريع الأخلاقي، وأما معيار الحكم الأخلاقي فينظر إلى مجمل الظروف في تفكير الشخص في الوقت الذي يُظهِر فيه قيمةً أو سلوكًا معيَّنًا ذا تضمينات أخلاقية لكي يقرر ما إذا كان القرار المتخَذ مستحقًا للثناء أو مُخزِيًا أو في موضعٍ ما بين الاثنين. إن القصد وإمكانية التوقع والمعقولية هن العناصر الرئيسية في الحكم على ما إذا يكون قرار شخصٍ ما أخلاقيًّا، وهن السبب لكون الشخص الذي قد يكسر ويخرق تقنيًّا قيمة أخلاقية أنتجها المعيار الذهبي قد لا يتلقّى حكمًا أخلاقيًّا سلبيًّا بسبب عملية تفكيره الداخلية عندما قام بذلك. ************** لا يوجد سبب لمحاولة حفظ واستظهار المعيار النظري المُصاغ توًّا. إنه بوضوحٍ توضيح أكاديميّ لجوانب اتخاذ القرارات التي يستجيب ويتعامل معها الحس البشريّ بالأخلاق. بالإضافة إلى ذلك، فإنه لن يكون ذا فائدة عملية كبيرة في مواقف العالم الواقعي حيث لن يكون لدى المرءِ الوقتُ أبدًا تقريبًا ليقيِّم على نحوٍ كامل كل عواقب الأفعال العديدة المتنوعة التي يمكنه القيام بها، وحتى لو كان حقًّا لديه ترف مثل هذا الوقت، فإن المعيار المُصاغ غامض للغاية في تفاصيل هامة عن أن يكون مفيدًا للحياة اليومية. إن أهمية محاولة إظهار تفاصيل اعتبارات الحكم الأخلاقي [أكثر من درجة وضوحها في الحقيقة] هو فهم أن الأخلاق كمفهوم لا تتعلق بنتائج قرار المرء، بل هي محالة لإلقاء نظرة على الدوافع الداخلية لشخصٍ ما في الوقت عندما يقوم بقرارٍ (فعلٍ) لتقييم مدى إظهاره للاهتمام والاحترام والمسؤولية اتجاه الآخرين. إن هناك أسبابًا وجيهة لكون عبارة "الغايات تبرر الوسائل" تبدو قاسية من منظور أخلاقيّ. فبالتركيز كليًّا على النتائج الخارجية [للأفعال] فإنه يفوِّت غرض الأحكام الأخلاقية، والتي ينبغي أن تركز على معرفة دافع الشخص الداخلي الذاتي فيما يتعلق بكيفية معاملته للآخرين. إن مفاهيم القصد وإمكانية التوقع والمعقولية تبلور لب وجوهر اتخاذ القرار الأخلاقيّ لكي يكون وفق هذا النموذج. العدل العمليّ قبل إنهاء النقاش المطوَّل عن الأخلاق والعدل، فإني سأقوم بوقفة لبرهة لتفحص واستعراض الوسائل التي يمكن بها مكافأة أو معاقبة قرار أخلاقي تطبيقيًّا وعمليًّا. كما قد رأينا من خلال النقاش عن آليات التعزيز الأخلاقي، فهناك مجوعات وكيانات عديدة التي ينتمي إليها المرء وتعرِّف هويته والتي كلٌّ منها مستعدة لتحقيق عدلها بناء على قراره الأخلاقيّ المتخَذ، وبسبب أغراضها وعلاقاتها وتعاوناتها المختلفة مع الشخص، فإن وسائل تحقيقها للعدل تَتّخذ أشكالًا وطرقًا مختلفة. العدل في محكمة [في ظل] القانون العلماني تعمل آلية التعزيز والإلزام الأخلاقي الخاصة بالقانون الرئيسي بالدرجة الأولى كإجراء احتياطيّ أخير وحائط صد أخير لأجل سلامة المجتمع، حيث أنه كذلك، فإن أنظمته التشريعية والإلزامية والعدلية تهتم أكثر بتحريم القرارات (الأفعال) المؤذية أكثر مما هي تهتم بتشجيع المحسنة الخيِّرة، وهذا عدم تناظر لا تتشاركه معه آليات التعزيز الأخلاقي الأخرى في مباشرتها لتحقيق العدل [ومفهومها عنه]. وإنه لتوضيحٌ هامٌّ في كل هذا الفصل، فإن القانون العلماني والدساتير الأخلاقية تتشاطر تشابهًا كبيرًا، لكنها ليست متطابقة. هذا الموضوع يواصل هنا كملحق ضروري عن اختلافاتهم في الغرض والوسائل. فيما يتعلق بمسألة العدل، فإن القانون العلماني يتبع عامة دستورًا للمعاملة بالمثل [والمساواة] حيث تستحق الأخطاء ضد الآخرين عقوباتٍ متناسبة [مع خطورة الجرائم] للشخص الذي سبَّبها وقام بها. فلو سبب امرؤٌ خرابًا لمُلكية [أملاك، منزل] آخر، فإن ذلك الشخص يدين لمالك المنزل بالمال المساوي لتكلفة الإصلاحات. ولو جرح أو أذى امرؤٌ شخصًا آخرَ فإنه من ثم مسؤول عن فواتير ذلك الشخص الطبية. وفيما يتعلق بخلق إحساس بالكمال في التعويضات المالية القانونية، فإن القانون العلماني عمومًا ليس لديه مشكلة في منظور "عين بعين" عندما تتعلق المسائل المتناوَلة بالمال فقط وهو بسيط ولا يتضمن عقوباتٍ تنساق إلى الوحشية. رغم ذلك، فعند مستوى معيَّن من الوحشية في السلوك البشري، فإن القانون العلماني لديه سياسة تعلِّل سبب أنه لا يمكنه تحقيق العدل [في تلك الحالات] في شكل معاملة بالمثل تامة بالضبط. إن أحد الأسباب النظرية هو أن الوسيلة التي يحكم بها القانون العلمانيّ لا تقدِّم مستويات كافية من اليقين في القرار [القضائي] بحيث يكون تطبيق عقوبات قائمة على المعاملة بالمثل في قضايا كبيرة الحجم مقبولًا. إن ما هو على المحك والمُراهن عليه في مثل تلك العقوبات سيكون خطير الأهمية للغاية، بحيث أن تنفيذها على شخص قد يكون الحكم عليه أقل من يقينٍ يوقظ شبح احتمالية تنفيذ عقوبة جسدية وحشية على شخص لا يستحقها. وأحد الأسباب العملية هو أن القانون العلمانيّ يجب أن ينفّذ عقوباته، وإن تنفيذ العدل بوحشية وخشونة بالطريقة التي تُفهَم من المقدمة المنطقية للمعاملة بالمثل أكثر رجعية بكثير مما يمكن لحكومة علمانية أن تجيزه. يكفي أن نقول أنه يوجد بعض الجرائم التي لا يمكن أن يكون لها عقوبة معاملة بالمثل من منظور القانون العلماني. إن فظاعتها وقذارتها تزعج جوانب الشخصية الإنسانية للغاية بحيث أن القانون العلماني لا يمكنه هو نفسه أن يلمسها بدون أن يصير مُلوَّثًا بلاإنسانيتها. [معظم دول العالم الإسلامي في العصر الحديث تركت التشريعات القرآنية الحرفية نظرًا لشدة وحشيتها كقطع يد السارق والجلد والرجم ومعاملة المثل لمن جرح أو تسبب في عاهة لشخص، واستحالة تصحيح الأمور لو اتضح أن المتهم المدان بريء، وسبقت الدول ذات الخلفية الثقافية المسيحية الغربية العرب والمسلمين زمنيًّا وعمليًّا بكثير في هذا الصدد_م] أما القرارات الأخلاقية الإيجابية المتخذة فلن تكون في العادة محط اهتمام القانون العلماني، وهذا نتيجة للغرض منه في ضمان الأمان، وليس التناغم والانسجام. إن آلية القانون العلماني تلائم الأهداف التهذيبة التقويمية والتأديبية القصاصية والردعية بنسب مختلفة [من هذه الأغراض]، وإن غرضه محدود كنتيجة لذلك. إنه لقابلٌ للمناقشة ما إذا يكون القانون العلماني في خللٍ لكونه يتعامل بالمعيقات لإبعاد الدوافع [للجرائم]، لكن كما يقوم النظام حاليًّا، فإن العدل الذي يقدمه القانون العلمانيّ بارد محايد غير شخصيّ، ويركز على نحو رئيسي في تصحيح الأخطاء. |
|
|
|
رقم الموضوع : [10] |
|
باحث ومشرف عام
![]() |
المأثرة والسمعة
عندما لا يؤمن شخصٌ بوجود إلهٍ، فإن أولوياته يتغير ترتيبها، وتشرع مآثره وتراثه بين أصدقائه ومحبّيه يتخذ قيمة أعلى. نظريًّا، فإن المأثرة لن تعني شيئًا على أي حال لمؤمن دينيٍّ لأنه قد قبل وجهة نظرٍ عن هذه الحياة باعتبارها مجرد محطة توقف باتجاه تحقيق [مصير] الحياة الأخرى القادمة التي ينتظره فيها الهدف والدافع الحقيقي لنوازعه وأفعاله. أما الملحدون فلا يفترضون مثل هذا الافتراض، وإن الرغبة في عيشِ حياةٍ يمكن أن تتذكرها أسرة المرء [والبشرية أو جزء منها] بإعزازٍ وتقدير واحترام كبير عالٍ تَكُوُن ذاتَ أهمية كبيرة. بسبب تلاشي خرافة الحياة الأخرى الدينية في العالم الفيزيائي الواقعي [في عقل الملحد]، فإن الملحد لا يوجد لديه أي شيء آخر يقدره فيما بعدَ موته النهائي. بالتأكيد، فإن معظم المؤمنين الدينيين سيتفقون على لا أحدَ سيريد عيشَ حياةٍ ستلقي ذكراه في الخزي والعار بين أسرته وأصدقائه. رغم ذلك، فإنهم يتفقون على تلك الملاحظة في تمردٍ وخلافٍ لدينهم، وليس بسببه. فلو أنهم كانوا ملتزمين بإخلاصٍ للمعاني الضمنية لاعتقادهم الديني، لما كانت كل أمانيهم وعواطفهم فيما يتعلق بكيفية رؤية الآخرين لهم ستعني أي شيء مقارنةً بما يعتقدون بأنه يرضي الإله. رغم عدم الاتساق النظريّ من جانب المؤمنين في وضع أي قيمة للمفهوم [المأثرة]، فإن مآثر وتراث المرء بين أسرته ومحبيه [والبشرية] هو آلية تعزيزٍ هامة ثقيلة الشأن للقناعات الأخلاقية لكلٍّ من الملحدين والمؤمنين الدينين على السواء. تعزز السمعةُ اتخاذ القرارات الأخلاقية بطريقة مشابهة حيث أنها النظير الحي لمآثر المرء، والاختلاف الوحيد بينهما هو أن السمعة تتضمن أن الشخص محل الكلام لا يزال حيًّا. وكما في حالة المأثرة، فإن شخصًا ما ذو وجهة نظر كونية إلحادية سيحافظ على سمعته بإعزازٍ حيث أنها تمثل الرأي العام الذي تعتقده أسرته ومجتمعه عنه. فمع سمعة سيئة سيجد نفسه معزولًا عن الناس، وبدون إله [وهمي] للالتجاء إليه [كحيلة نفسية]، فهذه عاقبة رهيبة. مجددًا، فإن من يعتقدون بوجهة نظر دينية سيقدرون بالتأكيد قيمة سمعتهم لأسباب عملية حيث سيحتاجون إلى الحفاظ على التواصل الاجتماعي المفيد مع الآخرين، بوضوحٍ ليكونوا فاعلين في المجتمع. رغم ذلك، فإن الاعتقاد الديني يجعل سمعة المرء نظريًّا مفهومًا تافهًا وعابرًا. لو أن امرئًا [دينيًّا] سيأخذ دينه بجدية، فستكون آراء البشر الآخرين بخصوص سلوكياته أمرًا عديم المعنى والأهمية، يناسب فقط من التهوا ونسوا هدفهم النهائي الخاص بإرضاء إلههم والوصول والانضمام إليه. باختصار، فإن السمعة تعني الكثير في حياة أي شخص لأسباب عملية، وإن تقويضها بسلوك غير لائق هو إحباط وخسارة لبنيوات الدعم البشري الذي يحتاجه كل شخص. الشعور بالعزلة عن البشر الآخرين بسبب اعتبارهم قرارات الشخص الأخلاقية وسمعته كريهة منفرة هو مصير رهيب، ويتجنبه الناس على نحو طبيعي. في الواقع، إن مفهومي المأثرة والسمعة ليسا اهتمامين مستقلين على نحو كامل عن آخر آلية تعزيز أخلاقية: الضمير. الضمير بلا جدال، فإن ضمير الشخص هو المعزز الرئيسيّ لسلوكه الأخلاقي، على نحو رئيسي لأنه لا يمكنه تجنب عينه المراقبة. هناك بعض الأفعال التي لا يستطيع شخصٌ ما بوضوحٍ تحمل واستجازة فعلها لأن ضميره يشعر بالاشمئزاز من ذلك السلوك، ولفرض وتعزيز إرادته على اتخاذِ الشخصِ القرارَ، فإن الضمير ينشئ العقبتين القويتين الخاصتين بالشعور بالذنب والقلق. إن مفهوم الضمير هو تركيب وإنشاء نفسيّ لأجل الوعي والهوية الاجتماعيين، وعندما يشعر الضمير بأن ما يفكر فيه الشخص خطأٌ، فإنه يعمل على كبح اتخاذه للقرار والفعل. في الواقع، لا آلية تعزيز أخلاقي أخرى يمكنها العمل بمثل هذه الشدة على شخصٍ ما كضميره، وإن يخالف أوامره فإن تأنيب الضمير الذي سيوجِده هائل على نحوٍ طبيعيٍّ. إنها ليست قصة غير معتادة أن بعض الناس ممن ارتكبوا جرائم خطيرة يسلّمون أنفسَهم إلى السلطات لأنهم وجدوا أنهم لا يمكنهم تحمل الحياة وأنفسهم لو فلتوا بجرائمهم. وكمثال أخف، فإن الناس يعتذرون على نحو معتاد بعضهم من بعضٍ لأجل انتهاكات جدية للثقة والصداقة لأنهم يعلمون أنهم كانوا مخطئين. على نحو جَلِيٍّ، تؤثر بعض الجوانب المشوِّشة المختلطة للسمعة والرفقة والصداقة الشخصية في مثل هذا القرار، لكن الضمير لا يقوم بدور صغير فيه. لكي نرى كيفية عمل الضمير، فيجب أن يتأمل المرءُ موقفًا حيث يفكر شخصٌ في قرارٍ يَتوقع فيه أنه يمكنه القيام بقرار وفعل غير أخلاقي لمصلحته مع الإفلات من آليات التعزيز الأخلاقية الخارجية. فمحميًّا بأمانٍ من عواقب القانون العلماني المدني وخراب ذكره وسمعته، فإن الشخص يكون في أقصى حالات عدم تقيده وجموحه. بلا ريب، فإن خروقات ومخالفات الأخلاقيات أرجح حدوثًا في هذا الموقف بدون الضغوط المضاعَفة لآليات التعزيز الأخلاقي الأخرى، لكن الناس عند مثل مفارق الطرق هذه سيواجهون مع ذلك فكرة الحياة باستغلال شخص آخر. إن كان الفرد قد أدمجَ الدستور الأخلاقي في هويته، فيرجَّح أن يستمر في سلوكه الأخلاقي حتى مع الغياب المُدرَك لآليات التعزيز الأخلاقيّ الأخرى، وبالتأكيد فهذا هو قمة الأخلاقيات. ************** إن معاينة وفحص آليات التعزيز الأخلاقي يمكن تصورها في إطار بديل. تصوَّرْ دوائرَ متحدة المركز خاصة بالأُلفة حول شخصٍ، وهو في المركز، أسرته وأصدقاؤه في الحلقة التالية، أفراد مجتمعه في التالية، وآخرًا المجتمع ككل في الحلقة الخارجية. أما بخصوص آليات التعزيز الأخلاقية فهذه الحلقات قد نعتبرها على نحو غير محكم من المركز ونحو الخارج: الضمير والمآثر والضمير والقانون العلمانيّ. مع استثناء الضمير، فإن آليات التعزيز الأخلاقي تتطابق مع الجماعات ذات الصلة التي ينتمي الشخص إليها، وإن عملية استحسانهم أو استنكارهم ورفضهم هي ما يستعمل الضغط الأخلاقيّ. البشر حيوانات اجتماعية، وإن التهديد بالنبذ من المجموعات الرئيسية التي تشكل أجزاء كبرى من هويتهم يخلق عوائق كبرى لاتخاذ القرارات الغير أخلاقية. بالتأكيد، فإن الضمير كبنية نفسية لهوية الشخص الاجتماعية هو الإجراء الاحتياطي النهائي وحائط الصد الأخير الذي يأخذ في حسبانه كل هؤلاء المجموعات وعلاقة المرء بهن. بالفعل، فإن الضمير هو الحارس النهائي لهوية المرء، وإن سيطرته تقدم تأثيرًا مضاعِفًا للاهتمام بإرضاء الآخرين. أما باستخدام ورقة رابحة [وسيلة هيمنة] عبارة عن إلهٍ للهيمنة على كل آليات التعزيز الأخلاقي الأخرى والدوائر ذات الصلة الخاصة بالانتماء الإنساني، فإن الاعتقاد الديني لا يقوم سوى بتقويض كل هذه الطبقات من الحماية. اعتبارات العدل: المقصد وإمكانية التوقع والمعقولية يرتبط بأخلاقيات البشرية رغبتهم في العدل، أي الحاجة للشعور بأن اتخاذ القرارات الإيجابية يُكافَأ بينما اتخاذ القرارات السلبية يتلقى العقوبة. إن الأخلاق والعدل مفهومان مرتبطان على نحو وثيق. في الواقع، فإن التواصلات الاجتماعية الخاصة بالعقل البشري ترغب لها أن تشابه قانون السبب والنتيجة. باستمرار استعمال التشبيه الجزئي ببناء نظام قانونيّ على طول هذا الفصل، فإن إنشاء معيار أخلاقي سيعتبر (السلطة التشريعية) وتعيين آليات تعزيز وإلزام أخلاقي لذلك المعيار سيعتبر (السلطة التنفيذية) سيكونان كلاهما بلا مقصد لو لم يُراعَ تقييم الانحرافات عن والخروقات للمعيار الأخلاقي وتحديد العواقب (يعني: السلطة القضائية). رغم ذلك، فإن الأمور أكثر تعقيدًا من مجرد إعطاء أحكام متعجلة، وقبل تناول الوسائل التي يمكن لآليات التعزيز الأخلاقي ذات الصلة عن طريقها تحقيق العدل، فإن اعتبارًا دقيقًا يجب إعطاؤه لعملية التقييم الخاصة بكيفية تقرير المرء ما إذا كان شخصٌ قد امتثل على نحو مقصود لجوهر المعيار الأخلاقي. لأجل استقصاء هذه الاعتبارات، فإني سأنشئ معيارًا نظريًّا للحكم على أخلاقية قرارات الأشخاص. عند تقرير ما إذا يكُون قرار معيَّن أخلاقيًّا، فإن المسألة تتعلق بالمسؤولية الشخصية، وكلاهما متعلقان بالفرد ورؤيته للآخرين. لبدء النقاش، تفكر في وجهة نظر عن الأخلاق فيها تبرِّر النتائجُ دائمًا الوسائل. فوقًا لذلك إن يسبب قرار امرئٍ مجموعة إيجابية نهائية من النتائج، فمن ثمَّ فإنه مستحقٌ المديحَ من هذا المنظور الأخلاقي، وأما فعلٌ يتسبب مجموعة سلبية نهائية من النتائج فهو مزدَرَى ذميم. على هذا الأساس، فتفكر في معيار القضاء الأخلاقي التالي كمُنْطَلَق: القرار الأخلاقيّ هو ذلك الذي يسبب نتائج إيجابية نهائية، مع الأخذ في الاعتبار كل نتائجه الفعلية. تأمل السيناريو الافتراضي التالي وفقًا لهذا المعيار: تُبصِر أَنْجِلا ساميًا وسيارته تصطدم بعمود نور أو أسلاك هاتف، مما جعله يفقد الوعي. ولأنها شمت رائحة جازولين [جاز] يتسرب من السيارة وخشيت أنها قد تنفجر، هرعت أنجلا إلى سامي. ولكون السيارة محطمةً من الاصطدام، فقد عانت وقتًا عصيبًا في سحبه من السيارة، والتي لم تنفجر قط في الحقيقة كما خشيت. لاحقًا، وجد الأطباء الذين فحصوا ساميًا أن جذب أنجلا من السيارة قد جعل جرحًا ثانويًا من الاصطدام يتحول إلى تضرر شديد ودائم في العمود الفقري. في النهاية، لن يمشي سامي مجددًا أبدًا، ولم تنفجر سيارته قط. بالتالي، فإن فعل أنجلا الخاص بسحب سامي من السيارة كان غير ضروري في النهاية لإنقاذ حياته. مفترضين هذا التسلسل من الأحداث، فإن المعيار أعلاه سيقترح أن أفعال أَنْجِلا كانت غير أخلاقية حيث أنها لم تؤَّدِ في الحقيقة إلى نتائج إيجابية نهائية. في الواقع، بل أدت أفعال أنجلا إلى ضرر إضافي رهيب لسامي ما كان ليحدث لولا تدخلها. إلا أن الاقتراح بأن أفعال أنجلا لا تستحق الإطراء يتعارض مع ويسيء إلى الأحاسيس البشرية. فإن أفعالها تبلغ حد البطولة في مخاطرتها بنفسها لإنقاذ سامي. بالتالي، ما هو المتناقض المتنافر بين المحاولة الأولى لتحديد معيارٍ للعدل الأخلاقي وشعور المرء الغريزيّ بالعدالة والإنصاف في تقييم مسؤولية الشخص؟ تنشأ المشكلة من استعمال المعيار للنتائج الفعلية الناتجة عن قرار أنجلا بدلًا مما قد قصدت فعلَه. ما الذي يجعل فعلًا أخلاقيًّا؟ أَمَا يقصد الشخصُ فعلَه أم ما يحدث وينتج فعليًّا؟ عندما يقوم شخص باتخاذ قرار [قيام بفعل]ـ فإنه لن يكون لديه معرفة تامة بالظروف التي سيفعل ويتصرف فيها. وفي سياق السيناريو الافتراضي السابق، أنجلا لم يمكنها أن تعرف ما إذا كانت السيارة لن تنفجر أو أن إنقاذ سامي سيسبب مثل هذا الضرر الهائل. إن اعتبار المرء مسؤولًا أخلاقيًّا عن حقائق الأمور التي لم يمكنه معرفتها في وقت قيامه بقراره وفعله يبدو غير عادل. وحتى لو كان يعرف، فإن الشخص ليس متحكمًا في كل جانب مما يحدث عندما يتصرف. فلماذا سيُعتبَر جانب لاحق من الحَدَث، حدث كون سامي كان عالقًا في السيارة، على أنه عامل في تقرير ما إذا كانت قد قامت بقرار أخلاقي في اللحظة التي هرعت فيها لإنقاذه؟! ففي الوقت الذي قامت فيه بقرارها لم تكن تعلم سوى أنه كان في خطر، وقد شعرت بأنها كانت تخاطر بنفسها لصالحه بالركض إليه. إن المفهوم المحتاج إليه في المعيار لإزالة وصمة الظلم الأساسي في هذا الصدد هو القصد والنية. ما الذي قصد شخصٌ فعلَه عندما قرر الفعل والتصرف؟ هل كان دافعه حميدًا أم حقودًا شريرًا؟ فلنفترض أن أنجلا قد رأت اصطدام سيارة سامي واختارت عدم فعل شيء. ففي حين كانت الأحداث ستنجلي وتؤول إلى تقديم نتيجة أفضل لحياته مما لو تصرفت هي، فإن قرارها كان سيكون قائمًا على اللامبالاة بسلامته وصالحه في ضوء الظروف الخطيرة كما قد رأتها وأدركتها. إن كونه يخالف الاحتمالات ويخرج من الحادث بدون جرح خطير مسألةٌ منفصلة، ظهرت بعد الواقعة [الحادثة]. من منظورها عند اللحظة التي كانت ستقوم فيها بقرارها، فقد كان [سامي] على شفا الموت، وبينما ربما لا يكون بالضرورة عدم فعلها لشيء غير أخلاقي، فلن يكون هناك يقينًا أي شيء يستحق الإطراء بخصوص قرارها بالبقاء متفرجة. بالتالي، فإن المحاولة الأولى لعمل معيار للعدل والحكم الأخلاقي تحتاج تنقيحًا لإعطاء الأولوية لنوايا ومقاصد الشخص على النتائج الفعلية لأفعاله. [كالتالي:] القرار الأخلاقي هو القرار الذي يُقْصَد به التسبب في نتائج إيجابية نهائية، قياسًا مع [=مع اعتبار] كل نتائجه الفعلية. الآن، تفكر في سيناريو آخر. يمر عليٌّ برجل مشرَّد بلا منزل، يُدعى زيدًا، كلَّ يومٍ في طريق سيره إلى عمله. وفي أحد الأيام الباردة على نحو استثنائي يرى عليٌّ أن زيدًا لا يبدو بخير ويسأله [علي] إن كان يمكن أن يشتري له إفطارًا ساخنًا لتهدئة البرد والقشعريرة، فيوافق زيدٌ. جالسًا في مطعمٍ، شرع زيدٌ بامتنانٍ يرتشف القهوة ويجرش ويتمطَّق [يحدث أصواتًا أثناء تناوله الطعام] إفطاره. بعد شرب عدة أكواب من القهوة لتدفئته، أمسك زيدٌ بصدره ثم مال ساقطًا على الطاولة. لاحقًا، قرر الأطباء أن الزمن الذي قضاه زيد في الشارع خلال السنوات قد كان له ضرر وضريبة على جسده وأنه عانى من ضغط دم عالٍ غير معالَج من بين عدة اعتلالات مزمنة أخرى. بشربه عدة أكواب من القهوة سريعًا متتاليًا فإن ضغط دمه ارتفع إلى درجة تعرضه لأزمة قلبية شديدة حادة فمات. بينما يبدو ظاهريًا أخلاقيًّا وخيِّرًا، فإن سلوكَ عليٍّ لم يتلقى حكمًا إيجابيًّا عندما حُكِم عليه بالمعيار الحالي. وفقًا لصيغته الحالية، يتطلب معيار العدل الأخلاقي أنه ينبغي أن يُؤخَذ في الحسبان كل النتائج الناتجة عن قرار عليٍّ بالتصرف عند تقييم أخلاقية سلوكه، لكن أينبغي أن يكون هذا جزءً من التقييم الأخلاقي؟ لإضافة منظور آخر للظلم الاعتباطي التحكمية الخاص بالمعيار فيما يتعلق بتقييم مسؤولية المرء الشخصية، تصور أن زيدًا لم يمت في المطعم، بل بدلًا من ذلك شكر عليًّا وغادر. وحالما خرج من المطعم تعثر زيدٌ في صدعٍ في الرصيف فسقط عنه إلى الشارع حيث قتلته سيارةٌ قادمة. فنيًّا، ما كان زيد سيمشي في ذلك الاتجاه في ذلك الوقت لولا قرار عليٍّ بأخذه معه للأكل، وزلَّة زيد التي أدت على موته الآن تؤخَذ في الاعتبار عند تقييم سلوك عليٍّ. بالمصطلحات واللغة القانونية، سيقول المرء أن قرار علي بأخذ زيد للأكل كان سببًا من الناحية الواقعية الفعلية لموته في كلا الحالتين، لكن لم يكن السبب المباشر (الأدنى). إن سبب كون فعل عليٍّ لن يكون سببًا مباشرًا لموت زيد هو لأجل مفهوم إمكانية التوقع. فبينما ينبغي أن يضع معيارٌ [سليم] للحكم الأخلاقي بعض التقدير والأهمية لنتائج قيام الشخص بالقرار، فإنه يجب كذلك أن يعزل تسلسلات السببية الكاملة [وينتقص منها] لأجل أغراض التقييم. أفضل وسيلة منطقية ومناسبةً لفعل ذلك بها هو بأخذ اعتبار ونظرة على تفكير الشخص عندما فكَّر في قراره. عندما يقف شخص عند لحظة اتخاذ قرار في حياته له معانٍ ضمنية أخلاقية، فإنه لا_وفي الحقيقة لا يمكنه أن_يأخذ في حسبانه كل التتابعات المحتملة لتعاقبات السببية [الأسباب والنتائج] التي سوف تنتج عن قراره. إن ما يعتبره ويتفكر فيه هو تسلسلات السببية التي يتوقع حدوثها كنتيجة لقراره. ومن خلال النقاش بخصوص القصد ومكانه في الاعتبارات الأخلاقية، فقد أصبح واضحًا أن إحضار إدراك متأخر لربطه مع قرارٍ بناءً على نتائجه الواقعية ليس ما سيتفق مع مفهوم الأخلاق، ونفس الأمر ينطبق هنا على نحوٍ مماثل. إن يكن الهدفُ هو صياغة معيار للمسؤولية الشخصية، فإن التخبط في سلاسل السببية الغامضة المرنة وسيلة ظالمة وغير قابلة للتوقع، تؤدي إلى نتائج تناقض ما كان المرء سيتوقع أن يراه ينتج من معيار للحكم والعدل الأخلاقي. بالتالي، فإن المعيار يحتاج إلى تعديله مرة أخرى لكي يأخذ في الاعتبار مفهوم إمكانية التوقع. القرار الأخلاقي هو الذي يُقصَد به التسبب في نتائج إيجابية نهائية، باعتبار نتائج القرار متوقعة في الحقيقة. إن أول محاولتين لصياغة المعيار كانت إحداهما قائمة على النتيجة والأخرى مركزة على الخارج، والآن أصبح قائمًا على الدافع ومركزًا في الداخل. فبعد إضافة مفهومي القصد وقابلية التوقع فهذه ليست مفاجأة، لكنه يلفت الانتباه إلى نقطة هامة بصدد الأحكام الأخلاقية: النتائج الواقعية لاتخاذ المرء لقرارٍ ما ليست ذات علاقة إلى حدٍّ كبير. الأخلاق هي مقياس لمدى استحقاقية الثناء [أو الذم] الخاصة برغبات وقرارات الفرد المتخَذة فيما يتعلق بالآخرين، وليس بالضرورة البراعة التي ينفذها بها في العالم الخارجيّ. لكن قبل الوصول إلى الصيغة النهائيّة للمعيار، تفكر في سيناريو افتراضيٍّ آخرَ. تصور أن ماجدًا مصابٌ بفصام مشخَّص. عندما يأخذ أدويته فإنه يدرك العالم على نحو مستقر، ويكون عضوًا نافعًا في المجتمع. رغم ذلك فإنه لم يأخذ علاجه منذ أسابيعَ، وهو يعاني من انفصال ذُهانيٍّ عن الواقع. وأثناء سيره في الخارج، سمع أصوات صرخات آتية من داخل منزل جارته، فاقتحم البابَ ليرى رجلًا يهاجم جارته سارة. فهاجم ماجدٌ الرجل بينما طلبت سارة الشرطة. عندما وصلت الشرطة علموا أن سارة وصديقها [خليلها] كانا يتحدثان سويًّا على نحو عاديٍّ عندما اقتحم ماجد الباب برجله وهاجمهما وأن لا شجار قد كان يحدث [بينهما] في الحقيقة. في هذا الموقف، كان ماجد قد أراد ذاتيًّا وهميًّا أن يقوم بقرار أخلاقي، لكن إدراكه للأحداث كان محرَّفًا للغاية بحيث أنه لا يستحق على ما قد فعله. وحيث أن المعيار الأخلاقي الحالي سيقوم حاليًّا بامتداح سلوكه، فإن ذاتيته التامة المحضة تحتاج إلى تخفيفها بسمة وناحية المعقولية الموضوعية. النية الذاتية للتسبب في نتائج إيجابية نهائية عن طريق قرار (فعل) ليست كافية لاستحقاق المديح الأخلاقي. يجب أن يكون مقصد ونية المرء أيضًا معقولًا موضوعيًّا. كمثال أكثر ملائمة واحتمالية، تفكر في أبٍ يعتقد أن ضرب ابنته كل ليلة سيعلِّمها الانضباط ويجعلها في النهاية شخصًا ناجحًا في الحياة. من الناحية الذاتية، فهو يقصد خيرًا لو أنه يعتقد حقًّا في سلوكه [وصحته ونتيجته]، لكن سلوكه غير معقول للغاية في وسيلته موضوعيًّا، مما يجعله يسبب على الأرجح ضررًا خطيرًا لكلٍّ من صحتها العقلية النفسية والجسدية، إلى درجة أن نواياه الحقيقية تصير تافهة ذابلة بالمقارنة. إن جانب المعقولية الموضوعية بارز أيضًا في مسألة أخذ الشخص في اعتباره النتائج الممكن توقعها الخاصة بقرار أخلاقي معيَّن. إن يتخذ شخصٌ قرارًا ويفشل في توقع نتائجه التي كان ينبغي عليه أن يتوقعها، فإن قراره يتسم بعدم المسؤولية بحيث أنه لا ينبغي كذلك أن يُعطَى تقديرًا عاليًا [يعني سيُعتبر خاطئًا فاسدًا]. تخيل أن سليمًا هو أبٌ يخطط لعبةً لأطفاله يُسمِّيها البحث عن الكنز. لبدء اللعبة، أعطى سليمٌ أطفالَه الصغار إشارة ودلالة تقودهم إلى موضع سيجدون به دلالة أخرى، والذي يقودهم بدوره إلى موقع آخر حتى يعثرون آخر الأمر على الكنز. إن أطفاله يحبون لعب هذه اللعبة وهي تأخذ من سليم وقتًا طويلًا لتصميمها. ولافتقاده أماكن التخبئة، وضع سليمٌ دلالة [مفتاحًا إرشاديًّا] تحت صخرة في وسط شارع طريق سريع بقرب منزلهم. وبينما ذهب أطفاله للعثور على ذلك المفتاح الإرشاديّ، تسابقوا في حماسٍ وإثارة عابرين الشارع بدون أن ينظروا، مما تسبب في جعل سائق يحيد ليتجنبَ صدمهم. فتعرض السائق لحادثٍ أدى إلى إصابته بجرح خطِر. على العموم فإن سليمًا أبٌ صالح لتكريسه الكثير من الوقت لشغل أطفاله بالعمل سويًّا في نشاطٍ ممتع. ومع ذلك فبتخبئة مفتاح إرشادي في منطقة كثيرة حركة سير السيارات كهذه، فإن سليمًا قد قام بقرار وحكم رديء للغاية ولم يراعِ أو فشل في فهم بعض الأخطار المتوقعة على نحو معقول لكلٍّ من أطفاله وسائقي السيارات. بعبارة أخرى، فإنه قد اتخذ قرارًا أخلاقيًّا ذاتيًّا داخليًّا وأفسده بفشله في مراعاة المعقولية الموضوعية. [فإذن سيكون المعيار الأخلاقي كالتالي:] القرار الأخلاقيّ هو القرار العقلاني والمقصود به في الحقيقة التسبب في نتائج إيجابية نهائية، مع مراعاة نتائج القرار المتوقعة في الحقيقة وكذلك أي نتائج أخرى ينبغي توقعها على نحو معقول. في العموم، لا يحتاج الناس تفكرًا نظريًّا لكي يكون لديهم حس بديهيّ سليم تقريبًا عما إذا يكون فعلٌ أخلاقيًّا أم لا. رغم ذلك، فإن الشمولية والمفاهيم المطلقة التي تروِّج لها الأديان تبسيطية للغاية ومحرومة من أي دقة فيما يتعلق بتقييم قرارات المرء الأخلاقية والتي تترك الناس [الدينيين] للقيام بالكثير من العمل المتطلَّب عندما يتعلق الأمر بمراعاة ظروف الموقف الأخلاقي. اتخاذ وجهة نظر إطلاقية شمولية عن الأخلاق يعني عدم إعطاء تعقيد القرارات الأخلاقية أو طبيعة الأخلاق نفسها تفكيرًا جديًّا أبدًا. إن دوائر وعوامل اتخاذ القرار الأخلاقي ليست منفصلة، وعند نقطة تقاطعهم تحديدًا تكمن الصعوبة في تقييم قيمة جوهر وبِنْية الشخص الأخلاقية. الكثير من الاعتبارات يجب تقديرها وترتيب أولوياتها من عديد من المناظير، وإن طبقات التعقيد العميقة التي تستدعي هذه العملية هي شيء يفضل الاعتقاد الديني تجنبه. لإعطاء صورة ذهنية توضيحية، فإن المعيار الذهبي هو المعيار الأخلاقي الذي ينشئ القيم والسلوكيات التي تشكّل مصطلحات التشريع الأخلاقي، وأما معيار الحكم الأخلاقي فينظر إلى مجمل الظروف في تفكير الشخص في الوقت الذي يُظهِر فيه قيمةً أو سلوكًا معيَّنًا ذا تضمينات أخلاقية لكي يقرر ما إذا كان القرار المتخَذ مستحقًا للثناء أو مُخزِيًا أو في موضعٍ ما بين الاثنين. إن القصد وإمكانية التوقع والمعقولية هن العناصر الرئيسية في الحكم على ما إذا يكون قرار شخصٍ ما أخلاقيًّا، وهن السبب لكون الشخص الذي قد يكسر ويخرق تقنيًّا قيمة أخلاقية أنتجها المعيار الذهبي قد لا يتلقّى حكمًا أخلاقيًّا سلبيًّا بسبب عملية تفكيره الداخلية عندما قام بذلك. ************** لا يوجد سبب لمحاولة حفظ واستظهار المعيار النظري المُصاغ توًّا. إنه بوضوحٍ توضيح أكاديميّ لجوانب اتخاذ القرارات التي يستجيب ويتعامل معها الحس البشريّ بالأخلاق. بالإضافة إلى ذلك، فإنه لن يكون ذا فائدة عملية كبيرة في مواقف العالم الواقعي حيث لن يكون لدى المرءِ الوقتُ أبدًا تقريبًا ليقيِّم على نحوٍ كامل كل عواقب الأفعال العديدة المتنوعة التي يمكنه القيام بها، وحتى لو كان حقًّا لديه ترف مثل هذا الوقت، فإن المعيار المُصاغ غامض للغاية في تفاصيل هامة عن أن يكون مفيدًا للحياة اليومية. إن أهمية محاولة إظهار تفاصيل اعتبارات الحكم الأخلاقي [أكثر من درجة وضوحها في الحقيقة] هو فهم أن الأخلاق كمفهوم لا تتعلق بنتائج قرار المرء، بل هي محالة لإلقاء نظرة على الدوافع الداخلية لشخصٍ ما في الوقت عندما يقوم بقرارٍ (فعلٍ) لتقييم مدى إظهاره للاهتمام والاحترام والمسؤولية اتجاه الآخرين. إن هناك أسبابًا وجيهة لكون عبارة "الغايات تبرر الوسائل" تبدو قاسية من منظور أخلاقيّ. فبالتركيز كليًّا على النتائج الخارجية [للأفعال] فإنه يفوِّت غرض الأحكام الأخلاقية، والتي ينبغي أن تركز على معرفة دافع الشخص الداخلي الذاتي فيما يتعلق بكيفية معاملته للآخرين. إن مفاهيم القصد وإمكانية التوقع والمعقولية تبلور لب وجوهر اتخاذ القرار الأخلاقيّ لكي يكون وفق هذا النموذج. العدل العمليّ قبل إنهاء النقاش المطوَّل عن الأخلاق والعدل، فإني سأقوم بوقفة لبرهة لتفحص واستعراض الوسائل التي يمكن بها مكافأة أو معاقبة قرار أخلاقي تطبيقيًّا وعمليًّا. كما قد رأينا من خلال النقاش عن آليات التعزيز الأخلاقي، فهناك مجوعات وكيانات عديدة التي ينتمي إليها المرء وتعرِّف هويته والتي كلٌّ منها مستعدة لتحقيق عدلها بناء على قراره الأخلاقيّ المتخَذ، وبسبب أغراضها وعلاقاتها وتعاوناتها المختلفة مع الشخص، فإن وسائل تحقيقها للعدل تَتّخذ أشكالًا وطرقًا مختلفة. العدل في محكمة [في ظل] القانون العلماني تعمل آلية التعزيز والإلزام الأخلاقي الخاصة بالقانون الرئيسي بالدرجة الأولى كإجراء احتياطيّ أخير وحائط صد أخير لأجل سلامة المجتمع، حيث أنه كذلك، فإن أنظمته التشريعية والإلزامية والعدلية تهتم أكثر بتحريم القرارات (الأفعال) المؤذية أكثر مما هي تهتم بتشجيع المحسنة الخيِّرة، وهذا عدم تناظر لا تتشاركه معه آليات التعزيز الأخلاقي الأخرى في مباشرتها لتحقيق العدل [ومفهومها عنه]. وإنه لتوضيحٌ هامٌّ في كل هذا الفصل، فإن القانون العلماني والدساتير الأخلاقية تتشاطر تشابهًا كبيرًا، لكنها ليست متطابقة. هذا الموضوع يواصل هنا كملحق ضروري عن اختلافاتهم في الغرض والوسائل. فيما يتعلق بمسألة العدل، فإن القانون العلماني يتبع عامة دستورًا للمعاملة بالمثل [والمساواة] حيث تستحق الأخطاء ضد الآخرين عقوباتٍ متناسبة [مع خطورة الجرائم] للشخص الذي سبَّبها وقام بها. فلو سبب امرؤٌ خرابًا لمُلكية [أملاك، منزل] آخر، فإن ذلك الشخص يدين لمالك المنزل بالمال المساوي لتكلفة الإصلاحات. ولو جرح أو أذى امرؤٌ شخصًا آخرَ فإنه من ثم مسؤول عن فواتير ذلك الشخص الطبية. وفيما يتعلق بخلق إحساس بالكمال في التعويضات المالية القانونية، فإن القانون العلماني عمومًا ليس لديه مشكلة في منظور "عين بعين" عندما تتعلق المسائل المتناوَلة بالمال فقط وهو بسيط ولا يتضمن عقوباتٍ تنساق إلى الوحشية. رغم ذلك، فعند مستوى معيَّن من الوحشية في السلوك البشري، فإن القانون العلماني لديه سياسة تعلِّل سبب أنه لا يمكنه تحقيق العدل [في تلك الحالات] في شكل معاملة بالمثل تامة بالضبط. إن أحد الأسباب النظرية هو أن الوسيلة التي يحكم بها القانون العلمانيّ لا تقدِّم مستويات كافية من اليقين في القرار [القضائي] بحيث يكون تطبيق عقوبات قائمة على المعاملة بالمثل في قضايا كبيرة الحجم مقبولًا. إن ما هو على المحك والمُراهن عليه في مثل تلك العقوبات سيكون خطير الأهمية للغاية، بحيث أن تنفيذها على شخص قد يكون الحكم عليه أقل من يقينٍ يوقظ شبح احتمالية تنفيذ عقوبة جسدية وحشية على شخص لا يستحقها. وأحد الأسباب العملية هو أن القانون العلمانيّ يجب أن ينفّذ عقوباته، وإن تنفيذ العدل بوحشية وخشونة بالطريقة التي تُفهَم من المقدمة المنطقية للمعاملة بالمثل أكثر رجعية بكثير مما يمكن لحكومة علمانية أن تجيزه. يكفي أن نقول أنه يوجد بعض الجرائم التي لا يمكن أن يكون لها عقوبة معاملة بالمثل من منظور القانون العلماني. إن فظاعتها وقذارتها تزعج جوانب الشخصية الإنسانية للغاية بحيث أن القانون العلماني لا يمكنه هو نفسه أن يلمسها بدون أن يصير مُلوَّثًا بلاإنسانيتها. [معظم دول العالم الإسلامي في العصر الحديث تركت التشريعات القرآنية الحرفية نظرًا لشدة وحشيتها كقطع يد السارق والجلد والرجم ومعاملة المثل لمن جرح أو تسبب في عاهة لشخص، واستحالة تصحيح الأمور لو اتضح أن المتهم المدان بريء، وسبقت الدول ذات الخلفية الثقافية المسيحية الغربية العرب والمسلمين زمنيًّا وعمليًّا بكثير في هذا الصدد_م] أما القرارات الأخلاقية الإيجابية المتخذة فلن تكون في العادة محط اهتمام القانون العلماني، وهذا نتيجة للغرض منه في ضمان الأمان، وليس التناغم والانسجام. إن آلية القانون العلماني تلائم الأهداف التهذيبة التقويمية والتأديبية القصاصية والردعية بنسب مختلفة [من هذه الأغراض]، وإن غرضه محدود كنتيجة لذلك. إنه لقابلٌ للمناقشة ما إذا يكون القانون العلماني في خللٍ لكونه يتعامل بالمعيقات لإبعاد الدوافع [للجرائم]، لكن كما يقوم النظام حاليًّا، فإن العدل الذي يقدمه القانون العلمانيّ بارد محايد غير شخصيّ، ويركز على نحو رئيسي في تصحيح الأخطاء. العدل فيما يتعلق بمآثر وسمعة المرء حيث أن المجموعات الاجتماعية الأكثر اهتمامًا بمآثر وسمعة الشخص هي أسرته وأصدقاؤه ومجتمعه، فإن العدل الذي تستعمله وتطبقه تلكم المجموعات له تأثير كبير على اتخاذه للقرارات الأخلاقية. فبخلاف الطبيعة الغير شخصية للعدل الذي ينفّذه القانون العلماني، فإن الناس والمجموعات التي تشغل العوالم ذوات الصلة بآليات التعزيز والإلزام الأخلاقي الخاصة بمآثر وسمعة المرء توظِّف الأدوات العاطفية لصنع عدل أخلاقي لأجل قرارات الشخص المتخَذة. وأيضًا بحكم التواصل الشخصي المتزايد، فإن فارضي آليات التعزيز والفرض الأخلاقي هذه هم المصدر الرئيسي للتغذية الرجعية الإيجابية لأجل القرارات الأخلاقية المستحقةِ الثناءَ [أو العكس بالتغذية السلبية]. بحيث أن الشخص الذي تدرك أسرته وأصدقاؤه أنه قد فعل قرارًا [فعلًا] غير أخلاقي سيكون أقسى عقوبات متاحة ضده هي التي تحد من عضويته للمجموعة بتجنب التواصل أو قطعه. إن الأسرة والأصدقاء والمجتمع مرتبط بشدة بهوية الفرد، وإن كان قراره الأخلاقي المتخَذ سيميل إلى الوصول إلى درجات من المخالفة والفسق بحيث يصير التواصل المحجَّم والمقيَّد بهؤلاء المجوعات احتمالًا حقيقيًّا، وإن وحشة تعرضه للهجر من جانبهم ينبغي أن تمنح الشخص فترة توقف وتردد هامة. وبسبب مستوى الصلة الشخصية بين الفرد والمجموعات محل الكلام، فإن وسائل إلزامها الأخلاقي تقوم على فعالية التأثير العاطفي، وباعتبار مدى أهمية هذه المجموعات لهوية الفرد العاديّ، فإنها تعمل على فرض معظم الردع لنزوات ودوافع الشخص الخسيسة. وفيما يتعلق بالقرارات المتخذة المستحقة المديحَ، فإن الأسرة والأصدقاء والمجتمع قادرون ومُمكَّنون من تقديم مكافآت لا يستطيع القانون العلماني المدني ببساطة تقديمها. وبقدر ما يكون نبذ الجماعة كريهًا عندما تكون هذه المجموعات معنية، فإن المديح والحب النابع منها مرغوب فيه بشدة، وسواءً أكان تجنب العار أو الحصول على الاحترام منهم هو ما يحفِّز اتخاذ الفرد للقرار الأخلاقي، فإن القوة والسلطان الذي لها [الجماعات] على الشخص هائل. العدل فيما يتعلق بالضمير حيث أن الضمير يعمل كآلية تعزيز أخلاقي داخلية ذاتية، فإن وسيلته لتنفيذ العدل على انتهاكات وخروقات الفرد للدستور الأخلاقي لا يمكن أن تكون سوى عاطفية. رغم ذلك، فإن الضمير يعمل كبنية لهوية الشخص كذلك، وإن تأثيره على اتخاذ الشخص للقرارات هو_جزئيًا على الأقل_دلالة على دمج الضغوط الممارسة من جانب آليات التعزيز والإلزام الأخلاقي الأخرى في النفس ضمنها. فباعتبار كل شيء، ما الذي سيكونه الشخص بدون أسرته وأصدقائه؟ ما الهوية التي يمكن أن يَتوقع حقًّا أن يحافظ عليها ويستنقذها بدون هذه الأفكار والأشخاص؟ يُفترَض أن أعلى مستوى من الأخلاقيات هو الذي يولِّد اتخاذ القرارات الأخلاقية بدون توقع الشخص ملاحظة أي أحد لها حيث أن السلوك قد تولَّد بدون أي قدرات رقابية لأيٍّ من آليات الإلزام الأخلاقي الأخرى سواء على المكافأة أو المعاقبة. كمثال، فإن التبرعات الخيرية كثيرًا ما تعطي المتبرعَ معاملة ضريبية تفضيلية طالما أنه يُظهر الأدلة أن قد تبرع وأسهم هكذا. أما بالنسبة إلى الشخص الذي يعطي الإحسانَ بدون التعريف باسمه بحيث لا يمكن لشخص أو هيئة اكتشاف من تبرع، فإن المكافأة الوحيدة ستكون داخلية ذاتية. للأسف، فهذه طبيعة الأخلاق والعدالة؛ إن [بعض] القرارات [الأفعال المتخَذة] التي تستحق أعلى مستوى من المكافأة لا تُلاحَظ أبدًا لأنها قد قيم بها قصديًّا بطريقة بحيث تتجنب الإطراء الخارجيّ من آليات الإلزام والتعزيز الأخلاقي الأخرى. الخلاصة حَسْبُنا أن نقولَ ادعاء الأديان حيازة احتكار للأخلاق والعدالة مثير للضحك والسخرية. في الواقع، فإنها قد أفسدت ولوَّثَتْ بمكرٍ الأخلاق بتحويلها من مفهومٍ كان يُقصَد به أن يكون أساسًا لتقييم جودة السلوك الإنسانيّ في مجتمعٍ ما إلى مفهوم يقرِّر كيفية حصول المرء على السعادة عند موته. إن تطفلها في هذا الشأن قد عمل على قلب وتحويل اهتمام الشخص الأخلاقي الطبيعي في الآخرين إلى صالح عقيدة الخلاص الأبدي [والاتباع الأعمى لوصايا النص الديني حتى لو خالفت الأخلاق الحقيقية]، إلى درجة أن الأديان تروج الخرافة الوقحة بأن الناس لا يقدرون أن يكون محترِمين لبعضهم البعض بدونها، إن نفاقها مخزٍ وقح. وباعتبار اعوجاج وتشوه مفهومها عن الأخلاق، فيمكن أن نجادل بسهولة على أن الناس محترمون لبعضهم البعض في المجتمعات [الدينية] على الرغم منها [الأديان]. وكما قد شرحنا، فإن الخوف من غضب إلهٍ هو مجرد إحدى آليات التعزيز الأخلاقي، وهي آلية لا تستحق بأي حالٍ القيمة المعطاة لها لكونها تعمل على الإطاحة بالقوة العقلانية لآليات التعزيز والإلزام الأخلاقيّ، والتي كانت لو ذلك قدمت حماية سابغة وافرة وقانون سبب ونتيجة عقلانيّ. إن إبدالها والإحلال محلها بعقيدة إلهٍ [أو بالأحرى نصٍّ دينيٍّ] والذي أخلاقه متغيرة متناقضة وعجيبة لا يشجع الإنسانية على تنمية التقمص العاطفي والتعاطف. في الواقع، إن الذين يعاملون الناس جيدًا للهدف المحض الخاص بالذهاب إلى الجنة لا يستخدمون التقمص العاطفي [التعاطف] على الإطلاق؛ بل هم في قمة الاستغراق في الذات [الأنانية]. تقريبًا كل شخص في العالم يشترك في مجتمعٍ والذي لا يهتم فيه بمعرفة أو لا يقدر على معرفة كل فردٍ فيه. إن ما يجعل الناس راغبين في الترابط سويًّا هو التوقع الضمنيّ أن وخز الضمير الأخلاقيّ الخاص بكل فردٍ متشابهٌ بدرجة كبيرة وأن المجتمع نفسه يحتوي آلية ستعطي النتيجة للخروقات الأخلاقية في شكل العدل المتناسب [مع الفعل]. وبينما تشجع الأديان على ثقة واطمئنان الناس الذين تتحدث إليهم، فإنها تعمل_سواءً قصديًّا أو غير ذلك_على تيسير تخريب البنيوات الاجتماعية الأساسية كذلك. بحيث يعمل الاعتقاد الديني نظاميًّا منهجيًّا على إفساد الأخلاق وإخضاع العدل، ومن ثمَّ تدين مؤسَّساته للمجتمع وأفراده بدَيْنٍ يفوق القدرة على حسابه. 13- مكان الشخص فيما يتعلق بالنفس لقد تعلمتُ أن النجاح لا يُقاس بقدر الموقع الذي قد وصل إليه المرء في الحياة بقدر ما هو بالمعوقات التي تغلب عليها أثناء محاولة النجاح. Booker T. Washington آخر قالب بناء خاص بهوية الشخص لوضعه على قمة البناء الذي أنشأناه خلال الجزء الثاني هو مكان الشخص فيما يتعلق بالنفس، وبالأخص معنى الحياة الخاص به. إن البشر يمكن أن يكونوا مخلوقاتٍ صلبة قوية التحمل جدًّا وسريعي التعافي طالما أن لديهم معنى [للحياة] ويشعرون أنهم محفَّزون لتحقيقه، لكن إن يخسروا هذا المعنى فإنهم يميلون إلى الانهيار والدخول في أزمة وجودية كما وصفتُ في الفصل 9. إن معنى [حياة] الشخص يتألف من دوافعه لبذل جهدٍ في نشاط خلّاق. وإن دراسة إعادة بناء الهوية بعد إزالة الاعتقاد الدينيّ لا يمكن أن يكتمل بدون تناول هذا الجانب كليِّ الأهمية. ما الذي يقدِّرُه المرء؟ ما الذي يريده في الحياة؟ إن الشخص لا يمكنه التعليل على نحو منطقيٍّ محض لإجاباته على هذه الأسئلة، وبما أن الموضوع الحالي يعود إلى عالم الشخص الداخلي الخاص بالقيم فإن العواطف ستحكم وتسود على نحوٍ شرعيٍّ. إن يرفض المرء معرفة عواطفه وتفهمها بأمانة، فإنه لن يكون قادرًا على معرفة من هو حقًّا، فإن بحثه عن المعنى [لحياته] سيكون عودةً بخفيّ حُنين وجهدَ أحمقَ مهدرًا كنتيجة لذلك. توضيح المعنى قبل أن يمكن بدء نقاش إعادة بناء الهوية فيما يتعلق بالمعنى الخاص بحياة الشخص، فإن هناك متاع بالٍ أخير من الاعتقاد الديني يجب التخلص منه ونبذه، وهو ما سيحل الأزمة الوجودية التي نوقِشت في الفصلين 9 و10. إن الأديان تتبختر وتزدهي بإجابة مغالية في التبسيط لسؤال ومسعى الإنسان للمعنى في شكل إلهٍ وحبه ونعيمه الأبديّ. مع اكتشاف أن الآلهة هم في النهاية خيالات وأشباح سكنت خيال البشر بدون نظير [لهم] في الواقع الموضوعيّ، فإن المرء سيعتقد أن ذلك سيكون نهاية الأمر وأن دوافعه سيُعاد ترتيبها تلقائيًّا طبيعيًّا. إلى حدٍّ ما فإنها تفعل [يعاد ترتيبها]، لكن هناك أيضًا خطر كامن لانسحاب غير مكتمل من الافتراضين الماكرين للاعتقاد الديني بصدد البشر والوجود. أما بنبذهما الآن، فإن الطريق صار مفتوحًا مزالة منه العقبات أخيرًا لأجل معالجة أخيرة لما قد يكون أهم شيء يمكن أن يحصل عليه شخصٌ في الحياة: المعنى. المعنى بالنسبة للطبيعة: افتراضية الوعي يجادل كثير من المؤمنين الدينيين بالفعل بأن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية وسائل ممتازة لتقرير كيفية عمل الطبيعة لكنها غير متسقة في الإجابة على سبب وجود وعمل الطبيعة من الأساس وفي المقام الأول. من منظورٍ قائم على العقلانية فهذا تعليق غريب. ما تهدف تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية إلى عمله هو فهم ومحاكاة أنماط السببية في الطبيعة والقيام بتنبؤات خاصة بالمستقبل عما إذا ومتى ستتكرر الأحداث المماثلة. بعبارة أخرى، فإن منهج هذه المجالات يستند بالكامل على البحث عن كيفية عمل الطبيعة، وليس لماذا [تعمل]. في الحقيقة، كيف يمكن للمرء أن يشرَع في الإجابة مثل هذا السؤال؟ أيُّ أدواتٍ متاحة للقيام بتقييم موثوق معوَّل عليه لغرض الطبيعة؟ الإجابة ببساطة أنه ليس هنالك [غرض]، وبحيث أن [أتباع ونصوص ومحترفي] الإيمان يعتبرونه تقنية لاكتساب المعرفة إلى ذلك الحد، رغم أن موثوقية ما يقرره المرء بأدواته مشكوك بها بوضوح. بعبارة أخرى، فإن الإنسان يفتقد تقنية يُعتمَد عليها ليكتشف بها غرضًا [مزعومًا] في الطبيعة بافتراض أنه حتى يوجد [من الأساس]. |
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| للتحميل, الإله, الخرافي, بدون, تكون, حياتك, كيف, والدين, والقراءة |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| كيف تكون حياتك من غير الاله الخرافي ؟ | روماني | العقيدة الاسلامية ☪ | 71 | 04-06-2017 12:24 AM |
| كيف تكون ملحدا بمرتبة الشرف | ضد التدليس | العقيدة الاسلامية ☪ | 62 | 05-27-2016 01:54 AM |
| كيف تفشي وسائل التكنولوجيا أدق أسرار حياتك؟ | ابن دجلة الخير | الساحة التقنية ✉ | 1 | 04-15-2016 01:18 AM |
| كيف تفشي وسائل التكنولوجيا أدق أسرار حياتك؟ | ابن دجلة الخير | الساحة التقنية ✉ | 2 | 03-29-2016 12:03 AM |
| كيف سيكون حال العرب بدون الإسلام | Lucifer | حول الإيمان والفكر الحُر ☮ | 9 | 11-22-2014 09:00 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond