ثقافات الصحراء مقابل ثقافات الأحراش

[فينيق]

يوجد في كتاب Monkeyluv للكاتب Robert Sapolsky مقال حول تأثير النظام البيئيّ في الثقافة، كمثال كيفية ظهور قرى صيادي الأسماك أو قرى من يسكنون الجبال.

يرى الكاتب بأنّ واحدة من الفروقات الأكثر وضوحاً، تكون بين البلدات التي يعيش سكانها في الأحراش أو الغابات المطرية والبلدات التي يعيش سكانها في الصحراء.

كمثال على البلدات الحرشيّة، بلدة تعيش بها قبيلة أقزام تسمى Mbuti في الكونغو أو بلدات في منطقة الأمازون الغابيّة المطيرة:

فهي تتقاسم كثير من العناصر الثقافيّة، على الرغم من تباعدها جغرافياً، وهذا يكون ذاته، من جانب آخر، مع القبائل الرعوية في الصحراء الغربيّة أو التي تعيش في صحراء غوبي وسط آسيا أو البدو الرحَّل الذين يعيشون في الهلال الخصيب.

وهنا سأطرح سؤال على القاريء الكريم: أيُّالقبائل تكون متعددة الآلهة أو مُوحّدة الإله بينها؟

يكون التوحيد الإلهي مُنتَجْ صحراوي.

وبحسب Sapolsky يمتلك هذا معنى، حيث تُعلّم الصحارى أشياء كبيرة وفريدة، حيث تظهر قساوة العالم، عالم يُختصَرْ إلى ما هو أساسيّ.

وبشكل معاكس في الأحراش المداريّة، يوجد آلاف النباتات القابلة للأكل، مئات الأعشاب الطبيّة وأنوع أكثر من الحيوانات مقارنة بأيّ مكان آخر.

يوجد أنواع من النمل على شجرة في حرش مداري أكثر مما يوجد منها في كامل بريطانيا!!

{ يكون مثير أيضاً، بأنّ الأماكن التي تتميّز بالتنوّع البيولوجي الأكبر، سيكون فيها تنوُّع لغويّ أكبر كذلك }.

يكون ازدهار آلاف من الآلهة بهذه البيئة أمر طبيعي. لكن يوجد ما هو أكثر من هذا، على الرغم من وجود بعض الموحدين الإلوهيين في الأحراش المداريّة، فهم لا يميلون للتفكير بأنّ ذاك الإله يحشر أنفه بالشاردة والواردة، وأنه يكون المسؤول عن الأمراض وغيرها، ويمتلك هذا معنى أيضاً. ففيما لو يهرب خنزير من سهمك، فيمكنك اصطياد حيوان شبيه آخر، وفيما لو تقضي حشرة على نبتة معينة، فيمكنك تناول نباتات بديلة كثيرة.

لكن في الصحراء، يؤدي انتشار آفة ما أو مجرّد انتشار الجفاف إلى الموت، حيث تندر البدائل أو تنعدم بالأحرى. من هنا يظهر التدخُّل الإلهي والقدرية في الصحراء.

درس Melvin Ember فارق كبير آخر. تكون الصحراء بقطعان ماعزها وجِمالها الأرض الخصبة لظهور طبقات وقبائل المُحاربين، اضافة لكل المزابا المُصاحبة لمجتمعات عسكرية: سلطة مركزية، نصب تذكارية للمحاربين المتميزين، الموت في المعركة كسبيل لنيل الحياة الأبديّة هناك في الأعلى، الطبقيّة، الاستعباد. تكون نظرة كونية، يُسيطر الإله الواحد كليّ القدرة على جماعة من الآلهة الصغار التي تتمثّل في تراتبية سلطوية أرضيّة متماسكة.

دُرِسَتْ فروقات أخرى ربطاً بوضع الأنثى / المرأة. إذا كنتي أنثى، فمن الأفضل لكي أن تبتعدي عن مجتمع الصحراء. حيث يكون شراء الزوجات أقلّ حضوراً في ثقافات الأحراش، بينما يحضرن في مجتمعات محليّة أموميّة matrilocales، حيث ُيشكّلن فيها النساء القريبات من بعضهن نواة تلك المجتمعات، بدلاً من وجوب السفر إلى مكان الإقامة مع العائلات وأزواجهم. يزيد هذا من قوّة النساء، إضافة إلى الحماية التي يوفرنها بين بعضهن. تتولى عادة النساء، في الثقافات الصحراوية، بناء المأوى، الذهاب للبحث عن المياه والحطب، بينما يرعى الرجال القطعان ويُعدُّون العدّة للحرب القادمة.

فيما يقوم الرجل عادة، في الثقافة الحرشيّة، بالأعمال القاسية، ولم يمتلكوا عادة أفكار تتصل بنظرة دونيّة للمرأة. أخيراً، تُعلّم ثقافات الصحراء أبنائها تفادي التعرّي، وتضع قواعد صارمة بما يتعلق بجنس ما قبل الزواج.

يكون مفاجئاً حجم الأشياء التي يمكن لعلم البيئة التأثير بها. عندما نتساءل مًنْ نكون وكيف وصلنا لنكون ما نكونه: سيتوجّب علينا إدخال آلاف العوامل الدقيقة المؤثرة فينا { جينات، نواقل عصبيّة، تربية، تعليم، ... }.

ربما حانت اللحظة التي تستدعي تضمين مُتغيِّرْ بيولوجيّ آخر في القائمة: عندما طرح أسلافنا قضايا الحياة الكبرى، ما الذي تأملُّوا به في الجوار، منظر طبيعي مع أشجار أو أفق مفتوح لا حدّ له؟

Robert Sapolsky


تعليق فينيق

قد لا يكون تأثير البيئة الطبيعية بالكائنات الحيّة التي تعيش فيها مفاجئاً أو يكون بديهياً، لكن ليس إلى الدرجة التي تجعل الإنسان يفكّر بصورة خاصة سواء من الناحية الروحية والدينية كما في نواحي أخرى. يكون الموضوع قصير الحجم لكن ذو مضمون هام جداً وتعتبر هذه الدراسات حديثة وراهنية مستمرة ... أشكر أيّ تصويب أو إضافة

[مُنْشقّ]

موضوع مهمّ جدّا، نتمنّى أن تحدّثنا أكثر حول هذا الكتاب الأساسيّ.

مشكورا!

[فينيق]

تحياتي زميل منشق

سبق وأن ترجمت قراءة في كتاب له متوفر في ساحة الكتب .. أخصائي علم أحياء وأعصاب وله مواضيع فريدة فعلا .. يمكن الاطلاع هنا مثلاً:

http://www.goodreads.com/book/show/17681140

وهو ذات الكتاب الذي ترجمت قراءة عنه ولأول مرة أرى أن الكتاب مترجم إلى العربية .. ولكن هذا الكتاب الوارد في النص أعلاه لا اظن أنه مترجم .. وفي حال تمكني من تحصيل نسخة كاملة يهمني ترجمته نظرا لأهمية طروحاته العلمية.

وأشكر اهتمامك

[مُنْشقّ]

كيف يا ترى يمكننا إسقاط هذه النظريّة، التي لا أختلف حول صحّتها بتاتا، على طبيعة الأديان الإبراهيميّة و الإسلام خصوصا؟ كيف يمكننا إسقاط هذه النظريّة على طبيعة الإسلام، باعتباره فكرا صحراويّا، بخصوص المرأة؟ و رأيه بالأقلّيات؟ و رأيه بالشرك و المشركين؟ و رأيه كذلك الإله؟

مثال بسيط: من صفات هذا الإله الإسلاميّ صفة '' جبّار '' في إشارة إلى شدّة بأسه و قوّته و جبروته، كما كلّ الأشياء في الصحراء. لكنّ بعد أن تغيّرت الجغرافيا و المناخ، و علاقات الإنتاج، و بالتالي القيم الأخلاقيّة، ظهرت اتّجاه تجديدي '' وجدانيّ '' في الإسلام، يحاول أن يصوّر الإله الإسلاميّ ككائن رقيق الطبع، في انفصام كامل مع الصورة التي رسمها الأجداد، لتصبح صفة '' جبّار '' التي تستمدّ جذرها اللغويّ من الجبروت دالّة على '' جبّار الكسور '' من جبر الكسر يجبرُهُ، و هكذا تمّ تحويل مصلح ينزّ بالقوّة و الخشونة و الشدّة إلى مفهوم يوحي بالرقّة المطلقة في التعامل مع '' الكسْر ''، لكن فقط حينما تغيّرت الجغرافيا و علاقات الإنتاج و بالتالي القيم.

[فينيق]

جميل هذا الكلام .. وهنا نفهم نقطة بالغة الأهمية:

لا يجوز استخدام البُعد الصحراوي للتحقير! هناك تقليد في الحديث عن " ثقافة صحراوية متدنية " وكأن من سكن الصحراء هو المسؤول عمّا حدث معه فيها حتى من ابتكاره لفكره ذاته.. وكذا ما حدث مع منْ سكن مناطق فيها أنهار وجبال وأحراش كشرق المتوسط! أهمية الكتاب أنه يتحدث بعلمية وموضوعية عن بعد بيولوجي خطير وينعكس على نمط التفكير لدى الإنسان وهنا يمكننا مراجعة كل مظاهر الفكر الديني ومقارنتها وسنرى أنّ ما طرحه منطقي وواقعي!

بالمناسبة حاليا يوجد اتجاه علمي للحديث عن الدور السلبي الذي لعبته " الثورة الزراعية " على حياة البشر رغم كل مظاهر التأثير بحركة المجتمعات وظهور القرى ولاحقا المدن وصولا للثورة الصناعية التي لا أتوقع أنني بحاجة لايضاح الكثير من سلبياتها على حيواتنا رغم التقدم التقني الهائل والذي لولاه لما تمكنا من الحوار هنا!

موضوع شيّق .. الفهم الصحيح للأشياء: يخلق نوع من الراحة النفسية!

أشكر اهتمامك مجددا

[مُنْشقّ]

لا يجوز استخدام البُعد الصحراوي للتحقير!

تماما، أعتقد بأنّ تحقير الإنسان بناءًا على المنطقة التي ينحدر منها لا يختلف عن تحقير الإنسان بسبب عرقه أو دينه أو لغته. و على كلّ حال، يمكن النظر إلى الصحراء باعتبارها مكانًا دافئا و جميلا و ساحرا كما صوّرته '' ألف ليلة و ليلة '' و ليالي شهرزاد، كما يمكن النظر إليه باعتباره مرتعا للبدو الخشنين الوسخين كما صوّرته بعض أفلام هوليوود ذات الخلفيات السياسيّة، و هذا ينسحب على أيّ منطقة في العالم، سيبيريا على سبيل المثيل، يمكن النظر إليها باعتبارها مخزنا هائلا من السحر الأبيض و يمكن النظر إليها باعتبارها قفارا قاتلة عديمة الحياة ( لا ننسى أنّ سيبيريا أيضا صحراء ثلجيّة)، و هذا كما قلت ينسحب على أيّ منطقة جغرافيّة في العالم، بل و على أيّ عرق و ثقافة و مجتمع. و خلاصة هذه الازداوجيّة في رؤية الأمور هي مقولة خالدة لفريدريك نيتشه '' كلُّ شيءٍ خنزيريٌّ في عيْن الخنزير ''.

شكرا لك.