![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عضو برونزي
![]() |
من الاعتقاد إلى الإلحاد ![]() عبد الله القصيمي، ما أحوجنا إلى سيرة هذا الرّجل ومسيرته في هذا الزمن الصعب والمتقلّب. هذا الرّجل كتب في أحد مؤلّفاته منافحاً عن التشدّد في الاعتقاد يقول : “فتح بعض المتأخّرين الغافلين عن الشريعة الإسلامية باباً مشؤوماً دخل منه عليها أعداء الحقّ من المنافقين، والزنادقة الملحدين، والأغمار الجاهلين، فأوقعوا بالإسلام وأهله شرّ إيقاع، وأفسدوا عليهم دينهم الصحيح، وعقيدتهم الحقّ، وإيمانهم الخالص المتين، ولبّسوا عليهم الحقّ بالباطل، والهدى بالضلالة، والخير بالشرّ”.(1) هذا الرّجل عاد مرّة أخرى، ومن عليائه الديني، لينافح عن الحقّ في الإلحاد وعن حرية الاعتقاد بشجاعة أكبر، فكتب في مؤلف آخر يقول : “إنه لمجتمع مخيف في تخلفه، ذلك المجتمع الذي تصبح فيه خائفاً من أن يتّهمك غيرك بالإلحاد أو تصبح فيه مخيفاً لأنك قد تتهم غيرك بالإلحاد... ذلك المجتمع الذي يستطيع فيه أي منافق كذاب مخادع أو أيّ جاهل بليد، أو أيّ متعصّب حقود، أن يهزم كلّ الناس، وأن يذلّ عقولهم ويسكت ذكاءهم... أن يخيف كلّ ذوي المزايا دون أن تكون له مزيّة غير أن يطلق هذا السلاح، سلاح الاتهام بالإلحاد أو بالخروج عن المذهب أو على النظام الموروث أو المفروض...”(2) هذا الرجل لم يبدّل جلده مثل الثعابين كما زعم خصومه من رجال الدين وبقية الدجالين. هذا الرجل يقبل أن يجري عليه قانون التغيّر والتطوّر، بخلاف الظاهرة الصوتية للمثقف العربيّ الذي يحبّ أن يردّ على أيّ سؤال تحت يافطة تقول : أجيبكم بما قلته قبل أربعين عاماً! وكأنّ من شيم العقل الثبات على الرأي وعلى نفس الاعتقاد من المهد إلى اللحد، وكأنّ من صفات الواقع أن لا يقع فيه أيّ شيء جديد. بين ما كتبه الرّجل في الأوّل من دفاع عن التشدّد في الاعتقاد، وما كتبه في التالي من دفاع عن حرية الاعتقاد، مسافة طريق تبدو طويلة وغير آمنة، وقد حملت إحدى جنباتها إشارة مرور تقول : منعرج خطير! الرّجل قطع المنعرج بسلامة وبسلاسة أيضاً. كثير من العقول الشهيرة خرجت من المنعرج بخسائر متفاوتة الأضرار والخطورة، وربما تراجع البعض أو رجع بعد حين من الدهر أو في آخر العمر، وتلك حكايات كثيرين. لكنّ الرّجل مرّ في تحوّله بسلام. مسيرته حيّرت علماء المسلمين، فاختلفوا في أسباب “ردّته”. فمن قائل إنّها تلبيسات إبليس التي قد تصيب الناس أجمعين ومعهم رجال الدين، ومن زاعم أنّه كان يقرأ كتب الفلاسفة خلسة أو تحت جنح الظلام، ومنهم من اكتفى بالدعوة له بالهداية قبل أن تأخذه غرغرة الموت. ومع ذلك فقد أدركته الغرغرة عام 1996، وهو ماض في اختياره دون أن يرتاب. هل كان ذلك المارد السعوديّ أكثر شهامة من سارتر ويونيسكو وميتران وغيرهم؟ لست أدري. لكنّ الذي أربك كافّة الحسابات، أنّ الرجل حين عبر من ضفة الإيمان إلى ضفة الإلحاد لم يترك أيّ أثر لأية أزمة نفسية حادّة بادية أو خفية يتشفّى بها منتقدوه أو تهدّئ من حيرة من احتاروا في أمره. فقد مات الرجل في الأخير موقّعا على شهادة إلحاده وهو في كامل الهدوء والشهامة، ما زاد من حيرة الحائرين وارتياب المتسائلين، وشرع المنذرون يفتّشون حتى في جيوبه عن أية إشارة قد تفيد بأنه لم يثبت على إلحاده عندما أدركته المنية. ومع ذلك كان لا بدّ من أن يفرض في الأخير احترامه على الكثيرين، حتى داخل بلده: السعودية. وهو ما كان. هل كانت لتداعيات الحادي عشر من شتنبر أثر في إخراجه من براثن الإهمال والنسيان؟ لست أدري، لكنّ الحاصل أنه بعد أزيد من عشر سنوات عن وفاته، عادت يومية الرياض لتكتب عنه وتفسح المجال للكتابة عنه من طرف مثقفين سعوديين جدد، على رأسهم عبد الله القفاري، وقد كتب في السنوات القليلة الماضية سلسلة من المقالات عن القصيمي. قبل ذلك افتتحت الصحيفة إحدى أجمل آيات الاعتراف بنبل رجل آثر أن يقال عنه زنديق وسط المفكّرين الأحرار على أن يعيش منافقا وسط رجال الدين، حيث كتبت الصحيفة تحكي عنه : “في اليوم الثاني لوفاة المفكّر السعودي الشهير عبد الله القصيمي لم ينشر خبر موته إلا عدد قليل من الصحف. إلا أن...منذ وفاته وعبد الله القصيمي يتحول عاما بعد عام وعكس الكتاب الآخرين إلى كاتب عصري جدّا من صنف الكتاب الغربيين الكبار.”(3) قبل إلحاده أواسط القرن العشرين، كان القصيمي قد أثقل الخزانة الدينية بالعديد من التآليف والكتب في الدفاع عن العقيدة الصحيحة والسلف الصالح والردّ على أهل البدع والباطل، مؤلّفات كثيرة من بينها : الثورة الوهابية، البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية... قبل أن يصدر الجزأين الأوّل والثاني من كتابه الضخم : الصراع بين الإسلام والوثنية. وقد كان من المنتظر أن يصدر الجزء الثالث بعد أن ختم الجزء الثاني بعبارة : تمّ الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث إن شاء الله. لم يشأ الله أن يأتي الجزء الثالث من قصة الحرب الأبدية بين الإسلام والوثنية، وبدل ذلك توقّفت مسيرة الاعتقاد لتبدأ مسيرة الإلحاد فكراً وسلوكاً وكتابة. وذلك ما حيّر الناس في سيرة القصيمي. كيف تحوّل القصيمي من رجل دين إلى داعية للإلحاد؟ سؤال تداوله الكثيرون من غير أن يعثروا له على جواب يقنع الألباب. لم يجدوا في دماثة خلقه ما قد يبرّرون به تحوّله من طاعة “الحقّ” إلى العصيان. لم يجدوا في علاقاته أيّ شبهة للتأثير عليه من طرف قوى خارجية. ومع ذلك فلا أحد فتّش عن الجواب داخل التجربة الدينية نفسها، كما لو أنّ الجميع يظنّون أنّ الإلحاد حالة طارئة على التجربة الدينية قد تحدث لأسباب خارج الدين. وهذا خطأ في فهم روح الإسلام وجوهره. لن نتمكّن من فهم التحوّل الانسيابي والهادئ لعبد الله القصيمي نحو الإلحاد، إذا ما استبعدنا فرضيتنا الأساسية والتي مفادها أنّ الإسلام نفسه من أكثر الأديان انفتاحاً على أفق الإلحاد. إنه دين مفتوح على إمكانية الخروج عن الدين. جوهر الكتابات الدينية الدعوية للقصيمي، ومن بينها الكتاب الذي لم يصدر جزؤه الثالث، تدور حول ثورة الإسلام الدائمة على كلّ البدع وكافّة أشكال التشبيه والتجسيم والتصوير والتجميل والتحبيب والتقريب... هذا النمط من الاعتقاد الإنكاريّ والذي ينطلق من أولى أحرف النطق بالشهادة في الإسلام “لا”، يجعل الإسلام، ليس فقط “الديانة الأكثر تجريداً” كما يقول جاك أطالي4، وإنما هو أيضا الديانة الأقرب إلى الإلحاد. يحمل الإسلام بين ثناياه لغماً أصيلا يجعله أقرب الأديان إلى الخروج عن الدين. وإذ تحمل معظم الديانات وعداً بالخلاص البشريّ على يد مخلّص يأتي في آخر الأزمنة : اليهودية والمسيحية والبوذية والزرادشتية... فداخل الإسلام، وباستثناء الشيعة، لا وجود لمبدأ الخلاص أو المخلّص. بل وبديلا عن الخلاص ثمّة مبدأ يبدو مناقضاً : هذا المبدأ هو مبدأ الفناء (كلّ من عليها فانٍ). إنه المبدأ الذي حاول جهم بن صفوان قديماً أن يذهب به إلى آخر مداه الممكن حين أكّد بأنّ الجنّة والنار بدورهما ستنتهيان إلى الفناء بمن فيهما، احتراما لمبدأ حتمية الفناء المطلق. ربما كان بعض المتصوّفة يتقاسمون نفس المنزع. وعموما يمكننا أن نعتبر التصوّف، في كثير من أحواله، نوعا من الدّربة والتمرّن على الفناء. مركزية الفناء في الفكر الإسلامي مقابل مركزية الخلاص في معظم الأديان الأخرى : تلك نقطة ضعف الإسلام، لكنّها أيضاً نقطة قوّته حين يصبح الإسلام ديانة مفتوحة على إمكانية التحرّر من وهم الخلود ومن هوس الوجود الأبديّ. ذلك الوهم هو أيضاً منبع الأوهام جميعها. الهوامش: 1 - عبد الله القصيمي، شيوخ الإسلام والزيادة في الإسلام، الانتشار العربي 2007، الطبعة الثانية، ص : 11. 2 - عبد الله القصيمي، فرعون يكتب سفر الخروج، الانتشار العربي، الطبعة الثانية 2001، من توطئة الكتاب. 3 - يومية الرياض، العدد الصادر يوم 25 يناير 2007. 4 - Jacques Attali, le sens des choses, Robert Laffont, Paris 2009, p : 36. المصدر: http://www.alawan.org/article7088.html تــحــيّـــا تــي |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [2] |
|
عضو برونزي
![]() |
عظيم هذا الرجل فضل الفكر والعقل على المال والشهره
|
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [3] |
|
الباحِثّين
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
آخر فقرتين من المقال تحتوي على مفارقة و جدلية الفناء و الخلود و هي من اخطر الجدليات التي قد تواجه الفكر الديني و المادي على حد سواء.
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| إلى, الإلحاد, الاعتقاد |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| ما اثار تحولك من الإيمان إلى الإلحاد؟ | انسان مجرد | حول الإيمان والفكر الحُر ☮ | 13 | 09-28-2018 12:04 PM |
| مستقبل الإلحاد: تحوله إلى دين،، | أفلاطون | ساحة النقد الساخر ☺ | 1 | 06-10-2018 03:41 AM |
| انا مسلم وانضممت إلى الإلحاد | McHasan | ساحة الاعضاء الجدد Ω | 21 | 05-14-2018 11:28 AM |
| من الإسلام إلى اللا أدرية إلى الإلحاد .. ملحد جديد | اللا أدري | ساحة التجارب الشخصـيـة ♟ | 8 | 11-02-2016 03:00 PM |
| طريقي من الإسلام إلى الإلحاد | Lucifer | ساحة الاعضاء الجدد Ω | 16 | 08-23-2014 09:56 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond