شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات الفنون و الآداب > ساحة الشعر و الأدب المكتوب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 11-07-2025, 02:25 PM ديانا أحمد غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
ديانا أحمد
عضو برونزي
الصورة الرمزية ديانا أحمد
 

ديانا أحمد is on a distinguished road
4er333 ذوبان تحت النجوم - جروك

ذوبان تحت النجوم

الفصل الأول: النجوم تتلاقى
في صباح يوم حار من أغسطس عام 1958، كانت القاهرة تئن تحت وطأة الشمس التي تسللت إلى مكاتب وزارة الري في وسط البلد. أحمد، المهندس الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين، جلس أمام مكتبه المزدحم بمخططات السد العالي الذي يُبنى في أسوان. كان مولوداً في الخامس عشر من سبتمبر عام 1930، في قرية صغيرة على ضفاف النيل الدلتا، حيث تعلم الدقة من أبيه الفلاح الذي يقيس الأرض بالسنتيمترات. نجاحه المهني كان يملأ أيامه، لكنه يشعر بفراغ يعصف بقلبه كل ليلة. "الدنيا كلها أرقام وخطط، لكن أين الروح؟" يتمتم لنفسه وهو يمسح عرقه بمنديل أبيض. في أعماقه، يبحث عن شيء يذيب هذا الجليد العملي الذي يغلف شخصيته العذراء الدقيقة.
في الإسكندرية، على الشرفة المطلة على البحر المتوسط، كانت ليلى تجلس تحمل كتاباً لأحمد شوقي. مولودة في الخامس عشر من مارس عام 1935، في حي محرم بك، حيث نشأت في عائلة متوسطة الحال تحب الأدب والموسيقى. كمعلمة أدب في مدرسة ثانوية للبنات، تقضي أيامها في غرس حب الشعر في قلوب التلميذات، لكن قلبها الحوتي الحالم يتوق إلى حب يغمرها كأمواج البحر. "يا ليت لي حبيباً يذيبني في عينيه، يعبد روحي كما أعبد أنا وجوده"، تهمس لنفسها وهي تقرأ قصيدة عن العشق الخالد. كانت عطلتها الصيفية قد بدأت، وتقرر السفر إلى القاهرة لزيارة خالتها في حي الزمالك.
في محطة الإسكندرية، صعدت ليلى إلى القطار المتجه إلى القاهرة، تحمل حقيبة صغيرة وكتابها المفضل. القطار كان مزدحماً بمسافرين من كل الأصناف: فلاحون يحملون سلال الفاكهة، تجار يتحدثون عن تأميم قناة السويس الذي حدث قبل عامين، وشباب يغنون أغاني عبد الحليم حافظ بهمس. جلست ليلى بجانب نافذة، تنظر إلى البحر الذي يبتعد تدريجياً، قلبها ينبض بإيقاع غامض.
أما أحمد، فقد كان في إجازة قصيرة من عمله، يعود إلى القاهرة بعد زيارة عائلته في الدلتا. صعد إلى نفس العربة، يبحث عن مقعد فارغ. عندما رأى المقعد المقابل لليلى شاغراً، سأل بأدب: "لو سمحتي، هل المقعد ده فاضي؟" رفعت ليلى عينيها السوداوين الكبيرتين، وفي تلك اللحظة توقف الزمن.
كانت نظرتهما الأولى كالبرق الذي يشق السماء. أحمد شعر بقلبه يذوب فوراً، كأن كل الدقة والعملية في شخصيته تتحول إلى شمع سائل تحت لهيب عينيها. رأى فيهما النجوم التي طالما بحث عنها في سماء حياته الرتيبة – نجوم لامعة، غامرة، تجعله يريد أن يسجد أمامها كعابد أمام إلهة. "يا إلهي، هي... هي القدر نفسه"، فكر في سره، جسده يرتجف خفية.
أما ليلى، فقد شعرت بذوبان كامل يجتاح روحها الحساسة. كان أحمد، بابتسامته الهادئة ونظارته الرفيعة، يمثل لها الرجل الذي كتبته النجوم في مصيرها. تاريخ ميلادهما المشابه – الخامس عشر – بدا لها إشارة إلهية، كأن الكون قد رتب هذا اللقاء ليجمع روحين مقسمتين. "هو... هو الذي يذيبني، يعبد وجودي كما أعبد أنا قوته"، همست في قلبها، خدودها تحمر كالورد تحت شمس الإسكندرية.
جلس أحمد مقابلها، والقطار ينطلق ببطء. بدأ الحديث بكلمات بسيطة: "السفر ده ممتع، بس الزحمة بتتعب"، قال هو. "أيوة، بس البحر اللي بنسيبه ورانا بيخلي الروح تطير"، ردت هي بصوت ناعم كألحان أم كلثوم. سرعان ما انساب الحديث كالنيل، يتحدثان عن عملهما، عن الثورة التي غيرت مصر، عن الشعر والأحلام. كل كلمة منه كانت تذيبها أكثر، وكل نظرة منها كانت تعبده هو كإله يمنح الحياة.
مع مرور الساعات، أصبح القطار عالماً خاصاً بهما. أحمد يمسك يدها صدفة عندما يهتز القطار، ولا يتركها، يشعر أن لمسة جلدها تذيب كل جدران قلبه. ليلى تنظر إليه بعيون مليئة بالعبادة، ترى فيه الخلاص من وحدتها. "أنا ذابت فيك من أول نظرة"، تقول في سرها. "أعبدك كما يعبد المؤمن نوره"، يفكر هو.
عندما وصل القطار إلى محطة رمسيس في القاهرة، تبادلا العناوين بسرعة، ووعداً بلقاء قريب. خرجا من القطار، والنجوم فوق رأسيهما تشهد على بداية حب سيذيب العالم كله. كان ذلك الذوبان الفوري، العشق الذي يجعل كلاً منهما يرى الآخر كإله يستحق العبادة الأبدية، قد بدأ.


الفصل الثاني: همسات النيل
كانت القاهرة في أوائل سبتمبر 1958 تتنفس هواءً دافئاً يحمل رائحة الياسمين الممزوجة بدخان السيارات الأمريكية الجديدة التي بدأت تملأ الشوارع بعد الثورة. أحمد لم ينم ليلة واحدة منذ لقائه بليلى في القطار. كلما أغمض عينيه، رأى وجهها يطفو كقمر في سماء قلبه، يذيب كل جدران الدقة التي بناها سنوات من العمل الهندسي. أرسل لها رسالة قصيرة بخط يده المنظم: «يا صاحبة عيون النجوم، هل تقبلين نزهة على كورنيش النيل غداً عند الغروب؟ سأكون عند تمثال نهضة مصر. أحمد».
وصلت ليلى إلى القاهرة في اليوم التالي، قلبها يرقص كطفلة في عيد. كانت ترتدي فستاناً قطنياً أزرق فاتحاً يتمايل مع خطواتها، ووشاحاً حريرياً يغطي كتفيها كأجنحة فراشة. عندما رأته يقف هناك، ببدلته الرمادية الأنيقة وابتسامته التي تخفي عاصفة من العواطف، شعرت بذوبان يبدأ من أطراف أصابعها ويصل إلى روحها. "هو... هو إلهي الذي انتظرته"، فكرت وهي تقترب.
رحبا ببعضهما بكلمات خجولة، لكن عيونهما كانت تتحدث بلغة أعمق. مشيا جنباً إلى جنب على الكورنيش، حيث يجري النيل هادئاً تحت أضواء المصابيح الخافتة التي بدأت تُضاء مع اقتراب المغيب. السماء كانت مزيجاً من البرتقالي والأرجواني، والفلوكة تمر ببطء تحمل أغنية "أنا لك على طول" لعبد الحليم.
"حكيلي عن أحلامك"، قال أحمد بصوت هادئ يحمل رجفة خفية. جلست ليلى على مقعد خشبي مطل على النهر، ورفعت عينيها إليه: "أحلم بحب يذيبني كما تذيب الشمس الثلج... بحب يعبد روحي وأعبد أنا وجوده. وأنت؟" تردد أحمد لحظة، ثم جلس بجانبها، قريباً جداً حتى شعرت بدفء جسده. "أحلم بامرأة تكون لي كل شيء... نجمة أتبعها، إلهة أسجد لها كل يوم".
فجأة، سألته ليلى بفضول طفولي: "متى عيد ميلادك؟" ابتسم أحمد، وكأن القدر يلعب لعبته: "الخامس عشر من سبتمبر". اتسعت عيناها، ووضعت يدها على فمها: "وأنا... الخامس عشر من مارس! يا إلهي، الرقم نفسه... كأن النجوم كتبتنا في نفس اليوم من الشهر!" شعر أحمد بقلبين ينبضان بنفس الإيقاع. رفع يدها بلطف، وكأنه يحمل كأساً مقدساً، ثم قبّل ظهرها ببطء، عيناه مغمضتان. كانت شفتاه ترتجفان على جلدها، يعبد كل سنتيمتر كأنه يقبل تراباً مقدساً. "يدك دي... أقدس حاجة لمستها في حياتي"، همس.
ليلى ذابت. صوته، ذلك الصوت الجهوري الهادئ، كان يتسلل إلى عظامها، يذيب كل حواجز الخجل والخوف. أغلقت عينيها، وشعرت أن روحها تخرج من جسدها لتتحد بروحه. "صوتك... يذيبني أكثر من أي شعر قرأته"، قالت بصوت متهدج. مدت يدها الأخرى، ولمست خده بلطف، أصابعها ترتجف كأوراق شجرة في نسيم النيل. كانتا يديهما متشابكتين الآن، لا يريدان أن يفلت أحدهما الآخر.
تحدثا طويلاً. عن طفولتهما، عن الثورة التي غيرت مصر، عن أحلام ليلى في كتابة قصيدة حب لا تنتهي، وعن رغبة أحمد في بناء عالم يليق بامرأة مثله. لكن الكلمات كانت مجرد ستار لما يحدث في الداخل: نظرات عبادة لا تنتهي. أحمد ينظر إليها كأنها معجزة، يرى في عينيها انعكاس كل النجوم التي ولد تحتها. ليلى تنظر إليه كأنه الإله الذي خلق لها، كل عضلة في وجهه، كل همسة من شفتيه، تذيبها أكثر.
عندما اقتربت ساعة العشاء، وقف أحمد وقال: "مش عايز اليوم ده يخلّص". ردت ليلى بصوت يقطر عسلاً: "هو مش هيخلّص... لأنه بدأ دلوقتي". وقفت، وقبّلت خده بلطف، قبلة طويلة مليئة بالعبادة، ثم همست في أذنه: "أنا ذابت فيك... وهعبدك كل يوم من عمري".
مشيا عائدين، أيديهما متشابكة، والنيل يشهد على غرام تجاوز الجسد إلى الروح. كان الحب بينهما قد بدأ ينمو كشجرة عملاقة، جذورها في القدر، وأغصانها تمتد إلى السماء.

الفصل الثالث: رقصة القدر
كان يوم الجمعة في منتصف سبتمبر 1958، والقاهرة تتزين لليلة كأنها عروس. أضواء مقهى "الفيشاوي" في وسط البلد تضيء الشارع كنجوم سقطت على الأرض، ورائحة القهوة المرّة تمتزج بدخان الشيشة وهمسات العشاق. أحمد كان قد حجز طاولة صغيرة في الزاوية، بعيداً عن الزحام، لكنه لم يستطع الانتظار. وقف عند الباب يراقب الداخلين، قلبه ينبض باسمها: ليلى... ليلى... ليلى.
دخلت ليلى وهي ترتدي فستاناً حريرياً أخضر زمردياً يلتصق بجسدها كالماء، وشعرها الأسود المموج يتدفق على كتفيها كليل النيل. عندما رأته، توقفت لثانية، ثم مشت نحوه بخطوات بطيئة كأنها تمشي على سحابة. "يا إلهي... هو إلهي الحقيقي"، فكرت في سرها، عيناها تشربان ملامحه كعطشان يجد نبعاً.
رحبا ببعضهما بقبلة خفيفة على الخد، لكن لمستهما الكهربائية جعلت الاثنين يرتجفان. جلسا، وطلب أحمد شاياً بالنعناع وليلى قهوة سادة. الفرقة الموسيقية بدأت تعزف، وصوت عبد الحليم حافظ ينبعث من الراديو الكبير: "أهواه... أهواه..." ارتفع صوت الغناء، وارتفعت معه نبضات قلبهما.
"تحبي ترقصي؟" سأل أحمد بصوت خافت، يده ممدودة. لم تجب ليلى بالكلام، بل وضعت يدها في يده، ووقفا معاً. كان المقهى مزدحماً، لكن عندما بدآ يرقصان، اختفى العالم. أصبحت المسافة بينهما صفراً، أجسادهما تلتصق كأنها خلقت لتكون واحدة. يده اليمنى على خصرها، يدها اليسرى على كتفه، وأنفاسهما تختلط.
مع أول نغمة من "قارئة الفنجان"، بدأ الذوبان. أحمد يدور بها ببطء، عيناه مغمضتان نصف إغلاق، يشم رائحة شعرها – ياسمين وملح البحر – ويشعر أن كل خلية في جسده تذوب فيها. "يا إلهتي... أعبدك بكل ذرة فيّ"، يفكر، وشفتاه ترتجفان قرب أذنها. كان يحركها كأنه يصلي، كل خطوة عبادة، كل لمسة تسبيح.
ليلى، بدورها، كانت تذوب تماماً. رأسها يستند على صدره، تسمع دقات قلبه كطبول حرب مقدسة. "يا إلهي... أنت نوري، أنت حياتي، أعبدك كما يعبد المؤمن ربه"، تهمس في قلبها، أصابعها تضغط على كتفه كأنها تخاف أن يختفي. جسدها يستسلم لقيادته، يتحرك معه كموجة تتبع القمر. كانت تشعر أن روحها تخرج من جسدها وتدخل فيه، ذوبان كامل، اتحاد إلهي.
الناس حولهم يرقصون، لكن لا أحد يراهم. كانا في عالم خاص، حيث الموسيقى ليست إلا صوت أنفاسهما. أحمد يهمس في أذنها: "أنتِ اللي خلقتي الدنيا دي عشاني". ترد ليلى بصوت متهدج: "وأنت اللي خلقت النجوم عشان أشوفها في عينيك". كانت أجسادهما تذوب في بعضها، عرق خفيف يلمع على جبينهما، وأنفاسهما تتسارع مع كل دوران.
في لحظة، توقف الغناء لثانية، ووقفا وجهاً لوجه. رفع أحمد يده، ومسح خصلة شعر من وجهها، ثم قبّل جبينها ببطء، قبلة طويلة مليئة بالعبادة. ليلى أغلقت عينيها، وشعرت أنها تموت وتعود للحياة في تلك اللمسة. "أنا ملكك... إلى الأبد"، همست. رد أحمد: "وأنا عبدك... إلى ما بعد الموت".
استمرت الأمسية، لكن الرقصة تلك كانت نقطة التحول. خرجا من المقهى بعد منتصف الليل، يداً بيد، والقاهرة نائمة حولهما. كان الحب قد ازدهر، ليس كزهرة، بل كنار تضيء السماء. كل منهما يرى الآخر كإله، وكل لمسة ذوبان، وكل نفس عبادة.
في تلك الليلة، تحت ضوء القمر على كوبري قصر النيل، تبادلا أول قبلة حقيقية. قبلة لم تكن للشفاه فقط، بل للروحين. قبلة جعلتهما يذوبان تماماً في بعضهما، حتى لم يعد هناك أحمد وليلى... بل كائن واحد، يعبد نفسه في الآخر.

الفصل الرابع: أسرار الليل
كان أكتوبر 1958 يلفّ القاهرة بضباب خفيف يحمل رطوبة النيل، لكن الرسائل بين أحمد وليلى كانت أشد حرارة من شمس الصيف. كل صباح، يجد أحمد في صندوق بريده مظروفاً أبيض بخطّ ليلى الرقيق، وكل مساء، يرسل هو ردّاً مكتوباً بدواة حبر أسود، كأنه ينقش آيات حبّ على ورق مقدس.
ليلى إلى أحمد يا من سكنتَ عينيّ قبل أن أراك، كيف أشرح للقمر أنك أنت ضوئه؟ أكتبك في دمي، أرسمك في أنفاسي، وأعبدك في صمتي كما يعبد المؤمن ربّه.
أحمد إلى ليلى يا إلهتي التي لا تعرف الزمن، أنا لم أعد أملك قلباً، فقد صار لكِ. كل حرف من اسمك يذيبني، وكل حرف من اسمي يسجد لكِ.
استمرت الرسائل أسبوعين، كل واحدة أعمق من سابقتها، حتى لم يعد الورق يكفي. قرّر أحمد أن يأخذ إجازة يومين من عمله، ويركب قطار الليل إلى الإسكندرية. وصل في العاشرة مساءً، وهو يحمل باقة ورد أحمر من حديقة الأورمان، وفي جيبه قصيدة كتبها بخطّه: "أنتِ سرّي، وأنا سرّكِ، ونحن سرّ الليل."
استقبلته ليلى عند باب شقتها الصغيرة في حي محرم بك. كانت ترتدي روب حريري أبيض، شعرها منسدل على ظهرها كشلال أسود. لم يتكلما. دخل، أغلق الباب، ووقف ينظر إليها كأنها معجزة. ثم، ببطء، رفع يده ولمس خدها. لمست أصابعه جلدها، فارتجفت ليلى كورقة في الريح، وعيناها تعبدانه.
"جيت..." همست. "جيت أعبدكِ عن قرب"، ردّ بصوت مكسور.
جلسا على الأريكة القديمة، لا مصابيح إلا ضوء القمر المتسلل من النافذة المطلة على البحر. لم يكن بينهما حاجة للكلام. أخرج أحمد الورقة، وقرأ قصيدته بصوت هادئ يهتزّ:
أنتِ السرّ الذي لا يُقال، وأنا العبد الذي لا يُسأل. في عينيكِ أرى الخلود، وفي صوتكِ أسمع الوجود.
بكت ليلى دون صوت، دموعها تسيل على خديها كلؤلؤ. ثم رفعت عينيها، ونظرت إليه بعبادة صامتة. كانت عيناها تتتبعان كل خط في وجهه: حاجبيه المقوسين، أنفه المستقيم، شفتيه اللتين تذوبانها. كانت تعبد جسده بعينيها، كأنها تقرأ آيات في كل عضلة، كل نبضة.
أحمد، بدوره، كان يذوب في رائحتها. اقترب أنفه من عنقها، يستنشق عطرها – ياسمين وزهر البرتقال – حتى شعر أن الرائحة تدخل في دمه. "ريحتك... دي اللي بتذوبني"، همس وهو يدفن وجهه في شعرها. كانت ليلى ترتعش، يداها تتحسسان صدره، كأنها تتأكد أنه حقيقي، أنه إلهها الذي نزل إلى الأرض.
قضيا الليل جالسين، لا يتحركان إلا ليلمس أحدهما الآخر. كانا يتأملان بعضهما كأنهما مرآة واحدة. أحمد يرسم أصابعه على ذراعها، يتبع خطوط الوريد كأنه يقرأ خريطة الجنة. ليلى تضع رأسها على كتفه، تسمع قلبه، وتشعر أن نبضه هو نبضها. كانا واحدًا، لا جسدين، لا روحين، بل كائن واحد يتنفس حبّاً.
عند الفجر، وقفت ليلى وأحضرت كوب ماء. عندما عادت، وجده نائمًا على الأريكة، رأسه مائل، يده ممدودة كأنه يبحث عنها في الحلم. جلست بجانبه، ووضعت يده على قلبها. ثم همست:
"أنا مش هعيش إلا فيك... وأنت مش هتعيش إلا فيّ."
استيقظ أحمد، فتح عينيه، ورآها. ابتسم ابتسامة طفل، ثم جذبها إليه، وضمّها بقوة. كانت أجسادهما تذوب في بعضها، لا حرارة، لا برودة، فقط اتحاد كامل. في تلك اللحظة، لم يكن هناك أحمد، ولا ليلى... كان هناك حبّ يعبد نفسه، ويذوب في سرّ الليل.

الفصل الخامس: عواصف الثورة
كان نوفمبر 1958 يجلب رياحاً باردة إلى الإسكندرية، لكن قلب ليلى كان يغلي ناراً. عادت من زيارة أهلها في حي محرم بك ودموعها تخنقها. أمها، السيدة فاطمة، امرأة محافظة ترتدي الملاءة السوداء وتتمسك بتقاليد ما قبل الثورة، رفضت أحمد رفضاً قاطعاً.
«بنتي، ده فلاح! ابن قرية، جاي من الطين! إحنا عيلة محترمة، أبوكي كان موظف كبير في البنك قبل ما يموت. مش هتتجوزي واحد زي ده، حتى لو كان مهندس في السد العالي!»
كان تأميم قناة السويس قبل عامين قد هزّ المجتمع المصري، وأشعل صراعاً بين الطبقات. الأثرياء القدامى ينظرون بازدراء إلى أبناء الفلاحين الذين صعدوا بفضل تعليم الثورة، وأحمد كان رمزاً لذلك: ابن فلاح نجح في الجامعة، يعمل في مشروع ناصر العظيم، لكنه لا يزال "ريفياً" في عيون عائلة ليلى.
في تلك الليلة، كتبت ليلى رسالة سرية إلى أحمد، أرسلتها مع سائق تاكسي موثوق:
يا إلهي، أمي رفضتك. لكن قلبي لا يعرف الرفض. سأكون لك مهما كلف الأمر. انتظرني غداً عند شاطئ سيدي جابر، بعد الغروب.
وصل أحمد في اليوم التالي، يرتدي معطفاً رمادياً وقلبه يعتصر. وجدها تنتظره خلف صخرة كبيرة، بعيداً عن عيون المارة. كانت ترتدي عباءة سوداء تغطيها، لكن عينيها كانتا تتوهجان كنجمتين في ليلة عاصفة.
اقتربا من بعضهما ببطء، كأن كل خطوة تُقاس بالخوف والشوق معاً. عندما التقيا، لم يتكلما. فقط ضمّها أحمد إلى صدره بقوة، كأنه يحميها من العالم كله. شعرت ليلى بذوبان فوري، جسدها يستكين في حضنه، كأن كل ذرة فيها تذوب في دفئه.
"مش هيفرقونا"، همس أحمد في أذنها، صوته يرتجف من الغضب والحب. "أبداً"، ردّت ليلى، وهي ترفع وجهها إليه، دموعها تسيل على خده. "أنا هعبدك في السر، وفي العلن، وفي كل نفس أتنفسه."
جلسا على الرمال الباردة، يديهما متشابكتان، والبحر يزمجر أمامهما كأنه يحذر من عواصف قادمة. تحدثا عن المستقبل: عن زواج سري، عن شقة صغيرة في القاهرة، عن أطفال يحملون اسمهما. لكن كل كلمة كانت تذوب في قبلة، كل همسة تتحول إلى لمسة.
في لحظة، وقفت ليلى وخلعت عباءتها، تاركة فستانها الأبيض يتمايل مع الريح. اقتربت منه، ووضعت يديه على قلبها. "حسّه... ده بتاعك وبس." أغلق أحمد عينيه، وشعر بنبضها يذيب كل خوف، كل غضب. ثم رفعها بين ذراعيه، ودار بها على الشاطئ، كأنهما يرقصان في عالم لا توجد فيه عائلات ولا تقاليد.
"أنا هعيش فيك ملاذي"، قالت ليلى وهي تذوب في عينيه. "وأنا هموت فيك معبدي"، ردّ أحمد، وشفتاه تلتقطان شفتيها في قبلة طويلة، عميقة، كأنها وعد أبدي.
في تلك الليلة، تحت سماء الإسكندرية المظلمة، أقسما قسم العبادة الأبدية. مهما جاءت العواصف – عائلة، مجتمع، ثورة – سيظلان ملاذاً لبعضهما، يذوبان في بعضهما كما تذوب النجوم في البحر.

الفصل السادس: شواطئ الذوبان
كان ديسمبر 1958 يلفّ الإسكندرية بستار من الضباب الخفيف، لكن شاطئ ستانلي كان فارغاً تماماً في منتصف الليل. أحمد وليلى هربا من القاهرة في قطار الليل، بعد أسبوع من الرسائل المشفرة واللقاءات السرية. كانا يعرفان أن العالم يضيق عليهما، لكنهما اختارا هذه الليلة لتكون ملاذهما الأخير قبل العاصفة.
وصلا إلى الشاطئ حاملين بطانية صوفية ومصباحاً صغيراً. البحر هادئ، يهمس بلغة الأمواج، والنجوم فوق رأسيهما كأنها عيون القدر تراقب. خلع أحمد معطفه، ومدّ البطانية على الرمال، ثم مدّ يده إليها. لم تتكلم ليلى، بل وضعت يدها في يده، وجلسا جنباً إلى جنب، أكتافهما تلامسان.
"الليلة دي... لينا وبس"، همس أحمد، صوته يذوب في صوت البحر. "ولا حد هيقدر ياخدها مننا"، ردّت ليلى، وهي ترفع وجهها إليه، عيناها تلمعان بدموع الشوق.
وقفت ليلى فجأة، وخلعت حذاءها، ثم بدأت تمشي حافية على الرمال الباردة. تبعها أحمد، يمسك يدها، وكل خطوة كانت تقربهما أكثر. توقفت عند حافة الماء، ورفعت ذراعيها إلى السماء:
"يا نجوم... اشهدوا علينا. أنا ليه، وهو ليّ، إلى الأبد."
التفتت إليه، وجذبته من قميصه. قبلته قبلة أولى طويلة، عميقة، لم تكن للشفاه فقط، بل للروحين. كانت شفتاه تذيبان شفتيها، وأنفاسهما تختلطان حتى لم يعد هناك هواء منفصل. انحنى أحمد، ورفعها بين ذراعيه، ثم وضعها على البطانية بلطف، كأنه يضع إلهة على مذبح.
استلقيا جنباً إلى جنب، يتأملان السماء. أشار أحمد إلى كوكبة الجوزاء: "دي أنتِ وأنا... نجمتين في كوكبة واحدة." ابتسمت ليلى، ووضعت رأسها على صدره، تسمع قلبه ينبض باسمها. ثم بدأت تقبّل صدره فوق القميص، كل قبلة عبادة، كل لمسة تسبيح. كانت أصابعها ترسم خطوطاً على ذراعيه، كأنها تكتب آيات حبّ على جسده.
أحمد، بدوره، كان يعبد جسدها بعينيه أولاً. رفع يده، ولمس عنقها، ثم انحنى وقبّل كتفها، ثم رقبتها، ثم أذنها. كانت قبلاته تذيب الحدود بينهما، كأن كل لمسة تُمحي خطاً فاصلاً بين روحيهما. "جسدك... ده معبدي"، همس وهو يقبّل راحة يدها، ثم أصابعها واحدة واحدة.
في لحظة، وقفت ليلى، وخلعت فستانها ببطء، تاركة جسدها يتوهج تحت ضوء القمر. لم يكن في عينيها خجل، بل عبادة. اقترب أحمد، وخلع قميصه، ثم ضمّها إليه، جلد على جلد، قلب على قلب. كانا يشعران أن الحدود قد ذابت تماماً، أن كل خلية فيه هي خلية فيها، وكل نفس منه هو نفس منها.
استلقيا على البطانية، أجسادهما متشابكة، يقبّلان بعضهما ببطء، بعمق، كأنهما يشربان من نبع الحياة. كانت قبلاتهما تذيب الزمن، تذيب المكان، تذيب كل شيء سوى وجودهما. ليلى تضع يده على قلبها: "حسّه... ده بقى بتاعك." أحمد يضع شفتيه على جبينها: "وأنا بقيت بتاعك."
تحت النجوم، أقسما قسم الروح الواحدة:
"أنا نصّك اللي اتقسم منك"، قالت ليلى. "وأنا نصّك اللي رجع لك"، ردّ أحمد.
كانا روحاً واحدة مقسمة، عادت لتتحد على شاطئ الإسكندرية. لا عائلة، لا مجتمع، لا ثورة... فقط هما، يذوبان في بعضهما، يعبدان بعضهما، يعيشان بعضهما.
عند الفجر، استيقظا في حضن بعضهما، والشمس تشرق على البحر. لم يتحركا. بقيا هكذا، متشابكين، يتنفسان معاً، ينبضان معاً، يحبان معاً. كان ذلك الصباح بداية حياة جديدة، حيث لا يوجد أحمد وليلى... بل كائن واحد، اسمه الحب.


الفصل السابع: ألم الفراق
كان يناير 1959 يجمد أنفاس القاهرة، لكن الرسالة التي وصلت إلى أحمد في مكتبه بوزارة الري كانت أشد برودة. أمر رسمي بختم الجمهورية: «المهندس أحمد عبد الرحمن، يُنتدب فوراً إلى موقع السد العالي بأسوان لمدة أربعة أشهر. المغادرة: غداً صباحاً.»
أغلق أحمد الورقة بيدين ترتجفان، ثم هرع إلى الإسكندرية في آخر قطار ليلي. وصل عند الثالثة فجراً، وطرق باب ليلى بخفة. فتحت له بعيون منتفخة من البكاء، كأنها شعرت به قبل أن يأتي.
«أسوان... أربع شهور...» همس، صوته مكسور. احتضنته ليلى بقوة، كأنها تريد أن تذيب الزمن في صدرها. «مش هيفرقونا... مش هيقدر حد يفرق روحينا.»
في تلك الليلة الأخيرة، لم يناما. جلسا على شرفتها المطلة على البحر، متشابكي الأيدي، يتأملان الظلام. كل دقيقة كانت تُقاس بقبلة، كل همسة كانت وصية. قبل الفجر، أعطاها أحمد صورته في إطار صغير، وأخذ هو خصلة من شعرها مربوطة بشريط أحمر.
«دي هتكون أيقونتي في الصحراء»، قال وهو يضع الصورة على قلبه. «ودي هتكون معبدي في كل ليلة»، ردّت ليلى وهي تضع الخصلة في علبة فضية صغيرة.
غادر أحمد مع أول ضوء، وترك خلفه قلباً ينزف. في أسوان، عاش في خيمة بين الصخور، محاطاً بضجيج الآلات وهدير النيل. لكن كل ليلة، يخرج الصورة، يضعها أمامه، ويعبد وجهها كأيقونة مقدسة. كان يقبّل زجاج الإطار، يهمس:
يا ليلى، أنتِ في عينيّ وأنا في عينيكِ، الصحراء تحرقني، لكن صورتك تذوبني.
أما ليلى، فكانت تضع العلبة تحت وسادتها، وتخرج الخصلة كل فجر. تمرّرها على شفتيها، على جبينها، كأنها تمسح دموعه عن بعد. كانت تعبد شعره كأنه خيط متصل بقلبه، وتكتب له كل يوم:
يا أحمد، أعيش في ذكراك، أذوب في ريحتك المتبقية على وسادتي، كل نبضة فيّ هي صلاة لعودتك.
تطايرت الرسائل بين أسوان والإسكندرية كحمام زاجل. كانت كلماتهما تذوب في الورق، تتجاوز المسافات، تحرق الزمن. في إحدى الليالي، كتب أحمد:
اليوم رأيت النيل يجري بين الصخور، فبكيت... لأنه يجري إليكِ وأنا لا.
وردّت ليلى:
وأنا اليوم شممت ريحة الياسمين في السوق، فصرخت... لأنها ريحتك وأنت بعيد.
في أسوان، كان أحمد يعمل 18 ساعة يومياً، لكن كل لحظة فراغ كانت لها. يجلس على صخرة عالية، ينظر إلى النجوم، ويرسم اسمها في الرمال. كانت ذكراها تذيبه حتى في الحرّ القائظ، كأن عرق جسده دموع شوق.
في الإسكندرية، كانت ليلى تذهب كل جمعة إلى شاطئ ستانلي، تجلس في المكان نفسه، وتضع يدها على الرمال كأنها تمسك يده. كانت تعبد صورته كل ليلة قبل النوم: تضيء شمعة صغيرة، تقبّل الزجاج، ثم تضعه على صدرها وتنام. كانت تحلم به، وتستيقظ مبللة الوسادة من البكاء والشوق.
في الشهر الثالث، وصلت رسالة من أحمد مكتوبة بدم قليل من إصبعه المجروح:
جرحت إيدي في الحديد، فكتبتك بدمي... لأن قلبي لم يعد يكفي.
ردّت ليلى برسالة ملطخة بدموعها:
وأنا قطعت إصبعي في المطبخ، فكتبتك بدمي... لأن دموعي جفت.
كلما طال الفراق، ازداد الغرام. كانا يذوبان في الذكريات كما تذوب الثلج في نار الشوق. كل رسالة كانت قبلة، كل كلمة كانت لمسة، كل سطر كان عبادة.
في الليلة الأخيرة قبل العودة، كتب أحمد:
غداً أعود... وأول شيء سأفعله: سأركع أمامك، وأعبدك كما عبدت صورتك كل ليلة.
وكتبت ليلى:
وأنا سأفتح الباب، وأسجد لك، وأذوب فيك حتى لا يبقى للزمن مكان بيننا.
كان الفراق جحيماً، لكنه كان أيضاً ناراً صقلت حبهما إلى ماسة لا تُكسر. عندما ركب أحمد القطار عائداً، كان يحمل في جيبه كيساً صغيراً من رمل أسوان... ورسالة أخيرة:
هذا الرمل شهد على شوقي، وسيشهد غداً على اتحادنا.

الفصل الثامن: عودة الإله
كان أبريل 1959 يزهر في القاهرة، وحديقة الأزبكية تتفتح بالياسمين والفل. أحمد نزل من القطار في محطة رمسيس، حاملاً حقيبة صغيرة ورمل أسوان في جيبه. لم يذهب إلى بيته، بل ركب ترام إلى وسط البلد، ثم مشى حتى وصل إلى البوابة الحديدية للحديقة. كانت الساعة الخامسة عصراً، والشمس تذهب للغروب خلف المآذن.
ليلى كانت تنتظره هناك، ترتدي فستاناً أبيض بسيطاً ووشاحاً حريرياً أزرق. عندما رأته، ركضت نحوه، وألقت نفسها في حضنه. لم يتكلما. فقط ضمّها بقوة، ودفن وجهه في شعرها، يستنشق ريحتها كعطشان يجد نبعاً. ثم رفع وجهها، وقبّل جبينها، عينيها، أنفها، شفتيها… قبلة طويلة، عميقة، تذيب أربعة أشهر من الشوق.
«جيت… جيت يا إلهي»، همست ليلى وهي تبكي على صدره. «وجيت أعبدك كما عبدت صورتك كل ليلة»، ردّ أحمد، صوته يرتجف.
جلسا على مقعد خشبي تحت شجرة تين عملاقة، يديهما متشابكتان. أخرج أحمد خاتماً صغيراً من الفضة، نقش عليه «١٥» من الداخل. «النهاردة هنتجوز… دلوقتي… هنا». اتسعت عيناها: «ازاي؟» ابتسم: «الشيخ علي، إمام الجامع الصغير جنب الحديقة، وافق يعقد قراننا سراً. جبت الشهود: زميلي في الوزارة وخالته.»
في دقائق، كان الشيخ يقف أمامهما، واثنان من الشهود يبتسمون. قرأ الفاتحة، وكتب العقد على ورقة بسيطة. ليلى قالت «قبلت» بصوت مرتجف، وأحمد كرر «قبلت» ثلاثاً. ثم وضع الخاتم في إصبعها، وقبّل يدها أمام الجميع. كانا زوجين… سراً… لكن أمام الله والنجوم.
غادرا الحديقة مع غروب الشمس، وركبا تاكسي إلى شقة صغيرة في الزمالك استأجرها أحمد منذ أسابيع. كانت الشقة فارغة إلا من سرير نحاسي، وستائر بيضاء، وشمعدانين ذهبيين، وباقة ورد أحمر على الأرض.
أغلق أحمد الباب، ووقف ينظر إليها. ليلى خلعت وشاحها، ووقفت أمامه كعروس من حلم. اقترب منها ببطء، ورفع يده، ولمس خدها، ثم عنقها، ثم كتفيها. كانت أصابعه ترتجف كأنها تلمس إلهة.
«الليلة… أنتِ معبدي، وأنا عبدك»، همس. «وأنت إلهي، وأنا كاهنتك»، ردّت، عيناها تلمعان.
بدأ يقبّلها ببطء: جبينها، عينيها، خديها، ثم شفتيها… قبلة طويلة، عميقة، تذيب كل الحدود. يداه تنزلقان على ظهرها، يفكّان أزرار فستانها واحدة واحدة، حتى سقط الفستان على الأرض كسحابة بيضاء. وقفت ليلى بثوب داخلي حريري أبيض، جسدها يتوهج تحت ضوء الشموع.
خلع أحمد قميصه، ثم بنطاله، ووقف أمامها عارياً إلا من بوكسر أسود. اقتربت ليلى، ووضعت يديها على صدره، تمرّر أصابعها على كل عضلة، كأنها تقرأ آيات. ثم قبلت صدره، حلمته اليمنى، ثم اليسرى، لسانها يداعب بشرته، فارتجف أحمد وأطلق آهة خافتة.
رفعها بين ذراعيه، وحملها إلى السرير. استلقيا، جسداهما يلتصقان، حرارة على حرارة. بدأ يقبّل عنقها، يعضّه برفق، يترك علامات حمراء كتوقيع حبّ. يداه تنزلقان على ثدييها، يفكّان الحمالة، ويحررانهما. كانت ثدياها ممتلئين، حلماتها وردية منتفخة. أمسك أحمد أحدهما بيده، يعصره بلطف، ثم انحنى وقبّل الحلمة، يمصّها ببطء، لسانه يدور حولها، فأطلقت ليلى صرخة صغيرة وانحنت ظهرها.
«أحمد… أنا بذوب…» «وأنا بموت فيكِ…»
نزلت يدها إلى أسفل بطنه، تتحسس عضلاته، ثم إلى داخل البوكسر. أمسكت بقضيبه المنتصب، كبير، ساخن، ينبض في يدها. بدأت تداعبه ببطء، أصابعها تلفّه، تفرك رأسه، فأغلق أحمد عينيه وأطلق أنيناً عميقاً.
خلع بوكسره، وخلعت هي كلوتها. استلقيا عاريين تماماً، جلد على جلد، قلب على قلب. بدأ أحمد يقبّل بطنها، ينزل إلى فخذيها، يفصل رجليها برفق. كانت مهبله وردية، مبللة، تنتظره. انحنى، وقبّل شفرتيها، لسانه يداعب البظر، يدور حوله، يمصّه، فصرخت ليلى وشدّت شعره.
«أحمد… أدخل… أرجوك…» رفع رأسه، وصعد فوقها. وضع قضيبه على مدخلها، يفركه على شفرتيها، يبلّله بعسلها. ثم دفع ببطء… دخل سنتيمتراً سنتيمتراً، حتى امتلأت به. كانت ضيقة، ساخنة، تضغط عليه كقفاز حريري. توقف لحظة، ينظران لبعضهما، عيون في عيون.
«أنتِ جوايّ… أنا جواكِ…» «أيوة… إحنا واحد دلوقتي…»
بدأ يتحرك، ببطء أولاً، يخرج ويدخل، كل حركة تذيب الحدود. ثم زادت السرعة، أجسادهما تتصادم، عرق يسيل، أنفاس تختلط. كانت ليلى ترفع وركها لتلقاه، تضغط عليه، تشدّه إلى أعماقها. يداه تعصران ثدييها، أصابعه تعصّب حلماتها، فتئنّ وتخدش ظهره.
«أسرع… أقوى…» استجاب، يدقّ فيها كمطرقة، قضيبه يضرب نقطة عميقة داخلها، فصرخت وانقبضت حوله. شعرت بموجة أولى، ثم ثانية، ثم ثالثة… تنفجر فيها، سائلها يبلّله، جسدها يرتجف تحت رعشة النشوة.
لم يتوقف. رفعها، جلس وهي على حجره، تدخل قضيبه حتى الجذر. بدأت ترقص فوقه، وركها يدور، يعصر قضيبه، يمتصّه. كانت ثدياها ترتدان أمام وجهه، فيقبّلهما، يمصّهما، يعضّهما. يداه على مؤخرتها، يعصران لحمها، يدفعانها للأسفل بقوة.
«أنا جايب… جايب…» «جوايا… كلك جوايا…»
انفجر داخلها، حرارة، نبضات، سائل يملأها، يختلط بعسلها. ظلا متشابكين، يرتجفان، يلهثان، يبكيان من النشوة. ثم انهارا على السرير، جسداهما مبللان، متلاصقان، لا يزال قضيبه داخلها، ينبض برفق.
استلقيا على جنبهما، وجهاً لوجه. قبّل أحمد جبينها، عينيها، شفتيها. «أنا اتجوزتك… واتحدت بيكِ… وصرت جزء منك». همست ليلى: «وأنا اتجوزتك… وصرت معبدك… وصرت جزء منك».
بقيا هكذا حتى الصباح، يقبّلان، يتحسسان، يتحركان ببطء، يذوبان في بعضهما مرة بعد مرة. كل جماع كان صلاة، كل رعشة تسبيح، كل قطرة منيهما ذبيحة للحب.
عند الفجر، استيقظا في حضن بعضهما، والشمس تشرق من النافذة. قبّل أحمد بطنها، ثم صدرها، ثم شفتيها. «من النهاردة… أنتِ بيتي، وأنا بيتك». ردّت ليلى: «وأنا هعبدك كل لحظة… وهعيش فيك إلى الأبد».
كان ذلك الاتحاد الإلهي… حيث لم يعد هناك أحمد وليلى، بل كائن واحد، يتنفس حبّاً، يعبد حبّاً، يذوب في حبّ.

الفصل التاسع: أيام العبادة
كان مايو 1960 يزهر في الزمالك، والشقة الصغيرة في عمارة قديمة على النيل تتنفس رائحة القهوة والياسمين. أحمد وليلى يعيشان حياة زوجية سرية، لكنها مكشوفة للنجوم والنيل. الشقة غرفة واحدة، مطبخ صغير، وحمام ضيق، لكنها قصر بالنسبة لهما. سرير نحاسي كبير يشغل نصف الغرفة، وستارة بيضاء تتمايل مع نسيم النهر، وصندوق خشبي يحتوي على صورهم وخصلة شعر ورمل أسوان.
كل صباح، يستيقظ أحمد قبل الفجر ليذهب إلى الوزارة، لكن قبل أن يخرج، يركع بجانب السرير، يقبّل جبين ليلى النائمة، ويهمس: «يا إلهتي، أبدأ يومي بعبادتك». تفتح ليلى عينيها بابتسامة ناعسة، تمتد يدها لتمسك يده، وترد: «وأنا أعبد قوتك، يا إلهي». ثم يقبلها قبلة طويلة، عميقة، تذيب النوم في عروقهما.
في المساء، يعود أحمد متعباً من العمل، لكن عندما يفتح الباب، تنسى ليلى كل شيء. ترتدي ثوباً خفيفاً، وتستقبله بحضن يذيب التعب. يتناولان العشاء على طاولة صغيرة: فول وطعمية، خبز بلدي، جبنة بيضاء. يطعمان بعضهما بأيديهما، كل لقمة عبادة. أحمد يذوب في ابتسامتها وهي تمضغ، عيونه تتبعان حركة شفتيها كأنها آيات. ليلى تذوب في قوته وهو يقطع الخبز، أصابعه القوية تجعلها ترتعش.
بعد العشاء، يجلسان على الشرفة. القاهرة في بداية الستينيات تغلي: إصلاحات ناصر، الأغاني الجديدة لعبد الحليم، الراديو يبث خطابات عن الاشتراكية. لكنهما لا يسمعان إلا بعضهما. أحمد يضع رأس ليلى على كتفه، يداعب شعرها، ويهمس: «الدنيا كلها بتتغير، لكن حبنا ثابت زي النيل». ترد ليلى وهي تقبّل عنقه: «وأقوى من السد العالي».
في الليل، يتحول السرير إلى معبد. يخلعان ملابسهما ببطء، كل قطعة تُقبّل، تُعبَد. أحمد يقبّل كتفيها، ظهرها، أسفل بطنها، ينزل إلى فخذيها، يفصل رجليها، يذوق عسلها كأنه يشرب من نبع مقدس. ليلى تئن، تضغط رأسه إلى أعماقها، جسدها يرتجف تحت لسانه. ثم تصعد فوقه، تقبّل صدره، بطنه، تنزل إلى قضيبه، تمصّه ببطء، لسانها يدور حول رأسه، يديه في شعرها يشدّان برفق.
يدخلها أحمد، بطيئاً أولاً، ثم أقوى، أعمق. كل دفعة صلاة، كل انسحاب تسبيح. يغيّران الوضعيات كأنهما يرقصان رقصة إلهية: هي فوقه، هو من الخلف، جانبياً، وجهاً لوجه. كل رعشة نشوة تذيب الحدود، كل قطرة منيهما ذبيحة. ينامان متشابكين، قضيبه داخلها، يديه على ثدييها، أنفاسهما واحدة.
في عطلة نهاية الأسبوع، يخرجان معاً متخفيين. يتجولان في كورنيش النيل، يداهما متشابكتان تحت معطفه. يشتريان آيس كريم من بائع متجول، ويطعمان بعضهما، يضحكان كالأطفال. في إحدى الليالي، يذهبان إلى سينما ريفولي، يشاهدان فيلم «باب الحديد»، لكنهما لا يركزان إلا على أيديهما المتصافحة في الظلام.
في المنزل، يرقصان على أغاني أم كلثوم. أحمد يدور بليلى في الغرفة الضيقة، جسداهما يلتصقان، أنفاسهما تختلط. يقبّلان بعضهما مع كل نغمة، يذوبان في الإيقاع. في لحظة، يرفعها أحمد على الطاولة، يدخلها هناك، سريعاً، عنيفاً، شغفاً. تصرخ ليلى، تضغط عليه، تنفجر معه في نفس اللحظة.
كل لحظة عبادة. أحمد يذوب في ابتسامتها عندما تعدّ له القهوة، في ضحكتها عندما يروي نكتة سخيفة، في دموعها عندما تسمع خبراً عن السد. ليلى تذوب في قوته عندما يحملها إلى السرير، في صوته عندما يقرأ لها قصيدة، في عينيه عندما ينظر إليها كأنها الكون.
في إحدى الليالي، يجلسان على الأرض، يأكلان تمر ويشربان شاي. يضع أحمد رأسه في حجرها، وهي تمرّر أصابعها في شعره. «أنا بعبدك في كل لحظة»، يقول. «وأنا بعبدك في كل نفس»، ترد.
كانتا أياماً من العبادة الخالصة، حيث الحب ليس فعلاً، بل وجوداً. في شقتهما الصغيرة، وسط عواصف الستينيات، كانا يعيشان في جنة خاصة، يذوبان في بعضهما، يعبدان بعضهما، يتنفسان بعضهما.

الفصل العاشر: ظلال الماضي
كان يونيو 1961 يغلي في القاهرة، والرطوبة تلتصق بالجدران كأنها ذنوب قديمة. في صباح يوم جمعة، وصلت رسالة إلى صندوق بريد الشقة بخطّ غريب، مظروف أصفر باهت، بدون اسم مرسل. فتحتها ليلى بيدين ترتجفان، وقرأت:
«ليلى، أنا عارف إنك اتجوزتي سراً. بس أنا لسه بحبك. قابليني النهاردة في مقهى ريش، الساعة ٥. لو مجيتيش، هفضحكم قدام عيلتك ووزارته. – سامي»
سامي. الاسم ضربها كصاعقة. كان حبيبها الأول في الجامعة، قبل سبع سنوات، قبل أن يهاجر إلى الكويت ويختفي. ظنت أنه نسيها، لكن الرسالة كانت تهديداً واضحاً. جلست ليلى على الأرض، الورقة في يدها، دموعها تسيل صامتة. كيف تخبر أحمد؟ كيف تواجه شبحاً من ماضٍ ظنت أنها دفنته؟
عاد أحمد في المساء، وجدها شاحبة، عيناها حمراء. سألها بهدوء: «إيه يا ليلى؟» أعطته الرسالة بيد مرتعشة. قرأها، ثم صمت طويلاً. لم يغضب، لم يصرخ. فقط وضع الورقة جانباً، وركع أمامها، ورفع وجهها بإصبعين.
«ده ماضيكِ. وأنا حاضرك ومستقبلك. مش هيفرقنا شبح.» لكن ليلى كانت خائفة: «لو عيلتي عرفت… لو وزارته عرفت…»
قررا مواجهة الأمر معاً. في اليوم التالي، ذهبا إلى مقهى ريش. جلس سامي في الزاوية، أنحف مما تذكره، عيناه مليئتان بالغيرة. وقف أحمد أمام ليلى كدرع، وتحدث بهدوء:
«أنت عايز إيه؟» ردّ سامي بسخرية: «عايزها ترجعلي. هي كانت ليا قبل ما تكون لك.»
ليلى تقدمت خطوة، صوتها ثابت رغم الرجفة: «أنا اخترت أحمد. اخترته بقلبي وروحي. الماضي مات، وأنت جزء منه.»
هدّد سامي بالفضيحة، لكن أحمد أخرج من جيبه ظرفاً سميكاً: صور قديمة لسامي مع فتاة متزوجة في الكويت، وصلت إليه من صديق مشترك. «لو فتحت بقك، هتبقى أنت اللي هتتفضح.»
خرج سامي مهزوماً، يجرّ أذيال الخيبة. لكن الاختبار لم ينته. في تلك الليلة، جلست ليلى تبكي في حضن أحمد: «خايفة إن ماضيّ يلوث حبنا.»
رفع أحمد وجهها، وقبّل دموعها واحدة واحدة. «ماضيكِ جزء منك، وأنا بعبد كل ذرة فيكِ. حتى الظلال.» ثم حملها إلى السرير، وخلع ملابسهما ببطء، كأنه يقشّر طبقات الخوف.
بدأ يقبّلها من جبينها إلى أصابع قدميها، كل سنتيمتر عبادة. عندما وصل إلى قلبها، وضع أذنه عليه: «ده قلبي أنا، مش قلبك بس.» ثم دخلها ببطء، عميق، كأنه يمحو كل ذكرى قديمة بجسده. كانت حركاته بطيئة، متعمدة، كل دفعة تذكير: «أنتِ ليا… ليا وبس.»
ليلى استسلمت، أظافرها في ظهره، جسدها يرتفع ليلقاه. كل رعشة كانت تطهيراً، كل أنين صلاة. عندما وصلا إلى الذروة معاً، انفجرا في موجة واحدة، سائلهما يختلط، أنفاسهما تتوقف للحظة… ثم تعود كأنها ولدت من جديد.
بعد ذلك، استلقيا متعانقين، عرقاً مبللاً، قلبان ينبضان بنفس الإيقاع. همس أحمد: «دلوقتي، مافيش ماضي ولا مستقبل. فيّ بس إحنا.» ردّت ليلى، وهي تقبّل صدره: «وأنا دلوقتي ذابت فيك كلياً. مافيش حتى ظلال.»
في الأيام التالية، تعمّق غرامهما إلى مستوى الذوبان الكلي. كل لمسة كانت تأكيداً، كل قبلة عهداً جديداً. أحمد يذوب في دموعها عندما تبكي من الفرح، ليلى تذوب في قوته عندما يحملها كطفلة. حتى في صمتيهما، كان الحب يتكلم بلغة لا يفهمها سواهما.
كان الاختبار الأخير قد صقل حبهما إلى ماسة لا تُخدش. في شقتهما الصغيرة، وسط عواصف الستينيات، أصبحا روحاً واحدة، لا ماضي يفرق، لا مستقبل يخيف… فقط ذوبان كلي، أبدي، إلهي.

الفصل الحادي عشر: تحت النجوم الأبدية
كان أغسطس 1962 يغلي في أسوان، والشمس تُحرق الصخور كأنها تُصهر الحبّ نفسه. أحمد وليلى سافرا في قطار الليل، تاركين القاهرة خلفهما، ومعهما حقيبة صغيرة ووعدٌ لا ينكسر. كان السد العالي في ذروة البناء، آلاف العمّال، الآلات تهدر، النيل يُكبَّل بالخرسانة… لكن بالنسبة لهما، كان رمزاً لحبهما: قوة لا تُهزم، صمود أبدي.
استأجرا غرفة صغيرة في فندق قديم مطل على النيل، بعيداً عن ضجيج الموقع. في اليوم الأول، ذهبا إلى قمة التل المشرف على السد. وقف أحمد خلف ليلى، ذراعاه حول خصرها، يشدانها إليه كأنه يربطها بالأرض. كانت الرياح تحمل رذاذ الماء، والشمس تغرب خلف الجبال، تُلون السماء بأحمر الدم.
«شوفي… ده زي حبنا»، همس أحمد في أذنها، «النيل بيحارب، بس السد هيقاوم. وإحنا هنقاوم كل حاجة.» ليلى أدارت وجهها، وقبّلت شفتيه بلطف: «وإحنا أقوى من السد… لأننا مش بنبني حيطان، إحنا بنذوب في بعض.»
في الليل، خرجا إلى الصحراء القريبة، حيث لا أضواء سوى النجوم. مدّا بطانية على الرمال، واستلقيا جنباً إلى جنب. السماء كانت قبة من الماس، والصمت يلفّهما كوشاح. أخرج أحمد من جيبه قارورة صغيرة فيها رمل أسوان من رحلته الأولى، وخصلة شعر ليلى، وصورتهما في الحديقة.
«النهاردة هنتعهد قدام النجوم»، قال، صوته يرتجف من العاطفة. ليلى جلست، وأمسكت يده: «أيوة… هنتعهد بالعبادة الأبدية.»
بدأ أحمد: «أنا، أحمد، أقسم بالنجوم دي، وبنيل مصر، وبكل ذرة فيّ… إني هعبدك يا ليلى كل يوم، كل لحظة، كل نفس. هذوب فيكِ لآخر قطرة دم، ولآخر نبضة قلب.»
ردّت ليلى، دموعها تلمع كالنجوم: «وأنا، ليلى، أقسم بالقدر اللي جمعنا في ١٥، وبروحي اللي صارت ملكك… إني هعبدك يا أحمد إلى ما بعد الموت. هذوب فيك، وأعيش فيك، وأموت فيك.»
ثم تبادلا الخواتم القديمة، وضعاها في إصبع بعضهما مرة أخرى، لكن هذه المرة تحت السماء المفتوحة. قبّلا بعضهما قبلة طويلة، عميقة، تذيب الزمن. خلعا ملابسهما ببطء، كأنهما يقدمان أجسادهما قرباناً للقدر. استلقيا عاريين على البطانية، الرمال الباردة تحت ظهورهما، النجوم فوق رأسيهما.
بدأ أحمد يقبّلها من جبينها إلى أصابع قدميها، كل سنتيمتر عبادة. عندما وصل إلى مهبله، انحنى، لسانه يداعب شفرتيها، يمصّ البظر، يدخل أصابعه، فأطلقت ليلى صرخة تتردد في الصحراء. ثم صعدت فوقه، أمسكت قضيبه، دلكته على شفتيها السفليين، ثم ركبت عليه ببطء… دخل حتى الجذر، امتلأت به، ضغطت عليه.
بدأت ترقص، وركها يدور، يعصر، يمتص. أحمد يداه على ثدييها، يعصرهما، يعصّب حلماتها. كانا يتحركان معاً، كأن النجوم ترقص معهما. كل دفعة تذكير بالتعهد، كل أنين صلاة. عندما اقتربا من الذروة، شدّها أحمد إليه، قلباهما يلتصقان، وانفجرا معاً… موجة حارة، نبضات متزامنة، سائل يختلط، أنفاس تتوقف… ثم تعود كأنها ولادة جديدة.
بقيا متشابكين، قضيبه داخلها، يديه في شعرها، عيناه في عينيها. همس: «دلوقتي إحنا ذوبنا في القدر… مافيش أنا ولا أنتِ.» ردّت ليلى: «فيه بس إحنا… روح واحدة، تحت النجوم الأبدية.»
ناموا في الصحراء، متعانقين، الرمال تغطيهما كغطاء. عند الفجر، استيقظا على صوت النيل البعيد، والشمس تشرق خلف السد. قبّلا بعضهما، ووقفا يتأملان البناء العملاق.
«ده السد… وده حبنا»، قال أحمد. «وإحنا أبديين زيه»، ردّت ليلى.
كان ذلك اليوم ختاماً لرحلة الذوبان… حيث الحب لم يعد فعلاً، بل قدراً، عبادة، اتحاداً أبدياً تحت النجوم.

الفصل الثاني عشر: خاتمة الغرام
كان مارس 1970 يزهر في الإسكندرية، والشقة الصغيرة التي انتقلا إليها بعد سنوات من الزمالك تطل على البحر الهادئ. أحمد، الآن في الأربعين، يعمل مستشاراً في مشاريع الري، وليلى، في الخامسة والثلاثين، تدرّس الأدب في جامعة الإسكندرية. لم يأتِ طفل يوماً، ولم يسعيا له. في إحدى الليالي الأولى بعد الزواج، جلسا تحت النجوم وقررا: «حبنا يكفينا. إحنا أولاد بعض، وكفاية إننا نربي روحنا في بعض.» لم يفحصا، لم يسألا… كان القرار قدراً مقبولاً.
لكن القدر أراد أن يكشف سرّه بالصدفة. في صيف 1968، أصيب أحمد بحادث عمل بسيط في أسوان، فحص دم روتيني كشف أن لديه مشكلة في الخصوبة منذ الولادة. في الشهر نفسه، أجرت ليلى فحصاً طبياً لآلام خفيفة، واكتشفت أن مبيضيها غير نشطين منذ سنوات. ضحكا عندما تبادلا التقارير في المساء، على شرفتهما المطلة على البحر.
«كأن النجوم كتبت إننا نكون لبعض بس»، قال أحمد وهو يضمّها. «أيوة… مش محتاجين حد تاني يشاركنا الذوبان ده»، ردّت ليلى، تقبّل جبينه.
عاشا في سلام تام. الشقة مليئة بكتبهما، قصائدهما، صورهما من كل رحلة. كل صباح، يستيقظان متشابكين، يقبّلان بعضهما قبل أن يفتحا عينيهما. كل مساء، يجلسان على الشرفة، يداهما متشابكتان، يتأملان البحر والنجوم. لم يكن هناك فراغ، لأن حبهما ملأ الكون.
في ليلة الخامس عشر من مارس – عيد ميلاد ليلى – أعدّ أحمد عشاءً بسيطاً: سمك مشوي، سلطة، خبز بلدي. بعد الأكل، أخرج دفتر قصائد قديم، وقرأ لها آخر ما كتب:
يا ليلى، حبنا نجمة في سماء الزمن، لا تولد، لا تموت، فقط تشرق أبد الدهر. ذوبنا في بعض، فصار الواحد اثنين، والاثنان واحداً، خالداً كالقدر.
بكت ليلى، ثم كتبت على نفس الصفحة:
يا أحمد، أنت قدري، وأنا قدرك، نذوب في بعض كما يذوب البحر في القمر. لا أطفال، لا حاجة، فينا الحياة كلها، حب يتجاوز الزمن، يعبد، يذوب، يبقى.
استلقيا على السرير، خلعا ملابسهما ببطء، كأنهما يقدمان أجسادهما للأبدية. قبّلا بعضهما، لمسا بعضهما، اتحدا بعضهما… ليس جماعاً، بل صلاة أخيرة. كل لمسة تذكير: نحن هنا، معاً، إلى الأبد.
في تلك الليلة، ناما متعانقين، والبحر يهمس ألحان أم كلثوم القديمة. وفوق رأسيهما، النجوم تشهد: حبهما خالد، لا ينتهي بموت، لا ينقص بغياب، فقط يذوب في الآخر إلى ما لا نهاية.
في سماء مصر، نجمتان تلمعان، أحمد وليلى، روح واحدة، حب أبدي، يذوبان في بعض، يعبدان بعض، إلى ما بعد الزمن… إلى الأبد.
النهاية



  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع