![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عضو برونزي
![]() |
كيف يحجب القرآن الرؤية؟
محمد علي عبد الجليل الحوار المتمدن-العدد: 4145 - 2013 / 7 / 6 - 21:40 المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني إنَّ كل كلمة من هذه الإجابات تحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر. والمسلمُ قد تلقَّفَ هذه الأجوبةَ عن أهله ومجتمعه دون أي شك فيها أو تفكير. وإنْ كان هناك من تفكير يقوم به المسلمُ فبهدف ترسيخ هذه القناعات. يظنُّ المسلمُ أنَّ عقيدته تريحه وتسمح له بالرؤية. ولكنْ أية راحة وأية رؤية؟ والإسلامُ نفسه يقول أنْ لا راحة لمؤمن ولا رؤية إلا بعد الموت ("لقد كنتَ في غفلةٍ من هـذا فكشفنا عنكَ غِطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديد" (سورة ق، 22)؛ "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" (قول يُنسب لعليّ بن أبي طالب)). إذا كان المرءُ يريد أنْ يكتفيَ بأفق الرؤية التي تتيحها له عقيدتُه وبمساحة القفص الذي يسجنه فيه دِينهُ فهذا شأنُه، ولكنْ لا يعني هذا أنَّ رؤيته هي الوحيدة وهي الصحيحة وأنَّ قفصَه الديني هو العالَم. من أراد أنْ تكون رؤيتُه كرؤية واحد من مساجين "كهف أفلاطون" فهذا حقه. ومن أراد أنْ يكون غبياً فهذا حقه أيضاً. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ رؤيته هي الحقيقة، بل هي حقيقتُه هو ووعيه هو. لكل إنسان أفق رؤية على قدر قوة بصيرته. ولكنَّ مشكلة المسلم هي أنه لا يستخدم عينيه للرؤية، بل يستخدم أعينَ الأموات. النظرة العلمية هي أنْ ترى الشيء كما هو لا من خلال العقيدة المشوَّهة والمشوِّهة، الميتة والقاتلة، العمياء والمُعمِية. فلو رأى نيوتن سقوطَ التفاحة من خلال عقيدته وإرثه الكتابي عن السقوط (الذي يشير إلى الهبوط من الجنة) وعن التفاحة (التي تشير إلى الخطيئة الأولى) لما توصَّل إلى رؤية قانون لم يكنْ معروفاً. ولو تقيَّدَ غاليليه وكوبيرنيكوس برؤية عصرهما وبلادهما لما رأيا ما رأيا. فلِكَيْ نرى رؤيةً جديدة يجب علينا أنْ نتحرَّر من الرؤى القديمة. ولكي نكتشفَ علاقةً جديدة، يجب أنْ ننظر بمعزل عن العقيدة. لكي أَدْرُسَ سلوكَ النمل أو حركة القمر مثلاً، لا ينبغي عليَّ دراسةُ سورة القمر أو النمل. العِلم لا يأخذ استنتاجاتِه من بطون الكتب مهما كانت مقدَّسة، إلَّا إذا كان النص المقدَّس موضوع البحث، بل من رصد الوقائع مهما كان مدنَّسة. ولا يحتاج العِلمُ إلى تأييد النص المقدس أو الدين لكي يثبت صحةَ نتائجه أو واقعيتَها. بل الكتاب المقدس والدِّينُ هما اللذان يحتاجان للعلم لإثبات أنهما مازالا على قيد الحياة. معرفتُنا للحقيقة لا تأتي من الكتب، بل من اختبارنا الفردي للحقيقة. فيكون ما نلامسه في الكتب من حقيقة بمقدار ما نختبره في الواقع منها. بمعنى أنه لا يمكننا مثلاً أنْ نلامسَ حقيقةَ عبارة "الكرز لذيذ" إلَّا إذا كنا في الواقع رأينا الكرزَ بأعيُنِنا وذُقْنا طعمَه بألسنتنا واختبرْنا لِذَّتَه. وبالتالي فإن مصدر أي حقيقة هو الواقع، المادة، هذا العالَم، وليس الكتب مهما موَّهوها بالقداسة. وهنا نجد تدليسَ القرآن وخداعَه عندما يعتبر نفسه مالك الحقيقة. فيُقدِّم نفسَه على أنه كِتابٌ "لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا مِنْ خلْفِهِ" (فُصِّلَت، 41-42). فادِّعاء القرآن احتكارَ الحقيقة يخدع المؤمنَ فيحجبه عن اختبار الواقع مَصْدرِ الحقائق. العِلم هو رصد العلاقة بحيادية. والرصد الحيادي يتطلَّب الخروجَ من الثنائية ومشاهدةَ القطبينِ والعلاقةِ بينهما مِن دونِ تفضيلِ قطبٍ على آخر. منهج القرآن يقوم أساساً على مبدأ نزاعي صدامي يقسم الوجودَ إلى يمين وشِمال، وأبيض وأسود، ومسلم وكافر، وجنة ونار. ويفضِّل أحدَ القطبين على الآخر. وبالتالي فإنَّ منهجه هذا مخالف تماماً للمنهج العلمي. وما العبارات المشتقة من العِلم والتي يستخدمها مراراً إلَّا من قبيل الدعاية والخداع الفكري. كلُّ شيءٍ علائقيّ. لا يوجد شيء منفصل عن باقي الموجودات. وبالتالي فإنَّ العِلم بالشيء هو رصد علاقاته بمحيطه من دون تقييم. لكي أرصد ظاهرةَ الإيمان يجب ألَّا أراها بعين الإلحاد. ولكي أرصد ظاهرةَ الإلحاد يجب ألا أراها بعين الإيمان. العِلمُ بظاهرة من هاتين الظاهرتين هو رصدها ورصد علاقاتها من دون إطلاق أحكام عليها. وهذا ما لم يفعله القرآن. لكي أرصدَ ظاهرتَي الإيمان والكفر يجب أنْ أخرج من ثنائية "إيمان/كفر" فلا أقف في موقف الإيمان وأرصد الكفر ولا في موقف الكفر وأرصد الإيمان. وإنْ فعلتُ ذلك لا يَــعُـــدْ رصدي عِلماً، بل تحيُّزاً وتحزُّباً واتِّباعاً. كما أنني لو وقفتُ في أحد القطبين ونظرتُ إلى الآخر لا أستطيع رؤية العلاقة بين القطبين. حيث إنَّ الإيمان والكفر ضِدَّان مترابطان يقوم وجود أحدهما على وجود الآخر ("والضد يُظهِر حُسنَه الضدُّ"، كما يقول الشاعر الذي ربما هو دوقلة المنبجي). القرآن يقف في أحد القطبين ويرصد القطبَ الآخر مع مبالغة في التقييم وإظهار عيوب القطب الآخر وكأنه في حملة انتخابية يُظهِر فيها محاسنَ حزبِه ومساوئَ الحزب الخصم. ولكنْ من غير المستغرَبِ أنْ يشجِّعَ القرآنُ منطقَ النزاع لأنه وليد بيئة نزاعية. عندما يطلب القرآنُ من المؤمن أنْ يقف في صفه وحزبه وقطبه فإنه بذلك يحجب الرؤيةَ الشاملة والموضوعية ويعسكر المؤمنَ ويجعله في نزاع مع معسكر آخر "شيطاني" ويجيِّـشه للقضاء أو للسيطرة عليه. إنَّ أسلوب التكرار في القرآن وطريقة قراءته وتجويده وحِفظه وهالة القدسية المحاطة به هي أساليب تحجب الرؤية عند المؤمن. لأنَّ الرؤية تحتاج إلى انتباه لا إلى فعل آلي اعتيادي. فالتكرار هو طريقة آلية مخدِّرة تجعل العقلَ "بليداً معتماً وساذجاً تماماً" بحسب تعبير كريشنامورتي. يقول فراس السوَّاح: "إنَّ هالة القداسة التي تحيط بالنص الديني تجعل مِن المتديِّنِ متلقِّياً سلبياً له، لا ينتبه إلى إشكالياته ولا يحفل بغوامضه". (ألغاز الإنجيل، دار التكوين، دمشق، 2012) ليس هذا فحسب، بل إنَّ قداسة النص الديني وترديده يجعل المردِّدَ أكثرَ من سلبي، يجعله غبياً. فالغباءُ هو عطالة العقل في القول وفي الفعل، بحسب تعريف الفيلسوف المشَّائي اليوناني ثيوفراستوس Théophraste (371 ق. م. – 287 ق. م.) (في مقالته: Les caractères [الطِّباع]، 14). ألا يساهم التكرارُ في عطالة العقل؟ بالمقابل، إنَّ الذَّكاء هو الملَكة العقلية التي تتيح للإنسان فهْـــمَ الأشياء والوقائع واكتشافَ العلاقات للوصول إلى معرفة مفاهيمية وعقلانية. أوليس ترديدُ نص ديني مقدَّس يَحُولُ بين المردِّد وبين فهمِه للأشياء واكتشافه للعلاقات؟ عندئذٍ، لا يصبح لديه من رؤية إلَّا ضمن أفق التفسير الأرثوذكسي للنص ولا من علاقة إلَّا ما يُظهِره له مفسِّرو النص. فالنص الديني يفرِض على المؤمن مقاربتَه للأشياء وفهْــمَه للعلاقات بينها (أو مقاربة واضعيه ومفسِّريه)، وبالتالي يحجب عن المؤمن فهماً آخر مختلفاً للأشياء، كما يحجب عنه اكتشافَ علاقاتٍ أخرى. النص الديني يفرض وجهةَ نظره الأحادية للعالَم، تلك النظرة التي تُــقْصي وتُــدِينُ وجهاتِ النظر الأخرى، فيصبح عقلُ المؤمن أسيراً لوجهة نظر كتابه المقدَّس. هذه الحالةُ التي وصفها السَّوَّاحُ بالسلبية ووصفها كريشنامورتي بالبلادة المعتمة والسذاجة التامة ما هي إلَّا حالة الغباء. كما أنَّ لغة القرآن تقوم على خداع فكري مرعب. مثلاً، يقول المسلم إنَّ دِينه يأمر بالسِّـــلْم وبعدم القتل ويستشهد بآية "ولا تقتلوا النفس التي حرَّمَ اللهُ إلَّا بالحق" (الإسراء، 33). ولكنَّ هذه الآية ليس فيها تحريم للقتل. إنها تقوم على خداع لغوي كبير. فهي، كانعكاس لبيئة القرآن وعصره وسياقه السياسي، شَّرعَت القتلَ ولم تنهَ عنه. لقد حرَّمَ المنقولُ اليهودي المسيحي القتلَ تحريماً مطلقاً. ومع ذلك، كان تاريخ الكنيسة ملطَّخاً بالدماء إلى درجة أنَّ الإنسان ليخجل من الانتماء إلى مثل هذه المؤسسة الدينية. وقد ارتُــكِبَت مجازرُ مروِّعة باسم إله المحبة. تقول سيمون ﭭ-;-ـايل (1909 – 1943) (في: "رسالة إلى رجل دين"): "لم تخرجِ المسيحيةُ عملياً، بعد عشرين قرناً، من العِرْق الأبيض؛ وما تزال الكاثوليكيةُ محدودةً. لقد بقيَتْ أمريكا ستةَ عشر قرناً دون أنْ تسمعَ بالمسيح (مع أنَّ بولُسَ الرسولَ قال: "البشارة التي أُعلِنَت في جميع الخليقة") وأُبيدَت أممُها بأفظع الأعمال الوحشية قبل أنْ يتسنَّ لها التعرُّف عليه". فإذا ارتَـكبَ القتلَ قومٌ حرَّمَتْه شريعتُهم تحريماً مطلقاً وادَّعَت المحبةَ، فما بالُ قومٍ شرَّعتْه شريعتُهم؟ لاحِظوا الخداعَ في الآية. فبينما يتوهَّم المسلمُ أنَّ هذه الآية تُحرِّم القتلَ فيقبلُها، لا يتسلَّل إلى خافيته [لاوعيه] تحريمُ القتل، بل شرعيةُ القتل. لأنَّ معنى عبارة "لا تقتلْ ألَّا بالحق" هو "اقتلْ بالحق". فاللاوعيُ يبرمج الكلماتِ مِن دونِ الأحرفِ. ولذلك ينصح المحللون النفسيون أنْ يقول الإنسانُ لنفسه عباراتٍ إيجابيةً، مثل: "أنا شجاع"، بدلاً من أنْ يقول: "لستُ جباناً". لأنَّ اللاوعي سيتأثَّر بكلمة "جبان" ويهمل كلمةَ "لَسْتُ"، ذلك لأنَّ كلمة "جبان" لها صور في النفس تستدعيها عندما تُنطَق وتُـكرَّر؛ أمَّـا أداةُ النفي [الفعل الناقص] "لستُ" فليس لها صورة في النفس. وبالتالي فإنَّ ما يؤثر في النفس عند سماع "لا تقتل إلَّا بالحق" هو كلمتان: "تقتل" و"الحق". فتقوم النفسُ بصورة لاواعية بالربط بين الصور التي يستدعيها الفعل "تقتل" وبين الصور التي يستدعيها الاسم "الحق". وعندئذٍ يبرِّر المؤمنُ القتلَ لهدفٍ ما، كالدفاع عن النفس والمعتقدات وغزو الآخر والسيطرة عليه، تحت اسم "الحق". ولذلك أعطى المسلمون لأنفسهم الحقَّ بتخيير الآخرين (الذين سمَّوهم "كُـفَّاراً") بين ثلاثة شرور: الإسلام أو الجزية أو القتال ("قاتِـلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرم اللهُ ورسولُه ولا يدينون دِينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزيةَ عن يد وهم صاغرون" (التوبة، 29)). إنَّ الإنسان ليخجل من الانتماء إلى مثل هذه المؤسسة الدينية. عندما أقول لطفلٍ: "لا تكذبْ" فإنني أحرِّض في نفسه كلَّ الصور المرتبطة بالكذب؛ وهذه الصورُ تفعلُ فِعلَها طالما أنه يغذِّيها بفكره. وهكذا فإنَّ الخِطاب القرآني غير صالح بتاتاً، لأنه، ككل الخطابات الدينية الإبراهيمية، وليد بيئة نزاعية يشكِّل القتلُ فيها أولويات الدفاع عن النفس والجماعة ومعتقداتها. وبالتالي فهو لا يحجب الرؤيةَ فحسب، بل يعمي البصيرةَ ويعطِّل برنامجَ العقل حالما يدخلُ فيروسُه في النفس، وهذا شأن كل عقيدة وإيديولوجيا وليس القرآن فقط. لاحِظوا في موضع آخر ضعفَ حجةِ القرآن وتهافُــتَها عندما تحدَّى بعضُ "مشركي" العرب محمداً بقولهم: "اللهمَّ إنْ كان هذا هو الحق من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم" (الأنفال، 32). وكان هذا تحدياً حقيقياً لا يقارَن بتحدِّي القرآنِ للعرب بأنْ يأتوا بمثله. فكان ردُّ القرآن على هذا التحدي هو: "وما كانَ اللهُ لِيُعذِّبَهم وأنتَ فيهم وما كانَ اللهُ مُعذِّبَهم وهم يستغفرون" (الأنفال، 33). لاحِظوا أولاً أنَّ هذه الآية تتناقض كلياً مع قانون الجزاء (الكَرْمى، "من يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يرهُ ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يره"). ثانياً، كيف يؤكِّد القرآنُ أنَّ اللهُ أمطرَ على قوم لوط حجارةً مع أنَّ فيهم نبياً ولا يريد أنْ يُمطِرَ حجارةً على قومٍ فيهم محمد؟ هذا يعني أنَّ محمداً أفضل من لوط، مع أنَّ القرآن قال: "لا نُفَـــرِّقُ بين أحدٍ من رُسُلِه" (البقرة، 285). ثالثاً، إنَّ تبرير القرآن، للتهرُّب من التحدِّي الذي لم يستطعْ له التصدِّي، أوقعَه في تناقُض آخر وهو قوله: "وهم يستغفرون". كيف كان "المشركون" يستغفرون؟ هذا التبرير اللامنطقي أوقعَ المفسرين في حيرة. فحاولَ كلٌّ منهم أنْ يفسِّرَه بطريقة لا تخلو من التناقض. ففسَّره ابنُ عبَّاس بأنَّهم كانوا يقولون في الطواف: غفرانَكَ. إذا كانوا فعلاً يستغفرون اللهَ ولم يكن اللهُ يريد أنْ يعذِّبَهم فلماذا كان محمَّـدٌ إذاً يعاديهم ويقاتلهم؟ وقد قدَّم مجاهد وعكرمة تفسيراً لا معنى له: "وقيل: "وهم يستغفرون"، أيْ: في أصلابهم من يستغفر الله". وقد روى مجاهد أيضاً تفسيراً يتناقض مع المنطق واللغة فقال: "وقيل: معنى "يستغفرون": لو استغفروا. أي: لو استغفروا لم يُعذَّبوا." أيُّ عاقلٍ يستطيع أنْ يقولَ إنَّ جملة الحال "وهم يفعلون" تعني جملةً شرطية هي "لو فعلوا"؟ إلَّا إذا كان هذا العاقل يريد تعطيلَ عقلِه ليجعلَه في خدمة إيديولوجيا الدِّين. لكنَّ المسلمَ الذي سلَّمَ عقلَه لسلطة النقل يعمى عن رؤية تناقضات الآية، لأنها من جهةٍ ترفع من شأن نبيه ومن جهة أخرى ترفض العذابَ لأبناء قومه العرب. أيْ أنَّ الآية تُخاطِب جماهير قطيعية تحتاج إلى قائد رمز تمشي خلفه وتصفِّق له وإلى أمة حاضنة تنتمي إليها. ينتشي المسلمون بالقول إنَّ دِينهم يأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا الأمر خداع كبير. إنهم يعتمدون على آيات كثيرة أهمها: "ولتكُن منكم أُمّة يَدعُون إلى الخيرِ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكَر" (آل عمران، 104) ولكنَّ كلمات "الخير" و"المعروف" و"المنكَر" كلمات عامة جداً لا معنى ثابت لها. فما هو "خير" لِـزيدٍ قد يكون "شراً" لِـعَـمرٍو. وما هو "معروف" لدى قوم قد يكون "منكَراً" لدى قوم آخرين. ولذلك يجب أنْ نعرِفَ كيف فهِمَ المسلمون الآيةَ. يقول الطبري أهمُّ المفسِّرين: "قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "ولتكن منكم" أيها المؤمنون "أمة"، يقول: جماعة "يدعون" الناسَ "إلى الخير"، يعني إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها اللهُ لعباده، "ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس باتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله، "وينهون عن المنكر"، يعني وينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة." تعني الآيةُ، بحسب التفسير، وجوبَ أمر الناس بالانقياد إلى الإسلام وبالنهي عن انتقاده. وكأنَّ الآيةَ تريد أنْ تقول للبوذيِّ مثلاً: اتركْ تقاليدَكَ الدينية واتبع تقاليدَنا. تصوَّروا أنْ تقولَ شجرةُ نخيل في وادٍ غيرِ ذي زرع لنبتة موزٍ في وادٍ آخر خصب: اقطعي جذورَكِ واتركي أرضَكِ أُعطِـكِ جذوراً وأغرسْكِ في أرضي. إنَّ ما تشير إليه الآية في الواقع ليس دعوةً إلى الخير بل هو الاقتلاع. ولكنها صيغَت بطريقة فيها خِداع. لأنها تحتوي على كلمات تبدو إنسانيةً وإيجابيةً ولكنها تموِّهُ المعنى السلطوي الذي تشير إليه. فيأكلُ المؤمنُ غيرُ المنتبه الطُّعمَ ظاناً أنه طعام شهي. والقرآنُ يمتلئ بعبارات برَّاقة من هذا القبيل. ماذا لو قام هندوسيٌّ بتطبيق فهمِه للآية وبأمر المسلم باتِّباع ما يراه الهندوسيُّ أنه "الخير" و"المعروف" وهو عبادة براهما وفيشنو وشيفا (التي تُجسِّد الوظائفَ الكونية الثلاث: الخَلق والحفظ والتدمير)؟ إذا كان الحب أعمى فإنَّ حب القرآن أعمى أيضاً لأنه يمنع من رؤية عيوبه. عندما تُركِّــزُ النفسُ طاقتَها على فكرة وتتشبَّث بها وتعتبرها حقيقةً مطلقة فإنها بذلك تعمى عن رؤية عيوب هذه الفكرة أولاً وعن رؤية غيرها من الأفكار ثانياً. وتصبح رؤيةُ النفس للأفكار الأخرى المغايرة رؤيةً مشوهة وانحيازية لأنها تتم عبر موشور الفكرة التي استحوذَت على النفس. عندما تجعلُ النفسُ فكرةً ما مركزيةً وجوهرية فإنها تجعل جميعَ الأفكار تدور حولها تابعةً لها، فتقوم النفسُ بتوظيف الأفكار المغايرة القوية لخدمة فكرتها المركزية العقائدية. فما تقوم به نفوسُ أتباعِ الأديان التوحيدية في مواجهة العِلم هو محاولة تطويع العِلم لخدمة الدِّين (فكرة التوفيقية concordisme وفكرة الإعجاز العِلمي)، أي محاولة جعل العقل في خدمة النقل، وهنا تكمن الضربة القاضية للعقل. لأنَّ العقل لا يعمل إذا كان مستعبَداً أو سجيناً أو أسيراً لغيره. فإذا انتصرَ النقلُ على العقل لدى فردٍ ما فإنه يعيش في الجهل، لأنه يصبح أسيراً لماضٍ غابر مقتلَعاً من الواقع الحاضر. فإذا كثُـــرَ في أمةٍ ما مثلُ هذا الفرد، نتيجةَ تعميم الثقافة الدينية النقلية الغيبية الشمولية الإلغائية، ظهرَ التخلُّفُ في الأمة بمقدار عدد هؤلاء الأفراد وقوَّتِهم. وقد أدرك بعض المتصوفة خطورةَ النقل لأنه يدمِّـر ملَكةَ العقل، فقال البسطامي: "أخذتم عِلمَكم ميتاً عن ميت وأخذْنا عِلمَنا عن الحي الذي لا يموت". فقد جعل البسطاميُّ الاختبارَ مَصْدرَ معرفته. وهذا هو مَصدر العِلم. إنَّ من يرى من منظار القرآن لا يرى في الحقيقة سوى القرآن، أيْ يرى سياقَ القرآن. وسياقُ القرآن هو الماضي. وبالتالي فلن يرى سوى الماضي. ومن لا يرى سوى الماضي سيُـقتلَع من الحاضر. إنَّ صاحب العقيدة لا يرى سوى ما يعزِّز عقيدتَه. فيبحث عن الفكرة التي تقول له إنه على حق وإنَّ غيره على باطل. وهنا يستغلُّ بعضُ الجاهلين أو الطامعين حباً بجيوبهم لا بزبائنهم هذه النقطةَ فيشجِّعون على نشر مثل هذه السلع الفكرية طالما أنها تُـدِرُّ عليهم رباحاً. فتزداد مثلُ هذه الأفكار انتشاراً ويزداد مروِّجوها غِنىً ويزداد مستهلِكوها غباءً. فيقوم التاجرُ غيرُ المسلمِ مثلاً بطباعة القرآن والكتب الدينية التي تُباع في السوق مهما كانت سخيفةً، ليس حباً بالإسلام ولا بالمسلمين، بل طمعاً بالربح المادي. ولو كان فعلاً يحبهم لما روَّجَ لهم مثلَ هذه الأفكار المخدِّرة والأكاذيب. لقد فوجئتُ كيف تبيع كبرى المتاجر الفرنسية (مثل كارفور carrefour وجيان كازينو Géant Casino) ترجماتِ القرآنِ وكتبِ الفقه ولحمَ الحلال، ليس انطلاقاً من مبدأ إنساني بل اقتصادي بحت. فالسوق لا تحكمُها مبادئُ الحرية الدينية ولا محبة الآخرين، بل مبدأ العرض والطلب. إنَّ من يَــنظُر في مِرآة العالَم لا يرى سوى ذاتِه. فإذا كانت ذاتُه أسيرةَ القرآن فلن يرى سوى أفكار القرآن، وأفكارُه وليدةُ الماضي كما قلنا. وبالتالي فإنَّ المشرِّع أو القانوني الذي يسَلِّم بالقرآن تسليماً مطلقاً على أنه الحقيقة لا يمكنه إلغاء عقوبة الإعدام لأنه يرى فيها هدماً للمجتمع، فيدغدغ تفكيرَه آيةُ "ولكم في القِصاص حياةٌ" (البقرة، 179)، خاصةً وأنَّ الآية يتلوها عبارةُ "يا أولي الألباب"، فلا يقاوم هذا المديحَ وينخدع ظاناً أنَّ الآية لا يفهم معناها ويطبِّقه إلَّا أولو الألباب (أصحاب العقول!). وفي الحقيقة فإنَّ إلغاء عقوبة الإعدام هو تهديم ليس للمجتمع بل لعقيدته هو. إنَّ العالِمَ والعارفَ والباحثَ والطالبَ لا يرون المجهولَ إلا بمقدار ما يتحرَّرون من المعلوم، ولا يتجذَّرون في الحاضر إلا بمقدار ما يتحرَّرون من الماضي. إنَّ النظر في الحاضر فقط هو النظر الصحيح لأنَّ الحاضر يضم الماضي والمستقبل، بينما لا يضم الماضي سوى الذاكرةِ، والذاكرةُ ميتة. ومن لا يرى سوى الماضي يفوته الحاضر والمستقبل. ما يفعله القرآنُ بالمؤمن هو أنه يوجِّهُ نظرَه إلى الماضي. ففي الماضي يجد المؤمنُ خيرَ عصرٍ وخيرَ بشرٍ وخيرَ أمة. عندما نزرع عقيدةً في نفوسنا أو نقتنع بفكرة لدرجة أنْ تصيرَ عقيدةً، عندئذٍ لا ندري ماذا تفعل بنا ولا في أية لحظة تستيقظ فتدمِّر كيانَنا؟ توضح ذلك سيمون ﭭ-;-ـايل: "فأصواتُ الجسد الصاخبة، مهما كانت عنيفةً، لا يمكنها أن تتغلَّب على فكرة في النفس، فيما إذا كانت هذه الأصواتُ الصاخبة وحدها. لكنَّ انتصارَها يكون سهلاً عندما تنقل قوَّتَها الإقناعيةَ إلى فكرة أخرى مهما كانت رديئة. هذه هي النقطة المهمة. ليست هناك من فكرة قيمتُها رديئة إلى درجة أنها تحتاج إلى دعم الجسد. بل يَلْزَم الجسدَ فكرةٌ تدعمه. لذلك، بينما يعيش الناسُ، حتى المثقفون منهم، في الأوقات العادية بدون أية مشقة مع أعظم التناقضات الداخلية، فإنَّ أقل ثغرة في المنظومة الداخلية، خلال لحظات التأزُّم القصوى، تشبه من حيث الخطورة فيلسوفاً شديدَ الدهاء يتربَّص في مكانٍ ما متأهِّباً في خبث لانتهازها. وهكذا يكون الأمر عند كل إنسان مهما كان جاهلاً." (التجذر تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن الإنساني، بترجمتي، معابر، 2010) إنَّ فكرةً مِن قبيلِ: "ولا تقتلوا [...] إلَّا بالحق" و"ولكم في القصاص حياة" قد تُدمِّر المنظومةَ الداخلية للإنسان بل وللجماعة في لحظات التأزم القصوى. ليس القرآنُ أداةً للرؤية ولا للرصد ولا للكشف. كان في وقته أداةً سياسية وقومية. وقد كان هناك سياق سياسي وتاريخي واجتماعي استدعى وجود مثل هذه الأداة. وبما أنَّ السياق تغيَّــرَ فيجب أنْ يتغيَّــرَ الكِتاب. عندما كان السياقُ يستدعي ترجمةَ كِتاب مقدَّس إلى العربية من عدة لغات أخرى فقد قام محمد ومن معه بهذه المهمة العظيمة والجبارة في وقتها ليضع لغير اليهود ولغير النصارى من العرب (وهم "الأُمِّــيُّــون" « Gentils ») كِتاباً دينياً كدستور لهم سمَّاه "القرآن"، وذلك أسوةً بغيرهم من أهل الكِتاب. وكان من ذكائه وذكاء فريقه أنه لم يعلنْ أنَّ كِتابه هذا هو نتاج ترجمةٍ بتصرُّف عن الكتب الدينية السابقة كي لا يثيرَ سخريةَ اليهود والنصارى من العرب وكي لا يعطيَـهم شعوراً بالفخر أنهم هم الأصل وأنه هو الفرع. ولكنه أشار إلى أنَّ محتوى كتابه موجود في الكتب السابقة. عندما كان السياق التاريخي والنزاعي يستدعي وجودَ القرآن قام محمد وفريقُه بهذا المشروع الترجمي الذي يُــعَــدُّ ضخماً بالنسبة لإمكانات عرب الجزيرة غيرِ الكِتابيين آنذاك، لكي يضع بين أيديهم كِتاباً ينافسون به الأممَ والقوميات. ولكنْ في هذا العصر تغيَّــرَ السياقُ التاريخي والسياسي ودخلْنا عصرَ تفجُّرِ المعارف وتسارُعها بحيث لا يمكن لقوم يتسلَّحون بكتابِ أساطيرٍ قوميٍّ قديم كالقرآن أنْ ينافسوا الأممَ الأخرى. فانزعوا أيها المسلمون غشاوةَ القرآن عن أعينكم وانظروا كيف تتضح الرؤية. ربما يعترض أحدهم ويقول: "ليس من حقك أنْ تُطالِبَ بترك القرآن، لأنَّ هناك من يتمسَّك به ويعيش حياةً إيجابية وسعيدة، فالقرآن يملأ فراغاً في نفسه. أوليس من الخير للإنسان أنْ يتعلَّقَ بالقرآن من أنْ يدمِنَ على المخدرات والإباحية الجنسية؟" وهذا صحيح، فالإدمان على القرآن أقلُّ ضرراً فردياً من الإدمان على المخدرات والإباحية. إلَّا أنَّ قولنا بترك القرآن لا يعني إلغاءه من حياة الفرد الخاصة، فهذه حريته الشخصية، بل إبعاده عن الحقل الجماعي العام، أيْ جعله كأية أسطورة قد تُــلِهمُ فرداً وتريحه ولكنْ لا يمكن أنْ تكون مصدرَ تشريع للجماعة. وإذا أنيط به هذا الدَّورُ التشريعي الذي ليس له فسيكون ضررُه على الجماعة لا يقلُّ عن ضرر المخدِّرات على الفرد. ربما نصادف مسلماً مؤمناً بالقرآن ملتزماً بتعاليمه وهو سعيد ومنتج في مجتمعه. غير أنَّ سعادته هذه ليس مصدرها النص القرآني في حد ذاته، بل عوامل مادية ونفسية عديدة أهمها طريقة تفكيره وإيمانه. لأنَّ هناك بالمقابل أناساً يؤمنون بكتاب آخر ويحصلون على عائد نفسي مشابه. مما يعني أنَّ السبب ليس في الأداة بل في طريقة استخدامها. هذه الأداة التي هي الكتاب المقدَّس، قرآناً كان أم غيره، قد تصلح للاستخدام الفردي ضمن حدود ولكنْ ليس الجماعي بالتأكيد. لأنَّ تطبيقه في الحقل العام لا يقضي على المشاكل الاجتماعية من إدمان وعنف وجريمة وتخلُّف فكري وحضاري وفقر ومجاعة ولا حتى يخفِّف منها. ولنا في التاريخ الإسلامي والمجتمعات الإسلامية التي تعتبر القرآنَ مصدرَ تشريعها الأول خيرُ مثال |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [2] |
|
عضو برونزي
![]() |
كيف يحجب القرآن الرؤية؟ (2)
محمد علي عبد الجليل الحوار المتمدن-العدد: 4390 - 2014 / 3 / 11 - 13:15 المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني 1- الاعتراض 1: نعم، كتاب الله (القرآن) لم يحَّرف، والدليل: أنَّ جميع المسلمين، مذاهب وأعراق ولغات، كتابهم القرآن واحد، وهذا من نتاج تعهد الله بحفظه. الرد: تقول إنَّ القرآن لم يُحرَّف. وموضوع المقال ليس تحريف القرآن. هذه مسألة أخرى يمكن تناولها لاحقاً. يمكن الاطِّلاع بهذا الخصوص على ما كتبه محمد عابد الجابري مثلاً. لا يهم إنْ كان القرآن قد تحرَّف أم لا. نقدُنا يتناول القرآنَ الحالي بغض النظر عن تحريفه أو عدم تحريفه أو كيفية وصوله إلينا. أما دليلك على عدم تحريف القرآن بأنَّ نُسَخَه موحَّدة في العالَم الإسلامي (ولهذا أسبابه السياسية) فهذا ليس دليلاً تاريخياً أو عِلمياً على أنَّ النسخة الحالية مطابقة لنسخة محمد. فأي كتاب رائج هو نفسه في جميع المكتبات فهل تعهَّدَ اللهُ بحفظه؟ هناك مؤلفات قديمة لدى البوذية والثيوصوفيا وغيرهما منشورة الآن مطابقة لمخطوطاتها القديمة فهل تعهَّدَ اللهُ مثلاً بحفظها؟ ثم هل اطَّلَعْتَ على مخطوط للقرآن بيد علي بن أبي طالب أو أي أحد معاصر لمحمد وقارنتَه مع النسخة الحالية ووجدتَه مطابقاً؟ 2- الاعتراض 2: الغفلة عن العالم الغير مرئي، وعدم الشعور فيه، وليس عن العالم المادي المحسوس. الرد: تقول إنَّ الغفلة تكون عن العالَم غير المرئي وليس عن العالَم المحسوس. كيف؟ هل تقول عن عدم شعورك بشيء غير موجود أنك غفلْتَ عنه؟ هل تغفل عن رؤية الجن والملائكة أم تغفل عن رؤية أخيك الإنسان؟ 3- الاعتراض 3: بما أنك عرَّجت على قضيّة (كهف أفلاطون)، فهل تعلم أن (معضلة كهف أفلاطون) تؤكد الرسالات, راجع: http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?52839 (إثبات نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام بأسلوب فلسفي جديد). الرد: كهف أفلاطون إذا أوَّلْــتَه على هواك فإنه يخدم عقيدتك. أمَّا فِكرتُه فهي أنَّ معرفتنا هي وهم. لأنها معلومات مخزَّنة في الذاكرة. أوليست عقيدتك معلومات استقيتَها من بيئتك ولم تختبرها؟ لأنك لو كنتَ في بيئة ثقافية ودينية أخرى لما كانت لديك المعلومات نفسها. لو كنتَ قد ولدتَ في مجتمع بوذي لما طرحْتَ الأسئلةَ نفسها. ويريد أفلاطون أنْ يبيِّنَ مِن خلال مثاله هذا بأنَّ المعرفة الحقة للأشياء ليست أمراً سهلاً ولا نتوارثها عن أهلنا (كما تتوارثون دينكم ومقدساتكم)، بل تتطلَّب جهداً مضنياً واختباراً حقيقياً من أجل الفهم والوعي. حكاية كهف أفلاطون هي مجرد مثل ضربه أفلاطون ليقول إنَّ العالَم المادي المحسوس هو سجن الروح. كما أنه لكي نفهم جيداً مغزى مثل أفلاطون هذا ينبغي أنْ نضعه في سياقه التاريخي والجغرافي. فأفلاطون كان يريد انتقادَ حياة مواطني أثينا في عصره لا أكثر. فإنْ أراد بعضُ المسلمين أنْ يَستخدم هذا المثلَ ليؤكد نبوة محمد فإنَّ هذا يُعَــبِّر عن إفلاس فكري وروحي للمؤمن فيجعله يسعى بشتَّى الوسائل لإثبات عقيدته ويطوِّع كل الأفكار لخدمتها. إنَّ من يأتي بمئة دليل على وجود الله ليس فقط لديه مئة شك كما تقول القصة بل لديه مئة نقطة ضعف، لديه إفلاس. 4- الاعتراض 4: أين المشكلة في مثال (نيوتن) فالقرآن خاطب العقل 79 مرة. الرد: يردِّد المسلمون كلاماً مفاده أن القرآن خاطبَ العقل 79 مرة. هذا الكلام لا معنى له. في أية آية خاطبَ القرآنُ العقلَ؟ في أية آية ذُكِرَتْ كلمةُ "عقل"؟ هل يمكن أنْ تحصيَ هذه الآياتِ التسعَ والسبعين التي خاطبَ فيها العقلَ؟ أي عقلٍ خاطبَ القرآنَ؟ ولأي هدف وغاية؟ راجع الآياتِ ترَ أنَّ القرآن يطلبُ من القارئ الإيمانَ به ويطلب منه أن يستخدم قلبَه ليعقل به فيدخل في الإسلام. أساساً، إنَّ القرآن خاطبَ القلبَ على أنه مركز العقل: ("قلوب يعقلون بها"؛ "تعمى القلوب"؛ إلخ.) لقد استخدم القرآنُ الفعلَ "يعقل". فكان يعتبر أنَّ من لا يستجيب له أو من لا يؤمن بالآخرة أو بالإسلام أو بالله فهذا يعني أنه لا يعقل: "وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ" (المائدة، 58). أيَّ عقلٍ تخاطب الآيةُ التالية: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ" (الأنفال، 22)؟! وأيَّ عقلٍ يخاطب القرآن عندما يعدِّد بعضَ الثمار أو يشير إلى تسخير النجوم للإنسان أو يَذْكُر اختلافَ الليل والنهار؟! وأيَّ عقلٍ يخاطب القرآنُ عندما يقول إنه لا حرجَ على المؤمن أنْ يأكلَ من بيته وبيت أمه وإخوته و...؟ وأنه يجب على المؤمن أنْ يسلِّم إذا دخل بيتاً؟ ثم يقول: "نحن نبيِّنُ لكم هذا لعلكم تعقلون؟" هل يخاطب عقولَ الأطفال بمثل هذا الإطناب؟ هل هذا خطابٌ لعاقل؟ بل هل هو خطابُ عاقل؟ هل خاطبَ القرآنُ العقلَ ليحرِّرَه أم ليستعبدَه في خدمة أساطيره؟ ماذا لو قال العقلُ إنه يرفض ما جاء به القرآنُ؟ هذا الكلامُ الذي تقرؤه الآن من ثمار العقل لا من ثمار الوحي ولا النقل؟ هل يحتاج العقلُ إلى وحي يخاطبه حتى يقومَ العقلُ بعمله؟ إنَّ مبدأ القرآن هو: من كان معي فإنه عاقل ومن كان ضدي فإنه جاهل. وقد وُصِمَ تاريخُ ما قبل الإسلام زوراً بأنه جاهلية، مع أن الإسلام ليس سوى استمرار له. كيف يخاطبُ القرآنُ العقلَ ثم يقتله؟ لقد خاطبَ كثيرٌ من الطغاة الإنسانَ وأكدوا على حقوقه مئات المرات فماذا فعلوا؟ ألم تكن خطاباتهم الرنانة تغطية لجرائمهم البشعة؟ مشكلة القرآن أنه يطلب من القارئ أنْ يسَـلِّمَ له، وأنْ يفكِّرَ فقط إلى حد قبول القرآن من دون أنْ يتجاوزَ هذا الحد. فإذا تجاوزه دخل في معسكر الطرف الآخر الكافر الذي يستحق العذاب. مطالبةُ القرآن هذه مفهومة إذا وضعْنا القرآن ضمن إطاره التاريخي والسياسي والاجتماعي، حيث إنَّ القرآن أراد على ما يبدو تأسيسَ هوية وقومية عربية ومملكة على جماجم الشعوب الأخرى. 5- الاعتراض 5: ومن قال لك أن القرآن يطالب بعدم دراسة العلوم الحديثة؟ أين الآية التي تطالب بالدروس الدينيّة؟ الرد: لم يطالب القرآنُ ولا يمكنه أنْ يطالبَ صراحةً بعدم تعلُّم العلوم، مثلما أنَّ الطاغية لا يمكنه أن يجاهر بجرائمه. بالمقابل، أوضحنا ما المقصود بالعلم في القرآن في مقال سابق (http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=362820). كل الآيات التي تشير إلى العِلم تشير إلى عِلم القرآن والشريعة بحسب جميع المفسرين. نذكِّر بقول البغوي: "وقل ربِّ زدني عِلماً يعني بالقرآن ومعانيه". أساساً، يبني القرآن إيديولوجيته على الاتِّباع ("وما آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ") وإنْ لم تتَّبعوا فهناك عقاب. 6- الاعتراض 6: أين هي الآية التي تخالف العلم الحديث؟ نعم القرآن لا يأتيه الباطل أبداً. الرد: إنَّ منهج القرآن الذي يطالب المؤمنَ بالاتِّباع ويقيده بـ"أسوة حسنة" هو منهج نقلي يخالف المنهجَ العلمي القائم على الاختبار. السؤال ليس "أين الآيات التي تخالف العلم الحديث"، بل: "أين الآيات التي توافق العلم الحديث من دون أنْ يلجأ المؤمن إلى لَــيِّ عنقها وتأويلها لتتماشى مع العِلم؟ أمَّا تأكيدُ أنَّ القرآن لا يأتيه الباطل أبداً فهو إلقاء الكلام على عواهنه، وهو كلام عقائدي لا معنى علمياً له. من يقول هذا الكلام مطالَب بإثبات ذلك علمياً وعندئذٍ سيؤمن جميع من في الأرض كما يؤمنون بالحقائق العلمية المكتشفة. 7- الاعتراض 7: تقسيم القرآن تقسيم واقعي، فلكل شيء ضد، فالنار ضدها الماء، والخير ضده الشر، والمؤمن ضده الكافر، قانونان يسيّران حياتنا، قانون السالب وقانون الموجب. الرد: القرآن كابن بيئة نزاعية ينزل إلى مستوى الثنائية. ولكن المشكلة هي أنه لا يتناول مبدأ الثنائية بحيادية، بل يتحيَّز إلى أحد الضدَّين. وليس في هذا حيادية ولا علمية. المنهج العلمي هو أن تدرس مثلاً ظاهرة الشخص المسمى بـ"الكافر" من الناحية الاجتماعية والنفسية والسياسية لتفهم الأسباب التي أدَّت إلى "كفره" لا أن ترفضه وتحاربه وتعده بالعذاب الأبدي. مشكلة القرآن أنه يفضل أحد القطبين على الآخر. هل يفضِّل العِلمُ القطبَ الموجبَ على السالب؟ 8- الاعتراض 8: نعم، الإسلام دين سلام، والدليل: إن كل آيات القتال فيه دفاعيّة، فاقرأ ما قبل أو بعد آيات القتال لتظهر الحقيقة جليّة. الرد: "الإسلام دين سلام"؟؟؟!!! و"آيات القتال دفاعية"؟؟؟!!! عمَّ كان يدافع المسلمون إذاً عندما غزوا غيرهم من الأمم؟ أم أنَّ معنى "فاعية" هي دفاع عن المصالح على غرار المصالح الإمبريالية؟ 9- الاعتراض 9: من قال لك أن المنقول اليهودي والمسيحي حرم القتل؟ يبدو أن الكاتب لا يقرأ! الرد: في العهد القديم، سفر الخروج، الإصحاح 20، ورد من ضمن الوصايا العشر: "لا تقتل". أليس هذا تحريماً للقتل أبلغ من تحريم القرآن "ولا تقتلوا النفس التي حرَّمَ اللهُ إلَّا بالحق"؟ وهذا ليس دفاعاً عن الإنجيل. فأمراض الأديان التوحيدية الإبراهيمية القَــبَــلية متشابهة. عندما لا أوافق عقيدةَ المسلمين يقول بعضهم: "أنتَ لا تقرأ". أولاً، ما هو معيار القراءة لدى المسلمين؟ يعني ما هو الشرط الذي يجب أن ألبِّــيَه حتى أصبح قارئاً بنظرهم؟ لو أني وافقتُ عقائدهم ودافعتُ عنها فهل سأُعَــدُّ قارئاً؟ لقد أصبحتُ بنظرهم لا أقرأ لمجرد أنني خالفتُ عقائدَهم، أي لمجرد أنني لم أجاملهم واستخدمتُ عقلي بمعزل عن سلطان العقيدة. ثانياً، ما هي الكتب التي تدعونني لقراءتها؟ بالمقابل، هل تقرؤون أنتم غيرَ القرآن والكتب التي تؤكد عقيدتكم؟ هل قرأتم، على سبيل المثال، أعمالَ الفيلسوفة سيمون فايل وأفكارَ جدو كريشنامورتي وأرنولد توينبي وميخائيل نعيمه وجبران خليل جبران وأنتوني دو ميلُّو وهيلينا بلافاتسكي وويليم دجدج ومحمود محمد طه والشيخ أحمد القبانجي وعبد الله القصيمي واسماعيل أدهم وهادي العلوي وفراس السواح ومحمد عابد الجابري وكارل غوستاف يونغ وفرويد وغيرهم؟ أم لا حاجة لكم بها؟ هل القراءة التي تحتاجون إليها هي فقط التي تعزز عقائدكم؟ ألا ينبغي أن تقرؤوا أيضاً ما يزعزع عقائدكم؟ ثالثاً، ما ينقص العالَم الإسلامي هو الاختبار. لو كان هناك إنسان لا يعرف طعمَ ثمرةٍ ما، هل نقول له أنتَ لا تعرفها لأنك لم تقرأ أو نُحِيلُ هذا المسكينَ على الكتب التي تناولَت الثمرةَ بالدراسة والوصف؟ أليس الأجدى والأجدر أنْ نعطيَه ثمرةً ليذوقَها. تروي سيمون فايل في كتاب "التجذر" طرفةً هندوسية وهي أنَّ ناسكاً عاد بعد أربعة عشر عاماً من الخلوة ليرى عائلتَه. فسأله أخوه ماذا اكتسبَ. فاصطحبَه الناسكُ إلى نهر وقطعَه سيراً على قدمَيه أمام عينَي أخيه. فنادى الأخُ من بعيد إلى الشخص العبَّار صاحب الزورق وطلبَ منه أن ينقلَه بقارَب إلى الضفة الأخرى ودفعَ له فلساً، ثم قال لأخيه الناسك: "هل يستحق هذا عناءَ قضاء أربع عشرة سنة من الجهد لاكتساب ما أستطيع الحصول عليه مقابل فلس واحد؟" هذا هو الموقف السليم. إن موقف كثير من المؤمنين بالقرآن هو كموقف الناسك. 10- الاعتراض 10: القرآن يثبت رحمةَ الله بخلقه، فكيف يعذِّب اللهُ إنساناً يستغفر، هل هذا عدل؟ أخيراً، بقي أنَّ كلام الكاتب يدل على عدم القراءة والتمعن أثناء القراءة. الرد: إنني أُظهِر تناقضَ التفسير ولا أقول إنَّ الله – إنْ وُجِدَ - يعذِّب من يستغفر. القرآن هو من يقول بأنَّ الله يعذِّب المشركين. فاستنطِقْه واسأله إنْ كان هذا عدلاً. |
|
|
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| الرؤية؟, القرآن, حديث, كيف |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| كيف يحدث الوعي؟ محاولة لفهم عقل البشر.... | Skeptic | في التطور و الحياة ☼ | 29 | 02-07-2021 08:58 PM |
| ما هو التطور? و كيف يحدث? | أنا لُغَـتِي | في التطور و الحياة ☼ | 59 | 12-08-2017 11:26 PM |
| الكون كيف نشأ.. هل خلفه قوة أم أوجد نفسه بنفسه..من أعطى الأمور لكي يحدث الانفجار | أنس | العقيدة الاسلامية ☪ | 2 | 03-09-2016 09:47 AM |
| الرؤية بعيون الاخرين ام بعيونك | القايدي | حول الحِوارات الفلسفية ✎ | 5 | 09-01-2014 08:23 AM |
| القرآن وثقافة الخوف. كيف يشل القرآن نفسية المسلمين؟ | ترنيمه | مقالات من مُختلف الُغات ☈ | 0 | 08-09-2014 07:21 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond