![]() |
|
|
|||||||
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | اسلوب عرض الموضوع |
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عضو برونزي
![]() |
صوت الشوارع: تناقضات الغضب العربى
الفصل الأول: عواصف الغضب في بغداد (2003) في ربيع عام 2003، كانت شوارع القاهرة تعج بالغضب، وكأن الهواء نفسه يحمل رائحة الاحتجاج الممزوجة بدخان الإطارات المحترقة. أحمد، الشاب الجامعي في العشرينيات من عمره، كان يدرس التاريخ في جامعة القاهرة، حيث كان يقضي ساعات طويلة في مكتبة الكلية يقرأ عن صلاح الدين والانتداب البريطاني. لكنه في تلك الأيام لم يكن في المكتبة، بل في قلب ميدان التحرير، محاطاً بآلاف المتظاهرين الذين تدفقوا من كل أنحاء المدينة. كانوا يحملون لافتات مكتوبة بخطوط غاضبة: "أمريكا عدوة الأمة!" و"العراق عربي، لا للاحتلال!" الصيحات كانت تملأ الأفق، وأحمد، الذي كان يرتدي قميصاً قطنياً بسيطاً ويحمل حقيبة ظهر مليئة بالكتب، شعر بنشوة المشاركة في لحظة تاريخية. كان الغضب موجهاً ضد الغزو الأمريكي للعراق، الذي بدأ في 20 مارس 2003، بعد أشهر من التوتر والتنديد الدولي. الصور التي بثتها قنوات مثل الجزيرة والعربية كانت صادمة: دبابات أمريكية تتقدم نحو بغداد، قصف جوي يدمر أحياء سكنية، وأخبار عن سقوط آلاف المدنيين. في القاهرة، كانت هذه الصور تغذي الغضب الشعبي، ولم يكن ميدان التحرير وحده المسرح. في عمان، خرجت مظاهرات حاشدة أمام السفارة الأمريكية، حيث واجه المتظاهرون قوات الأمن الأردنية التي حاولت تفريقهم بالغاز المسيل للدموع. في بيروت، كانت شارع الحمرا يعج بالطلاب والناشطين الذين رفعوا شعارات تضامنية مع العراق، بينما في دمشق، شهدت ساحة الأمويين احتجاجات مماثلة، رغم القيود الأمنية الصارمة التي فرضتها الحكومة السورية. أحمد، الذي كان يحمل دفتر ملاحظاته الصغير لتسجيل أفكاره، كتب في تلك الليلة: "اليوم، شعرت أننا أمة واحدة. الغضب في عيون الناس لم يكن مجرد رد فعل، بل كان صرخة ضد التاريخ نفسه، ضد كل مرة شعرنا فيها بالعجز أمام القوى الخارجية." كان يرى في الغزو اعتداءً على السيادة العربية، ليس فقط للعراق، بل لكل دولة عربية كانت تخشى أن تكون التالية على قائمة "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"، كما كان يروج المسؤولون الأمريكيون. الصحف العربية، مثل الأهرام والحياة، كانت مليئة بالتقارير عن المجازر، وصور الدمار في بغداد والفلوجة كانت تحتل الصفحات الأولى. مقالات الرأي كانت تتهم الولايات المتحدة بالنفاق، مشيرة إلى أن ادعاءات "تحرير العراق" و"البحث عن أسلحة الدمار الشامل" لم تكن سوى ذريعة للسيطرة على النفط والموارد. في الأسواق والمقاهي، أصبحت المقاطعة الشعبية للمنتجات الأمريكية شعاراً يومياً. في مصر والأردن، بدأت حملات شعبية لمقاطعة شركات مثل كوكاكولا وماكدونالدز، وكانت الإعلانات في الشوارع تدعو إلى دعم المنتجات المحلية. أحمد نفسه توقف عن شرب البيبسي، مفضلاً عصير القصب من بائع قريب من منزله في حي السيدة زينب. في بعض الدول، مثل المغرب، نظمت النقابات والجمعيات مظاهرات تضامنية، وكانت الجامعة العربية تصدر بيانات تندد بالغزو، رغم محدودية تأثيرها. لكن وسط هذا الغضب الجارف، كان هناك تناقض يثير قلق أحمد. الكثير من المتظاهرين، بمن فيهم أصدقاؤه في الجامعة، كانوا يرون في صدام حسين رمزاً للمقاومة. رغم علمهم باستبداده، بقمع معارضيه، وبحروبه ضد إيران والكويت، كانوا يعتبرونه صوتاً عربياً قوياً يقاوم الهيمنة الغربية. في إحدى المناقشات الحامية في مقهى بالقرب من الجامعة، قال صديقه ياسر: "نعم، صدام ديكتاتور، لكن هل أمريكا أفضل؟ إنهم يقتلون شعبنا باسم الديمقراطية!" هذا المنطق كان يتردد في الشوارع، في المقالات، وحتى في الأغاني الشعبية التي بدأت تنتشر، مثل تلك التي تغنيها فرقة الشارع في بغداد. مع سقوط بغداد في أبريل 2003، وصور تمثال صدام وهو يُسقط، تحول الغضب إلى نوع من اليأس الممزوج بالعناد. أحمد شارك في مظاهرة أخرى بعد سقوط النظام، لكنه لاحظ أن الحشود بدأت تتضاءل. كان الناس يشعرون بالإحباط، كأن صوتهم لم يغير شيئاً. في الوقت نفسه، بدأت أخبار الفوضى في العراق تصل: نهب المتاحف، انهيار البنية التحتية، وصعود الميليشيات. أحمد كتب في يومياته: "كنا نثور ضد الغزاة، لكن من سيثور ضد الفوضى التي تركوها؟" بعد سنوات، وهو ينظر إلى الوراء، تساءل أحمد: أين كان هذا الغضب نفسه عندما بدأ العراق ينهار من الداخل؟ عندما تحولت بغداد إلى ساحة للصراعات الطائفية، وأصبحت الميليشيات تسيطر على الأحياء؟ لماذا كانت الشوارع العربية صامتة حينها؟ كان يشعر أن الغضب الذي ملأ ميدان التحرير في 2003 كان موجهاً ضد عدو خارجي واضح، لكنه تلاشى عندما أصبح العدو هو الفوضى الداخلية. ربما، كما فكر أحمد، كان الغضب العربي يحتاج إلى رمز واضح ليشتعل، ولم يجد ذلك في الانهيار الذي تلا الغزو. لكنه، في تلك اللحظة، لم يكن يعلم أن هذا التناقض سيظهر مرة أخرى، في أزمات أخرى، من ليبيا إلى سوريا إلى السودان. الفصل الثاني: نار غزة التي لا تنطفئ (2023-2025) في السابع من أكتوبر 2023، استيقظ العالم العربي على أخبار صادمة: هجوم مباغت شنته حركة حماس على إسرائيل، أعقبه رد عسكري إسرائيلي مدمر على قطاع غزة. كانت تلك اللحظة بداية حريق لم ينطفئ، بل أشعل الشوارع العربية بنار الغضب التي لم تخمد حتى أكتوبر 2025. أحمد، الآن في الأربعينيات من عمره، كان قد ترك أحلامه الأكاديمية ليصبح صحفياً مستقلاً، يتنقل بين القاهرة وبيروت، يكتب لصحف ومواقع إلكترونية عن السياسة والصراعات. عندما وصلته الأخبار، كان في شقته الصغيرة بالقاهرة، يتابع قناة الجزيرة التي تبث صوراً مروعة: مبانٍ مدمرة، أطفال يبكون بجانب جثث ذويهم، ودبابات إسرائيلية تحاصر القطاع. شعر أحمد بنفس الغضب الذي شعر به في 2003، لكنه كان أعمق، أكثر إيلاماً، وكأن التاريخ يعيد نفسه بقسوة مضاعفة. الشوارع تغلي: موجة الاحتجاجات العارمة في الأيام الأولى للحرب، خرج أحمد إلى ميدان التحرير مرة أخرى، لكنه لم يكن الشاب الجامعي المتحمس الذي كان يهتف ضد غزو العراق. كان الآن رجلاً يحمل خبرة عقدين من الصراعات والخيبات، لكنه وجد نفسه محاطاً بحشود أكثر تنوعاً وغضباً. كان هناك طلاب، عمال، أساتذة، وحتى عائلات بأكملها تحمل أعلام فلسطين وصور الأطفال الضحايا. الشعارات كانت أكثر حدة: "غزة تنزف، أين العرب؟" و"إسرائيل المجرمة، أمريكا الراعية!" في إحدى الليالي، شهد أحمد حرق أعلام إسرائيلية وأمريكية، بينما كانت الحشود تهتف: "الموت للصهيونية!" كانت الشرطة المصرية تحاول السيطرة على الوضع، لكن الغضب كان أقوى من القيود. لم تكن القاهرة وحدها. في الدار البيضاء، تجمع عشرات الآلاف في شوارع المدينة، يحملون لافتات كتب عليها: "كفى ظلماً على فلسطين!" و"غزة ليست وحدها!" نظمت النقابات المغربية مسيرات ضخمة، شارك فيها حتى أولئك الذين لم يشاركوا في احتجاجات من قبل. في عمان، كانت المظاهرات أمام البرلمان الأردني مليئة بالعاطفة، حيث رفع المتظاهرون صور الضحايا وطالبوا بقطع العلاقات مع إسرائيل. لكن الاحتجاجات هناك واجهت قمعاً أمنياً، وتم اعتقال العشرات، مما زاد من الغضب الشعبي. في بيروت، كانت شوارع الحمرا والضاحية الجنوبية تعج بالمتظاهرين، حيث دعا حزب الله إلى مسيرات تضامنية، وشارك فيها أنصار من مختلف الطوائف. حتى في دول الخليج، التي تفرض قيوداً صارمة على التظاهر، شهدت مدن مثل المنامة والدوحة مظاهرات محدودة، وتدفقت ملايين المنشورات على منصات مثل إكس وإنستغرام، تنتقد الدعم الأمريكي لإسرائيل. هاشتاغات مثل #غزة_تحت_النار و#أوقفوا_الإبادة تصدرت وسائل التواصل، وحققت ملايين التفاعلات. غزة: رمز الظلم بحلول أكتوبر 2025، بعد عامين من الحرب المدمرة، كانت غزة قد تحولت إلى رمز عالمي للظلم. أحمد، الذي كتب مئات المقالات خلال هذين العامين، وصف كيف أصبحت كل صورة من غزة – سواء كانت لمستشفى مدمر أو طفل يبحث عن عائلته وسط الركام – بمثابة وقود للغضب العربي. استطلاعات الرأي، مثل تلك التي أجراها المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، أظهرت أن 82% من العرب يرون الرد الأمريكي على الحرب "سيئاً جداً"، بينما اعتبر 90% أن إسرائيل ترتكب "إبادة جماعية". كانت هذه الأرقام تعكس شعوراً عميقاً بالخيانة، ليس فقط من الغرب، بل أحياناً من الحكومات العربية التي بدت عاجزة أو مترددة في اتخاذ مواقف حاسمة. أحمد سافر إلى عمان في صيف 2024 لتغطية إحدى المسيرات الكبرى، حيث التقى بفتاة شابة تُدعى ليلى، طالبة جامعية كانت تحمل لافتة كتب عليها: "غزة قلب الأمة". سألها أحمد: "لماذا أنتِ هنا؟" فأجابت: "لأنني لا أستطيع النوم وأنا أرى إخوتي في غزة يموتون كل يوم. إذا لم نتحد الآن، فمتى؟" كلماتها بقيت عالقة في ذهنه، لأنها عكست شعوراً جمعياً: غزة لم تكن مجرد قضية سياسية، بل كانت جرحاً مفتوحاً في الضمير العربي. تأثير الاحتجاجات: تغييرات على الأرض الاحتجاجات لم تكن مجرد تعبير عن الغضب، بل بدأت تؤثر على السياسات. في الأردن، ضغطت الجماهير على الحكومة لتعليق بعض الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، بما في ذلك صفقة استيراد الغاز. في المغرب، أدت المظاهرات إلى إعادة تقييم العلاقات مع إسرائيل، رغم استمرار التطبيع الرسمي. حتى في مصر، التي تربطها اتفاقية سلام مع إسرائيل، بدأت الحكومة تتحدث علناً عن ضرورة وقف إطلاق النار، استجابة لضغط الشارع. أحمد كتب في إحدى مقالاته: "غزة أعادت إحياء الروح الثورية في الشوارع العربية. لكن السؤال هو: إلى أين ستأخذنا هذه الروح؟" على منصة إكس، كانت الحملات الرقمية لا تتوقف. نشطاء من تونس والجزائر نظموا حملات لجمع التبرعات للاجئين الفلسطينيين، بينما استخدم فنانون عرب مثل المغني التونسي "إمسي" منصاتهم لنشر أغانٍ تضامنية مع غزة، حصدت ملايين المشاهدات. في الخليج، رغم القيود، كانت هناك دعوات لمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل، وأصبحت علامات تجارية مثل ستاربكس تواجه انخفاضاً في المبيعات في بعض الدول. تناقضات الغضب لكن وسط هذا الغضب الجارف، كان أحمد يتذكر لحظات الصمت أمام كوارث أخرى. كان يفكر في ليبيا وسوريا، حيث بدا الرأي العام العربي أقل اهتماماً، أو حتى داعماً للانهيار أحياناً. في إحدى الليالي، بينما كان يكتب مقالاً في مقهى بالقاهرة، سأل نفسه: "لماذا نغضب هكذا لغزة، ونصمت أمام دمشق أو الخرطوم؟" كان يرى أن غزة، بسبب وضوح الصراع وعدو خارجي ملموس، استطاعت أن توحد الشعوب العربية. لكن الكوارث الداخلية، مثل الحروب الأهلية أو صعود الجماعات الإسلامية، كانت أكثر تعقيداً، وغالباً ما قسمت الرأي العام بدلاً من توحيده. في أكتوبر 2025، وبينما كان أحمد يراجع صوراً من مظاهرة حديثة في القاهرة، شعر بمزيج من الأمل والإحباط. الأمل لأن غزة أعادت إحياء الشعور بالوحدة العربية، والإحباط لأن هذه الوحدة بدت مشروطة بسياقات معينة. كتب في آخر مقاله: "غزة ليست مجرد أرض، إنها مرآة تعكس غضبنا وتناقضاتنا. لكن إذا أردنا أن نكون أمة حقاً، يجب أن نغضب لكل ظلم، لا فقط لما يوحدنا." الفصل الثالث: الربيع الذي تحول إلى خريف (2011) في شتاء 2011، كان العالم العربي يعيش لحظة تاريخية نادرة، كأن نسمة من الأمل تجتاح شوارعه. كانت الثورات العربية قد بدأت في تونس، حيث أشعل البوعزيزي، بائع الخضار الشاب، شرارة الاحتجاجات التي أطاحت بزين العابدين بن علي. سرعان ما انتقلت العدوى إلى مصر، حيث أسقط ميدان التحرير حسني مبارك، ثم إلى ليبيا وسوريا واليمن والبحرين. أحمد، الذي كان في الثلاثينيات من عمره، ويعمل كصحفي مبتدئ في إحدى الصحف المصرية، كان يتابع هذه الأحداث بحماسة طالب التاريخ الذي كان يوماً. كان يرى في الثورات فرصة لإعادة كتابة تاريخ الأمة، لكن بحلول نهاية العام، بدأ يشعر أن هذا الربيع يتحول إلى خريف قاسٍ، خاصة في ليبيا وسوريا. ليبيا: من الحماس إلى الصمت في ليبيا، بدأت الأحداث باحتجاجات سلمية في بنغازي ضد نظام معمر القذافي، الذي حكم البلاد لأكثر من أربعة عقود بقبضة حديدية. أحمد، الذي كان يتابع الأخبار من مكتبه الصغير في القاهرة، لاحظ كيف تحولت هذه الاحتجاجات بسرعة إلى تمرد اسلامى اخوانى سلفي ارهابي مسلح. في البداية، كان هناك تعاطف شعبي عربي غريب مع المتظاهرين، حيث رأى الكثيرون فيهم أبطالاً يسعون للحرية رغم انهم ارهابيون ملتحون اسلاميون بالحقيقة وليسوا ابطالا ولا يسعون للحرية. الجامعة العربية المسيطر عليها من دول الخليج اتخذت موقفاً غير مسبوق بمطالبتها بمنطقة حظر جوي، وهو ما أدى إلى تدخل حلف الناتو في مارس 2011 بقرار من مجلس الأمن الدولي. قطر والإمارات شاركتا في العمليات العسكرية، مما عزز الانطباع بأن العالم العربي موحد في دعم "الثورة المزعومة" . رغم أن العقلاء علموا أنها ثورة اسلاميين ارهابيين مثل افغانستان 1979 وايران 1979 ودعموا القذافي والأسد. لكن هذا الدعم لم يترجم إلى حراك شعبي واسع. في القاهرة، كانت الاحتجاجات ضد الثوار الاسلاميين محدودة، وغالباً ما اقتصرت على وقفات رمزية نظمتها مجموعات شبابية أو منظمات حقوقية. أحمد شارك في إحدى هذه الوقفات أمام السفارة الليبية، لكنه لاحظ أن الحشود لم تكن بقوة تلك التي خرجت ضد غزو العراق في 2003. كتب في تقرير له: "الناس يتعاطفون مع الليبيين والقذافي، لكن الشوارع ليست ثائرة كما كانت في قضايا أخرى." في دول أخرى مثل الأردن والمغرب، كانت الاحتجاجات نادرة، وإن وجدت، فكانت إما باردة أو داعمة لما أُطلق عليهم "الثوار"، الذين بدأوا يُنظر إليهم لاحقاً كجماعات إسلامية متطرفة. مع تقدم التدخل الغربي، بدأت الشكوك تتسلل. قصف الناتو، الذي كان يهدف إلى حماية المدنيين، تسبب في سقوط ضحايا من المدنيين أحياناً، مما أثار انتقادات لبعض المثقفين العرب. أحمد كتب في يومياته: "هل ندعم الحرية، أم نساهم في فتح الباب للإرهاب؟" صعود جماعات مثل الإخوان المسلمين وبعض الفصائل الإسلامية المتشددة ضمن الثوار زاد من هذه المخاوف. عندما قُتل القذافي في أكتوبر 2011، وانتصر الثوار الارهابيون كانت هناك احتفالات داعمة للاسلاميين هؤلاء في بعض العواصم العربية، ومظاهرات صغيرة داعمة للقذافي والدولة الليبية لكنها لم تصل إلى مستوى الزخم الشعبي الذي شهدته قضايا مثل فلسطين. بدلاً من ذلك، بدأت أخبار الفوضى في ليبيا تصل: نهب الأسلحة، صراعات الميليشيات، وانهيار مؤسسات الدولة. الشوارع العربية، التي كانت داعمة بحذر في البداية، أصبحت صامتة، رغم أن المفترض أن تكون متخوفة من وثائرة ضد صعود الجماعات الإسلامية الإرهابية" سوريا: من الثورة إلى الانقسام في سوريا، بدأت الأحداث كاحتجاجات سلمية في درعا في مارس 2011، تطالب بالإصلاحات في وجه القمع المزعوم الذي يمارسه نظام بشار الأسد. أحمد، الذي كان يكتب تقارير يومية عن الربيع العربي، كان متفائلاً في البداية، وكتب مقالاً بعنوان "سوريا تنتفض: هل هي نهاية الأسد؟" في القاهرة، نظمت وقفات تضامنية مع الشعب السوري، لكنها كانت محدودة مقارنة بالحشود التي خرجت ضد الغزوات الخارجية. في دول الخليج، كانت قنوات مثل الجزيرة والعربية تدعم الاحتجاجات، وتصف المتظاهرين بـ"الثوار" الذين يقاتلون من أجل الحرية. رغم أن هؤلاء الثوار ارهابيون اسلاميون وداعمون للاسلاميين لكن لم تحدث احتجاجات عربية ضد هؤلاء الثوار الاسلاميين بل كانت باردة نسبياً او داعمة للثوار الاسلاميين وليس لبشار الاسد، وكان المفروض أن تخرج متصدية لمحاولات اسقاط الأسد وتمكين الاسلاميين وأن تصل إلى مستوى الغضب الذي شهدته قضايا مثل العراق أو غزة. مع تحول الاحتجاجات إلى تمرد اسلامي ارهابي اخواني سلفي مسلح، بدأت التدخلات الخارجية تشوه وجه الثورة. تركيا وقطر والسعودية دعمت فصائل المعارضة، بينما دعمت إيران وروسيا النظام. صعود جماعات مثل جبهة النصرة (التي أصبحت لاحقاً هيئة تحرير الشام) أثار مخاوف من "إسلامة" الثورة، بل وتحولها إلى ما وصفه البعض بـ"إرهاب إسلامي". أحمد، الذي زار بيروت في 2012 لتغطية تداعيات الأزمة، التقى بلاجئين سوريين في مخيمات الشمال. أحدهم، ويدعى خالد، قال له: "بدأنا نطالب بالحرية، لكن الآن أصبحنا عالقين بين الأسد والإرهابيين الذين يسمون أنفسهم ثواراً." هذه الكلمات جعلت أحمد يدرك أن الثورة فقدت بريقها الأولي. الرأي العام العربي كان منقسماً. في دول مثل قطر والسعودية، استمر الدعم الرسمي والشعبي لما أُطلق عليه "الثوار"، رغم أن الكثيرين كانوا ينتمون إلى جماعات إسلامية متشددة. لكن في مصر والأردن، كانت هناك مخاوف متزايدة من أن تسفر الثورة عن دولة متطرفة، خاصة مع تقارير عن انتهاكات ارتكبتها هذه الفصائل. الاحتجاجات الشعبية ضد الثوار كانت نادرة، وإن وجدت، فكانت غالباً داعمة لهذه الجماعات الإسلامية التي رأى فيها البعض "مقاومة"، بينما رآها آخرون "إرهاباً". أحمد لاحظ أن الإعلام العربي ركز على "انتصارات" هذه الفصائل، متجاهلاً إلى حد كبير الفوضى والدمار الذي تسببت به. تناقضات الرأي العام بحلول نهاية 2011، وبينما كانت ليبيا تنزلق إلى الفوضى وسوريا إلى حرب أهلية، شعر أحمد بالإحباط. الرأي العام العربي، الذي هتف بحماس للثورات في بدايتها على أنها علمانية، كان إما بارداً أمام صعود الثوار الاسلاميين أو داعماً لجماعات أثارت الجدل. في القاهرة، كانت الاحتجاجات ضد الثوار الاسلاميين محدودة، وغالباً ما تحولت إلى دعم لفصائل إسلامية متشددة أُطلق عليها "ثوار"، لكن الكثيرين بدأوا يرون فيها تهديداً. أحمد كتب في مقال له: "بدأنا نثور ضد الديكتاتوريات، لكننا وجدنا أنفسنا أمام خيار بين الاستبداد والفوضى. الشوارع صامتة لأنها حائرة." في إحدى الليالي، في مقهى بالقاهرة، دار نقاش حامٍ بين أحمد وزملائه الصحفيين. قال أحدهم: "كيف ندعم ثورات تتحول إلى إرهاب؟" بينما رد آخر: "حتى لو كانوا متطرفين، فهم يقاتلون ضد الظلم!" أحمد بقي صامتاً، لكنه كتب في يومياته: "الثورات بدأت بحلم الحرية، لكنها تحولت إلى كابوس بسبب التدخلات الخارجية والتطرف. ربما كنا ساذجين عندما اعتقدنا أن سقوط الديكتاتور سيجلب الديمقراطية." كان يشعر أن الرأي العام العربي، رغم دعمه الأولي للثورات، أصبح حذراً أو منقسماً عندما أصبحت النتائج واضحة: فوضى في ليبيا، وصراع طائفي في سوريا. الفصل الرابع: سقوط دمشق (2024) في صباح الثامن من ديسمبر 2024، استيقظ العالم العربي على خبر صادم: سقوط دمشق. نظام بشار الأسد، الذي صمد لأكثر من عقد في وجه ثورة تحولت إلى حرب أهلية مدمرة، انهار تحت ضربات تحالف المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام (hts). أحمد، الذي كان يعمل الآن كصحفي مستقل مقيم في بيروت، كان في غرفة الأخبار الصغيرة الخاصة به، يتابع شاشات التلفاز التي تبث صوراً من العاصمة السورية: مقاتلون يرفعون أعلام المعارضة في ساحة الأمويين، وجموع من المدنيين يتجمعون في حالة من الفرح الممزوج بالحذر. لكن أحمد، الذي شهد سنوات من الصراعات، شعر بثقل اللحظة. لم يكن هذا انتصاراً نظيفاً كما كان يحلم به في 2011، بل كان بداية فصل جديد مليء بالغموض والتناقضات. لحظة السقوط: بين الاحتفال والقلق أحمد سافر إلى بيروت قبل أشهر من سقوط دمشق، لتغطية التطورات في سوريا والمنطقة. كان قد أصبح معتاداً على التنقل بين المدن العربية، حاملاً معه كاميرا ودفتر ملاحظاته. في الأيام التي سبقت 8 ديسمبر، كانت الأخبار تشير إلى تقدم سريع لقوات المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام، التي سيطرت على حلب وإدلب قبل أن تتجه نحو العاصمة. عندما دخل المقاتلون دمشق، بثت قنوات مثل الجزيرة والعربية لقطات حية للجموع التي تجمعت في الشوارع، بعضهم يهتف "سوريا حرة!" بينما كان آخرون يراقبون بحذر، خوفاً من المستقبل. في دول الخليج، خاصة قطر والسعودية، كانت هناك احتفالات رسمية وشعبية بسقوط الأسد. قنوات مثل العربية بثت تقارير تحتفي بـ"نهاية عصر الاستبداد"، مشيرة إلى الدعم الذي قدمته هذه الدول للمعارضة على مدى سنوات. على منصة إكس، تصدرت هاشتاغات مثل #سوريا_حرة و#سقوط_الأسد، مع منشورات تمدح المقاتلين كأبطال أنهوا حكماً قمعياً. في الدوحة، نظمت فعاليات تضامنية صغيرة، وكتب أحد الناشطين: "اليوم، تنفس الشعب السوري الحرية بعد 50 عاماً من ظلم آل الأسد." لكن أحمد، الذي كان يتصفح هذه المنشورات من مقهى في بيروت، لاحظ أن الفرح لم يكن عالمياً. في مصر والأردن، كانت ردود الفعل أكثر تحفظاً، مع قلق متزايد من صعود هيئة تحرير الشام، التي ارتبطت في السابق بتنظيم القاعدة. مخاوف "الإخونة" والتدخلات الإقليمية القلق الذي شعر به أحمد لم يكن شخصياً، بل كان يعكس مزاجاً شعبياً أوسع. هيئة تحرير الشام، بقيادة أبو محمد الجولاني، حاولت تقديم نفسها كقوة "معتدلة" في السنوات الأخيرة، لكن سجلها الإسلامي المتشدد أثار مخاوف من "إخونة" سوريا، أي تحولها إلى دولة تسيطر عليها جماعات إسلامية مثل الإخوان المسلمين أو غيرها. في القاهرة، كتب أحد المحللين في صحيفة الأهرام: "سقوط الأسد قد يكون نصراً، لكن من سيحكم دمشق غداً؟" هذا السؤال كان يتردد في أحاديث الناس في المقاهي والمنتديات. أحمد التقى في بيروت بلاجئ سوري يُدعى عمر، الذي قال: "هربت من الأسد، والآن أخاف من الجولاني. هل سيعيدون بناء سوريا، أم سيقسمونها بينهم؟" التدخلات الإقليمية زادت من تعقيد المشهد. تركيا، التي دعمت المعارضة، كانت لها أجندتها في شمال سوريا، حيث سعت إلى إنشاء منطقة نفوذ لمواجهة الأكراد. إيران، التي خسرت حليفها الأسد، بدأت تعيد ترتيب أوراقها، مع تقارير عن إعادة تموضع ميليشياتها في شرق سوريا. أحمد سمع من مصادر دبلوماسية في بيروت أن قطر بدأت حواراً مع جميع الأطراف، بما في ذلك هيئة تحرير الشام، لضمان انتقال سلمي للسلطة ومنع إعادة اشتعال الحرب. لكن هذه الجهود لم تطمئن الرأي العام العربي، الذي كان يرى في سوريا مرآة لما حدث في ليبيا: ثورة بدأت بالأمل وانتهت بالفوضى. صمت الشوارع العربية على عكس الاحتجاجات العارمة التي شهدتها الشوارع العربية ضد غزو العراق في 2003 أو حرب غزة في 2023، كانت الشوارع هادئة نسبياً بعد سقوط دمشق. في القاهرة، لم تنظم مظاهرات كبيرة، واكتفت بعض المنظمات الشبابية بتنظيم ندوات لمناقشة مستقبل سوريا. في عمان، كانت هناك دعوات محدودة للتضامن مع الشعب السوري، لكنها لم تصل إلى مستوى الحشود التي خرجت لدعم غزة. حتى في بيروت، حيث كانت الأزمة السورية لها تأثير مباشر بسبب اللاجئين، كانت الاحتجاجات نادرة. أحمد كتب في مقال له: "سقطت دمشق، لكن الشوارع العربية لم تهتز كما اهتزت لبغداد أو غزة. ربما لأننا تعبنا، أو لأن الجرح أصبح معقداً جداً." في إحدى الليالي، التقى أحمد بصحفي سوري في بيروت يُدعى ياسر، كان قد غطى الثورة منذ بدايتها. سأله أحمد: "لماذا لا نرى الغضب نفسه الذي رأيناه في قضايا أخرى؟" أجاب ياسر: "لأن سوريا أصبحت معركة الجميع ولا أحد. الشعب العربي دعم الثورة في البداية، لكنه الآن يرى فيها فوضى وتدخلات أجنبية. لقد خسرنا الوضوح الذي كان لدينا في قضايا مثل فلسطين." هذه الكلمات أثرت في أحمد، الذي بدأ يرى أن الرأي العام العربي يحتاج إلى عدو واضح – مثل إسرائيل أو أمريكا – ليشتعل غضبه. لكن في سوريا، حيث كان الصراع بين أطراف متعددة، فقد الغضب زخمه. تأملات أحمد بينما كان أحمد يكتب تقريراً من مكتبه في بيروت، كان يفكر في التناقضات التي شاهدها. الشعب العربي، الذي خرج بالملايين ضد الغزوات الخارجية، كان أقل حماساً عندما تعلق الأمر بالصراعات الداخلية. كتب في يومياته: "سقوط الأسد كان يوماً تاريخياً، لكنه لم يوحدنا كما فعلت غزة. ربما لأننا نخاف من المجهول، أو لأننا أصبحنا نرى في كل ثورة شبح الفوضى." كان يشعر أن الرأي العام العربي، رغم دعمه الأولي للثورات، أصبح أكثر براغماتية، يركز على الاستقرار بدلاً من الأحلام الكبيرة التي سادت في 2011. في النهاية، بقي أحمد يتساءل: هل كان صمت الشوارع العربية انعكاساً للتعب من سنوات الصراع، أم أنه دليل على فقدان الثقة في الثورات؟ كان يأمل أن تجد سوريا طريقها إلى الاستقرار، لكنه كان يعلم أن التحديات التي تنتظرها – من صعود الجماعات الإسلامية إلى التدخلات الإقليمية – قد تجعل هذا الأمل بعيد المنال. الفصل الخامس: صمت السودان (2023-2025) في أبريل 2023، استيقظت الخرطوم على أصوات المدافع والرصاص، إيذاناً ببدء حرب أهلية بين قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي". ما بدأ كتوتر سياسي بين الرجلين، اللذين كانا شركاء في الحكم بعد الإطاحة بعمر البشير في 2019، تحول إلى صراع دموي أغرق السودان في كارثة إنسانية. أحمد، الصحفي المخضرم الذي كان قد شهد عقوداً من الصراعات العربية، زار الخرطوم في مارس 2023، قبل أن تتحول المدينة إلى ساحة حرب. كان يجلس في مقهى على ضفاف النيل، يستمع إلى أحاديث السكان المحليين عن التوترات السياسية، غير مدرك أن هذه المدينة ستصبح قريباً رمزاً للدمار. بحلول أكتوبر 2025، وبعد عامين ونصف من القتال، كان السودان قد شهد نزوح أكثر من 10 ملايين شخص، ومقتل عشرات الآلاف، لكن الرأي العام العربي ظل بارداً بشكل ملحوظ، مما أثار تساؤلات أحمد عن طبيعة الغضب العربي. الخرطوم: مدينة تحت النار عندما وصل أحمد إلى الخرطوم في مارس 2023، كانت المدينة تعيش حالة من الهدوء الحذر. كان السكان يتحدثون عن الخلافات بين البرهان وحميدتي، اللذين كانا يتصارعان على السلطة بعد فشل المفاوضات حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش. أحمد التقى بتاجر شاب يُدعى يوسف في سوق بحري، الذي قال له: "الجميع هنا يعلم أن شيئاً سيئاً قادم، لكن لا أحد يعرف كيف نوقفه." كان النيل يتدفق بهدوء، لكن الهواء كان مشبعاً بالتوتر. أحمد كتب في يومياته: "الخرطوم تنتظر مصيرها، كأنها تعلم أنها على وشك أن تصبح بغداد أخرى." عندما اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023، تحولت الخرطوم إلى ساحة معركة. قوات البرهان سيطرت على المطار والقصر الجمهوري، بينما اجتاحت قوات الدعم السريع الأحياء السكنية. الصور التي وصلت إلى أحمد، الذي عاد إلى القاهرة بحلول ذلك الوقت، كانت مروعة: مبانٍ مدمرة، مستشفيات تعج بالجرحى، ومدنيون يفرون من العاصمة إلى الولايات الأخرى أو عبر الحدود إلى تشاد ومصر. بحلول أكتوبر 2025، كانت التقارير تشير إلى مقتل أكثر من 20 ألف شخص، ونزوح حوالي 10 ملايين، معظمهم داخل السودان أو في دول الجوار. دارفور، التي كانت مسرحاً لصراعات سابقة، عادت إلى دائرة العنف، مع اتهامات لقوات الدعم السريع بارتكاب مجازر طائفية. التدخلات الإقليمية: وقود الصراع أحمد، الذي كان يتابع الأخبار من مكتبه في القاهرة، لاحظ كيف أدت التدخلات الإقليمية إلى تأجيج الصراع. الإمارات، التي رأت في حميدتي حليفاً استراتيجياً بسبب سيطرته على مناجم الذهب ودوره في الحرب اليمنية، قدمت دعماً مالياً وعسكرياً لقوات الدعم السريع. السعودية، من جانبها، دعمت البرهان، الذي كان يُنظر إليه كممثل للدولة الرسمية. مصر، التي تربطها علاقات وثيقة بالجيش السوداني، اتخذت موقفاً داعماً للبرهان، بينما حاولت الحفاظ على حياد ظاهري. هذه التدخلات حولت الحرب إلى صراع بالوكالة، مما زاد من تعقيد المشهد. أحمد التقى بدبلوماسي عربي في بيروت، قال له: "السودان أصبح ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. لا أحد يهتم بالشعب السوداني نفسه." هذه التدخلات لم تُثر فقط غضب أحمد، بل أثرت أيضاً على الرأي العام العربي. في دول مثل مصر والأردن، كان هناك شعور بالإحباط من تورط دول عربية في صراع يدمر دولة شقيقة. لكن هذا الإحباط لم يترجم إلى احتجاجات كبيرة. في القاهرة، نظمت بعض المنظمات المدنية وقفات تضامنية مع الشعب السوداني، لكنها كانت محدودة، لا تتجاوز بضع مئات من الأشخاص. في الرباط، دعت جمعيات مغربية إلى جمع تبرعات للنازحين السودانيين، لكن الشوارع لم تمتلئ بالمتظاهرين كما حدث في قضية غزة. حتى على منصة إكس، كانت الهاشتاغات مثل #السودان_ينزف أقل رواجاً بكثير من #غزة_تحت_النار، مما دفع أحمد إلى التساؤل: "لماذا يبدو أن دماء السودانيين أقل أهمية؟" صمت الإعلام والشوارع التغطية الإعلامية للحرب السودانية كانت ضعيفة بشكل ملحوظ مقارنة بالصراعات الأخرى. قنوات مثل الجزيرة والعربية، التي كانت تبث تقارير يومية عن غزة أو العراق، خصصت وقتاً أقل للسودان. أحمد لاحظ أن الصحف العربية، مثل الأهرام والشرق الأوسط، كانت تكتفي بنشر تقارير مقتضبة عن الاشتباكات، دون الخوض في عمق الكارثة الإنسانية. في إحدى المرات، شاهد أحمد تقريراً تلفزيونياً يتحدث عن نزوح ملايين السودانيين، لكنه لاحظ أن المذيع انتقل بسرعة إلى موضوع آخر، كأن الحرب السودانية ليست سوى خبر عابر. هذا الصمت الإعلامي عزز شعور أحمد بأن الرأي العام العربي يرى الحرب السودانية كـ"شأن داخلي"، أو حتى كصراع يخدم مصالح دول عربية معينة. في دول الخليج، كان هناك انقسام في الرأي العام. في الإمارات، كانت هناك أصوات تدافع عن دعم حميدتي، معتبرة أنه يمثل قوة حديثة في مواجهة الجيش "المتخلف". في السعودية، كان الدعم للبرهان يُنظر إليه كجزء من الحفاظ على استقرار المنطقة. لكن هذه الانقسامات لم تتحول إلى حراك شعبي كبير. أحمد كتب في إحدى مقالاته: "السودان يحترق، لكن شوارعنا صامتة. لماذا نثور ضد الغزاة الخارجيين، ونصمت أمام الانهيار الداخلي؟" تأملات أحمد: لماذا الصمت؟ في أكتوبر 2025، وبينما كان أحمد في بيروت يكتب تقريراً عن تداعيات الحرب السودانية، التقى بناشطة سودانية تُدعى سلمى، كانت قد فرت إلى لبنان بعد تدمير منزلها في الخرطوم. سألها: "لماذا لا نرى تضامناً عربياً واسعاً مع السودان؟" أجابت: "لأن حربنا معقدة. لا يوجد عدو واضح مثل إسرائيل أو أمريكا. عندما يتقاتل أخ مع أخ، يصعب على الناس اختيار طرف." هذه الكلمات أثرت في أحمد، الذي بدأ يرى أن الرأي العام العربي يحتاج إلى رواية واضحة – عدو خارجي، أو قضية رمزية مثل فلسطين – ليشتعل غضبه. الحرب السودانية، بتعقيداتها الداخلية وتدخلاتها الإقليمية، بدت وكأنها لغز لا يستطيع الشارع العربي فك رموزه. أحمد كتب في يومياته: "السودان يذكرني بليبيا وسوريا. ثورات وصراعات بدأت بأمل، لكنها انتهت بصمت. ربما لأننا تعلمنا أن الغضب ضد الخارج أسهل من مواجهة أنفسنا." كان يشعر أن الرأي العام العربي، رغم تعاطفه مع معاناة السودانيين، لم يجد في هذه الحرب راية يمكن أن يتجمع حولها. الصمت، كما رآه أحمد، لم يكن تجاهلاً، بل تعبيراً عن الإرهاق والحيرة أمام كارثة داخلية أخرى. الخاتمة: مرآة التناقضات في أكتوبر 2025، جلس أحمد في مقهى صغير في شارع الحمرا في بيروت، يطل على الشارع المزدحم بالمارة والسيارات. كان الهواء يحمل نسمة خريفية خفيفة، لكن عقله كان ثقيلاً بأفكار تراكمت على مدى عقود من تغطية الصراعات العربية. أمامه، كانت مذكراته مفتوحة، صفحاتها مليئة بالملاحظات المكتوبة بخط يده، تحكي قصصاً عن الغضب والصمت، عن الثورات والانهيارات. كان قد شهد لحظات تاريخية: احتجاجات ميدان التحرير ضد غزو العراق في 2003، هتافات الشوارع العربية لأجل غزة في 2023-2025، والصمت المريب أمام انهيار ليبيا وسوريا والسودان وتسليم ليبيا وسوريا للاخوان والسلفيين الارهابيين المجرمين بمباركة من الرأي العام العربي والحكومات العربية. الآن، وبعد كل هذه السنوات، كان يحاول فهم التناقضات التي شكلت الرأي العام العربي. الغضب المشروط: هوية ضد الفوضى أحمد تأمل في كيف كان الجمهور العربي ثائراً، بل متأججاً، ضد الغزوات الخارجية. في 2003، كانت شوارع القاهرة وعمان وبيروت ودمشق تعج بالمتظاهرين الذين رأوا في الغزو الأمريكي للعراق اعتداءً على الهوية العربية، على مفهوم السيادة والكرامة. كانت الشعارات واضحة، والعدو واضح: الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يسعى للهيمنة على المنطقة. في حرب غزة (2023-2025)، عاد هذا الغضب بقوة أكبر، حيث رأى العرب في القصف الإسرائيلي للقطاع جريمة ضد الإنسانية، ورمزاً للظلم الذي طال فلسطين لعقود. كانت الشوارع من الدار البيضاء إلى عمان مليئة بالأعلام الفلسطينية، وكانت منصات التواصل الاجتماعي مثل إكس تعج بالهاشتاغات التي تندد بالدعم الأمريكي لإسرائيل. لكن أحمد لاحظ أن هذا الغضب كان مشروطاً: كان يشتعل عندما يكون العدو خارجياً، واضحاً، ومرتبطاً بقضية رمزية مثل فلسطين أو العراق. في المقابل، كان الرأي العام العربي بارداً، أو حتى داعماً أحياناً، للثورات الداخلية التي تحولت إلى فوضى. في ليبيا (2011)، رحب الكثيرون بسقوط معمر القذافي، ورأوا في التدخل الغربي وسيلة لإنهاء الاستبداد. لكن عندما تحولت الثورة إلى فوضى، مع صعود جماعات إسلامية مثل الإخوان المسلمين وتفكك الدولة، لم تشهد الشوارع العربية احتجاجات ضد الاخوان والسلفيين المستولين على حكم ليبيا وسوريا مماثلة لتلك التي رأيناها ضد الغزوات الخارجية. في سوريا، بدأت الثورة ضد بشار الأسد كحلم بالحرية، لكن مع صعود جماعات مثل هيئة تحرير الشام (hts) وتحول الصراع إلى حرب بالوكالة، أصبح الرأي العام منقسماً بين مؤيد لسقوط النظام وقلق من "إسلامة" الثورة. في السودان (2023-2025)، كان الصمت أكثر وضوحاً: حرب أهلية بين البرهان وحميدتي أدت إلى كارثة إنسانية، لكن الشوارع العربية لم تمتلئ بالمتظاهرين، والإعلام العربي لم يعطِ الحرب الأولوية نفسها التي أعطاها لغزة. أحمد كتب في مذكراته: "لماذا نثور ضد الغزاة الخارجيين، ونصمت أمام الانهيار الداخلي؟ هل لأن الغزو الخارجي يوحدنا تحت راية الهوية، بينما الفوضى الداخلية تكشف تناقضاتنا؟ أم أن المتظاهرون هم اخوان وسلفيون ولذلك لم يثوروا ضد اسقاط القذافي والاسد وتسليم البلدين للاسلاميين الارهابيين" كان يرى أن الغضب العربي ليس مطلقاً، بل مشروطاً بالسياق. عندما يكون العدو واضحاً – كإسرائيل أو أمريكا – يتحول الغضب إلى قوة موحدة. لكن عندما يكون الصراع داخلياً، مع أطراف متعددة وتدخلات إقليمية، يفقد الرأي العام زخمه، ويصبح الغضب مشتتاً أو حتى غائباً. النفاق السياسي أم تأثير الإعلام؟ جلس أحمد يفكر في الأسباب الكامنة وراء هذه التناقضات. هل هو نفاق سياسي؟ بعض الدول العربية الخليجية النفطية، مثل قطر والإمارات والسعودية ومعهم تركيا اردوغان، دعمت الثورات في ليبيا وسوريا، بل وساهمت في تأجيج الصراع في السودان من خلال دعم أطراف متصارعة. هذه المصالح الإقليمية شكلت الرأي العام إلى حد كبير، حيث كانت الحكومات والإعلام التابع لها تروج لروايات تخدم أجنداتها. في السعودية، كانت تغطية العربية للثورة السورية تركز على "جرائم الأسد"، بينما تجاهلت إلى حد كبير دور الجماعات الإسلامية المتشددة. في الإمارات، كانت التقارير عن السودان تميل إلى تبرير دعم حميدتي، بينما في مصر، كان الإعلام يركز على استقرار الجيش بقيادة البرهان. هذا الانحياز الإعلامي، كما رأى أحمد، جعل الرأي العام يرى هذه الصراعات كـ"شؤون داخلية" أو كمعارك تخدم مصالح إقليمية، وليس كقضايا تستحق الغضب الجماعي. لكن الإعلام لم يكن السبب الوحيد. أحمد كان يدرك أن هناك إرهاقاً جماعياً في الشارع العربي. بعد عقود من الصراعات – من العراق إلى فلسطين إلى ليبيا وسوريا – بدا أن الشعوب العربية فقدت بعضاً من حماستها الثورية. في إحدى الليالي، تحدث أحمد مع صديق لبناني في المقهى، يُدعى خليل، وسأله: "لماذا لم نخرج للسودان كما خرجنا لغزة؟" أجاب خليل: "لأننا تعبنا. كل يوم هناك كارثة جديدة، وكل يوم علينا أن نختار من ندعم. غزة واضحة، لكن السودان؟ من هو الصحيح هناك؟" هذه الكلمات جعلت أحمد يفكر في أن التعقيدات الداخلية للصراعات مثل السودان أو سوريا تجعل من الصعب على الشعوب العربية أن تجد رمزاً موحداً للغضب. أمل في الوحدة أحمد أغلق مذكراته ونظر إلى الشارع من نافذة المقهى. كان يفكر في كيف يمكن للغضب العربي أن يتحول من قوة هدامة إلى قوة بناءة. كان يحلم بيوم يتوحد فيه هذا الغضب ليس فقط ضد الغزاة الخارجيين، بل أيضاً ضد الفوضى الداخلية، ضد الفساد، ضد التدخلات الإقليمية التي تمزق الأمة. كتب في آخر سطر في مذكراته: "الشوارع العربية هي مرآة تناقضاتنا. نثور عندما نشعر بالهوية مهددة، لكننا نصمت عندما نهدد أنفسنا. ربما، يوماً ما، سنتعلم أن الغضب الحقيقي هو الذي يبني، لا الذي يحرق." لكن حتى ذلك اليوم، كما أدرك أحمد، ستبقى الشوارع مرآة لتناقضات الأمة: غضب عارم ضد الخارج، وصمت محير أمام الداخل. كان يأمل أن تكون هذه المرآة، يوماً ما، ليست فقط عاكسة للألم، بل أداة لفهم الذات وبناء مستقبل أفضل. |
|
|
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond