7- التناقضات المنطقية بصدد الإله أو الآلهة وآراء ختامية
المحادثة هي لعبة من الدوائر المفرغة
رالف والدو إِمِرْسُن Ralph Waldo Emerson
ناهيك عن افتقاد التأييد الاستدلالي والمنطقي لأجل المزاعم والتأكيدات الدينية، فإن التناقضات تكثر فيما يتعلق بالإله أو الآلهة، بناءً على أدنى حد ممكن من التعريف والذي وُضِع له أو لهم. بالتأكيد، فإن التأكيدات غير المؤيَّدة عن المعرفة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي يُفترَض أنها باطلة من خلال الافتراض الثالث للتفكير القائم على العقلانية، ولا يحتاج المرء إلى قطع بنية الأديان بنشاط في ضوء فراغها الاستدلالي والمنطقي. ومع ذلك، فإن عدم تماسكها وتنافرها المنطقي يستحق المراجعة النقدية من باب الزيادة والإسهاب. فبعد تفحص بعض السخافات المنطقية للاعتقاد الديني، فإن القطاع الأخير سوف يوضح ما لم يتم توضيحه والانتهاء من عمله عما يكونه الإله أو الآلهة حقًّا. الكثير من الناس قد قضوا ويستمرون في قضاء كامل حيواتهم لخدمة [تعبُّد] أديانهم، وإن توضيح المسائل محل الكلام إلى أبسط عناصرها هو خطوة هامة أخيرة.
التناقضات المنطقية بصدد وجود إله أو آلهة
المجموعة التالية من التناقضات في الاعتقاد الديني تمثل ما قد يميل [المتحدثون باسم ونصوص] الأديان إلى تصنيفه على أنه "غيبيات وأسرار الإيمان". بغض النظر، فإنها لا تمثل قائمة شاملة. يمكن أن تُكتَب كتبٌ كاملة على لا شيء سوى الأخطاء والغرابات الوفيرة للاعتقاد الديني. لماذا تحدث الأشياء السيئة للناس الصالحين والأبرياء؟ لماذا تبدو حرية الإرادة الإنسانية مهمشة كأنها البنود المكتوبة بخط صغير في عقدٍ للعضوية الدينية، معفيًا الإله [المفترَض] من أي مسؤولية عن الآلام والمعاناة في العالم. إن كان الشيطان يعاقب الآثمين إلى الأبد في الجحيم، ألا يجعله ذلك صالحًا؟ [هذه نقطة لا توجد سوى في المسيحية، لكن يمكن السؤال في الإسلام عن تحدي الشيطان لله مما يجعله كأنه ندٌّ له_المترجم]. كما يبدو فلا نهاية لهذه التناقضات، وما سأقوم به هو تغطية مختصرة لبعضها فقط هنا. كما سيُرى، فمعظم هذه التناقضات تنشأ من الفعل النشاز غير المنسجم بوضع الشخصيات النظرية البطولية للاعتقاد الديني على قمة المعاناة العملية التي تتحملها البشرية.
مشكلة وجود الشر/ الشيطان/ الشياطين والجن [المزعومة]
حيث أن الأديان تروج للمفاهيم المطلقة، فإنها تختلق قطبين صافيين للأخلاق البشرية: الخير والشر، وتقوم بنية الاعتقاد الديني بتجسيد هذين الطرفيين الأقصيين. الإله أو الآلهة هو/ هم مصدر كل الخير، والشياطين أو الجن هي مصدر كل الشر. ناهيك عن درجة قوة إقناع فكرة تصنيف المدى الهائل على نحو مدهش لكل السلوكيات الإنسانية الممكنة إلى إما "خير" أو "شر" بمعنى موضوعي، فإن مشكلة تنشأ لتلك الكائنات النظرية الخاصة بالاعتقاد الديني فيما يتعلق بالوضع العملي للحضارة البشرية. فبما أن الآلهة أو الإله كليّ القدرة ومحسنًا معًا بطبيعته وبحكم تعريفه، فيفترَض أنه يريد الأفضل لمخلوقاته. بالتالي، لماذا سيسمح بوجود كائنات تروج للشر وتنشره؟ لماذا سيسمح إلهٌ يحوز كلية المقدرة بمثل هذا الشر أو المعاناة أن توجد على الإطلاق؟
لقد ثبت أن وجود الشر في العالم هو السلاح ذو الحدين المطلق للأديان. فمن جهة، فإن وجود البؤس والسلوكيات الشريرة في العالم هو ما يجعل وعدها المغري بالخلاص ذا علاقة. ومن جهة أخرى، فإن الصفات الأساسية كحد أدنى لإلهٍ تُقوَّض بحقيقة أن الناس يجب أن يطلبوا المساعدة من نفس الكائن الذي خلق معاناتهم ونَصَبَهم في المقام الأول. عند تقاطع هذين المفهومين يوجد تعارض جِدِّيٌّ. فلو أن الإله أو الآلهة محسنون خيِّرون وكليّو المقدرة، فلماذا سيحتاج المرء على الإطلاق أن يُخلّص أو يُنجَّى؟ من أين يمكن أن يأتي الخطر مع وجود كائن بهذا المستوى من القوة والرحمة والحنان؟
الكثير من الجدليات لحل المشكلة قد قُدِّمَت، بعضها يتضمن:
1-الوجود الأرضيّ هو مجرد اختبار أو أرض امتحان لرؤية من سيُعتَبَر مستحقًا للجنة، وإن إلهًا سيدمر في الحقيقة الشر عند نهاية هذا العالم.
2-الإنسان يجب أن يُطهَّرَ بالآلام والمعاناة قبل أن يمكنه دخول الجنة.
3-الإنسان لا يحسن إدراك ما هو الشر حقًّا، أي أن الإله يعلم ما هو أفضل لنا، وهو في الحقيقة يتصرف بطريقة خيِّرة مُحْسِنة.
الجدليتان 1 و2 فاشلتان. فالجدلية 1 تقترح أن إلهًا لديه المقدرة الكلية التي تعطيه القدرة على عمل أي شيء خلق قصديًّا وعمديًّا البشر ناقصين وأنشأ العالم كاختبار لرؤية أي مخلوقاته البشرية سيثبُت أنه مستحِقٌ. بعبارة أخرى، فإن الجدلية 1 هي الالتجاء المعتاد المعياريّ لمفهوم اللوم البشري لحرية الإرادة لتفسير وجود الشر. بالتأكيد، فإن إلهًا ما كان ليكتسب أي معلومات [إضافية] عن الناس من اختبار كهذا بسبب علمه الكلي، والاختيارات التي سيقومون بها كانت ستكون معروفة مسبقًا ومتنبأ بها. [وهذا مهم في نقد الإسلام والمسيحية لورود هذه الفكرة التبريرية بوضوح وعلى نحو متكرر في القرآن والأناجيل]. أيضًا الجدلية 1 تخون [تتناقض مع] صفة الخيرية [لله] في أنه سيُفترَض أنه يجعل حيوات الناس أصعب على التحمل قصديًّا، كما يبدو للتسلية بما أنه لديه كامل القدرة والتحكم في كيفية خلقه لهم.
أيضًا الجدلية2 لا تبلي بلاءً أفضل بأي درجة لأنها أيضًا تتضمن أن إلهًا قادرًا على أي شيء يختار قصديًّا جعل الناس على نحوٍ كهذا بحيث سيحتاجون في الحقيقة للتطهير بالآلام والمعاناة، بصرف النظر عن الكيفية التي يمارسون بها حرية إراداتهم. في كلا السبيلين [الجدليتين]، فإن وجود تعارض مع سمتي كلية القدرة والإحسان الخاصين بالإله أو الآلهة ينتج عنه أن كليهما لا يمكن أن يقال عنهما أنهما صحيحان كذلك في نفس الوقت. لو أن الآلهة أو الإله كان يمكنه تجنب خلق الشر والمعاناة لكنه لم يفعل، فإن إحسانه [خيريته] يؤول إلى نكتة رديئة، أما لو كان لم يقدر على تجنب خلق الشر والمعاناة فإن كلية قدرته تتحطم [تتلف].
الجدلية3 هي أكثر الإجابات معقولية على المشكلة للأديان، إلا أنها لا توظفها كثيرًا. ظاهريًّا, فإن ترددها في المصادقة عليها ينشأ من حقيقة كونها تقوض الجدليات بأن الشر والجحيم يوجدان حقًّا من الأساس، والذي يعتبر على نحو مؤكد تضحية بحافز كبير للمشاركة في [وممارسة] الدين. يُرجَّح كذلك أن الجدلية3 لا يمكن التمسك بها بجدية في نظام أخلاقي يروج للمفاهيم المطلقة. فإذا يكون إلهٌ المصدرَ النهائي للأفعال أو النتائج التي يجدها البشر على مستوى عالميّ قذرة وفاحشة، فإن البحيرات الصافية للفردوس والحفر المظلمة للجحيم تبدآن في الاختلاط [يقصد اختلاط مفاهيم الخير والشر بتشبيه شعري_م]، ولعل العلاج أسوأ من المرض طالما التُجِئَ إلى الأديان.
على أي حال، فإن الجدلية3 هي أفضل اختيار للأديان لأنها تظل مناسبة للافتراض الديني الأساسي الخاص بالإيمان، أي أنها تنبذ المعرفة البشرية باعتبارها تافهة وغير ذات صلة. بتأكيدها [بزعمها] أن الناس لا يمكنهم إدراك أي شيء عن الطبيعة الحقيقية للعالم أو ما يحدث في الحقيقة، فإن الإيمان يقدم رسالة [للناس] بأنهم لا ينبغي أن يزعجوا أنفسهم أو يحاولوا. بالتأكيد، فإن استعمال الإيمان بهذه الطريقة سيطرح الشخص في موقف عجزٍ كامل ومذلٍّ، لكن على الأقل يتوافق ويتحالف منطقيًّا مع جوهر افتراضَيْ الاعتقاد الديني.
كمثالٍ على المشكلة التي تواجهها الأديان في هذه المسألة، تفكر في حالة طفلٍ رضيعٍ يموت بسبب سوء التغذية. لم يكن لديه أي وقت في العالم ليشكِّل أفكارًا أخلاقية من أي نوع، ولم يكن لديه قط القدرة على أن يتصرف بوحشية اتجاه شخص آخر. إنه بريء لا يمكن لومه على شي. باختصار، لم يكن لديه أي فرصة. لقد وُلِد في ظروف خارجة عن تحكمه، وكانت حياته قصيرة ومعذَّبَة، ثم رحل وقضى. بالنسبة لملاحظ عادي فإن معاناته تنتهك أي مفهوم معقول عن العدل وسيمضي أبعد إلى تفنيد وجود إله يرى ويهمل وضعًا مثل هذا. بالتأكيد، فإن الشيطان كبش فداءٍ ملائم1، لكن إلقاء اللوم عليه يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته أولًا والرد عليه من جهة لماذا سيسمح إلهٌ له بالوجود في المقام الأول. لو أن هناك إلهًا في العالم، لكان سيكون السماح بمثل هذا العناء الوحشيّ المفرط بالحدوث سيبدو إما ممارسة شريرة لقدرته الكلية أو ترجمة عجيبة لخيريته. لا يوجد مفر من هذه المشكلة بالنسبة للأديان على أية حال، وهي تمثل أكثر التناقضات إزعاجًا ومضايقةً في أساطيرهم وميثيولوجياتهم.
مشكلة معنى الحياة
من وجهة نظر الأديان، فكل الأشياء الفيزيائية زائلة، وهي جهة نظر تُعطى تشديدًا فريدًا عليها، بسبب افتراض الاعتقاد الديني أن ما وفق الطبيعي يوجد في الواقع الموضوعي. المملكة فوق الطبيعية هي حيث تحدث كل الأحداث بالنسبة للمرء المتدين، وذلك على نحو أساسي بسبب أنها مكان كل الأشياء الخالدة والدائمة. ما يستطيع المرء أن يراه ويشعر به هو مجرد تلميح ولمحة عن الوعود المذهلة للروعة في مملكة ما فوق الطبيعة. من جهة أخرى، فإن نتائج عيش حياة بتهور لها دور في ذلك أيضًا. يمكن للمرء أن يعيش إما في نعمة أو بؤس وشقاء لكل الأبد، والأسلوب الذي يتصرف به في مملكة الوجود الفيزيائية سيقرر مصيره. هكذا، فإن الأديان تعطي الناسَ معنى نهائي للحياة يضمن النعمة والبهجة مهما قد تكون فظاعة أو تفاهة وجودهم الحاليّ طالما اتبعوا تعاليمها بصدد كيف يريد إلهٌ من الناس أن يتصرفوا. بالتالي، لماذا لم يجعل الإله الناس سعداء بشدة وخالدين فقط من البداية؟ ما فائدة هذا العالم لإلهٍ؟
________________________
1 في الإسلام معظم نصوص القرآن تقول بأن الله مصدر كل شيء بما فيه الشرور وهذا أسوأ لاهوتيًّا ومنطقيًّا، لكن له نظائر في كتاب اليهود والعهد الجديد المسيحي (راجع نقد العهد القديم، نقد كتاب اليهود باسم المؤلف لؤي عشري أو مرشد إلى الإلحاد أو راهب العلم مثلًا)، ومن قبلهم نصوص السومريين والبابليين والمصريين القدماء، نقرأ في القرآن: {... وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} و{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}، وعلى النقيض نصوص أخرى تقول بأنه تطهير للإنسان {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} و {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} وتحدثت نصوص أخرى عن الابتلاء والامتحان { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} ونادرة جدًّا النصوص التي تحدثت في الإسلام عن الشيطان كمصدر للشر والمرض، ولعل النص عن قصة أيوب حالة استثنائية فريدة في نصوص الإسلام {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)}
لو أن إلهًا صنع الإنسانَ ويعرف كل شيء عنه، فمن ثم أيُّ معلوماتٍ يمكن احتمالًا أن يحصل عليها من وضع الناس خلال اختبار كهذا؟ عند هذه النقطة الحاسمة تستمتع الأديان بأن تضع على نحوٍ إستِراتيجي مصطلحها المرتجَل "الإرادة الحرة"، والذي يُقصَد به أن يُضمَّن معناه أن إلهًا قد تنازل قصديًّا عن التحكم فيما يفعله الناس، لكن بفضل المرونة المعتادة في المعنى التي يتصف بها هذا المصطلح، فإنهم أيضًا يستخدمونه لتضمينه أن إلهًا لا يعلم ما سيُقدِم شخصٌ على فعله. لو أن ذلك صحيحٌ، فمن ثم فإنه ليس إلهًا بحكم التعريف، حيث أن افتقاده لكلية العلم يتضمن ما هو أقل من كلية القدرة. لو أنه ليس كليَّ العلم، فهو ليس كليَّ القدرة، ولو أنه ليس كليَّ القدرة فلماذا ننشغل بالصلاة والتعبد إليه؟
مهما يكن، فإن تصور العالم كتجربة إلهية أو أرض امتحان يترك ثقبًا منطقيًّا هائلًا في نظام الاعتقاد الديني عندما يُأخَذ في الاعتبار اثنتين من الصفات الأساسية لإلهٍ في وقتٍ واحدٍ. هل هذا كله نوع من لعبة مجنونة له؟ إذن فهو ليس خيِّرًا. هل هو لا يعرف حقًّا ما سيقدم الناس على فعله بحيواتهم ولذلك يحتاج هذا العالمَ ليقرر أيهم يستحق الجنة أو الجحيم؟ إذن فهو ليس كلي العلم ولا كلي المقدرة. التناقض هنا يمثّل طابعًا ساخرًا شديدًا لأن الكثير جدًّا من المؤمنين الدينيين يدّعون أن أديانهم تعطيهم شعورًا عميقًا بالمعنى والغرض، بدونه لن يكونوا قادرين على الانخراط في حيواتهم. رغم ذلك فلو نظر المرء بأي جهد إلى ما بُنِيّ عليه ذلك المعنى، فإن هذا سيقوده إلى مسار متناقص حيث تفقد قيمة وعودها بريقها.
مشكلة العدالة الإلهية فيما بعد الحياة (الحياة الأخرى، البعث)
أي نموذج للاعتقاد الديني (دين) يحتوي على مفاهيم تزعم أنها ستنشر العدل على الناس، مثل الجنة والجحيم أو الانمحاء والزوال أو الأعراف [البرزخ: موضع لأشخاص لا يدخلون الجحيم لكن ليس عندهم أعمال كافية لدخول الجنة_م] أو إعادة التجسد والتناسخ [كما في الهندوسية والبودية والجاينية]، لأن الأديان تفهم وتُشبِع الرغبة الاجتماعية الغريزية للبشر في أن تكافَأ الأفعال الأخلاقية وتُعاقَب الفعال الغير أخلاقية. في الواقع، لأي سببٍ سيريد المر عبادة إله لو أنه استبداديٌّ تمامًا فيما يفعله؟ وباعتبار أن الأديان تدعي نظام عدالة كثيرًا ما يستمر إلى الأبدية، فإن مقدار الرهان والمقامرة عالٍ عندما يتعلق الأمر باختيار وعبادة إلهٍ، كما شرحتُ احتمالية المكسب في رهان باسكال في الفصل الخامس. هناك مشكلتان في هذا الجزء من الاعتقاد الديني. فلو أن إلهًا خلق الإنسان وعدالته الأبدية تنتظر مخلوقاته البشرية لتقييم مقدار أخلاقهم، فلماذا يكون الناس مسؤولين عن العيوب التي وضعها إلهٌ في شخصياتهم وسماتهم؟ ثانيًا، ما هي العدالة بالضبط في مجازاة الجرائم المحدودة للإنسان بعقوبات لا نهائية أبدية فيما بعد الحياة؟
مجددًا، تدخل الأديان بارتجالٍ مفهوم الإرادة الحرة عند هذه النقطة، كأنها تقول: "انظر، الله خلقك، لكن أيًّا ما تفعل فهو قرارك". ناهيك عن النقاش الأسبق عن الإرادة الحرة ومعانيها الضمنية بالنسبة لكلية العلم وكلية المقدرة لإلهٍ، فإن الآلهة لا يمكنهم الاحتفاظ بكلا الشيئين. لا تستطيع الأديان أن تزعم وتؤكد باتساق منطقي أن إلهًا مسؤول عن خلق الإنسان وكل شيء آخر في الوجود ثم تقترح أنه على نحوٍ ما خالٍ من المسؤولية عن أي أفعال شريرة أثيمة للبشر بسبب المفهوم الغامض للإرادة الحرة. السبب والنتيجة يتموجان خلال كل الطبيعة والحياة، وليس هناك [على سبيل الجدل] سببٌ أعظم وأكبر من إلهٍ، كائن يُزعَم أنه مسؤول عن خلق كلٍّ من الإنسان والكون. ادعاء أن إلهًا ليس له مسؤولية عن مسار حياة الأشخاص مع محاولة البرهنة في نفس الوقت بأنه خلق كل الأشياء هو مثال آخر إضافي عن كيفية خيانة [تناقض] أفكار الاعتقاد بعضها لبعضها الآخر لو تُعُقِّبَت حتى تضميناتها المنطقية.
في ضوء المراوغات والالتفافات الماكرة والمفيدة لمفهوم الإرادة الحرة في الدين، فإنه على نحوٍ واضحٍ بابٌ دوار مفاهيميّ مصمَّم للحفاظ على الصفات المرغوبة للإله أو الآلهة في وسط الحقيقة الغير مرغوبة والبغيضة للمعاناة البشرية. إن كان يجب على المرء [المتدين] إجازة بعض العنصر الاعتباطي التحكمي للإرادة الحرة، فإنه يضطر لفعل ذلك، خشية أن يتوقف عن أن يكونَ إلهًا. إن المعنى الضمني لذلك المفهوم لا يمكنه حماية إلهٍ [مزعومٍ] من اللوم على معرفته بالضبط ما سيقدم الأشخاص على فعله خلال حيواتهم على أية حال. خشية مماثلة ذات علاقة هي في السؤال عما إذا يمكن أن يُلام إلهٌ منطقيًّا لأجل الأخطاء التي يرتكبها الناس. فلو أنه يحتفظ وليده كل صفاته [المفترَضة] الأساسية، فإن الإجابة هي بوضوح نعم، وبما أن إلهًا [مفترَضًا] لا يمكنه إنكار مسؤوليته الكلية عن طبيعة وأفعال أي شخص محدَّد، فأيُّ نوعٍ من العدل هو أن يُكافَأ أو يعاقَب ذلك الشخص لأجل طبيعته وأفعاله إلى كل الأبدية [أبد الآبدين]؟ لو أن لإلهٍ وجودٌ، فإن الشخص هو ما صنعه إلهٌ ليكونه. لا توجد كمية إرادة حرة كافية في العالم لإضعاف تلك العلاقة السببية والارتباط [المفترَض] على نحوٍ كافٍ بحيث تضْمَن نوع العدالة الأبدية اللانهائية التي تدعيها الأديان. يمكن للمرء أن يتنازل للأديان عن كل الزيادة غير الضرورية لحرية الإرادة في العالم مقابل جعل الإله أو الآلهة يوقفون معاناة الإنسان، لكن ذلك يظل رغم ذلك لا يحميه أو يحميهم من الانزعاج المنطقي لكونه خلق الإنسان بحيث يكون قادرًا على الوحشية والعدوان من البداية.
أما عن السؤال الثاني، وهو ما العدل في معاقبة أو مكافأة الناس لأجل التصرفات التي قاموا بها خلال حيواتهم المحدودة عندما تكون فترات تلك الأحكام أبدية؟ أين التناسب بين الجريمة والعقاب في نظامٍ مثلَ هذا؟ فقط حسٌّ ضالٌّ عن العدالة سيثني على فضائل مثل هذا النهج للأحكام، وهو يصير كريهًا على نحوٍ خاص عندما يضاف إليه النقاش السابق أعلاه فيما يتعلق بمسؤولية الإله أو الآلهة عن سلوكيات الناس. بعبارة أخرى، فإن نظام العدل الأبدي الخاص بالاعتقاد الديني هو كابوس حقيقي، ممتلئ بإساءة غير مناسبة خاصة بألوهية [مزعومة]. إن العزاء الذي يوجد في مفاهيمه هو أن رعبه مرتبط مباشرة بمخالفته للعقل.
مشكلة التمييز(التفضيل، الاختيار) بين الأديان
تقنيًّا، فإن هذه المشكلة الأخيرة ليست مسألة منطقية تتضمن وجود إله أو آلهة بقدر ما هي أحجية نظرية تتضمن وتتعلق بأديان العالم. كثيرًا ما يرفض المؤمنون الدينيون بشدة الإلحادَ كاستنتاج، وهو قرار متسق حيث أنهم قد قبلوا افتراضَيْ الاعتقاد الديني كتمثيل صحيح للواقع الموضوعي. رغم ذلك، فإنهم يظلون يجب أن يختاروا من بين الأديان المتاحة لكي يحققوا هدفهم. بعبارة أخرى، فإن رفضهم تطبيق التفكير القائم على العقلانية على سؤال وجود إله في الواقع الموضوعي يضع الإلحاد جانبًا مهمَلًا، لكن عندما يتعلق الأمر بمقارنة الأديان ببعضها الآخر، فليس هناك مثل هذا الصدام في الافتراضات ولا مقياس معقول للتمييز والتفضيل به بينها. لو أن هناك إلهًا وعبادته أمر مهم، فكيف سيختار المرءُ الدين السليم؟
باعتبار افتراضَيْ الاعتقاد الديني، فليس هناك طريقة للقيام بتمييز عقلانيّ حيث أنه لا توجد معايير للتحليل النقدي في تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان وليس غير الخضوع والإذعان لشخصية سلطوية أو كتاب مقدس، وهو ما يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته أولًا فيما يتعلق بالسؤال المطروح. لو أنهم تعامل مع زعم وتأكيد لما يناصره ويدَّعيه أي دين معيَّن بالتفكير القائم على العقلانية، فمن ثم سينتهي المرء إلى رفضها كلها بسبب جوهرها المشترك الأساسي الغير قابل للتنازل عنه والذي يحتوي على افتراضَيْ الاعتقاد الديني.
على نحوٍ مقلق، فمعظم المؤمنين الدينيين لا يعترفون بنقطتهم العمياء في هذا الصدد. فمن منظورهم فإنهم أعضاء وأتباع للإيمان الوحيد الصحيح كما صنعه الإله الوحيد الصحيح [أو الآلهة الحقيقية أو البودا المستنير والمستنيرين البودوات الحقيقيين_م]، وهو ما كان سيُعتبَر حظًّا جديرًا بالملاحظة بالنسبة إليهم باعتبار أن الدين كثيرًا ما يكون ببساطة اكتُسِب بكونهم رُبُّوا في أسرٍ علمتهم نفس الدين الذي يعتنقونه. فيما يتعلق بالافتراضات الثلاثة للتفكير القائم على العقلانية، فإن الإجابة على السؤال عن كيف يمكن للمرء أن يختار الدين الصحيح هي أن السؤال نفسه خاطئ لأنه يفترض صحة الاعتقاد الديني. لا يمكن للمرء عقلانيًّا اختيار دينٍ. يمكن للمرء فقط الاختيار بين الاعتقاد الديني والتفكير القائم على العقلانية، ولو أنه اختار الأسبق منهما، فيمكنه من هناك فقط لعب لعبة تخمين.
ولنعتبر منظورًا آخر لهذه المسألة. فإنه من السليم الافتراض في العصر الحالي بأن زيوس وأبولّو وبوسيدون، أو رع وأوزوريس، أو آنو وإنكي وعشتار، لا يُأَخذون على محمل الجد ككائنات حقيقية. بالتالي، فأي معلومات موثوقة قد قُرِّرَتْ بصددهم لإزالتهم من نقاش البشرية عما بعد الحياة؟ هل تم دحضهم؟ الإجابة هي أنه لا شيء بصدد هؤلاء الآلهة تم تفنيده، بل إن أساطيرهم ببساطة قد صارت منبوذة مكروهة بسبب تغيرات اجتماعية وثقافية. لا يستطيع المؤمنون الدينيون منطقيًّا تفسير كيف أنهم يسخرون من زيوس لكنهم يمتدحون إلههم ولا يستطيعون امتلاك أي أساس منطقي للتأكيد بأن أي ظاهرة معينة يعزونها إلى إلهٍ هي في الحقيقة وبالفعل بسبب إلههم هم كما وُصِف في دينهم وتعبدوه. ما لديهم هو تفكير عاطفي متنكر كتحليل تفكيري، وبينما تعمل الجاذبيات العاطفية على نحو طبيعي تمامًا بالنسبة للتعبير عن حب شخص أو تقديره وإعزازه لآخر، فإنها عديمة المعنى عندما يتعلق الأمر بالبرهنة عما إذا كان شخص ما يوجد من الأساس.
كما آمل، فقد اتضح الآن سبب استعمال وقت كثير لإعداد المائدة [تعريف ودراسة المصطلحات] في النقاش. إن الأديان قادرة على صنع مظهر كاذب لتماسك داخلي بسبب أن مصطلحاتها ليس لديها أي معاني محددة معقولة، لكن أخطاءها مخبأة عن النظرة السطحية. إن الخدعة التي تستعملها الأديان لتختلق الصحة هي إنشاء مصطلحات تقصد إلى إنشاء أماكن وكائنات في الواقع الموضوعي والتي هي معرفة على نحو يكفي لأن تكون مغرية لكنها [تعريفاتها] غامضة مراوغة على نحوٍ كافٍ لمقاومة التفحص العقلاني. حتى الحد الأدنى المطلق لقائمة المفاهيم والتعريفات للاعتقاد الديني لا يمكنها التعايش مع صحبة بعضها الآخر [تتناقض] من منظور منطقي، وهو أمر جدير بالملاحظة باعتبار مدى التعقيد الذي يمكن أن تكون عليه.
انعدام الصلة العملي لإلهٍ مع الطبيعة
البحث العلمي الحديث قد قدَّم للبشرية كمًّا غير مسبوقٍ من الراحة والقابلية للتنبؤ فيما يتعلق ببيئتهم المحيطة. التفكر العادي في بعض منتجات المنهج العلمي التي أصبحت أساسية مفروغًا منها في حياة الناس يكشف عن الإنجازات الكبيرة للتفكير القائم على العقلانية كمنهج. لقد أنشأ المهندسون قنوات مترو أنفاق تحت الكم الضخم من الماء، وأنشؤوا ناطحات سحاب قادرة على تحمل قوة الأعاصير، وصمموا صواريخ ومركبات فضائية مكنت الإنسان من تجاوز جاذبية كوكب الأرض نفسه. أنتجت الأبحاث الطبية مضادات حيوية للسيطرة على وترويض أمراضٍ قضت على الكثير من الناس في الأجيال القديمة قديمًا، بينما تصنع مناعات بالأمصال والتطعيمات لإبادة أمراض أخرى تمامًا. طوّر الجراحون تقنياتٍ لتصحيح حالات القصور في أجهزة الجسد العديدة. وصولًا إلى درجة المقدرة على زرع أعضاء هامة. كل هذه المجالات تنبع وتنشأ من التفكير القائم على العقلانية، وتأثير تقدمها يتموج وينتشر خلال الحضارة ليزيد كلًّا من جودة وكم حيوات الناس. في الحقيقة، فإن إنسانًا عاش منذ مئة سنة ماضية فقط كان سيكون في حيرة واندهاش لإدراكه كم يمكن أن يصبح العالم غير متعرف عليه من جانبه في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن.
لقد وُجِد البحث العلمي منذ حوالي ثلاثمئة سنة، إلا أن البشرية أنجزت خلال ذلك الوقت في مجال التحكم بالطبيعة بالتلاعب بها أو تثبيتها لتلائم احتياجاتهم أكثرَ مما أنجزته خلال كامل الوجود البشري السابق [على عصر العلم]. إن وسائلها المنهجية ليست خدعة سحرية، إنها تستوعب وتبلور وتعرِّف الطبيعة بالالتزام بالافتراض المنطقي للسببية في العالم الفيزيائي. في الحقيقة، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالفكر القائم على العقلانية تعمل على نحو جيد على اكتشاف العلاقات السببية السابقة وتعيين الأنماط في الطبيعة. لقد صارت ناجحة للغاية في مساعيها لدرجة أنها قد صنعت أعاجيب التكنولوجي المشار إليها آنفًا أعلاه، كثيرًا ما كان ذلك بالتعاون بين مجالات علمية عديدة.
بالتالي، هل يتدخل إلهٌ في العالم عندما تنهار جسورٌ أو تعطل أجهزة إلكترونية؟ لا يوجد سبب للتفكير هكذا. في الواقع، فإن إخفاق وامتناع الآلهة في التدخل في العالم عندما يكرر الناس نتائج علمية معروفة جيدًّا ذو دلالة ومفحم. باعتبار أن مليارات من الناس يسيرون أو يقودون على الأرض كل يوم بدون أن ينطلق إلى الفضاء الخارجي بسبب توقف الجاذبية. تلك الظاهرة في حد ذاتها تجربة غير مقصودة تشهد بصمت على الحتمية الظاهرة للسببية الفيزيائية. إن المؤمن الديني التواق إلى اقتطاع مواضع في العالم الفيزيائي لأجل ضرورة إلهٍ لا يمكنه تفسير سبب عدم انتهاك ذلك القانون أبدًا. لو أن العالم الفيزيائي يتبع قانون السببية الذي يتفاعل مع عناصره حصريًّا، فمن ثم فإن وجود إلهٍ في الواقع الموضوعيّ غير ضروريّ لتفسير وجود أو عمل الطبيعة.
بالتأكيد، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية غير قادرة حاليًّا على التفسير والتنبؤ بكل جانبٍ من العالم الفيزيائي، لكنها قد راكمت معلومات هائلة تتسم بالموثوقية الجوهرية. إن الآلهة هي مفهوم قائم على فكرة الكل أو لا شيء بسبب قدرتهم الكلية التعريفية، وكنتيجة لذلك، فينبغي على المرء منطقيًّا أن يراهم أو يراه في كل مكان أو لا يراه في أي مكان. باعتبار القدرة على التوقع التي وضعها البحث العلمي على أنظمة الطبيعة، فإن التوكيد هو على "ولا أي مكان".
كمثال أخير على عدم وجود علاقة للآلهة، تفكر في المجال الرياضيّ في مجال علم الخبرة بشؤون التأمين على الحياة. للحديث بتبسيط، فإن خبراء التأمين هم محاسبون مع جانب إضافي هام من التعقيد. فالمحاسبون يراعون القيمة المستقبلية للمال فيما يتعلق بمفهوم الاستثمار. أما خبراء التأمين فيتخذون خطوة أخرى للتنبؤ بالتناقص التدريجي في جودة [سلامة] حيوات الناس، كمثالٍ: الموت. ففيما يتعلق بمسعى التنبؤ بالموت على وجه التخصيص، فإن خبراء التأمين يقومون بمهمتهم بتقييم اتجاهات ونسب الوفاة في صناعات ومواقع جغرافية معينة، أي أنهم يستخدمون أدوات قياس الاحتمالية والاتجاهات التاريخية للقيام بتقارير مستقبلية عن المجموعات الكبيرة. التنبؤات التأمينية لن تكون قادرة على تعيين أي أشخاصٍ سيموتون في مجموعة معينة، لكنها ستكون قادرة على الكلام بمستوى عالٍ من الدقة عن عدد الناس الذين سيموتون في إطار زمني معيَّن. في الواقع، فإن صناعات كاملة قد بُنِيَت على أكتاف علم التأمين واللمحات التنبئية عن المستقبل التي يقدمها.
رغم ذلك، ففيما يتعلق بالسؤال الحالي المطروح، فإن التقنيات الحسابية لخبراء التأمين تبرهن على كم يمكن أن تكون الطبيعة قابلة للتنبؤ بها، حتى فيما يتعلق بالموت البشري، والذي كثيرًا ما يظن المتدينون أنه اختصاص للإله أو الآلهة. فلو أن الإله أو الآلهة يدْعًون البشر على نحوٍ روتينيٍّ إلى الحكم الأبديّ، فلماذا لا يبدو أن دعواته أو دعواتهم لا تنحرف قياسيًّا عن مجموعة توقعات خبراء التأمين؟ من منظور الطبيعة وقانون السببية الخاص بها، فلا شيء مميز أو فريد بصدد موت البشر. إنه قابل للتنبؤ به بنفس درجة القابلية مع أي سبب ونتيجة آخرين في الطبيعة لو قُدِّمَت المعلومات الكافية، وحقيقة افتقاد المعلومات حاليًّا لشرح ظاهرة طبيعية من أي نوعٍ لا يصنع سببًا مبرَّرًا لتقديم مفهوم تحكميّ اعتباطيّ مثل إلهٍ.
لعل تجلي الفصام الأقصى لانعدام صلة إلهٍ ما بالطبيعة هو تعاقد [مؤسسة] دينٍ مع مهندسين ومعماريين لإنشاء مكان للعبادة. إن سلامة البناء ستقوم على المبادئ الهندسية، والتي تقوم على التفكير القائم على العقلانية، والذي يستخدم تقنيات اكتساب المعرفة التي يُستنتَج منها وفقًا للأدلة الحالية أن الإله أو الآلهة لا توجد. بالتالي، ما ستدفع المؤسسة الدينية تكاليفه للانتهاء من بنائه هو إنشاء نصب تذكاري لتكريم وعبادة كائن يدل النصب التذكاري نفسه بشدة ضمنيًّا على أنه لا يوجد. فهل يمكن أن يكون هناك احتمالًا سخريةٌ أكثر إتقانًا من ذلك؟!
السببية الإجبارية فيما بين الآلهة والبشر (من خلق الآخر)
قبل الانتقال إلى الفصل التالي الذي سندرس فيه الجدليات النهائية الشاملة ضد الاعتقاد الديني، فسيكون مفيدًا ومثمرًا أن نلقي نظرة أشمل ونحصل على منظورٍ للنقاش من رؤية أشمل وأكبر. إن كامل السؤال محل النقاش في هذا الحوار يدور حول شيئين: الآلهة [أو الإله] والبشر. فيما بين الآلهة والبشر، لا خلاف [بيننا] أن أحدهما خلق الآخر؛ السؤال الوحيد هو اتجاه تلك العلاقة السببية. هل البشر هم المخلوقات الفيزيائية لإلهٍ أو آلهةٍ والذي تفوق قدرته ما يستطيع البشر فهمه؟ أم هل الإله أو الآلهة هم المنتَج العجيب لخيال البشرية؟ تم تصوره لتفسير ما لم يستطيعوا تفسيره على نحوٍ عقلانيٍّ، بتفسيره على نحو خرافيّ سحريّ؟ إن إجابة أحد هذين السؤالين هي لا، والإجابة على أحدهما الآخر هي لا. تقرير كيفية المزاوجة على نحو صحيح للإجابة السليمة لكل سؤال منهما تمثِّل كامل الجدال. بصياغة المسألة بهذه الطريقة، فإنها تبدو كلعبة بسيطة، وفي حالة انعدام العاطفة بصدد ذلك فإنها تكون كذلك حقًّا. لكن للأسف، فإن العواطف تتدخل في السؤال وتصير ذات علاقة به على نحو غير ملائم، وبساطة ما هو محل النقاش تصير مشوَّشة.
لو أن [الإله أو] الآلهة والبشر يمثلون سببًا ونتيجةً في اتجاهٍ ما، فإنه لذو دلالة أن أحد الاثنين فقط لديه دليل موثوق على وجوده حقًّا. إن تأكيدات ومزاعم الاعتقاد الديني أن إلهًا خلق كلًّا من الإنسان والكون يوجد حاليًّا، وأنه يهتم بالقرارات الأخلاقية للبشر، ليس له أي أساس سواء في الدليل القائم على الملاحظة أو الضرورة المنطقية. بالتالي، فإن الاتجاه العقلاني للعلاقة السببية هو أن البشر هم في الحقيقة خالقو الآلهة. بعبارة أخرى، فإن الآلهة مثالٌ على القدرة الإبداعية الخلاقة للعقل البشريّ منقلبًا على نفسه بالضرر على نحوٍ مروِّع باستحضار فكرةٍ تخيف العواطف وبحيث يكون لدى التفكير صعوبة معيقة بسبب غموضها.
الاستنتاج بأن الآلهة والروح وما فوق الطبيعي عمومًا يشغلان فقط مجال الخيال البشري وليس الواقع الموضوعي هو [الاستنتاج] الأكثر منطقية. بالتأكيد، فإن إخفاق الأديان في الحصول على أحكام بالنجاح من تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هو بالضبط سبب كونها يجب أن تمجد وتعلي من شأن الإيمان كتقنية سليمة لاكتساب المعرفة لكي تبرهن على صحة وجود أماكنها وكائناتها الميتافيزيقية الرئيسية. رغم ذلك، فيوجد مكان واحد توجد فيه الآلهة والروح وما فوق الطبيعي على نحو يقينيٍّ: في خيال البشر. كون الأديان لا يمكنها تقديم دليل أو منطق معقول للبرهنة على وجودها خارج هذه الحدود يعني أن أيديولوجياتها لا تصلح كتمثيلات سليمة للواضع الموضوعي.
آراء ختامية
تأمل ممارسة فن السحر. يتخصص السحرة في خداع الحواسّ، كثيرًا ما يكون ذلك بطرق بسيطة على نحو بارع. إن مشاهدةَ خداعِ ساحرٍ يُحدِث الرهبة، والذهول، وشعورًا بأن المستحيل قد حدث. كيف يمكن لرجلٍ أن يرتفع في الهواء؟ كيف يمكن أن تُنشَر امرأةٌ نصفين لتظهر لاحقًا كاملة؟ كيف يمكن لرجلٍ أن ينقل نفسه خلال مسرحٍ في طرفة عين؟ الإجابة هي أن لا شيء من هذه الأشياء يحدث في الحقيقة، بل بالأحرى أن سببًا منطقيًّا مُخفَى جيدًا يسبب النتيجة. تتآمر [تتعاون] خفة اليد والإلهاء والأدوات المجهَّزة لخداع الجمهور ليعتقدوا بأن القوانين الطبيعية للكون قد انتُهِكَتْ على نحوٍ رائع هكذا.
السحرة خبراء في إيجاد الثغرات في الإدراك البشري، وهم يعرفون كيف يتلاعبون بالأخطاء الإدراكية الوفيرة للعقل لتسلية جمهورهم. إلا أن هناك دومًا تفسيرات منطقية للخدع التي يقومون بها، قوانين الطبيعة لا تُخترَق أبدًا كما تبدو، وليس للسحرة قوى خاصة استثنائية. بالتالي، أن تصير ملحدًا [عقلانيًّا] ليس شعورًا مختلفًا تمامًا عن أن تُخبَر بكيفية القيام بخدعة سحرية في أن ما كان قديمًا يبدو لا يُصدَّق ومذهلًا يصير واضحًا وبسيطًا. يبدأ العقل في إدراك أنه ليس [قوانين] الطبيعة هي ما تم تغييرها على نحوٍ مستحيل، بل بالأحرى أن العقل نفسه قد أخطأ إدراك ما كان قبالته. يُحدِث هذا الإدراك شعورًا بوضوح الصورة وتوحد وتجمع كيان الذات، والذي سوف يُناقَش في الفصل التاسع. الشعور بتوحد كيان الذات هو نتيجة جانبية للفهم الفكري بأن سياق المرء الديني قد انهار وأخفق في نسخته [الشخصِ] العملية القابلة للتنبؤ للواقع الموضوعي عند الإدراك بأن العقل قد قام بأخطاء معرفية وإدراكية دعمًا للاعتقاد الديني.
ما هو الإله؟ الإله هو فكرة، صيغت وصُكَّت بكلمة. لو كانت تلك نهايتها، لما كانت كلمة "الإلحاد" نُطِق بها أبدًا. لكن الأديان تعلن عن نفسها كقنواتٍ إلى آلهتها، وبالتالي تؤكد وجودهم في الواقع الموضوعي، ولا يقتنع التفكير القائم على العقلانية بذلك. إن التأثير المنتصر الكاسح لتقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية يكمن في سياسة صنع القرار التي تقوم بها فيما يتعلق بالواقع الموضوعي: إعطاء الأولوية والتفضيل للمعرفة الموثوقة. بلا شك، كانت البشرية ستحب معرفة كل نقطة عن الواقع الموضوعي والوجود البشري بيقين تام، لكن هذا غير ممكن. إن الخيار المتاح هو أن ما يقارب أكثر الهدف المثالي هو المتحصَّل عليه من معرفة موثوقة إلى حدٍّ كبير، وبحيث يتم نبذ التفسيرات المقدَّمة عن الواقع الموضوعي التي لا تُظهِر موثوقية معقولة، إلى أن تكتسب البعض منها. بناءً على هذه الفلسفة، فإن الإلحاد ليس الاستنتاج بأن الإله أو الآلهة لا يوجدون في الواقع الموضوعي، بل هو الاستنتاج بأن الاعتقاد بأنهم يوجدون وفقًا للأدلة الحالية [المتاحة] مثير للسخرية.
8- ثلاث جدليات لنبذ ونزع المصداقية عن الاعتقاد الديني
ألست أدمر أعدائي عندما أجعلهم أصدقاءً؟
أبراهام لِنْكُلِن (من رؤساء أمِرِكا التاريخيين)
لكامل الجزء الأول من هذا الكتاب كنت أعد العدة وأحضر المائدة للوصول إلى النقطة حيث تكون الافتراضات والمناظير الضرورية قد جُمِعَتْ لحشد تفنيدات الاعتقاد الديني. تعقب كل الالتفافات التي يتطلبها الاعتقاد الديني لكي يتم تصديقه كان هامًّا لأنه عندئذٍ فقط يمكن حصر الجوهر الأساسي للاعتقاد الديني في الزاوية، وهو ما يعمل جاهدًا على تجنب فعله به. كما سنرى، فإن الاعتقاد الديني يكافح بشدة لتجنب هذه المعالَجة لسببٍ وجيه. إن محترفيه [وممتهنيه المتكسبين منه] يشعرون أن الناس لو نجحوا في إلزام الدين بذلك، فمن ثم فإن ما سيتلو ذلك سيكون تحليل سماته، ولو صارت سماته عرضه للتفحص عن كثب، فإن كل المسألة ستُكشَف ماهيتها: لعبة محارة تختبئ في صدفتها [لعبة مراوغة].
لأجل الإسهاب سيكون هنالك ثلاثة تفنديات مقدَّمة للاعتقاد الديني، كل منها قائم بذاته. إن لديك على الأرجح فعليًّا حدسًا مستبِقًا عن إطار هذه الجدليات، لكنْ تجنَّبْ إغراء تجاوز التفاصيل. لقد قطعنا شوطًا طويلًا، والخطوة الأخيرة تستحق نفس التركيز ككل الخطوات الوسيطة السابقة لتحقيق معالجة كاملة للموضوع. فبعد لَأْيٍ ومشقة طويلة لقد وصلنا إلى قلب المسألة.
جدلية الأسس
1-الإيمان ليس تقنية مقبولة لاكتساب المعرفة لأنه لا يقدم ادعاآت عن الواقع الموضوعي يمكن أن تقيَّم من جهة مصداقيتها.
إن تعريف الإيمان هو قبول صحة تأكيد [زعم] في غياب كلٍّ من الأدلة القائمة على الملاحظة والمنطق السليم اللذين يبرهنان عليه على نحو معقول. من وجهة نظر إبستمولوجية [خاصة بعلم المعرفة] فإن الإيمان هو تقنية لاكتساب المعرفة تستلزم الخضوع لسلطةٍ، سواءً داخلية أو خارجية. رغم ذلك، فهذا يفترض صحة ما يحتاج إلى إثباته من جهة كيف يعلم المرء ما إذا كانت مثل هذه السلطة صحيحة. في العالم، لا يوجد نقص لدينا في كم الناس والمؤسسات التي تعلن عن نفسها على أنها سلطات للعديد من المواضيع، ولو كان المرء غير مزوَّدٍ سوى بالإيمان، فلن يكون لديه أي وسيلة منهجية ليحكم بها على سلطةٍ بأنها موثوقة وعلى أخرى بأنها احتيالية. بدون الأخذ بالأدلة أو المنطق، فإن الاختيار بين أيٍّ من هذه السلطات سيكون اعتباطيًّا تحكميًّا، وسيقوم القرار الحقيقي على الأرجح على اعتباراتٍ عاطفية.
بالتالي، فإن الإيمان هو الكلمة المفتاحية الأساسية للاعتباطية أو التفكير القائم على العواطف، وكلاهما مليئان بالأخطاء عندما يُستعمَلان لمحاولة تفسير أسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي. ولخلوهما من معايير التحليل [النقدي] الذي يبرهن على الموثوقية المعقولة لقراراتهما، فإن الإيمان لا يقدم أي سبب أيًّا كان لوضع الثقة فيما يستنتجه. إن الوسائل المنهجية للعلم والرياضيات والمنطق هي حاليًّا أفضل الوسائل التي قد اخترعتها البشرية لتقييم مزاعم المعرفة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي على نحوٍ موثوقٍ، وإن الإيمان يخفق تمامًا بمجرد إبراز استعمالها.
إن تفكيرًا عجيبًا حقًّا يقبع تحت سطح كل الجدليات التي تعتمد على الإيمان. فلنفترض أن شخصًا يعتقد أن القمر التابع لكوكب الأرض سيحترق غدًا. أيًا ما كانت السلطة التي يقدَّمها لتبرير إيمانه بهذا التأكيد [الزعم]، فإن سؤالًا بديهيًّا طبيعيًّا ينشأ بخصوص سبب وضعه ثقة في مصدر تلك المعلومة. ستفشل إجابته عن ذلك السؤال في أن يكون لها معنى معقول بسبب طبيعة الإيمان. إن تفكيره كالتالي: قمر كوكب الأرض سينفجر غدًا لأن السلطة التي قدمت تلك المعلومة قالت كذلك، وهو قد اختار السلطة الصحيحة لأنها قدمت أدلة ومنطق غير كافيين لتأييد هذا الإعلان. إن اعتباطية تفكيره واضحة، ولو كان الإيمان يقدم على الإطلاق معلومات صحيحة عن الأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي، فإن هذا يفوق الاحتمالات الممكنة لكونها تحتشد ضد ذلك بسبب سخرية الإيمان من الأدلة والمنطق المعقولين. لو كان الإيمان جزءً ضروريًّا من ادعاآت شخصٍ عن الواقع الموضوعي، فمن ثم فإنه ليس لديه برهان على الإطلاق، كل ما ليه هو تخمين غير مرجَّح.
2- ما فوق الطبيعي يُفترَض عدم وجوده في الواقع الموضوعي لأن وجوده لم يُبرهَن عليه على نحو عقلانيّ سواءً بالأدلة التجريبية القائمة على الملاحظة أو الضرورة المنطقية.
بترك تقنية اكتساب المعرفة الخاصة بالإيمان المستبعَدة المنبوذة في التحري عن الأسئلة عن الحقائق في الواقع الموضوعي، فإن تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي الاختيار الأكثر تفوقًا بوضوح. إن علامة مميزة للمنهج العلمي، بالتوافق مع التفكير المنطقي، هي أن الفرضية تُعتبَر باطلة حتى تثبت صحتها بتجربة معقولة قابلة للتأكيد المستقل والتكرار. في الواقع، فإن علماء المنطق سيدركون هذه القاعدة كنسخة عملية من رفض الجدليات القائمة على أساس الجهل، والتي هي أخطاء منطقية تعكس مسؤولية وعبء الإثبات على نحو غير معقول من الشخص المقترِح بأن لديه معرفة فريدة إلى المتشكك لكي يدحضها. أما بالنسبة للقضية الحالية، فإن وجود ما فوق الطبيعي هو تأكيد [زعم] عن حقيقة تتعلق بالواقع الموضوعي والتي تتطلب دليلًا معقولًا على وجوده الحقيقي أو براهين تبرهن على ضرورته المنطقية. فإن فشل مقترحو وجوده في تقديم مثل هذه البرهنة، فمن ثم فإن وجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي سيُفترض بطلانه حيث سيكون غير مُثبَت وبدون أساسٍ للاعتقاد العقلاني.
أما عن قضية الأدلة التجريبية والقائمة على الملاحظة لصالح وجود ما فوق الطبيعي، فلا يمكن أن يكون هناك أيٌّ منها بحكم طبيعته وتعريفه. فلو وُجِد مثل هذا الدليل الإمبريقي [القائم على الملاحظة]، لكان يجب أن يكون فيزيائيًّا لكي يقدر الإنسان على إدراكه والشعور به كدليل، وبذلك سيتوقف عن أن يكون ما فوق طبيعي. بالتالي، فإن جمع أدلة إمبريقية على ما فوق الطبيعي [الميتافيزيقي] مستحيلٌ بسبب طبيعة حواس الإنسان فيما يتصل بما يُدعَّى عن ماهية ما فوق الطبيعي. لذلك، فإنه يجب على مقترحي الوجود الحقيقي لما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي أن يبرهنوا على تأكيدهم [زعمهم] بالبرهنة على أن تلك المملكة ضرورية منطقيًّا لتجنب إهمالها باعتبارها غير مُثبَتَة ومفهومًا خياليًّا.
بالنسبة لتعليل سبب وجوب وجود ما فوق الطبيعي منطقيًّا، فإن غرابة الجدليات لصالح هذا الزعم ليس لها حدود، والعدد المذهل لها هو شهادة على جاذبية التخبط والتسكع النظري للاعتقاد الديني. على أية حال، فإن وجود مملكة ما وفق الطبيعة يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى الوجود. لا يؤدي تضمينها إلى أي إضافة مستقلة لتفسير وجود أو عمل العالم الفيزيائي. الزعم والجدال بأن جانبًا من العالم الفيزيائي غير معروف أو مفهوم لأنه ينشأ في مملكة ما فوق الطبيعة لا يضيف معلومة ذات معنى فيما يتعلق بكيفية عمل العالم الفيزيائيّ، ناهيك عن إثبات ضرورة ما فوق الطبيعي. وبتحديد أكثر، فلا يمكن أن يُعرَف شيءٌ عن مملكة ما فوق الطبيعة للإنسان باعتبارها تتحدى الحواسّ والتفحص البشري، وباعتبار ذلك، فكيف سيمكن للإنسان أن يعرف على الإطلاق على نحو موثوق أنها أساسية للكون حتى لو كانت حقيقية؟ لقد عُرِّفَ ما فوق الطبيعي قصدًا خارج مجال الإدراك البشري، والدفاع عن ضرورته المنطقية يعاني من نتائج عزل المفهوم لنفسه بهذه الطريقة.
في حال كل الأمور الأخرى متساوية، فإن المنطق يفضِّل الاقتصاد [الشح] في التفسيرات، ومملكة ما فوق الطبيعة تضيف الكثير من التعقيد إلى نموذج العالم بدون أي فائدة تفسيرية. ولذلك، فإن ضرورتها المنطقية مشكوك فيها في أحسن الأحوال، وما ينقذها فقط من الإفلاس التامّ هو قدرة مناصريها ومقترحيها على اختراع مفاهيم تجريدية بلا توقف وربطها بما فوق الطبيعي بمحض قوة رغبتهم عوضًا عن سلامة المنطق. أما باستعمال تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، فليس هناك دليل إمبريقي معقول ولا ضرورة منطقية لوجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي، وبالتالي، فإن فرضية وجود ما فوق الطبيعي في الواقع الموضوعي غير مُثبَتَةٍ ويُفترَض بطلانها. وبناءً على وضع المعلومات الحالية، فإن المكان الوحيد الذي يوجد ما فوق الطبيعي فيه على نحو موثوق هو خيال البشر.
3- الإله أو الآلهة يُفترَض عدم وجوده/ وجودهم في الواقع الموضوعي لأن وجوده لم يُبرهَن عليه على نحوٍ عقلانيٍّ سواءً بالأدلة الإمبريقية أو الضرورة المنطقية.
مع نبذ الإيمان كتقنية صحيحة لاكتساب المعرفة، فإن أدوات التحري والبحث تصبح تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالفكر القائم على العقلانية. وبانهيار مملكة ما فوق الطبيعة، فإن التحري عن الإله أو الآلهة يقتصر الآن على الكون الفيزيائي. كما في [زعم] وجود ما فوق الطبيعي، فإن مقترحي فرضية وجود إله أو آلهة في الواقع الموضوعي يتحملون عبء حشد التأييد المعقول على نحوٍ كافٍ لذلك الادعاء، سواءً إمبريقيًّا [التجارب والملاحظات] أو منطقيًّا. إخفاقهم في القيام بعبء الإثبات سيؤدي إلى نبذ الفرضية باعتبارها غير مُثبَتة واستئناف الافتراض بأنها تمثل تصريحًا كاذبًا.
بالنسبة لمسألة الأدلة الإمبريقية على وجود إله أو آلهة، فإن أي أحدٍ يبحث عن إلهٍ سيكون له وقت عصيب في محاولة إنجاز المهمة لأن افتقاد تعريفٍ دقيق صارم لا يقدم سبيلًا معقولًا لمعرفة إذا ما ومتى يجد المرء إلهًا. نفس المشكلة كانت ستحدث في محاولة استخدام البحث العلمي لتحديد مكان ما فوق الطبيعة، لكن ذلك لأجل حقيقة كون تعريف ما فوق الطبيعي يعمل على تعجيز ومنع المنهج العلمي كوسيلة مفيدة للتحري من البداية.
على أية حال، فإن الإله أو الآلهة ليسوا بدون تعريف على نحو كامل، ولو أن شخصًا يبحث عن إله من خلال البحث الإمبريقي [القائم على التجارب والملاحظات]، فإن البحث عن وعيٍ لديه المقدرة على كسر قوانين الطبيعة وفق شروط تجريبية تحكمية عقلانية يبدو كنقطة بداية مقبولة. إن التعديل [أو المساومة] بهذه القاعدة الافتراضية يتجاهل جوانب تعريفية أساسية لمفهوم إلهٍ، لكن لو أن الأديان لا يمكنها إنشاء دليل يكفي للحد الأدنى، فمن ثم فإنها ستفشل أيضًا في أي اختبار يشمل صفات أخرى. وحيث أنه ليس هناك وعي في الطبيعة يمكن أن يشير المرءُ إليه على أن له القدرة على انتهاك قانون السببية في الطبيعة، فليس هناك دليل إمبريقيّ كافٍ للبرهنة على الوجود الحقيقي لإلهٍ.
الكثير من الأديان تشير إلى قصص قديمة وأحداث تاريخية مزعومة للادعاء بأن وعيًا قد وُجد قديمًا والذي يلائم الصفة السالفة الذكر المتساوَم عليها لأجل وجود إلهٍ. رغم ذلك، فإن هذه التعليقات ذات علاقة قليلة إلى أدنى حد عندما يكون ما هو محل نقاشنا ما إذا يوجد إلهٌ اليومَ، وعن تلك القضية لا يوجد دليل على وعي حاليًّا في الواقع الموضوعي والذي يكون قد أظهر القدرة على انتهاك قوانين الطبيعة. أما فيما يتعلق بالأساطير القديمة عن الناس أو الآلهة الذين قاموا بالمستحيل على نحوٍ روتينيّ، فلا حاجة بنا إلى تحديها ما لم يمكن إثبات أن هذه الكائنات توجد اليوم، وهذا جهد يفشل على نحو قاطع طالما أن مملكة ما فوق الطبيعة قد أزيلت من الاعتبار. بالتالي، لا يوجد دليل إمبريقي (قائم على الملاحظة) على أن إلهًا يوجد في الواقع الموضوعي.
أما عن مسألة الضرورة المنطقية لإلهٍ، فإن قانون السببية في الكون الفيزيائيّ هو الافتراض المركزي الرئيسي لهذا الشأن. بينما لم يتوصل البحث العلمي بعدُ إلى معرفة ما سبب [وجود] الكون، فليس هناك ضرورة منطقية للبرهنة على أن السبب كان له وعي، أو لو كان كذلك أنه لا يزال يوجد اليوم. ما سِوَى السبب الأول الغير معروف، فإن تسلسلات علاقات السببية [الأسباب والنتائج] في الطبيعة قد تم عزلها وفهمها بدرجة قوية ولا يبدو أنها تُنتهَك أبدًا، سواءً بالصدفة العشوائية أو الفعل المقصود من كائن واعٍ. كونُ بعض تسلسلات السببية في الطبيعة لم تُفسَّر بعد، فعلى نحوٍ مماثل لا يوجد سبب إيجابي إثباتي لإدخال إلهٍ في تلك المواقع (الفجوات في المعرفة) لتفسير العملية المتواصلة للكون. ففعل ذلك لا يقدم تفسيرًا للظواهر، وكذلك فإنه يعمل على خيانة [التناقض مع] مفهوم الإله بالتضمين بأنه يختار تجنب التلاعب والتدخل في تسلسلات السببية التي قد عينَّتها البشرية بدون تقديم حجة منطقية لذلك الامتناع. لا يوجد منطقيًّا حاجة لوجود إلهٍ في العالم الطبيعي لتفسير سواءً علاقاته السببية أو عمله.
بالإضافة إلى ذلك، فإن نفس الجدليات المقدَّمة في الفقرات الآنفة أعلاه بخصوص الآلهة، تنطبق على نحوٍ مماثل على الروح والجنة والجحيم [والأعراف (البرزخ، المطهر)] والشياطين والملائكة [وسائر الكائنات والأماكن الميتافيزيقية]. كل هذه الأماكن والكائنات تفتقد كليًّا كلًّا من الدليل الإمبريقي والضرورة المنطقية في العالم الفيزيائي، وبدون وجود المملكة فوق الطبيعية كخيار متاح، فإن فرضية وجود أيٍّ من هذه المفاهيم في الواقع الموضوعي يُفترَض بطلانها بسبب الإخفاق في القيام بعبء [مسؤولية] الإثبات. وبدون الإيمان ليمنح هذه المفاهيم استثناآت وإعفاآت من التفحص العلمي والمنطفي، فإن إخفاقها في تحقيق درجة معقولة من البرهنة المعقولة على وجودها واضح.
4- الإلحاد اللاأدري [الغير متيقن] هو أكثر المواقف منطقية عن سؤال [قضية] وجود الإله أو الآلهة [من عدمه] وفقًا للأدلة الحالية لأن تقنيات اكتساب المعرفة القائمة على التفكير العقلاني لا يمكنها تقديم اليقين المطلق، إلا أن فرضية وجود الإله أو الآلهة في الواقع الموضوعي يجب أن تُعتبَر باطلة.
[أعلنت كمترجم سابقًا رفضي الشخصي لمفهوم عدم الدراية أو الاأدرية، الإله الإبراهيمي بصفاته كخالق للكون والكائنات في ستة أيام يناقض الحقائق العلمية، لذلك أتوصل شخصيًّا إلى إلحاد إيجابي بصدد إله الأديان الشرقأوسطية المنبع اليهودية والمسيحية والإسلام ومشتقاتها ونظيراتها الأخرى كالبهائية والمورمونية وشهود يهوه والأديان التوحيدية الآسيوية الحديثة في اليابان وﭬيتنام وغيرهما، وربما معهم كذلك الهندوسية لتناقص قصصها ومفاهيمها في معظمها مع العلم ولاحتوائها على خرافات عن الخلق، وهذا موقف كثيرين من أبرز وجوه حركة الإلحاد المعاصرة في العالم الناطق بالإنجليزية في إنجلاند وأمِرِكا وأستراليا، لكن سنرى من كلام المؤلف التالي والسابق كذلك أن مفهومه الدقيق للاأدرية أقرب إلى مفهوم الإلحاد القويّ منه إلى المفهوم المعتاد للاأدرية].
مع نبذ الإيمان كتقنية موثوقة لاكتساب المعرفة والانهيار الناتج لمملكة الوجود فوق الطبيعية باعتبارها غير مثبتة إمبريقيّا وغير ضرورية منطقيًّا، فإن الأساطير المصاحبة الخاصة بالاعتقاد الديني تخسر فتحة هروبها من الوسائل المنهجية الموثوق بها لتقييم [حقائق] الواقع الموضوعي وكنتيجة لذلك تخفق. بالتالي، فإن الإلحاد هو أكثر المواقف عقلانيةً للاعتقاد به فيما يتعلق بوجود [الإله أو] الآلهة. وباعتبار أن معرفة الإنسان بالواقع الموضوعي ليس لديها منظور مرجعي موضوعي، فإنه لا يمكنه أبدًا تحقيق يقين مطلق كامل عن الأسئلة عن الحقائق المتعلقة بالواقع الموضوعي، مهما كان مدى دقة إدراكه وملاحظته بالمنهج والوسيلة العلمية والقواعد المنطقية. فنيًّا [تقنيًّا]، فإن درجة ما من عدم التيقن النظري في الإلحاد يجب أن توجد بسبب تقنيات اكتساب المعرفة المستعملة في الوصول إلى تلك النتيجة. ومع ذلك، فإن افتقاد الدليل لصالح وجود إله أو آلهة وانعدام ضرورته/ ضرورتهم المنطقية يعني أن عدم التيقن في الاستنتاج النهائي الخاص بالإلحاد قليلٌ إلى الحد الأدنى، إلى الحد الذي يجعل الاستنتاجَ عمليًّا يقينيًّا مؤكدًا.
خلاصة لجدلية الأسس
تهاجم جدلية الأسس بهاجمة جوهر ولب الاعتقاد الديني، محطمة إياه من الأساس وصولًا إلى الأجزاء العليا [الفروع]. بدون إيمان، فإن مفهوم المملكة فوق الطبيعية ينقلب رأسًا على عقب [يتحطم] كمفهوم يعكس على نحو سليم الواقع الموضوعي، وبالتالي من ثم، فإن بقية الميثولوجي [الأساطير] تسقط سقوطًا حرًّا سريعًا. صنع هذه الجدلية يحمل شهادة على سبب كون افتراضَيْ الاعتقاد الديني اللذين سلطنا عليهما الضوء في الفصل الثاني هما عنصراها غير القابلين للمساومة والتنازل. وبدون حمايتهما، فإن بقية المفاهيم في الاعتقاد الديني تخسر استنثناءها التحكميّ من تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية، والتي تعمل على التنصل منه [=نبذها] باعتبارها غير صحيحة وغير موثوقة وغير مثبَتة. تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية هي ضوابط متعارضة تمامًا مع الاعتقاد الديني، وإن لم تستطع الأديان أن تبرر على نحو منطقي صحيح لماذا ينبغي أن تهرب تأكيدتها [مزاعمها] من تحليلها [تحليل تقنيات اكتساب المعرفة العقلانية] للواقع الموضوعي، فمن ثم فإنها يجب أن تنهار.
الجدلية العملية
1- لو أن إلهًا يوجد، لكان قدَّمَ توجيهًا أوضحَ بخصوص السلوك الإنساني المقبول ولكان سيعمل على ضمان أن وجوده فوق الشك المنطقي.
الآلهة لهم سمتا الخيرية وكلية القدرة بحكم تعريفهم، مما يعني أنهم باستنتاج بديهيّ لديهم القدرة على فعل أي شيء، وأن هذه الأفعال ستكون لأفضل ما في مصلحة الجنس البشري. خلال مجرى التاريخ، الكثير من العناء والعذاب قد تحمله البشر بسبب الخلاف الديني وحده، والذي نشأ من الخلافات الداخلية والخارجية. داخليًّا، خيضت حروبٌ على التفسير الصحيح للكتاب المقدس أو الأخلاق [أو اللاهوت]، مؤدية إلى تجزئة الأديان إلى مذاهب [نعرف في الإسلام حروب السنة والشيعة والخوارج والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والمعتزلة، والقائلين بخلق القرآن من عدمه، واضطهاداتهم المتبادلة لبعضهم الآخر، وغيرها تاريخيًّا_المترجم]. وخارجيًّا، خيضت الحروب المقدسة [ومن الفتوحات والجهاد_م] بين الأديان المتنافسة والتي أنزلت الهلاك والدمار بالسكان الذي كانوا سيئي الحظ على نحوٍ كافٍ ليكونوا في طريقها. باختصار، كان يمكن تجنب قدر كبير من الألم والحيرة البشريين بتدخل إلهٍ يعلن ببساطة عن صحة وجوده الحاليّ ويحدد كذلك بوضوح القانون الأخلاقي الذي يريد من الناس الالتزام به لكي يفضِّلَهم في الحياة الأخرى. عدم تدخل إلهٍ على هذا النحو يقترح أحد ثلاثة أشياء: إنه عاجز عن فعل ذلك، أو أنه لا يريد ذلك، أو أنه لا يوجد في الواقع الموضوعي [هنا يعيد المؤلف تكرار حجة ديـﭭيد هيوم الشهيرة والتي تُنسَب كذلك إلى إِبِكيورِس [أبيقور].]
إن كان يوجد كائن يُعتقَد أنه إله لكنه غير قادر على التفاعل في العالم بهذه الطريقة، فمن ثم فهو ليس كليَّ القدرة. في الواقع، فإنه يكون أبعدَ ما يكون عن كليِّ القدرة. إن مطلب إظهاره لنفسه ببساطة وتوضيح كل من وجوده الحالي وقواعده [الأخلاقية] للبشرية هو طلب عمل تافه وثانوي بسيط وإن عدم قدرته على تحقيقه يوحي بأنه ليس فقط غيرَ كليِّ القدرة، بل بالأحرى عاجزٌ. يُفترَض ويقترَح أن [الإله أو] الآلهة هم الكائنات الذين قد خلقوا الكون نفسه. إن افتراض وجود كائن يمتلك قدرة استثنائية غير مسبوقة على إيجاد الكون بأكمله وفي نفس الوقت لا يقدر على التجلي والظهور في ذلك الكون يمثل تعارضًا مفاهيميًّا مثيرًا للضحك. لو أن إلهًا كان قد خلق الكون وكل شيء فيه، لكان سيكون الجهد الأقل له أن يظهر للبشرية ويبرهن ليس فقط على أنه يوجد حاليًّا، بل وأن لديه مطالب محدَّدة من البشرية فيما يتعلق بقراراتهم الأخلاقية. على أية حال، فإن كائنًا يفتقد مثل تلك القدرة لا يستحق العبادة، وعلى الأرجح للغاية لا يمكن وجوده منطقيًّا بسبب القدرة الخلاقة المذهلة [المفترَضة] التي كان سيحتاج لامتلاكها لكي يخلق كلًّا من الإنسان والكون بينما هو على نحوٍ ما يفتقد مجرد القدرة على الظهور ضمن خلقه.
لو أن هناك كائنًا له وجود والذي يُفترَض أنه إلهٌ لكنه لا يريد توضيح وإجلاء التحيرات والمعضلات التي تحيط بوجوده في الواقع الموضوعي ورغباته، فمن ثم فإن خيريته [إحسانه] مشكوك بها. لو أن العالم كان كما يدعي المتدينون، أيْ: أرض اختبار وتبيين لمن يستحقون المكافآت الأبدية من إلهٍ، فمن غير العادل السماح ببدء اللعبة في ظل وجود الخلاف العقلاني حول القواعد. إن عدد الأديان والطوائف التي قد عرفها الجنس البشري مع قوانينها الأخلاقية المصاحبة لها يرينا الخلاف المثار حول ما يريده إلهٌ من الناس لو كان يوجد حقًّا. هناك ظلم كبير في ترك الأمر لمقامرات البشر حينما تكون مصائرهم الأبدية هي ما على المحك، وقراره بعدم توضيح كل من وجوده حاليًّا وأي سلوك سيؤدي إلى اكتساب ناجح لتأييده يمثل تناقضًا في [مفهوم] خيريته. سرية أو غموض القوانين [الشرائع] يتعارض مع الحس البشري بالعدالة، وهذا الصدع يصير أسوأ للغاية مع التهديد بعذاب وعناء أبدي في حال كون الشخص غير محقٍّ [في اختياره]. باختصار، فإن [افتراض] كائن قادر على تقديم هذا المستوى من التوضيح للبشرية لكنه يرفض هذه الدعوة سيكون غير محسن [خيريّ] وغير مستحق للعبادة بسبب ذلك. حتى لو كان المرء سيستنتج أن كائنًا كهذا يستحق العبادة لمجرد قوته غير المحدودة، فلن يكون المرء قادرًا على القيام بأي شيء غير من التخمين الاعتباطيّ لما يكونه السلوك الأخلاقي المفضَّل له. وهو ما سيكون إستراتيجية ضئيلة احتمالية النجاح.
بالتالي، فإن رفض أو عدم قدرة إلهٍ [مزعومٍ] على البرهنة على وجوده للبشرية وكذلك توضيح التعليمات لكيفية اكتساب تفضيله يجعله كائنًا غير مستحق لاهتمام المرء. في الواقع فإن كلا النتيجتين يجعل وجود كائن كهذا غير مرجح في الواقع الموضوعي بسبب عدم الاتساق النتائج عن صفاته النظرية مع التسليم بتبطله وعدم فعله العملي. باعتبار عجز وعدم كفاءة تفسيري صمت إلهٍ ما بالنسبة لمسألة توضيح الأسئلة التي لدى البشرية عنه، فإن ما يتبقى هو الاستنتاج بأنه لا يوجد في الواقع الموضوعي. لو كان يوجد إلهٌ مع صفتي كلية القدرة والإحسان [الخيرية] كليهما، لكان بالتأكيد سيسره أن يكشف تلك الأديان والطوائف اللاتي يسئن استغلال اسمه ونفوذَه. في الواقع، فإن الأديان نفسها غريبة منافية للعقل من جهة أنها تتألف من رجالٍ يتحدثون زعمًا نيابةً عن الآلهة، وهو ما كان سيكون غير مقبول بالتأكيد لإله تحت أي ظروف. بالتالي، فإن انعدام الفعل العملي للإله أو الآلهة فيما يتعلق بتوضيح وجوده وقواعده لمخلوقاته يقترح بأن لا إله في الحقيقة يوجد في الواقع الموضوعي.
2- لو أن إلهًا يوجد، فإن عبادة واعتقاد المرء لن يكونا ضروريين لأنه كان [الإله] سيعطي الأولوية لمسؤولية المرء نحو السلوك الأخلاقي اتجاه رفاقه البشر.
للآلهة [المزعومة] صفتان هما كلية القدرة والخيرية واللتان تجعلانهم ذوي صلة بالبشر من جهة الاهتمام بعبادتهم. لن يكون المرء مهتمًا بعبادة كائن يعتقد أنه غير قادر على حمايته من الخطر أو لا يهتم على نحوٍ كافٍ للقيام بذلك. رغم ذلك، فإن كائنًا يمتلك قوة غير محدودة كان سيكون من غير المرجح أنه يهتم بأن يعبده مخلوقاته. فرغم كل شيء، فإن قوة كائن قادر على إنجاز خارق مذهل كخلق كَوْنٍ لم يكن ليمكن تقديرها من قِبَل البشر، تلك الكائنات التي تمتلك أضأل مقدار من قدرة محتملة كهذه [على التقدير]. بالتالي، كان إلهٌ ما سيكون غير مبالٍ بمديح وتمجيد [تسبيح] البشر له لأنهم لن يكونوا قادرين على فهم ما يعبدونه. وحتى لو فهموا، فهو لن يكسب أي شيء من مثل هذا التمجيد. إن إلهًا ما لن يستفيد من تقديم الخضوع والولاء، وأقل من ذلك [احتياجًا] من الكائنات الذين هم من تصميمه. لو أنه حقًّا محسِنٌ [خَيِّر] ويهتم بالقرارات الأخلاقية للبشر، لكان سيقيِّم الأسلوب الذي يعامل به الناس أحدهم الآخر [فقط] وليس تعاملهم معه.
تفكر في الظلم النتن الذي سينتج لو أن العكس صحيح، تحديدًا، أيْ أن الآلهة [أو الإله] يهتم فقط بسلوكيات المرء اتجاه رفاقه البشر بقدر ما تتدخل وتتعلق بعبادته، فلو كانت هذه هي الحالة، لاستطاع أكثر الناس شرًّا الإساءة إلى الجنس البشري وتعذيبه بدون عقوبة وبحصانة طالما أنهم يُبدون الاحترام الملائم لإلهٍ، أو_على نحوٍ أكثر بروزًا_ بدعوى أنهم يفعلون ذلك للدفاع عن أو تكريم الإله الصحيح. وعندما يفترض المرءُ أن ما يشعر به ويميل إليه هو ما يريده ويفضله إلهٌ ما لأجل أفضل ما في صالح البشرية، فسيتوهم أنه حر في أن ينزل الهلاك بحيوات الآخرين الذين لم يفعلوا له أي أذى، بالإضافة إلى الكذب في سبيل إرضاء إلهه. إن الاقتراح بأن إلهًا لا يحتاج أي شيء لكي يُحسِّن وجوده الخاص به أو يبقى حيًّا سيطلب أشياء كهذه يتناقض مع صفته الشخصية [المفترَضة] الخاصة بالإحسان. إن إلهًا مُحْسِنًا [خَيِّرًا] كان سيعتبر أي وقت يُقضَى في عبادته وقتًا مهدورًا كان يمكن أن يُستغَل في مساعدة كائناته الأخرى التي تحتاج حقًّا المساعدة. لا يمكن أن يفضل إلهٌ التعبدات والتكريمات غير الفعالة ولا المفيدة المقدمة له عن طريق كائنات لا تقدم قرابينها وصلواتها له أي غرض أو فائدة بالنسبة لمعاملة المرء العادلة والمحترمة لرفاقه البشر [وغيرهم من الكائنات-م]، إن كان لديه على نحو منطقيّ الصفة الشخصية للإحسان [الخيرية].
بناءً على سمته الشخصية الخاصة بالإحسان، فإن الإله كان سيحكم ويحلل استحقاق البشر بمجازاة جوهر تصرفاتهم [مع بعضهم الآخر] وليس الشكلية [الصلوات والطقوس]، أيْ بتفحص قابليتهم للتعامل المحترم اللائق مع من لن يمكنهم رد المعروف إليهم. لا يُفترض أن إلهًا ما سيتسم بكلية القدرة لكي يتفحص ويشعر بإمكانية التعامل والتصرف الذاتي للبشر المتمثل في عبادته. فرغم كل شيء، فإن الوعود بمكافأة عظيمة ودائمة تكمن في عقول البشر ومطامعهم، وإن عبادة البشر للآلهة توصَم وتتلطخ بإيثار المصلحة الشخصية [المتوهَّمة]. بعبارة أخرى، فإن سلوك وفعل العبادة لإلهٍ شكليٌّ طقوسيٌّ وغير ضروريّ وتملُّقيّ تزلُّفيّ. لو أن هناك إلهًا حقًّا يقيِّم تصرفات البشر على أساس قيمتها المحضة، لكان سيبحث عن اللحظات في حياة الشخص ليتفحص كيف عامل الناس الذين اعتقد أنهم لا يمكنهم عمل شيء لرد معروفه وإحسانه لهم. فعل ذلك كان سيكون تدقيقًا لجوهر شخصية الشخص وقابليته للتعامل المحترم والاحترام والخير بدون العنصر المشوش الخاص بالمكسب الذاتي الذي يعكر الصورة.
من يستحق أكثرَ مكافاآتِ إلهٍ [مزعوم]؟ أهو الإنسان الذي يبدي لا مبالاة تامة اتجاه الفقراء في مجتمعه لكنه يصلي علنًا ليحصل على تفضيل إلهٍ ويزيد إمكانيًّا حسن سمعته بظهوره كمتواضع في عيون الآخرين؟ أم هو الإنسان الذي لا يؤمن بوجود إلهٍ لكنه يتبرع على نحوٍ مجهول بوقته أو ماله للمساعدة في إطعام أو تعليم الناس الذين ليس لديهم الإمكانيات لذلك بلا ذنبٍ منهم؟ لو أن الإجابة هي الأسبق [الأولى]، فمن ثم فإن المرء محكوم عليه من قِبَل كائن كهذا مهما كانت اختياراته [الأخلاقية]. فلو أنه كان محترمًا محسنًا للآخرين بدلًا من الإله أو الآلهة، فسوف يُرسَل إلى الجحيم لأجل إعطائه الأولوية لاحتياجات البشر على الاحتياجات النهمة [للتملق لإلهٍ أو] آلهة، أما لو لم يفعل، فسيجد جحيمًا من صنعه الشخصي ينسجم مع عيشه وجودًا باردًا مجردًا من الصلة الهامة مع البشرية. بغض النظر، فإن اختيارًا قاسيًا كهذا لا يمكن أن يوجد لو أن الإله [المزعوم] يتصف بصفاته الخيرة ويتجنب الفخ المنطقي الرديء لتفضيل الشكلية على الجوهر.
3-وجود إلهٍ ما مثارٌ للجدل إلى حدٍّ كبير لأن اقتراح أن وعي البشر ينجو ويبقى بعد موت الجسد لم يُبَرْهَنْ عليه عقلانيًّا سواءً بالأدلة الإمبريقية أو الضرورة المنطقية.
كما تتضمن بنية المكسب النظري للمقامرة في رهان باسكال، فإن أبرز جوانب الاعتقاد والقناعة الدينية تتوقف على الاقتراح بأن وعي الكائنات البشرية بلا نهاية، أيْ أن الروح توجد. لو لم يكن الأمر كذلك وأن الوعي يخمد بموت الجسد، فإن وجود إلهٍ ما سيكون مثار جدل وخلاف في كون غضبه أو تأييده له فقط زمن محدود لتحمله في حياة الشخص. الكثير جدًا مما يؤدي إلى القناعة الدينية ينشأ من الوعد بأنه ليس فقط هناك حياة بعد الموت بل وكذلك أن خبرات الشخص القادمة خلالها ستعتمد على نحوٍ مفصليّ على تقواه [الدينية] خلال حياته الفانية. بدون الافتراض القائم على الإيمان بأن هناك حياة بعد الموت للبشر، فإن السؤال عما إذا يوجد إله أو آلهة في الواقع الموضوعي يصير أحد الاهتمامات الهامشية.
إن هذا الجزء من الجدلية العملية يقوم على منطق مماثل للمقدم في جدلية الأسس، لكنه يركز على شيء ملموس أكثر، ألا وهو الجسد البشري. إن الإله هو فكرة لا يرغب أحد في أن يقدم برهانًا عليها بما يمكن للمرء ربطه بمستوى عمليّ، لأنه كائن يُزعَم أنه فريد واستثنائي بحقٍّ. من ناحية أخرى، تُعتبَر الروح النظير ما فوق الطبيعي [الغيبي] لشخصية الشخص وجوهره الكلي، وحقيقة كونها غائبة بشدة مثيرة للشك بالفعل.
في الوضع الحاليّ للطب الحديث، لا يزال لدى البشرية الكثير لتعَلُّمِه عن كيفية معالجة الأمراض وتصحيح حالات قصور أجهزة الجسد. رغم ذلك، فإن ما لا يظهر عندما يزور المرء طبيب قلب أو أمراض باطنة أو عظام هو الروح، وهو ما ليس بصدفة لأنها_من الناحية التشريحية-لا توجد. هذا يعني أنه لا توجد مطلقًا أي أدلة إمبريقية على وجود الروح، ليس فقط في البشر بل وفي أي حيوان آخر على الكوكب. يجد المؤمنون الدينيون على الأرجح هذه النقطة واضحة وغير مستحقة للالتفات لأن الروح بنية فوق طبيعية، لكن الصعوبة التي يمر بها المرء لأجل افتقاد الأدلة الأمبريقية على إله لا يمكن انطباقها على الروح. لو أن الروح توجد فعلًا في الحقيقة، فمن ثم فإنها بحق ماهية الشخص، إلا أن لا أحد يمكنه إيجاد أي أثر لها. اللغة الشعرية المطاطية حول أن أعمق مشاعر الشخص وأكثرها إخلاصًا تمثل الروح لا تقوم بأي شيء للبرهنة على أن الروح هي في الحقيقة كائن يوجد في الواقع الموضوعي. لو كان هذا كل ما يمكن عمله للبرهنة على وجودها، فإن الروح ليست إلا سفينة تحمل أثمن البضائع، والتي لا تظهر أبدًا على الرادار ولا تدخل مرفأً.
الضرورة النظرية للروح في الواقع الموضوعي غير مثبَتة كذلك مثل المملكة فوق الطبيعية عمومًا والتي يُزعَم أنها [الروح] جزءٌ منها، لكن الجدلية الحالية ستركز على ضرورة الروح في الطبيعة الفيزيائية. أليس تفسيرًا مُرضيًا كافيًا القول بأن عواطف وأفكار الإنسان الذاتية كلها وظائف لمخه؟ أيُّ سببٍ هنالك للاعتقاد بأن لها مصدرًا مختلفًا، ناهيك عن كائن حقيقي ليس له وجود في العالم الفيزيائي؟ لكي يكون النموذج الديني للخبرة والوعي البشري صحيحًا، مع تسليمنا بافتقاد الدليل الإمبريقي على وجود الروح، فإن العقل الفيزيائي كان سيحتاج إلى جهاز ما محول للما فوق طبيعي إلى طبيعي [فيزيائي] والذي سيعمل كمحوِّل لكي تكون الروح مقرَّ وعي وعواطف الشخص.
التخمينات الإضافية على غرار نفس النهج هي مضيعة للوقت، ليس فقط بسبب الطبيعة الخيالية لما هو متناول هنا، بل وكذلك لأنه لا قوة تفسيرية إضافية للظرف الإنساني ستنتج عند الاستمرار في إضافة تعقيد كبير غير قابل للتفسير. إن وجود الروح_ككل الكائنات الأخرى في البنية الأسطورية للاعتقاد الديني_لا يحتاج إلى البرهنة على كونه مستحيلًا بمعنى الكلمة لأجل افتقاد الضرورة المنطقية في الواقع الموضوعي، ولغياب كلٍّ من تلك [الضرورة] والدليل الإمبريقي التجريبي، فإن وجودهن يمكن فقط أن يُفترَض بطلانه كخيالٍ ووهمٍ.
لو أن الروح لا توجد، فإن السؤال عما إذا يوجد إلهٌ يكون له أهمية أقل بشدة حيث أن وعي المرء لن ينجو من الموت. بالتأكيد، فإن نفس الجدليات ضد وجود الروح تنطبق على نحوٍ مماثلٍ على الإله أو الآلهة، لكن الروح استثنائية في كونها يُدَّعَى أنها جزء من الناس [الشخص]، أيْ: شيء ما مرتبط على نحوٍ ما بأجسادهم الفيزيائية. وكون الروح لا يمكن تعيين مكانها في أي مكان في الطبيعة وأن وجودها ليس أساسيًّا لا غنى عنه منطقيًّا لنموذجٍ تفسيريّ للبشر يعني أنه لا يوجد سبب حاليّ للاعتقاد بأنها توجد في الواقع الموضوعي. إن نتائج كون الروح [مفهومها] سرابًا وخيالًا فقط في صحراء الخبرة والفكر الإنساني يتضمن الزيادة الجذرية الراديكالية للامبالاة البشرية بالآلهة والأديان وقدرتها المزعومة على التلاعب والتدخل في حيواتهم. بعبارة أخرى، فإن الشك الشديد في وجود الروح في الواقع الموضوعي لا يعني أن الآلهة كذلك لا يوجدون، بل بالأحرى أن وجودهم يصير نقطة جدال على نحو وثيق عندما يكون مسرح الأبدية لم يعد ضمن الحُسبان.
موجز للجدلية العملية
الجدلية العملية أقل اهتمامًا بتفنيد وجود الآلهة مما هي تركز على تقويض جوانب الاعتقاد الدين التي تدفع الناس على الاهتمام بما إذا كان يوجد إلهٌ في المقام الأول. تتضمن الجدلية الأولى الفرعية أن إلهًا يهتم بسلوك البشر كان سيقدم تعاليم أكثر حسمًا وتحديدًا مما هو متاح حاليًّا، والثانية تجادل بأن التعبد لإلهٍ نشاطٌ بلا جدوى بافتراضنا لصفاته المزعومة، والثالثة هي أنه لا يوجد على الأرجح حياة بعد الموت. بجمعهن معًا، فإن هؤلاء الجدليات الثلاثة يجادلن بأن عبادة إلهٍ مضيعةٌ للوقت وأن السؤال عما إذا كان يوجد إلهٌ ليس له أهمية عملية لحياة الشخص. إن مقصد الجدلية العملية هو أنه حتى لو كان سيوجد إله [على سبيل الجدل]، فإن التصرف الأكثر منطقية هو العيش بدون تفكيرٍ بانشغال ونشاطٍ بصدده.
الجدلية الفوقية [الماورائية]
1- تقترح المصطلحات الدينية أماكن وكائنات تزعم وجودها في الواقع الموضوعي لكنها معرَّفة على نحوٍ غير كافٍ لكي تكون قابلة للاختبار. بالتالي، يجب أن يُفترَض بطلان مثل تلك الأماكن والكائنات.
لكي نخوض عميقًا في الافتراضات غير المضمونة التي لا مبرر لها والتناقضات الغزيرة التي يقدمها الاعتقاد الديني، فقد أجَّلتُ أبسطَ الجدليات ضده حتى الآن، وهي أن الاعتقاد الديني فوضى [ترجمة بديلة: كمٌّ] متنافر غير متماسك من المفاهيم المعرَّفة على نحو رديء ضعيف. يحاول الاعتقاد الديني الركوب على حصانين في وقت واحد: إنه يريد أن يدعي السيادة على الواقع الموضوعي، بينما في نفس الوقت يحتجب عنه لأن قوته تأتي من مفاهيم بدون تعريفات ذوات معانٍ. هذه خدعة ماكرة تسمح للفشل المعجِّز للاعتقاد الديني أن يتنكر على أنه غموض [سرٌّ] مجيد. ما هي بالضبط تلك الأشياء والأماكن التي يدعي الاعتقاد الديني وجودها؟ ما هو الإله أو الآلهة؟ ما هي الروح؟ ما هو ما فوق الطبيعي [الغيبي، الميتافيزيقي]؟ إن التعريف بأدنى حد الذي قمت به في هذا الكتاب قد أُنشئَ للتكلم عن تضميناتها الأعلى وتنافرها، لكنها متصدعة معيبة عند مستوى أكثر جذرية. لماذا تبدو كل هذه المفاهيم كصور سلبية للمعرفة البشرية، أيْ أنها توجد قصديًّا في كل الأماكن التي لا تعمل فيها القوى التفسيرية الموثوقة المعوَّل عليها للإنسان؟
إن الفكرة المركزية الأساسية لكل أساطير الاعتقاد الديني هي ما فوق الطببيعي، ولهذا نوقِشَتْ كأحد افتراضيها الإلزاميين. إن ما فوق الطبيعي هو قوقعة الهروب لكل ما لا يقدر الدين على إثباته. إنها مستودَع الآلهة والأرواح والملائكة والشياطين والجنة والجحيم [والنرﭬانا وأتمان] وغيرها. لو أن هذه الكائنات والأماكن توجد حقًّا بالفعل في الواقع الموضوعي، فمن ثم لكان ما فوق الطبيعي سيبدو المكان الوحيد الذي يستحق المعرفة. بالتالي، فما هو؟ إن تعريفه على أنه "ليس شيئًا يمكن لأي أحد فهمه بينما هو حيٌّ" عديم الجدوى، إلا أن ذلك كل ما يقدمه الدين له. أما بالنسبة للآلهة، فكيف سيعرف المرء إلهًا لو أنه جاوزَ واحدًا [إلهًا] في الشارع؟ بدون تعريف لما يكونه الإله أو الآلهة في الحقيقة، كيف سيقدر المرء على التمييز بين رسول حقيقيّ ومجنونٍ أو محتالٍ؟ هذه التعريفات المحدودة إلى أدنى حد تقدم أرضية خصيبة وسببًا وجيهًا للفرد لأن يملأ الفراغات بما يشاء ويخمن الباقي.
ما يصنعه مفهوم إلهٍ ما بتعريفه الحاليّ هو مجرد خيال ظل، رسم تخطيطي [إسكتش] لقوة لا يمكن تصورها والأمل والخوف. بدون وجود معلومات إضافية، فإن وجود [الإله أو] الآلهة في الواقع الموضوعي غير قابل للاختبار، لأن لا أحد يعرف عما يبحث. بالتأكيد، فإن ضبابية [غموض] التعريف يعمل على نزع استحقاقه للاعتبار والأخذ بجديّة لأن كل المزاعم والتأكيدات هي باطل مفترَضٌ حتى تثبت صحتها، ولا يمكن للمرء إثبات صحة فرضية لا يمكنه وصفها بدقة معقولة. إن لفاضحٌ وذو دلالة كون الأديان تضع تجربة واحدة فقط لاختبار صحة نظمها [تصوراتها] عن العالم، ألا وهي الموت، وأيُّ منظومة فكرٍ تجعل زوال المرءِ مستندًا ودليلًا ضروريًّا للحصول على دليل تأكيديّ إيجابيّ على ما تزعمه وتؤكده هي صنف مشكوك فيه حقًّا.
حول تلك النقطة، فتفكر في إستِراتيجية المقامرة النظرية التي توظفها الديان بجعل الموت هو موقع مختبرها. لو كان كل شيء يقوله الاعتقاد الديني صحيح فمن ثَمَّ سيجد المرءُ بالفعل تلك المعلومات في الحياة الأخرى ما بعد الموت. أما لو كان الاعتقاد الديني غير صحيح رغم ذلك، فإن وعي الإنسان يتوقف بموت جسده، ولن يكون بالجوار لجلب الأخبار عن ذلك الزيف والبطلان إلى الآخرين الذين يعيشون بعده. إجمالًا، فهذا بحقٍّ موقف مرغوب فيه تُحسد عليه الأديان باتخاذها له: فالمرءُ إما سيحصل على دليلٍ على منظومة الاعتقاد عند الموت، أو لو أن النظام غير صحيح وباطل فلن يكون هناك أي مطالبات بالتعويضات [التصحيحات]. إن قدرة الأديان على الاستعمال الإستراتيجي لهذه الإستراتيجية هو نتيجة مباشرة لخمول مُعجَم [مصطلحات] الاعتقاد الديني.
ورغم كل شيء، يستطيع المرء أن يختلق أي مجموعة من الحواجز [على التفكير] للحصول على دلائل تتعلق بتأكيداته [مزاعمه] لو أمكنه إقناع العقول المستقصية بالسماح بمرونة ومدى لا نهائي في تقريرِ ما يؤلف دليلًا، وإحدى الطرق الخبيثة للحصول على ذلك المجال المطاطيّ هو رفض تعريف مصطلحات المرء على نحوٍ معقول. لو كان نظامُ اعتقادٍ بيتًا، فإن محتوياته ستكون ذات أهمية كبيرة، وستكون مفاتيح أبوابه هي مفاهيم ومصطلحات النظام، ولو كانت هذه المفاهيم والمصطلحات معرّفة على نحوٍ رديء غامض، فلن تكون قادرة على فتح الأقفال، وسيظل محتوى البيت سرًّا. يستعمل الاعتقاد الديني تكتيكًا مماثلًا. ببرد السنون الدقيقة لمفاتيح أقفاله، فإنه يحول نفسه إلى صندوق أسود منطقي بدون وسيلة للدخول إليه، ومعزولًا بأمان من التمييز والتفحص، فإن منطقه يمسي غامضًا معتمًا على نحو غير مقبول.
على نحوٍ مطلق، فإنه لمهمٌّ معرفة ما تعنيه الكلماتُ، خاصّةً عندما تدّعي البرهنة على مسائل تتعلق بحقائق عن الواقع الموضوعي. عندما تدعي أفكار معينة ومصطلحاتها ذوات العلاقة أن لها الأهمية التي تزعمها الأفكار الخاصة بالاعتقاد الديني، فإن الوضوح إلزاميٌّ حقًّا. إن العواطف الذاتية كالحب أو الرهبة تأبى التعريفات الدقيقة لأنها داخلية وهي تعابير عن قيم عوضًا عن حقائق. هذه ليست طبيعة ما فوق الطبيعي أو الإله أو الروح، رغم ذلك. يُزعَم ويُقترَح أن هذه المفاهيم توجد في الواقع الموضوعي، ولذلك فإن إخفاقها في أن تُعرَّف على نحو معقول يجعلها معزولة على نحو غير مقبول عن اختبار صحتها. وبما أن المرء لا يمكنه اختبار صحة هذه المفاهيم فإنها يجب أن يُفترَض بطلانها حيث أنه لا يمكن تقديم فرضيات معرَّفة جيدًا وقابلة للاختبار تتضمنها. كون المصطلحات الدينية تتفادى وتتهرب من التعريفات الدقيقة لا يجعل ما يؤكده ويزعمه الاعتقاد الديني عن الواقع الموضوعي صحيحًا على نحوٍ غامضٍ لا يُفسَّر؛ بالأحرى إنه يجعلها مفترَضة البُطلان.
ملخص للجدلية الفوقية [الماورائية]
في العديد من النقاط في هذا الكتاب، رجعتُ إلى الجدلية الفوقية، خاصةً عندما ناقشت الاعتبارات العملية المتعلقة بالأدلة على وجود إله. إن الجدلية الفوقية هجومٌ على المصطلحات الدينية نفسها لكونها رديئة التعريفات للغاية بحيث تكون غير معرَّفة من الناحية الحقيقة وبالتالي عديمة المعاني. في جوهرها، فإن الجدلية الفوقية هي تطبيق لقواعد التفكير المنصفة العادلة. لو أراد امرؤٌ ادعاء معرفة كائن ذي أهمية مذهلة في حيوات البشر، فمن ثَمَّ يُتَوقَّع منه أن يقدم مستوىً معقولًا من الدقة على الطاولة بصدد ماهية هذا الكائن بالضبط وكيف يعرف المرء ما سيعتقد به إن كان سيقبل اتباع دينٍ. السماح بغير ذلك هو فتح فجوة فكرية مبذرة تحث على محاولات مشؤومة شريرة للتحدث باسم كائن ذي قوة هائلة [مزعومة] وبالتالي اكتساب الخضوع المعطى لكائنٍ كهذا بالوكالة والنيابة عنه.
الخلاصة
لقد استعرضنا ثلاثة تفنيدات مستقلة للاعتقاد الديني، كلٌّ منها يستهدف نقاط ضعف مختلفة. يجب أن يُشار إلى أن إنشاءنا لثلاث جدليات ضد الاعتقاد الديني لا يُقَصد به بأي نحوٍ الإشارة الضمنية إلى أن هذه قائمة شاملة جامعة مانعة. إن جدلياتٍ واعتباراتٍ أخرى تركز على هذه الجوانب وجوانب غيرها للاعتقاد الديني ممكنة بالتأكيد. لقد قُصِد من الجدليات التي قد غطيناها أن تقدم تنوعًا: جدلية الأسس تهاجم الاعتقاد الديني في افتراضاته وأرضيته النظرية، والجدلية العملية تكافح الاعتقاد الديني من منظورٍ عملي بدون الانشغال بالخوض في طبيعته النظرية، والجدلية الفوقية تستجوب وتفحص نسيج وبناء الاعتقاد الديني نفسه بإلقاء الشك على الطبيعة المراوغة المتفلتة لمصطلحاته. ينبغي أن تُقرَأ هذه الجدلياتُ وملخصاتها العديدَ من المرات لدمج نقاطها الأساسية التي تركز وتشدد عليها في أفكار الذات.
عند هذه النقطة، لاحظ كم قد أنجزنا. إن الغالبية العظمى من الناس في التاريخ الإنساني لم يكن لديهم رفاهية مواجهة الاعتقاد الديني بأسلوبٍ منظم ومدروس، وليس معنى هذا أن أفكاره معقدة، بل بالأحرى أنها مشوِّشة وتميل إلى إحداث التشويش العاطفي. ما أنقذنا من مستنقع تهديداته وتوجيهاته كان التزود بمعايير التحليل النقدي المعقول تمامًا والذي يضمن مستويات المعرفة الموثوقة فيما يتعلق بالواقع الموضوعي ويمنع الخيال من القفز إلى استنتاجات لا مبرر لها.
الكثير من النقاشات عن التفكير القائم على العقلانية والإلحاد قد توقفت عند هذه النقطة حيث دُحِضَ وفُنِّد الاعتقادُ الدينيُّ. رغم ذلك، فإن رحلتنا قد قطعنا نصفها فقط. فحتى الآن، قد عملنا على استخراج الدائرة [الكهربية] المعيبة [يقصد منظومة التفكير] الخاصة بالاعتقاد الديني من تفكيرنا. وقد صرنا لدينا فجوة في جانب متمم للهوية، ويجب أن نبني الآن هوياتنا الجديدة منهجيًّا، ونجد حلولًا جديدة عقلانية للأسئلة التي كان الاعتقاد الديني يجيب عليها قديمًا.
الجزء الثاني
إعادة بناء الهوية
9- الدروس العاطفية لنبذ ودحض الاعتقاد الديني
في مقدرتنا أن نعيد إنشاء العالم من جديد
توماس بين [إنجليزي الأصل ومن أعلام الاستقلال الأمِرِكيّ ونقد الملكية والدين]
مع خروج الاعتقاد الديني من المشهد، فإن مرحلة إعادة البناء يجب أن تبدأ. كما قد نوقِش، فإن الاعتقاد الديني ما هو إلا مجموعة من الافتراضات عن العالم. للأسف بالنسبة للمهمة الحالية، فإنها كثيرًا ما تكون افتراضات عزيزة اعتُنِقَت لوقت طويل، ومع نبذها، فإن المرء يحتاج إلى الكفاح لإسقاط الآراء ووجهات النظر التي قد جذَّرَت نفسها في هويته ذاتها. الكثير من الناس يشعرون أن الاعتقاد الديني لا يصل إلى إقناعهم، إلا أنهم يظلون عالقين في افتراضاته لأنهم متحيرون بصدد كيفية امتلاكهم لعواطفهم بدونه.
إن هذه الفجوة في التعليم والثقافة هي ما يبقي ناسًا أكثر بكثير في الاعتقاد الديني عما كان سيكون عليه الأمر لو اختلف الحال. إن تفكيك [التخلص من] المغالطات الفكرية للاعتقاد الديني ليس صعبًا للغاية باعتبار أدوات العصر الحديث، لكن الاعتماد العاطفي للمرء عليه هو ما كثيرًا ما يعمل على الهيمنة على قدرة تفكيره على اتخاذ قرارات عن قيمته. ونتيجة لذلك فيجب أن يكافح المرء ليكتسب ضابطًا عاطفيًّا، والذي هو مفهوم أساسي سندرسه عند نهاية هذا الفصل. رغم ذلك، فقبل ذلك فإننا سنغطي النتائج العاطفية المحتملة لهجر الاعتقاد الديني لكي نمكن الشخص من إحباط ما يمكنه توقعه من تركه.
عواطف متركزة على الذات
باعتبار كيفية يدمج دين الشخص السابق نفسه مع هوية الفرد، فإن معظم العواطف الداخلية المتعلقة بالانتقال إلى التفكير القائم على العقلانية المتسق عنيفة. ببساطة لأن عثور الشخص على طريقه للخروج من الاعتقاد الديني لا يعني أن عواطفه ستنسجم فوريًّا مع ذلك الاستنتاج. العادات القديمة تقاوِم وتصمد بشدة، والخروج من الاعتقاد الديني يتطلب تمرين العضلات العاطفية التي قد أعاق نموها وعود وأيديولوجي الاعتقاد الديني. في الإلحاد لم يعد هناك من بعدُ نظام دعم إلهيٍّ لمواساة الشخص عندما تعامله الحياة بقسوة، وهو الآن يفتقد القدرة على تأجيل أعمق أحلامه إلى حياة أخرى حيث ستُحقَّق [زعمًا]. أصبح منظور المرء أكثر واقعيةً. قبل تغطية أكثر العواطف جدية، فإن الدراسة ستبدأ بالشعور المبهج المنعش بتوحد وتجمع الذات.
تجمع وتوحد الذات
ترك الاعتقاد الديني يسبب شعورًا مدهشًا بالراحة عندما يكون الشخص قد حقق مستوى مقبولًا من اليقين الفكريّ فيما يتعلق باستنتاجاته. في الاعتقاد الديني تُمزَّق النفس إلى الجسد الفيزيائي والروح، أحدهما يحوز حق الدخول إلى ممالك مجهولة. في الواقع، فإن الوجود نفسه يتم تقسيمه إلى الفيزيائي والغيبي السحري، ويقبل المرء عجزًا فكريًّا كاملًا في محاولة فهم الأخير. إن نتيجة جانبية لاتباع والمشاركة في الاعتقاد الديني هي أحلام اليقظة وانتظار السحر [المعجزات] لتأتي لتعمل على التأثير على الحالم. بعبارة أخرى، فإن تقسيم نفس المرء والتوقعات على غرار هذه الفقرة يميل إلى جعل الشخص يَقْنَعُ بالجلوس والانتظار، متوقعًا دومًا أنه على نحوٍ ما وفي مكانٍ ما ستجده وتأتي إليه أهدافه. عند نبذ الاعتقاد الديني، فإن كل هذه الأماكن والنسخ الغيبية للنفس تتجمع وتتحد، ويشعر العقل بقوةِ كونِه أصبح حاضرًا وواعيًا بأعلى درجة. إنه شعورٌ ممدٌّ بالقوة والإثارة بالتزود بالقوة والوضوح والذي لا يتوقعه معظم الناس. فرغم كل شيء، فإن الأديان تؤدي مهمتها جيدًا فيما يتعلق بجعل الحياة بدونها تبدو مروعة وخالية، لكن حالما يتحدى المرء على نحو حاسم ذلك الزعم في أن يُثبَت، فإن جيشان الشعور بتجمع وتوحد الذات الذي يفيض ويجري داخل الشخص حقًّا لا يُنسَى.
إن الشعور باجتماع الذات هو شعور مشابه للمعمودية [المسيحية أو الاهتداء الديني] مع فارق أن المعموديات [أو الاهتداآت] تنزع إلى أن تحدث على غير المتوقع بينما لا يدرك المرء بوعيٍ مادة الموضوع الذي يشعر نحوه بأنه قد امتلك به حقيقة عظيمة. في الواقع، فإن الشعور بتوحد الذات لا يتعلق باكتساب معرفة عظيمة، بل يتعلق براحة هجر معرفة معيبة ناقصة [مشوَّهة] مزعجة. تختفي الروح [الخيالية] في العقل، وما فوق الفيزيائي والطبيعي في الفيزيائي، والآلهة إلى الخيال.
في الواقع، تصير الكثير من الأشياء الخرافية المتخيلة عن العالم والتي ليس لها بالضرورة علاقة مع الدين تحت تحكم المرء. كمثالٍ، لا تحتكر الأديان الادعاء بامتلاكها معرفة هائلة مربحة عن العالم والمستقبل، فهذه التقنية هي وستظل ادعاءً مفضَّلًا للدجالين والمحتالين، ومع التفكير القائم على العقلانية فإن الفضول المتردد الذي ربما كان لدى المرء اتجاه وسيط روحاني أو قارئ أوراق تاروت [بزعمه] يتبدد لنفس السبب الذي يجعل المرء لا يستجيز من بعدُ تعاليم رجال الدين.
يبدأ المرء في فهم الصورة الكلية للأمر حيث أن محترفي مجالات العلوم الزائفة [الدجل] كلهم يتحدثون عن كائنات يدعون وجودها في الواقع الموضوعي بأساليب مشابهة على نحو مثير للريبة، يعني على نحوٍ غامض. تتطلب تقنيات اكتساب المعرفة الخاصة بالتفكير القائم على العقلانية الدقة والشفافية [الوضوح]، وكون محترفي تلك المجالات الأخرى يولعون بغموضهم يعني أن هناك أشياء لديهم يخفونها أو_على نحو أكثر تحديدًا_أشياء لا يمكنها أن تصمد أمام التفحص. الشعور بتوحد الذات هو الشعور العاطفي الذي يتزامن مع إدراكٍ واستيعاب فكريّ مثل هذا. إنه الشعور والإدراك بأنه مهما كانت الدرجة التي تبدو بها ظاهرة معينة كأنها لا تُصدَّق في الواقع الموضوعي فإن هناك دائمًا سبيلًا عقلانيًّا منطقيًّا لفهمها والحصول على إدراك فكري لكيفية حدوثها.
إنه لمُغرٍ ومخادع أن نعتقد في الشعور بتجمع ووحدة الذات على أنه إشارة العقل إلى أنه قد وصل إلى المحطة النهائية في رحلته، لكن ذلك سيكون خطأً. الشعور بتوحد الذات هو خطوة مكافئة على طريق توازن جديد خاص بالتفكير القائم على العقلانية المتسق، لكنه ليس حفل تخرج [النهاية]. يُعدي [يلوِّث] الاعتقاد الديني هوية وتفكير الشخص بالكثير من الأفكار والافتراضات، والبعض منها سينكشف فقط مع الاستبطان [تفحص المرء لأفكاره] والنقاش والممارسة، وإن الشعور باجتماع الذات سيحدث قبل تعقُّب العقل لكل هذه العادات القديمة واستئصالها.
مع ذلك، فإن الشعور بتوحد الذات يُظهِر تقدمًا كبيرًا للفرد بعيدًا عن الاعتقاد الديني، والمرء لن يحتاج للتخمين عندما يشعر به. لاحظ أن "اجتماع الذات" هو تسميتي لهذا الشعور، وهو ما يعطي المعنى باعتبار تذكري لذلك الشعور. لقد انشغلت بتسميته لأني وجدت أنه خبرة عالمية على نحو مدهش للناس الذين تركوا الاعتقاد الديني. إن كونها لم تُسَمًّ من قبلُ على حد علمي يدل فقط على التأثير الخانق [الكابح] للأديان والتابو الخاص بها في المجتمعات. بفضل نفس التأثير، فإن التأثيرات العاطفية المتبقية لترك الاعتقاد الديني والخروج منه سوف نمر بها على نحو ليس أقل فائدة وإثابة كذلك لو واجهناها على نحوٍ سليم.
الأزمة الوجودية
الأزمة الوجودية هي شعورٌ بفقدان المعني في حياة المرء بدون الاعتقاد في وجود إلهٍ. بلا ريب، فهذه هي المسألة ذات الأهمية القصوى لمن يفكرون في ترك الاعتقاد الديني. فرغم كل شيء، تعلِّم الأديان الناس بأن العالم وحيواتهم لا تساوي شيئًا مقارنةً بكائناتها الأسطورية، لذا يصير المؤمنون الدينيون معتادين على انخفاض تقديرهم لخبراتهم الفيزيائية الجسدية. بدلًا من منظورٍ طبيعيٍّ للعالم، فإن الأديان تصطنع معنى لأتباعها. رغم أن ذلك المعنى عجيب وعديم المنطق [تافه] حقًّا، فإنه هدف على الأقل. ولو كان الناس يائسين بدرجة كافية فسيقبلون أي غرضٍ لحيواتهم، مهما كان مدى كونه مرعبًا أو اعتباطيًّا على نحوٍ موضوعيّ. افتضاح ذلك المعنى يترك الشخصَ مع مشاعر الخسارة وانعدام المعنى وحتى الكآبة التامّة.
إنه طبيعيٌّ كذلك الشعور بنوبات من الذعر عند التفكير في الأزمة الوجودية. إنه شعور مقلق وعازل، بينما سيمر المرء خلال هذه الفترة من الاضطراب، فيجب أن يتوقعه. كذلك فإن انهيار الاعتقاد الديني يؤدي على الأرجح إلى تقدير عميق للوقت الذي يملكه المرء في عمره، وتوقع إهدار كم أكثر منه على نحو غير محدود يمكن أن يسبب ضغطًا في حد ذاته. بغض النظر، فإنه لهامٌّ إدراك زوبعة العاطف الناتجة عن الأزمة الوجودية. إن التعامل مع المشاعر المشوشة والمزعجة يحتاج إلى تمارين لآليات التحمل العاطفي، والتي كانت قد ضمرت وتوقف نموها في ظل اتباع الدين.
في الواقع، كثير من المؤمنين الدينيين الذين تحدثت معهم قالوا أشياء مثل: "أعتقد أني على الأرجح ملحدٌ، لكني فقط لا أقدر أن أعيش بدون معنى". من منظور أديانهم، فإن ما يشعر به هؤلاء الناس بصدد الخروج من الاعتقاد الديني يبدو مثل وادٍ سحيقٍ فاغِرٍ فاه في الهوية حسب خيالاتهم. إنه يبدو هائلًا وغير ممكن التحكم به أو التعامل معه. إنه يجعل المرء يرغب في الابتعاد عنه، والكثير من الناس يفعلون هذا بالضبط. بالنسبة للآن، فإن الأزمة الوجودية ستُناقَش لشرح ظهورها الحتميّ عندما يترك المرء الاعتقاد الديني. وفي الفصل 13 سأقدم حل مشكلة الأزمة الوجودية عندما أناقش مكان المرء فيما يتعلق بالنفس.
عندما يكون المرء متدينًا، فإن يمكنه بسهولة تجاهل كل التعاسة والتكديرات في حياته بترك حلها لإلهه من خلال الصلاة أو الاشتراك في كنيسة [أو مسجد أو معبد]. أما مع فقدان هذه الخيارات، فإن المرء يُترَك مع إدراك ناقص للنمو لكيفية السيطرة على مشاعره والتعامل معها. وفي آخر الأمر تتطور موارد المرء العاطفية، وسأستعرض في آخر هذا الفصل تقنيات وموارد هامة لتيسير ذلك التطور. وكنظرة مختطفة على الحل المستعرَض في الفصل 13، فإن الأزمة الوجودية عَرَضٌ عاطفيّ لخطإ إدراكيّ، ورغم أن المرء سيحتاج إلى استعمال الموارد العاطفية للتعامل مع المسألة، فإن فكر المرء لا يجب إخراجه من الكفاح. في الواقع، فإن العبور الآمن من الأزمة الوجودية يتحقق بعمل كلٍّ من الفكر والعواطف في تعاون.
في تجربتي، كانت الأزمة الوجودية مشكلة استنزفت وقتي ومصادري [قدراتي] العاطفية حينما عملت على تحرير نفسي من الاعتقاد الديني. عندما أتذكر مع أحد أصدقائي المشاعر التي جرت في كيان كل منا حينما تصارعنا مع قرارنا بنبذ الاعتقاد الديني، فإننا نتذكر كلانا مدًّا وجزرًا مميزًا [تغير في الحال المزاجية والمشاعر والأحكام_م].
في بعض الأيام، كنا نشعر أننا سئمنا وأتخمنا تمامًا من الدين وأننا مقتنعان بأنه ليس فقط خطأ على نحوٍ واقعيٍّ بل وسامٌّ ضارٌّ [كذلك]. وفي أيام أخرى، كنا نشعر باستسلامنا أو يأسنا لعدم قدرتنا على تسكين قلقنا، حيث خلطنا بغير إدراكٍ المنظور القائم على العقلانية مع وجهات نظر دينية كامنة مستترة. باستعادة الذكريات، فقد كنا نركض على نحوٍ متكرر بطيش إلى نفس الطريق الفكريّ المسدود ومن ثم كنا نصير مثبطي الهمة لفشلنا في إيجاد سبيل فيه. الكثير من الناس ممن لن يمكنهم التعايش مع الاعتقاد الديني في حيواتهم سينتهي بهم الحال بفعل ذلك لأنهم فقدوا الأمل في أن يقدروا على سد الفجوة في ذلك الانقسام وتجسيرها، وهو أمر سينتهي مع الجزء الثاني من هذا الكتاب.
الشعور بالتشوش والارتباك
الكثير قد رُبُّوُا على الدين قبل أن يمكنهم أن يوافقوا عن علمٍ وقصدٍ على اتباعه والمشاركة فيه. محمولين إلى داخل المؤسسات الدينية بينما لا يزالون رضعًا أو أطفالًا صغارًا، فقد تلقوا تأكيدات وتعزيزات بأن افتراضات الاعتقاد الديني والرسائل التي يقدمها الدين ليست فقط صحيحة، بل وقواعد موثوقة يُعتمَد عليها للمعرفة، ويصيرون مقتنعين بأن هناك إلهًا يوجد. عندما يتم نبذ ذلك الفهم الأساسي للوجود، فإنه يميل إلى ترك الشخص متحيرًا. أن يتنحى هذا الجزء الأساسي من المعرفة أمرٌ أكثر من محبِط [للبعض وليس الكل حتمًا_م]، إنه يبدو مستحيلًا تمامًا. الكثير من الخبرات السابقة التي كانت تُعزَى سابقًا إلى قوة إلهٍ تتطلب الآن تفسيرات جديدة، وانهارت أخرى حطامًا تمامًا كأوهام وسراب. كمجمل، فإن هذه الخبرات تسبب شعورًا بالتشوش. عند إدراك أن الكائنات التي قد عرفها المرء قديمًا وشعر بأنها عرفته كذلك لم يكن لها وجود قط، يشعر الشخص بالضياع. بخلاف الأزمة الوجودية، فإن هذا الشعور ليس شعورًا بانعدام المعنى، بل بالأحرى بالتحير في تفسير كيف يمكن أن المرء كان مخطئًا للغاية بصدد شيء هامٍّ للغاية.
التحير هو نتيجة الحساب المذهل للوقت والعواطف والجهود المهدورة لاستثمارها في نظامِ اعتقادٍ اكتُشِف الآن أنه عديم الجدوى. في المراحل الأولى من ترك الاعتقاد الديني، لا يميل المرء إلى عمل تقييم حاكم لكيفية شعوره بصدد كل الوقت والجهد الذي لا يمكنه تعويضه. إن تركيزه يكون على النفس، وعلى وجه الخصوص إخفاق فكر المرء وذكائه في إدراك ما اتضح أنه ثغرة أمنية كارثية مفاجئة. إن انهيار نظام اعتقاد متكامل مثل دين المرء يؤدي إلى قيامه بعمل جرد لأفكاره وعملياته الداخلية، أي أن العقل حينئذٍ يُنبَّه إلى أن خطأه يدعو إلى تقييم لاستنتاجات أخرى. بالتأكيد، فإن المرء غير قادر على القيام بذلك المستوى من التصنيف العقلي وسحب الملفات على نحوٍ واعٍ وقصديٍّ، لكنه يصبح واعيًا بحجم المهمة المتناوَلة من خلال التوتر والتشوش الذي يطلقه انعدام أمن فكره.
الخبر الجيد هو أنه فقط المعرفة والافتراضات التي يستنتج العقل أنها تعود إلى افتراضات الاعتقاد الديني وأساطيره المرافقة هي التي تخضع إلى فحصه التشخيصي. أما أي وجهات نظر تفتقد صلة واضحة بالدين لن تحمل نفس وصمة الاشتباه والريبة، أي أن العقل لا يدخل فجأة في حالة جنونية هوسية من الشك في الذات والاضطراب في كل كيانه. عوضًا عن ذلك بالأحرى، فإنه يعزل المواضيع والآراء التي تحمل صلة واضحة بالاعتقاد الديني ويعمل على نحو طبيعي في كل النواحي الأخرى. إن مشكلة تظهر على المدى البعيد من حقيقة أن المرء قد يعتقد بآراء بعيدة عن الاعتقاد الديني بدرجات متفاوتة، والتي رغم ذلك تقوم على [افتراض] صحة تلك الأيديولوجي الدينية، لكنها لن يُتعرَف عليها فوريًّا كذات صلة. يستطيع المرء فقط التعامل مع هذه المسائل حالما تظهر، لكنه كثيرًا ما يكون صادمًا إدراك كم الآراء والقرارات التي يبنيها المرء على الاعتقاد الديني.
في شحذ الهمة والتقوّي على الجوانب السلبية لترك الاعتقاد الديني، فإنه لمهمٌّ الاعتماد على الأمور الإيجابية في العملية كذلك. بالنسبة لمسألة التحير والتشوش، فالخبر الجيد هو أن عقل المرء يتعامل مع المسألة طالما أدرك كيف كان مخطئًا، والخبر الأفضل هو أنه يمضي في تلك المهمة بأسلوب قصدي مدروس ومنهجي. بنبذ مجموعة من الافتراضات التي كان العقل مجبَرًا على استهلاك طاقة للاحتفاظ بها، فإن المرء سيشعر بإحساس بالراحة والبساطة في العالم. فبدون هؤلاء الافتراضات، يحرر العقل موارد وطاقات كبيرة بعدم احتياجه بعد الآن للتوفيق بين وجهات نظر ومناظير متناقضة عن الحياة والواقع الموضوعي والمعرفة، بطريقة اللاعب بقذف والتقاط الكرات المتعددة. بعبارة أخرى، فإن المرء يزيل عائقًا هائلًا عن الطريقة الطبيعية لعمل العقل عندما يترك الاعتقاد الديني، وباتساقه الموجَد حديثًا في الافتراضات التي يستعملها لتحليل المعلومات، فإن هذا سيحسِّن فقط اتخاذه للقرارات حيث أنه يتعلم التعامل مع المعلومات ومعالجتها بمعايير التحليل الدقيقة الصارمة.
الندم
بالندم، فإن المرء يركز بطريقة غير بناءة ولا مفيدة على الماضي، وكنتيجة فإن خطأ المرءِ المُدرَك يستمر في سرقة وقت من الحاضر. الوقت المهدور في الاعتقاد الديني يسبب ألمًا أكثر بضعفين مع الندم لأن عدم جدواه الفكرية واضحة للغاية من منظور خارجي، ولكن كذلك لأن تقدير المرء للوقت يزداد على نحو كبير مع ترك الاعتقاد الديني. وبالإضافة إلى الندم العامّ، قد تظهر أيضًا عواطف فيما يتعلق بأفعال معينة كان المرء قديمًا يقوم بها أو لا يقوم بها على أساس ولمجرد تعاليم دينه السابق فقط. وعلى نحو واضح، فإن مستوى الاستثمار الماضي المُدرَك في دينه السابق سيرتبط طرديًّا مباشرة مع مستوى الندم الذي يمر به عند تركه.
بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه، فإن الندم شعورٌ من المؤكد أن المرء سيواجهه عندما يحرر نفسه من الاعتقاد الديني. وبخلاف الأزمة الوجودية، فلا يوجد حل فكري بارع للندم، سيحتاج المرء على نحو رئيسي لمكافحته بعواطفه لكي يهزمه، وهو أمر صعب. لا يوجد سبيل إلى العودة إلى الماضي لإعادة القيام بالأشياء التي قد يريد المرء عملها على نحو مختلف، ولا يوجد شيء سيقدم أي تعويض عن الوقت المهدر المستثمر في دين المرء السابق. كل ما يمكن عمله هو التعلم من أخطاء الماضي تلك للحماية من تكرارها. فبعد كل شيء، فالماضي لن يعود أبدًا مجددًا ولن يتكرر بنفس صورته تمامًا، لكن أنماطًا منه ستتكرر في الحاضر والمستقبل. الجهد العاطفي الذي ينفقه المرء في مواجهة وفحص الندم يُرجَّح أن يكون شاقًّا حيث يمكن أن يسبب كآبة كبيرة، لكن هناك أشياء ذوات قيمة يمكن استنقاذها منه رغم ذلك.
بينما يتعامل المرء مع اندفاع الشعور العنيف بالندم [على إهدار الوقت والجهد في الدين] باستعمال التقنيات والمنظور المشار إليه لاحقًا في هذا الفصل، فإنه لهامٌّ أن يتذكر أن يتوقف ويشعر بالراحة أحيانًا لكونه على الأقل قد حل اللغز واكتشف الأمر والخدعة. الكثير من الناس يمضون كامل حيواتهم بدون أن يفهموا أبدًا طبيعة الاعتقاد الديني أو الانشغال بمواجهته قصديًّا، والوضوح الذي يكتسبه المرء بتخليص نفسه يجب أن يُستعمَل كغرفة غوصٍ يقوم فيها بالصعود لتنفس الهواء بينما يسبر غور أعماق الندم. إن الإحساس بالندم يحمل معلومات هامة للشخص، لكن الألم العاطفي المحيط به سيتطلب جهودًا للتخلص منه.
يتبع
في سبيل العقلانية والتنوير
|