ويكفي أن نفهم "النقطة" التي انبثق منها الكون على هذا النحو حتى ينتفي المنطق من قول من قبيل إنَّ العِلْم لن يتمكَّن أبدا من إجابة سؤال "مِنْ أين جاءت تلك النقطة؟".
حتى الآن، ليس من خلاف بين علماء الكون في أنَّ "النقطة الكونية" و"مَرْكَز الثقب الأسود" يشتركان في كونهما "كتلة عديمة الحجم". وليس من خلاف بينهم في أنَّ "الكتلة عديمة الحجم" في مَرْكَز "الثقب الأسود" قد جاءت من "كتلة لها حجم" إذ انهارت على ذاتها.
وعليه، لا يقولون إنَّ العِلْم لن يتمكَّن أبدا من إجابة سؤال "مِنْ أين جاء الثقب الأسود؟"، فإجابته هي عندهم معلومة على وجه اليقين. أمَّا إذا سُئِلوا "مِنْ أين جاءت تلك النقطة الكونية؟" فإنَّ إجابتهم عندئذٍ تكون "لا نعرف، ولن نعرف أبدا"!
لو أنَّهم فهموا وفسَّروا "النقطة الكونية" على أنَّها ثمرة انهيار "المادة الكونية"، من قبل، على ذاتها لانتفت الحاجة لديهم إلى السؤال عن مصير ومستقبل "التمدُّد الكوني"، ولانتفت الحاجة لديهم أيضا إلى أن يقولوا في إجابتهم: "إذا كانت كتلة الكون تقلُّ عن مقدار معيَّن فلن يعرف التمدُّد الكوني نهاية؛ لأنَّ الجاذبية الكونية لن تكون قوية بما يكفي لِجَعْل الكون يتوقَّف عن التمدُّد، ولِجَعْلِه، من ثمَّ، يسير في مسار التقلُّص والانكماش، وصولا إلى نقطة كونية جديدة.. أمَّا إذا كانت كتلة الكون تزيد عن ذاك المقدار فإنَّ تمدُّد الكون (المستمر والمتسارع) سيتوقَّف عن حدٍّ معيَّن، ليشرع يتقلَّص وينكمش، وصولا إلى نقطة كونية جديدة".
إذا فهمنا وفسَّرنا "النقطة الكونية" على ذاك النحو، وإذا ظللنا على إيماننا بقانون حفظ المادة، فلن نجد مناصا عندئذٍ من القول بضرورة وحتمية أن يتوقَّف تمدُّد الكون عند نقطة معيَّنة، وأن يشرع الكون، من ثمَّ، يسير في مسار التقلُّص والانكماش، وصولا إلى نقطة كونية جديدة، تتركَّز فيها الكتلة الكونية ذاتها؛ لأنْ لا زيادة ولا نقصان في مادة الكون، أي في كتلته وطاقته.
إننا يكفي أن نقول بـ "الدورة الكونية" غير القابلة للنفاد، حتى لا نجد سببا موجِبا لسؤال "هل في الكون من الكتلة ما يكفي لتحوُّل تمدُّده وتوسُّعه إلى تقلُّص وانكماش؟". ليس من سبب موجِبٍ لهذا السؤال؛ لأنَّ "المقدار ذاته" من الكتلة (الكونية) صَنَع أكوان كثيرة، وخَلَق، بالتالي، ظاهرة "التعاقب الكوني".
هل للكون (أي لكوننا) من حافَّة؟ بفضل التلسكوبات المتطوِّرة رأيْنا في السماء أجساما كونية (مجرَّات مثلا) تَبْعُد عنَّا (أي عن الكرة الأرضية) مسافة (فضائية) يقطعها الضوء (الذي هو أسْرَع ما في الكون) في زمن مقداره 15 مليار سنة.
ولفهم أبعاد ومعاني هذه الظاهرة نُوْرِد (أو نتخيَّل) المثال الآتي: في موضع ما في الفضاء، يُوْجَد طفل عُمْرُه سنة واحدة. ويُوْجَد إلى جانبه مُصَوِّر فوتوغرافي، قام بالتقاط صورة له، ثمَّ حَمَل الصورة، مُنْطَلِقا في الفضاء نحو كوكب الأرض لِيْرينا إيَّاها. وكان هذا المُصَوِّر يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة. وَصَل إلى كوكب الأرض بعد 10 سنوات. لكَ، إذا شئت، أن تَحْسِب كم ثانية تَتَضَمَّن السنوات العشر، وكم كيلومتر قد قطع في خلال تلك السنوات العشر.
الآن، أرانا الصورة، فَرَأيْنا أنَّها صورة طفل عمره سنة واحدة، فهل عُمْر هذا الطفل "الآن" سنة واحدة فحسب؟ كلا، ليس سنة واحدة. عُمْرُه "الآن" 10 سنوات، إذا ما افْتَرَضنا أنَّه ما زال على قيد الحياة.
وذاك الجسم الكوني (مجرَّة مثلا) الذي يَبْعُد عنَّا 15 مليار سنة ضوئية والذي نراه الآن (من خلال التلسكوب) إنَّما هو "صورته التي الْتُقِطَت له قبل 15 مليار سنة". إنَّنا نراه الآن في الهيئة (أو الصورة) التي كان عليها قبل 15 مليار سنة، أي عندما كان طفلا رضيعا، ففي الكون يُعَدُّ الأبْعَد (أي الجسم الكوني الأكثر بُعْدا من غيره عن كوكب الأرض) الأصغر سِنَّا مِمَّا هو عليه اليوم، إذا ما افْتَرَضنا أنَّه ما زال على قيد الحياة.
لِنَفْتَرِض أنَّ عُمْر كوننا 20 مليار سنة. يترتَّب على ذلك أنَّ هذا الجسم الكوني الذي نراه الآن والذي يَبْعُد عنَّا 15 مليار سنة لا نراه إلا في الهيئة التي كان عليها بَعْد 5 مليارات سنة من ولادة الكون.
لو جئنا بتلسكوب أكثر تطوُّرا فسوف نرى جسما كونيا يَبْعُد عنَّا 19 مليار سنة ضوئية مثلا. لقد اقتربنا كثيرا مِمَّا يمكن تسميته "حافَّة" الكون، أي النقطة الكونية التي تَبْعُد عنَّا 20 مليار سنة ضوئية.
إذا ما تمكَّنا من رؤية تلك النقطة فإنَّنا سنرى عندئذٍ الحال التي كانت عليها مادة كوننا عند الولادة. وإذا ما رَأيْنا تلك النقطة، أو تلك الحال، فلا بدَّ لنا، عندئذٍ، من أن نسأل "ماذا يُوْجَد بَعْد تلك الحافَّة؟"، أي "ما الذي يمكننا رؤيته، إذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، بَعْد تلك النقطة، أو تلك الحافَّة؟".
أوَّلا، لن نتمكَّن أبدا من رؤية الكون في لحظة ولادته؛ لأنَّ "المُصَوِّر" الذي كان هناك، والذي التقط له الصورة عند ولادته، لم يستطع مغادرة المكان، وقُتِل، وأُتْلِفت كاميرته مع الصورة التي التقطها. هذا "المُصَوِّر"، وهو الضوء، كان يحاول السفر؛ ولكنَّ كان هناك ما يلتهمه ويمتَّصه، وهو "الجسيمات المادية". عندما بلغ الكون حجما معيَّنا في نموِّه، وصار الفضاء شفَّافا، أي خاليا من "المصائد" لتضاؤل كثافة "الجسيمات المادية"، تمكَّن الضوء (المُصَوِّر) من الانطلاق والسفر.
لسببٍ ثانٍ لن نرى أبدا "حافَّة" الكون؛ وهذا السبب إنَّما هو "التمدُّد المستمر (والمتسارع) للكون"، فالنقطة الكونية الأبْعَد، والتي قد نتخيَّلها على أنَّها "حافَّة" الكون، ليست بالثابتة. إنَّها تتحرَّك مُبْتَعِدة عنَّا بسبب التمدُّد المستمر للكون. و"ابتعادها" هذا إنَّما هو "تباعُد" في حقيقته، فتلك "الحافة" وكوكب الأرض في تنافُر، أي أنَّهما طرفان يبتعد كلاهما عن الآخر في اللحظة نفسها، وبالمقدار نفسه. وملاحقتنا لـ "الحافَّة" بالتلسكوب إنَّما يشبه ملاحقة سفينة لنقطة الأفق، أي للنقطة التي عندها تبدو لنا السماء ملتصقة بماء البحر، فكلَّما اقْتَرَبْنا من نقطة الأفق ابتعدت تلك النقطة.
لسبب ثالثٍ لن نرى أبدا للكون "حافَّة" إذا ما تخيَّلنا تلك "الحافَّة" على أنَّها أبْعَد نقطة كونية عن الأرض. وهذا السبب إنَّما يَكْمُن في فرضية أنَّ الكون كروي الشكل، عِلْماً أنَّ الفرضية التي يكاد أن يُجْمِع علماء الكون على صحَّتها هي أنَّ الكون ليس بكروي الشكل، وأنَّه يشبه "الورقة المنبسطة"، أي أنَّ تقوُّس (أو انحناء) الزمكان فيه يكاد أن يكون معدوما.
إذا قُلْنا بفرضية أنَّ الكون كروي الشكل، وأنَّ كل الكون (الفضاء والمجرَّات..) يقع على سطح يشبه سطح البالون الضخم، فهذا إنَّما يعني، ويجب أن يعني، أنَّ "حافَّة" الكون هي حيث أقِفْ ناظِرا عَبْر التلسكوب إلى "حافَّته".
بقي أن نقول في دحض فرضية "الحافَّة الكونية" إنَّ نجما يُوْلَدُ "الآن" في موضع ما في الفضاء لن نراه عَبْر التلسكوب إلا بعد مرور بعضٍ من الوقت (بَعْد سنة أو 100 سنة أو مليون سنة..). ولكن، لنَفْتَرِض أنَّنا رأيْنا الآن عبر تلسكوب متطوِّر جدا جسما كونيا يَبْعُد عن الكرة الأرضية 25 مليار سنة ضوئية، فهل يعني هذا، أو يجب أن يعني، أنَّ الضوء الصادِر عن هذا الجسم الكوني قد وصل إلينا الآن؟ كلا، لا يعني بالضرورة، فضوء هذا الجسم كان موجودا في السماء حتى عند ولادة كوكب الأرض؛ ولكنَّنا بفضل هذا التلسكوب المتطوِّر جدا تمكَّنا الآن من رؤية هذا الضوء.
أمَّا تعليل هذه الظاهرة فيكمن في الآتي: أجزاء الكون الأساسية كانت قبل نحو 10 مليارات سنة مثلا متقاربة جدا، وكان الضوء الصادِر عن كل جزء يصل إلى سائر الأجزاء؛ لأنْ لا شيء في الكون يمكنه أن يسبق الضوء، أو أن يسير بسرعة تفوق سرعته. ومع استمرار الفضاء في التمدُّد استمرت أجزاء الكون الأساسية في التباعد (التنافر). وعلى الرغم من تباعُد تلك الأجزاء، واستمرارها في التباعد، ظل الضوء الصادِر عن كل جزء منها يصل دائما إلى سائر الأجزاء؛ لأنَّ ظاهرة التباعُد لا تعني أبدا أنَّ جزءا ما من تلك الأجزاء قد ابتعد عنَّا بسرعة تزيد عن سرعة الضوء.
وهذا إنَّما يعني أنَّ أجزاء الكون الأساسية قد ظلَّت مُذْ وُلِدَ الكون في حالٍ من "الاتِّصال الضوئي". وإذا كان من فَرْق في ظاهرة "الاتِّصال الضوئي" فهذا الفَرْق إنَّما هو الاتِّساع المستمر والمتزايد للمسافة الفضائية الفاصلة بين كل جزء وسائر الأجزاء نتيجةً لاستمرار وتزايد تمدُّد الفضاء.
|