كتاب :*مباحث في الفكر الزنجوإفريقي*
الكاتب: الحسن نداو /كاتب سينغالي
لغة النص : الفرنسية
الترجمة العربية : باخوس
الفصل الخامس :معرفة الإله أو مفهوم الألوهية في الفكر الزنجوإفريقي
ـ كانت الديانات الإفريقية تتجمد وتفرغ من محتواها الروحي , من الميتافيزيقا القديمة, هذه الكومة المفرغة لم تكن بالقادرة على منافسة الإسلام ـ الشيخ أنطا ديوب (أكاديمي سينغالي).
ـ الآلهة الإفريقية لم تمت بعد, هي تختفي تحت أقنعة مختلفة , وقد تساهم في بناء الشخصية الإفريقية الجديدةـ
هولاس من كتاب الفكر الإفريقي .
تتلخص الإشكالات الرئيسة المتعلقة بالديانة الإفريقية , في القضية الجوهرية لوحدتها وتنوع تمظهراتها و ميثولوجيا هذه الديانة; أيضا حول وجود نسق ميتافيزيقي كوني إفريقي , نسق ينطبق على الديانة في المساحات الثقافية الإفريقية الكبرى, هناك أيضا أسئلة أساسية تتمثل في دور هذه الديانة في تشكيل الشخصية الإفريقية التقليدية , ثم في إعادة الصياغة الروحية اللازمة في الزمن المعاصر.ما يستدعي دراسة الطابع التحولي (التطوري) للديانة الزنجوإفريقية.
للوهلة الأولى تبدو الديانة الإفريقية , غامضة ومتعددة , لكن نظرة أكثر تعمقا تستطيع كشف الوحدة المبطنة , والتناسق الميتافيزيقي والوجودي الكبير الذي يضمها, هذه النظرة يجب أن تتأسس على مقارنات متنوعة, تتكامل في ما بينها لتكشف أصالة المفهوم الألوهوـ فلسفي وتمظهراته في الحياة.
والمقاربة التاريخية مهمة لجهة تحديدها الانطباع الذي أخذه الرحالة العرب والبحارة والتجار والمبشرون , عن الحضارة الزنجوإفريقية , كونهم أول من احتك بهذا العالم الذي ظل مغلقا على نفسه , نقصد بالمغلق عدم تأثره بثقافات أخرى, أو لنقل هذه الثقافة الخام التي لم تتعامل مع غيرها.
يظل التحليل اللساني للمفردات ـ التي استعملها الإفريقي للدلالة على آلهته والإله الأسمى ـ ضروريا ولايمكن الاستغناء عنه , لدلالته على التبادل الثقافي والديني بين مجتمعات غطت مساحات جغرافية شاسعة.
المقاربة السيكولوجية توضح كثيرا, وتساعد في فهم الأساطير.
أخيرا وبالاستناد إلى معطيات علوم الإثنيات ; نستطيع استيعاب مفهوم الإله الأسمى والوجود وعبادة الكواكب والموت, ودور هذه المفاهيم السياسي أي /قداسية السلطة/.
يشكل الفكر الإفريقي نظرة متكاملة للإنسان داخل المجتمع والعالم, ويتمظهر في الحياة الاجتماعية والدينية, من خلال مجموعة من الرموز المتعددة القيمة, والتي يؤدي فهمها وتفكيكها إلى نتائج غاية في الأهمية; ليس أقلها فهم الإنسان الإفريقي أو باختصار الإنسان . معناه أن علم الإثنيات , بالرغم من عدم اعتباره علما بحثا إلا أنه يشكل جزء اً من المعارف , ونظرته أصيلة للواقعي يتم تحصيلها بطرق مختلفة.
إن الجهل بالتطور القروني للإنسان الإفريقي;والسبل التي سلكها في المعرفة, أدى إلى إلى تفسيرات خاطئة للديانة الإفريقية, أخطاء تم ارتكابها منذ قرون, هذه الديانة التي وصفت عند البعض بالشعوذة, وعند آخرين بالسحر أو بعبادة الأسلاف ,قد تم اختصارها وتسميتها *وثنية *, مصطلح لايزال القاموس الفرنسي /لارووس/ يفسره كنوع بسيط من الديانات البدائية التي تؤمن بحضور(وجود) قوى أو أرواح في الأشياء.
هذه التفسيرات الخاطئة أو الجد جزئية , لها أسبابها التاريخية, والسببان الرئيسان هنا ; الطابع التلقيني في الديانة الإفريقية, وكون التلقين الديني شفوي.
الإجراء التلقيني في الفكر الإفريقي, حسب فيفيانا باك viviana paques, لا يتعرى للباحث إلا بشكل تدريجي, بحيث على الباحث أن يكون حذرا كي لا يعتقد وصوله للمستوى الأكثر ارتقاء في المعرفة والإلمام بمادة الدراسة, فالملاحز المدقق للطقوس والمعتقدات , لا يمكنه تخيل لمس عمق الروحانية الإفريقية(1) , ففي دراستها للديانة الإفريقية تشره فيفيانا باك, كيف أن التلقين ليس تدريجيا بحسب قدرة السن وقدرة الإنسان فحسب, بل يختلف باعتبار جنس المتلقي. إنه تلقين ارتقائي فوقي يمارسه المجتمع, بشكل يمنح للجميع حسب الإمكانيات الفردية , فرصة الارتقاء من النظام الاجتماعي إلى النظام الميثولوجي ثم التفسير الأسطوري للخلق والكون, كي يصل إلى الأخلاق والاستلهام الروحي, هي دعوة لتجاوز الذات ارتقائيا للوصول إلى الكمال .كمال الفرد والفكر, وتبقى الطقوس المتعددة والمتنوعة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها, لكن اختلافها وتكرارها يوحي للمرقب أنها نهايات بنفسها, لعدم تمكنه من تفكيكها دلاليا.
الحاجز الثاني في فهم الديانة الإفريقية , يتمثل في غياب مثيل للقرآن أو الإنجيل; أي كون التلقين شفاهيا.
" لم تستطع الشعوب الإفريقية , اختراع كتابة أصيلة, كما يقول دامان , علينا أن نكتفي بالتقاليد الشفاهية, التي وبالرغم من احتفاظها بتفاصيل مميزةٍ, لا تمكن من التعرف على الديانات التي وجدت قبلها, لتبقى كتابات الجغرافيين والمؤرخين العرب عن بلاد السودان في القرون الوسطى , اسثتناء وحيدا في المجال, فمذكرات الرحالة والمسافرين كانت تسجل بدافع الفضول, لتدون غالبا بشكل خاطئ أو تعطي تفسيرات تدخلية".
ويرى البروفسور موني أنه " لا يمكننا القيام بدراسة الأديان الوثنية في القرون الوسطى, لأن الكتاب والباحثين العرب, لم يتجاوزوا أماكن الالتقاء العامة والصحراء".
ما يجب التنبيه عليه أخيرا في ما يتعلق بالاحتياطات المنهجية, كون الدراسات الغربية المتأخرة, لم تتجاوز المعاينة الوصفية لممارسات طقوسية, إلى محاولة سبر المعنى العميق الكامن خلفها. وحين حاول البعض /دامان , بومان , بول رادان / ذلك ,جاءت المحاولات أطروحات تفسيرية غير متكاملة بسسب الوثائق التي تم اعتمادها, والتي كانت أجنبية عن المحيط الإفريقي أساسا, دون الحديث عن الصعوبات التي يطرحها تعامل العقلية وطريقة التفكير والتحليل الغربية, والذي يظل مختلفا تماما عن الفكر الإفريقي والعقلية الإفريقية.
ظلت الديانة الإفريقية إذن , غير معروفة بسبب الطريقة التي اعتمدت في التعاطي معها , فالأفارقة بالنسبة للعرب والبرتغاليين , وثنيون وعباد أصنام.وفي السنين الأخيرة فقط ظهرت دراسات أكثر جدية , ذهبت أبعد في البحث عن المعنى والتأويل, وبحسب فيفيانا باك نظل بعيدين كل البعد عن الوقوف على تطور هذه الديانة تاريخيا , تطور غير فيها أشكال التعبير وأحيانا المعنى نفسه.
اعتبارا من هذه التحفظات, يمكننا اعتماد الكتابات المتوفرة بما فيها تلك التي تركها العرب في القرون الوسطى, ليس من أجل تأويل نهائي ...لهذه الديانة, بل من أجل رسم مميزاتها الرئيسة أو ملامحها العامة . قبل شرح الفكر الميتافيزيقي الذي يضمها وينظمها بغض النظر عن تنوع الأساطير وأساليب التمظهر. هكذا يمكن إظهار الوحدة الأساسية للنسق الميتافيزيقي الإفريقي , نسق مشترك على مستوى مساحات ثقافية واسعة الانتشار. أخيرا وباعتبار الإضافات التي تلقتها والانزياحات التي عرفتها هذه الديانة , تتورها عموما أيدا توجهاتها , سنطرح سؤال دورها في تشكيل الشخصية الإفريقية القديمة والمعاصرة.
ـ الملامح العامة الكبرى للديانة الإفريقية :
ماهي تمظهرات الديانة الإفريقية ؟ إن حصر الملامح المتعددة لدى كل الشعوب أمر مستحيل في إطار هذا العمل, لهذا سنكتفي بالإشارة إلى التمظهرات الأكثر أهمية والأكثر دلالة, زيادة على كونها مشتركة بين كل الإثنيات التي تمت دراستها لحد الآن وهي :
الإعتقاد بإله أسمى والأساطير المرتبطة به.
التواصل والعلاقات مع الإله عن طريق الجن Génies وآلهة الخلق Démiurges والأسلاف Ancetres .
التواصل القائم على القرابين والأشياء التي تشكل دعامات الحضور الروحاني مثل الأقنعة والتماثيل الصغيرة(الإيقونات) والمعابد; وأشكال التعبير الأخرى الفنية الرمزية.
أ/ الإله الأسمى :
بصدد هذه النقطة الهامة; يجب رفع الغموض والأسئلة التي تطرح عادة حول وجود إله أسمى أوحد في الفكر الإفريقي ; طبيعته وصفاته .
هل يمكن ابتداءً الإقرار بتوحيدية الدين الوثني ؟ شك قاوم طويلا, بالنظر لكون تعدد الآلهة وتعدد الطقوس التي لا يمكن حصرها , قد قادا الإثنوغرافيين والإثنولوجيين والرهبان المسيحيين وغيرهم إلى التساؤل حول إمكانية التمايز الأنطولوجي للإله الأسمى عن العالم ومجموع الآلهة الأخرى في الفكر الإفريقي, وجوابنا القطعي هو الإيجاب, نعم فالديانة التقليدية الإفريقية تعترف بوجود كينونة فوقية سامية, لكن تصورها عند الإثنيات المختلفة, والتطور التاريخي الذي لحق مفهومها, والاختلافات المتعلقة بطبيعتها وصفاتها .تجعل من الإله الأسمى عند الإفريقي . متمايزا و غير متطابق مع الإله الإبراهيمي (يهوه).
يجب التحذير من الاتجاهين السائدين لدى الدارسين للديانة الإفريقية وتجنبهما, فالاتجاه الأول حاول إنقاذ الطقوس الإفريقية المتهالكة, بإصباغ الصفة التوحيدية عليها , أيا كانت هذه التوحيدية. وهو نوع من الاستعمار الثيولوجي. أما الاتجاه الثاني فقد حاول إلغاء كل طابع توحيدي عن هذه الديانة; لتصير الفكرة التوحيدية دخيلة عليها من الإسلام والمسيحية, إن إسقاط الإله الإبراهيمي على الإله الأسمى نوع من التعسف المثقل بالأفكار المسبقة; والذي يؤدي إلى إفلات التعبير الديني في الفكر الإفريقي لصالح فكر مفهومي غريب عنه, هذه المفاهيم الأجنبية , استعملت كمبضع لفتق واستئصال عناصر الحياة فيه , للحصول على جثته هامدة. فقد تم الاحتفاظ من جهة بكل ما يناسب العقل الغربي, ومن جهة أخرى استئصال ما هو غريب عن هذا العقل, أي كل ما يمثل بالنسبة للعقل الغربي "شيطانية" أو ما يعتبره كذلك من "سحر" و " شعوذة" و "وثنية" إلخ .....لا يسعنا هنا إلا أن نناهض هذا التوجه العقلي اللاعلمي, والذي يقود إلى عدم فهم جذري لجهة إنكاره أصالة الفضاء ات الثقافية الأخرى , أصالة تتأسس على الاختلاف بين هذه الفضاء ات فيما بينها . إن المنخرطين في هذا التوجه ـ وهو أمر مؤسف ـ يفضلون ثقافتهم على باقي الثقافات.
لحسن الحظ أننا نتوفر على وثائق تشهد باعتقاد الزنجوإفريقي , بإله أوحد وأسمى , اعتقاد خام وقروني بعيد عن كل تأثير خارجي , ونستعرض هنا بعض هذه النصوص القديمة:
يروي ابن حوقل (920ـ977 م بغداد /المترجم) وهو رحالة عربي من القرون الوسطى , كيف كان ساكنة مملكة دانكولا Dangolaتعيش في تحرر من سلطة الوحي ومن الدين وبعده الوحيي (من الوحي /المترجم) واعتقادها بوحدانية الإله.
"" لا يخضعون لأي سلطة; وليس لهم دين ; ولا يمارسون أي قانون ديني , يكتفون بالاعتقاد بوحدة الإله ويعترفون له بأهميته وضرورة الخضوع له , واسمه عندهم *أنانا * "" مع العلم أن هذه الساكنة لم تكن قد احتكت بعد مع الإسلام أو غيره من الأديان الإبراهيمية.
مؤلف آخر من نفس الحقبة ; القرن الحادي عشر الميلادي وهو المسعودي ; يكتب من جهته "" الزنوج يسمون الله باسم مكولونجولو وهو ما يعني السيد الكبير , وغالبا ما يقف درويش من البلد وسط جمع غفير ليدعو الناس إلى التقرب من الله والخضوع لأوامره, ويوضح أي عقاب رهيب سيلحق المخالفين ويذكرهك بعبر الأسلاف والملك القديم"".
بعد ذلك بقرون نجد ليون الإفريقي (جغرافي عربي واسمه الحقيقي حسن الوزان ولد في غرناطة1483؟ وتوفي في تونس 1552؟/المترجم) :""بعض الأفارقة السود يعبدون كويشيمو ; والذي يعني في لغتهم *سيد السماء* , وهو إحساس لم يأتهم عن طريق نبي أو رجل دين "" . أخيرا يوضح زرارة أنه في جزر الكناري الكبرى (جزر إسبانية قبالة السواحل الأطلسية المغربية جنوبا /المترجم) ""يوجد قوم يؤمنون بوجود إله يجزي بالخير الخير والشر بالشر "".
عديدة هي المعاينات التي تؤشر لوجود إله أسمى وأوحد, لدى المجتمعات الإفريقية المختلفة, معاينات تعود إلى أربع أو خمس قرون أو أكثر .بعض الكتاب ومنهم وسترمان يحدد الملامح السماوية(الفوقية) لهذه الألوهية , ليضيف ـ وهو أمر مهم في إشكالية التوحيد هذه ـ أن هذا الإله لم يكن موضع عبادة أو صلوات أو قرابين, كما هو حال الآلهة الأصنام .
هذا الحكم أساسي لجهة وضعه التوحيد الإفريقي في سياق فلسفي ديني ثيولوجي محدد, يكون فيه للكائن الأسمى مكانته الأنطولوجية المميزة . فهو يختلف عن الإنسان الذي يمكنه استيعابه فكريا. إن فعل الخلق الإلهي في اللغة العبرية , يحدد بصيغة لا يمكن إعارتها لفعل الإنسان , فالإنسان يصنع أي مجرد بناء أو تكيب لأنه يتوفر على مادة موجودة مسبقا, في حين أن إله العبريين يخلق من لاشيء.
يلزم لفهم التوحيد لدى الزنوج الأفارقة , توضيح كيفية استيعابهم لطبيعة الكائن الأسمى , صفاته وعلاقته بالإنسان .
نجد أن الخاصة السماوية (الفوقية) للإله معترف بها , وتعطى أهمية كبرى في أغلب المجتمعات الإفريقية. فهو ليس الظواهر السماوية ولا السماء, الإله هو روح السماء يعيش بها , أما المطر والرعد وقوس قزح فهي تمظهرات للإله. ثم قليلة هي صفاته عموما , هو الطيب والعادل ـ ليس الطيب والشرير كما في أديان أخرى ـ بالنسبة لشعوب الأشانتي في غانا, واللامبا في روديسيا. هذا التقابل القيمي يعزى لبعد الإله في الفضاء , إنه بعيد عن الإنسان ولا يمكن معرفة الكثير عنه, وليس هناك وحي بل فقط تمظهرات واسطتها الآلهة الدنيا أو الظواهر الطبيعية أو الخارقة; ظواهر يندمج ويتدخل من خلالها الإله في مجرى حياة الناس. إنه إله يمتاز بكونه لا مرئيا وحاضرا في كل مكان, فإذا أضفنا لهاتين الصفتين صفة الخلق , فهمنا صورة تعامل الإله مع الإنسان وتعامل الأخير مع الأول .
نأتي إلى الخلق, ماذا يعني فعل الخلق الإلهي ؟ وأي عالم خلقه الإله ؟ في الديانة الإفريقية ن نجد أن الإله خلق العالم في كينونته وتوقف; تاركا عناية استكمال الخلق الأول أو لنقل البذرة الأولى , لآلهة الخلق الأدنى ( كما هو الحال في التصور الغنوصي والأفلاطونية الجديدة /المترجم) , لقد خلق المادة الخام , صاغ من اللوجود وجودا , زرع الحياة والقوى المحرِكة , تاركا لآلهة الخلق الأدنى ثم للآلهة الكثيرة الدنيا وضع القوى في حركة , وتنظيم المجموع . الإله الأسمى غير مخلوق , إنه القوة في ذاته أي منبع الطاقة المحركة , والتي يوزعها تبعا لتراتبية خلََقَها وحركها بنفسه , ليظل متمايزا عنها ومفارقا لها * .
--------------------------------------------------------------------------------
القطيعة بين الإنسان والإله, ترجع لزمن قطع فيه الضبع الحبل الذي كان الشيوخ يتسلقونه للصعود إلى السماء, كي يستعيدوا الشباب ويعودوا إلى الأرض, نجد هذه الأسطورة في صيغ متعددة ومتشابهة لدى العديد من الإثنيات (هامش المؤلف)
يتبع ....