شبكة الإلحاد العربيُ

شبكة الإلحاد العربيُ (https://www.il7ad.org/index.php)
-   العقيدة الاسلامية ☪ (https://www.il7ad.org/forumdisplay.php?f=11)
-   -   تحليلٌ أخلاقي يستند إلى نظرية الألعاب لمسألة بني قريظة في التاريخ الإسلامي (https://www.il7ad.org/showthread.php?t=26552)

قارىء 11-19-2025 05:47 PM

تحليلٌ أخلاقي يستند إلى نظرية الألعاب لمسألة بني قريظة في التاريخ الإسلامي
 
تحليلٌ أخلاقي يستند إلى نظرية الألعاب لمسألة بني قريظة في التاريخ الإسلامي

الملخص
يقدّم هذا البحث قراءةً متعددة التخصصات لقضية بني قريظة، تجمع بين نظرية الألعاب Game Theory، وفلسفة الأخلاق، والمعطيات الأنثروبولوجية عن المجتمعات القبلية، مع الاستناد إلى الدراسات التاريخية عن مجتمع المدينة في بدايات الإسلام. ولا يهدف البحث إلى تبرئة أي طرف أو إدانته، بل إلى توضيح كيف تتشكل قرارات الجماعات حين تواجه تهديدات وجودية وفي ظل غياب المؤسسات المستقرة. ويُنظر إلى الحادثة هنا باعتبارها انهياراً لمنظومة تعاونٍ متكرر تحولت إلى «لعبة وجودية» حاسمة بعد الخطر الشديد الذي شكله جيش الأحزاب في غزوة الخندق عام 627م.

وتفترض الدراسة—ضمن إطار نظرية الألعاب—أن مفاوضات بني قريظة مع قوات الأحزاب كانت محاولة عقلانية، وإن كانت مبنية على تقدير خاطئ لاحتمالات النصر، للانفصال عن التحالف القائم حين بدا أن المسلمين على وشك السقوط. كما تُناقش موافقة النبي على الاحتكام إلى حكم سعد بن معاذ، المبني على قانون القبيلة نفسها، في سياق أعراف التحكيم القبلي وبُنى الحوافز وغياب مؤسسات الدولة المركزية مثل السجون والمحاكم وأجهزة الأمن.

وتؤكد الدراسة أن تقييم القرارات الأخلاقية في المجتمعات غير المركزية لا يمكن أن يتم من خلال معايير حديثة تفترض وجود دولة ومؤسسات، لأن المسؤولية الأخلاقية هناك تتشكل ضمن حدود الممكن وضرورات البقاء وتوقعات الجماعة. كما يُنظر إلى سِجِل النبي في التسامح مع من خالفوا العهود سابقاً بوصفه جزءاً من نمط عام يغلب فيه العفو ما لم يهدد وجود الجماعة نفسها.

وتستعين الدراسة بأمثلة من الأخلاقيات السياسية الحديثة—مثل تجارب سياسيين في الدول الإسكندنافية ممن يتحركون داخل أنظمة مؤسسية راسخة—لتبيّن أن الفعل الأخلاقي مرتبط دائماً بالبنى المتاحة. وتوضح أن حكم بني قريظة، رغم قسوته بمقاييس اليوم، كان يُعدّ آنذاك مشروعاً ومتسقاً مع أعراف المنطقة في التعامل مع الخيانة زمن الحرب، وأسهم في استعادة توازنٍ يمنع تكرار انهيار العهود.

ومن خلال الجمع بين نظرية الاختيار العقلاني، وأنثروبولوجيا القانون القبلي، وفلسفة الأخلاق السياقية، يبيّن البحث كيف تتقاطع العقلانية الاستراتيجية مع المسؤولية الأخلاقية في لحظات الخطر. ويعارض التصويرات التبسيطية التي تُسقط مفاهيم إنسانية حديثة أو سرديات جدلية على سياق قديم، ويقدّم بدلاً من ذلك رؤية أكثر توازناً تُظهر كيف أن الواجب الأساسي للنبي—حماية مجتمع ناشئ مهدد—شكّل قراراً كان في آنٍ واحد استراتيجياً ومألوفاً ثقافياً ومفهوماً أخلاقياً ضمن عالمه التاريخي.

وغرض البحث ليس إصدار أحكام معيارية، بل توضيح كيفية تعامل القادة في المجتمعات القبلية مع قضايا الخيانة وضرورات البقاء والقيود الأخلاقية حين لا تتوفر لهم الخيارات المؤسسية الحديثة.

قارىء 11-19-2025 08:08 PM

**القسم الثاني — المقدّمة: المنهج، والحدود، وحساسية الموضوع**

تبقى قضيّة بني قريظة من أكثر الحوادث استقصاءً وإثارةً للمشاعر في صدر التاريخ الإسلامي. فكثير من القرّاء—وخاصة في السياقات الحديثة المتأثرة بخطاب حقوق الإنسان، وبالتوتّرات الدينية، وبالصراعات الجيوسياسية—يجدون صعوبة في مقاربة الحدث دون تصوّرات مسبقة. كما أنّ الحساسية الملازمة للسرديات التاريخية بين اليهود والمسلمين، وسهولة إسقاط معايير العصر الحديث على عنفٍ وقع في زمنٍ غابر، وميول توظيف الوقائع القديمة في الجدل السياسي الراهن—كلها تجعل أيّ قراءة عرضةً لسوء الفهم. ولهذا اعتمد هذا البحث منهجاً مقصوداً يقوم على تعدد المصادر العلمية ووضوح الإجراءات المنهجية.

والمقصد الأساس في هذه الورقة تفسيرٌ لا تقييم؛ فهي لا ترمي إلى تبرير أفعال أيّ طرف تاريخي ولا إلى إدانته، بل غايتها إيضاح البُنى الحافزية والقيود الأخلاقية والأعراف الثقافية وشحّ المؤسسات التي أحاطت بصُنّاع القرار آنذاك. فقد اتُّخذت تلك القرارات في عالم يختلف جذرياً عن عالمنا المعاصر: عالم لا دولة فيه، ولا قانون دولي مُقنَّن، ولا جيوش نظامية أو أجهزة شرطة، ولا مؤسسات قضائية حديثة. كان عالماً هشّ التحالفات، يقوم فيه التحكيم القبلي مقام القضاء، وتعتمد فيه حياة الجماعات الصغيرة على شرفها وسمعتها وما تحوزه من قوة الردع ومصداقية الوفاء بالعهد.

إنّ هذا المنهج السياقي ضرورةٌ لتجنّب إسقاط الأحكام على غير محلّها. فلا يمكن فصل التقييم الأخلاقي عن البيئة الاجتماعية والمؤسسية التي وُلدت فيها الخيارات. وكما لا يصحّ—علمياً—أن تُقاس قرارات القناصل الرومان بأخلاق الديمقراطيات الاسكندنافية، كذلك لا يستقيم تفسير ما وقع في المدينة إبّان حصار سنة 627م من زاوية الإنسانيات الليبرالية الحديثة أو المعايير الإنسانية الراهنة. فالقادة في المجتمعات الخالية من الدولة يعملون ضمن ما يشبه “الفرز الأخلاقي”، إذ تُصبح صيانة الجماعة عند التهديد الوجودي واجباً أخلاقياً بقدر ما هي ضرورة استراتيجية. وهذا المعنى يُعدّ ركناً جوهرياً في التحليل الآتي.

ويرتكز هذا البحث، من الناحية المنهجية، على نظرية الألعاب، ولا سيما دراسة التعاون المتكرر، وحوافز الانسحاب، وانهيار التوازن تحت الضغط الشديد. فصحيفة المدينة وضعت إطاراً للتعاون بين القبائل، غير أنّ هذا الإطار نشأ في بيئة تفتقر إلى مؤسسات تنفيذية. ولذا كانت العهود فيها بطبيعتها هشة، إذ لا يستقرّ الوفاء بها إلا على توقعٍ متبادل لالتزام الأطراف. فلما حوصرت المدينة بجيوش الأحزاب في غزوة الخندق تبدّلت الحوافز جذرياً، وانتقل الموقف من “لعبة متكرّرة” تُفضّل التعاون إلى “لعبة وجودية” لا تتكرر، يغدو فيها الميل إلى الانسحاب—خاصة لدى من قدّر قرب هزيمة المسلمين—أقوى وأرجح. وفهم هذا التحوّل أساسٌ لتفسير موقف بني قريظة.

ولا يقلّ البعد الأخلاقي أهميةً عن البعد الاستراتيجي. فالنبي محمد، في نظر المؤمنين والمؤرخين على السواء، لم يكن قائداً سياسياً فحسب، بل كان معلّماً أخلاقياً. وهذه الازدواجية تجعل القراءات السياسية البحتة أو الإدانة الأخلاقية المبسّطة قاصرة عن الإحاطة بالمشهد. فقائدٌ يعمل في بيئة قبلية هشّة يواجه مواقف لا يمكن أن تتجاوز التزاماته الأخلاقية فيها الحدود البنيوية للعالم الذي يتحرّك ضمنه. فبينما يصوغ السياسي الاسكندنافي اليوم إصلاحاته في ظل مستشفيات وقضاء ورعاية اجتماعية ومعاهدات دولية، فإنّ القائد في بيئة قبلية لا دولة فيها يباشر قرارات تتداخل فيها الرحمة بالردع، والعدل بالحفاظ على الحياة الجماعية، في إطار لم تحلّه المؤسسات الحديثة بعد. والمقارنة هنا ليست خطابية، بل منهجية، تُبيّن أثر السياق في تشكيل المسؤولية الأخلاقية.

ويستفيد هذا البحث كذلك من معطيات الأنثروبولوجيا والتاريخ القانوني في الشرق الأدنى القديم. ففي المجتمعات السابقة للدولة المركزية—من يهودية وعربية وآشورية ورومانية—كانت الخيانة زمن الحرب تُعدّ خطراً وجودياً على الجماعة كلها، لا مجرد مخالفة قانونية. ولذا كانت العقوبات شديدة بمقاييس عصرنا، لكنها منسجمة مع أعراف زمانها. وفهمُ ما في حكم بني قريظة من صدى لمنطق التشريع الشرقي القديم—وخاصة ما ورد في سفر التثنية—يُفسّر سبب عدم شعور معاصري الحدث بأنّ ما جرى كان شاذّاً أو خارجاً عن المألوف.

أما بناء الورقة، فيجري على النحو الآتي: يستعرض القسم الثالث السياق التاريخي والثقافي للمدينة، ونظام التحالفات، وحصار سنة 627م. ويقدّم القسم الرابع إطار نظرية الألعاب، مبيناً الحوافز والعوائد التي حكمت سلوك القبائل. ويتناول القسم الخامس قرار بني قريظة في ضوء هذا النموذج، مع التركيز على الردع والإشارات المكلفة واستعادة التوازن. ويفحص القسم السادس المسؤولية الأخلاقية في المجتمعات الخالية من الدولة، مبرزاً منطق الفرز الأخلاقي وقيود القدرة وسابقة الرحمة في سيرة النبي. أما القسم السابع فيعرض للقرائن الأنثروبولوجية ومثيلاتها في حضارات الشرق الأدنى القديم. ثم يعالج القسم الثامن الاعتراضات الحديثة، مبيّناً مكامن الخلل في إسقاط معايير الحاضر على حوادث الماضي. وتختتم الورقة ببيان كيفية التقاء العقلانية الاستراتيجية والأخلاق السياقية في هذا الحدث المرهف تاريخياً.

وبالنظر عبر هذا المنظور المتعدّد—التاريخي والأخلاقي والاستراتيجي والأنثروبولوجي—يطمح البحث إلى الإبانة لا المنافحة، وإلى الفهم بدل السجال، وإلى رسوخ الحجة لا خدمة الميول الأيديولوجية.

قارىء 11-19-2025 08:17 PM

القسم الثالث — السياق التاريخي: المدينة، والتحالفات القبلية، وأزمة سنة 627م

لا يستقيم أيّ تحليل رصين لقضيّة بني قريظة إلا بالشروع أولاً في إعادة بناء الإطار المؤسسي والجيوسياسي للمدينة في سنة 627م. فبدون هذا التصوّر، تبقى البُنى الحافزية التي واجهت كلَّ فريق خافية، ويقع القارئ المعاصر في خطر إسقاط افتراضاته الخاصة على بيئة كانت تحكمها نظم مغايرة كلياً في القانون والأمن والتنظيم السياسي. فالمدينة لم تكن دولة موحّدة، ولا كانت نواةً لدولة حديثة، بل كانت اتحاداً قبلياً هشّاً، لكل قبيلة فيه قيادتها الداخلية وقانونها العرفي وشرفها الخاص، تجمعها روابط سياسية لا تخلو من الوهن. وفهم هذا البنيان المتداعي ضروري لإدراك ما جرى في غزوة الخندق وما تلاها.

3.1 المدينة قبل الإسلام: نظامٌ قبليّ ممزّق قائم على الشرف

كانت يثرب، قبل قدوم النبي، غارقة في نزاعات قبلية ممتدة. فالقبيلتان العربيتان الكبريان—الأوس والخزرج—خاضتا دورات طويلة من الثأر والاقتتال. أما القبائل اليهودية—كبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة—فلم تكن خارجة عن هذا النسق، بل اندمجت فيه من خلال تحالفات استراتيجية، على نحو يشبه تحالف الدويلات الصغيرة مع قوى أكبر في المجتمعات القائمة على الشرف.

ولم تكن هذه التحالفات أيديولوجية؛ بل كانت أشبه بعقود تأمين. فأمن كل قبيلة كان رهنَ استعداد حلفائها للقتال معها عند الخطر. وهكذا نشأت شبكة مترابطة من التوقعات المتبادلة، من غير سلطة مركزية تفرض الوفاء بالعهد. فلم يكن هناك:

محاكم،

ولا شرطة،

ولا سجون،

ولا قضاءٌ محايد إلا بالتراضي،

ولا مفهوم لـ«عدالة الدولة».

وكان الإخلال بالعهود يحمِّل القبيلة المسؤولية جمعاء، وأيّ علامة ضعف تُغري الخصوم بالهجوم. وهذه الخلفية مهمّة لأن تحالف بني قريظة مع الأوس—وعلاقة سعد بن معاذ بهم—كان متجذّراً في هذا النظام الجاهلي.

3.2 صحيفة المدينة: إطارٌ جديد لكنه هشّ

حين هاجر النبي إلى المدينة سنة 622م، سنّ ميثاقاً جديداً بين القبائل، أطلق عليه الباحثون اسم «صحيفة المدينة». وقد رأى الدارسون المعاصرون (سرجنت، وينسينك، ليكر) أنّها ليست «دستوراً» بالمعنى الحديث، بل عقد تحالف مُقنَّن هدفه:

تثبيت العلاقات بين القبائل،

كبح دورات الثأر،

ضمان الدفاع المشترك،

وصون السلم الداخلي.

وكان من أهم بنودها:

احتفاظ كل قبيلة باستقلالها الداخلي،

الاتفاق على الدفاع المشترك ضد العدو الخارجي،

تحريم التحالف السري مع الخصوم،

وإحالة النزاعات إلى التحكيم.

وقد حاولت الصحيفة تحويل اللعبة القبلية غير المستقرة إلى توازنٍ أكثر أمناً، لكن هشاشتها بقيت شديدة: الثقة ضعيفة، وذكريات الحروب حديثة، والجماعة المسلمة في طور التشكّل. وأيّ خلل يسير كان كفيلاً بإسقاط منظومة التحالف كلّها.

3.3 المشهد الجيوسياسي سنة 627م

بحلول سنة 627م، بلغت الخصومة بين المسلمين وقريش ذروتها. فقد نظّم المكيّون، ومعهم حلفاء من قبائل شتى، تحالفاً سُمّي «الأحزاب»، غايته المعلنة استئصال الجماعة المسلمة. وتذهب التقديرات—حتى المتحفظة منها—إلى أنّ أعداد الأحزاب كانت أضعاف المقاتلين المسلمين.

واعتمد المسلمون خطة دفاعية غير مألوفة في العرب: حفر الخندق حول الجهة المكشوفة من المدينة. وقد نجحت الخطة عسكرياً، لكنها أرهقت السكان نفسياً: حصار دام قرابة شهر، وشحّ في المؤن، وتراجع في المعنويات، ووصول المدافعين إلى حدّ الإنهاك.

وفي هذا الجو، أصبح ثبات الحلفاء مسألة حياة أو موت. فخيانة قبيلة واحدة كانت كافية لفتح ثغرة مميتة داخل المدينة.

3.4 موقع بني قريظة في شبكة التحالفات

كان بنو قريظة يقطنون جنوب المدينة، وهي الجهة الوحيدة التي لا يحميها الخندق. ولهذا كانت أهميتهم بالغة: فوفاؤهم يُؤمّن المدينة، وخيانتهم تُتيح للأحزاب اقتحامها من الخلف.

وتجمع المصادر على أمور ثابتة:

كان بين قريظة والمسلمين عهد دفاع مشترك.

وكانوا ملتزمين ببنود صحيفة المدينة.

ودارَت بينهم مشاورات داخلية أثناء الحصار.

وتحالفُهم القديم مع الأوس منحهم سبباً لتوقّع اللين.

وتشير الروايات إلى تفاوضهم مع الأحزاب حين طال الحصار.

ولا تهم تسمية فعلهم «خيانة» بقدر ما تهم «صورة الانسلاخ» وفق منطق القبائل؛ فمجرد الشكّ في النيات قادر على نسف التحالفات.

3.5 محاولة الانسلاخ: حسابات محفوفة بالمخاطر

تتفق أغلب المصادر على النقاط الآتية:

ضغط الأحزاب على قريظة للانضمام إليهم،

ووُعِدوا بالغنائم وجزء من حصاد المدينة،

وانقسمت قيادتهم حول قرار الانسلاخ،

وانتهت المداولات بإشارات تدلّ على توقّعهم انتصار الأحزاب.

ويجمع المؤرخون المعاصرون—مثل واط، وليكر، وستيلمان—على أنّ توقّع هزيمة المسلمين كان معقولاً جداً آنذاك. فقد أنهكهم الحصار وكانوا أقل عدداً وعدّة.

وبمنطق نظرية الألعاب، ينسجم سلوك قريظة مع «الانسحاب العقلاني» إذا بدا النصر للعدو محتوماً. غير أنّ هذه الحسابات—العقلانية وقتها—أصبحت كارثية بعد انصراف الأحزاب دون أن يقتحموا الخندق.

3.6 انهيار تحالف الأحزاب

تفكّك الأحزاب بسبب:

عاصفة شديدة ثابتة تاريخياً،

نقص الإمداد،

خلافات داخلية،

العجز عن اجتياز الخندق.

ولما انصرفوا، بقيت المدينة صامدة، لكن تماسكها الداخلي قد تزلزل. إذ أصبح ميزان الثقة الذي يقوم عليه التحالف مهدَّداً.

تحوّلت قضية قريظة عندئذ إلى:

اختبار لصحيفة المدينة،

واختبار لقيادة النبي،

واختبار للأعراف القبلية في إنفاذ العهد،

وبيانٍ لمدى قدرة التحالفات على الصمود أمام الأزمات الوجودية.

وفي هذا السياق الاستراتيجي جرى التحكيم في شأن قريظة.

3.7 أهمية هذا السياق

يفترض كثير من القرّاء المعاصرين وجود خيارات بديلة، كـ:

تسوية تفاوضية،

السجن،

النفي دون عقوبة،

أو عفوٍ وفق المعايير الحديثة.

غير أنّ المدينة في القرن السابع لم تكن تملك:

سجونا،

ولا آليات نفيٍ آمن،

وكان المنفيّ ينضم غالباً إلى المعسكر المعادي،

وكان خرق العهد يهدّد البنية كلها،

وكان التساهل بعد خيانة وجودية يُعدّ ضعفاً مشجعاً على التمرد،

وكان التغاضي عن الخيانة بمثابة دعوة لتحالفات مستقبلية خطيرة.

وقد استخدم النبي اللين في حالات أخرى—مثل بني قينقاع—لكن حجم الخطر في غزوة الخندق، وموقع قريظة الحاسم، جعلا الظرف مختلفاً نوعاً.

ولا يتضح التحليل الأخلاقي والاستراتيجي وفي إطار نظرية الألعاب اللاحق إلا بفهم هذا السياق التاريخي الذي يسبق القضية.

قارىء 11-21-2025 12:16 PM

القسم الرابع — الإطار النظري: التعاون المتكرّر، وحوافز الانسلاخ، ولعبة الوجود

لا يُمكن فهم قضيّة بني قريظة فهماً دقيقاً إلا بإقامة نموذج يُبيّن كيفية تَشكُّل التحالفات وانهيارها في البيئات الخالية من الدولة، حيث يشتدّ الخطر، وتغيبُ الآليات المؤسسية للضبط. وتقدّم نظرية الألعاب—وخاصة منطق التعاون المتكرر والانشقاق—إطاراً تفسيرياً قادراً على بيان أسباب سلوك القبائل حين لا توجد سلطة قاهرة تُلزِم بالعقود. وفي هذا القسم يُنشأ هذا النموذج بالاستناد إلى النتائج المعيارية في نظريات الألعاب المتكررة، ومشكلات الالتزام، واختيار التوازن.

4.1 المجتمعات بلا دولة: منظومات تعاون متكرر

في البيئات القبلية القديمة لا تُحفظ التحالفات بمحاكم أو شرطة أو سلطة مركزية، بل تقوم على:

توقّع التعاون في المستقبل،

أعراف الشرف،

أثر السمعة،

والعقوبة الاجتماعية أو القبلية عند الانتقاض.

وهو ما يُشبه ما سمّاه أكسلرود (1984) لعبة التعاون المتكرر. ومنطقه الأساس أنّ:

التعاون يجرّ نفعاً،

لكنه لا يستقرّ إلا إذا توقّع الأطراف لقاءً مستقبلياً،

وإذا كانت العقوبة على الانسلاخ قوية كافية—اقتصادية أو عسكرية أو اجتماعية.

وفي جزيرة العرب:

كان للعقود قيمتها لأنها تضمن الحماية،

غير أنّ وسائل التنفيذ لم تكن إلا بالردع، أو الإقصاء، أو التحكيم.

وعليه، فقد أوجدت صحيفة المدينة توازناً تعاونياً، لكنه قائم على دوام القدرة على الإيفاء بالالتزامات واستمرار الثقة.

4.2 بنية العوائد في منظومة التحالف المدني

يمكن تصوير العوائد المتوقعة على النحو الآتي:

الوفاء بالعهد (التعاون):

دفاع مشترك،

الانتفاع بالغذاء والتجارة،

حماية من الأعداء،

استقرار داخلي،

عائدٌ مرتفع على المدى الطويل.

الانسلاخ (ممالأة العدو في السر):

مكاسب آنية محتملة،

إمكان إزالة الخصم،

لكن خسارة هائلة إن ظهر الغدر.

فما دامت اللعبة متكررة، ويُنتظر استمرارُها، بقي التعاون أوثقَ عُرى.

ولكن ماذا إذا تداعى المستقبل أو أضحى مشكوكاً فيه؟

4.3 الحصار يحوّل اللعبة المتكرّرة إلى لعبةٍ واحدة

بحسب فودنبرغ وتيرول (1991)، تنهار الألعاب المتكرّرة إلى لعبة واحدة إذا:

انخفض احتمال اللقاء المستقبلي،

أو توقع أحد الأطراف فناؤه.

وفي غزوة الخندق:

كانت المدينة محاصرة بجيش يفوق المسلمين أضعافاً،

وبدت نجاةُ المسلمين غير مرجّحة،

وكان بنو قريظة على الجانب غير المحصَّن.

فتحوّلت اللعبة من تعاون متكرر إلى لعبة وجودٍ واحدة:

فلا ضمان للقاءات مستقبلية،

وإذا انهزم المسلمون فلا عقوبة على المنسحب،

وقد أغراهم الأحزاب بما يعود عليهم بالغنيمة والجاه،

فارتفعت القيمة المتوقعة للانسلاخ.

ويمكن صياغة ذلك حسابيّاً:
لنفرض أن p = احتمال بقاء المسلمين.

فإذا صُوّر p صغيراً:

ارتفع العائد المتوقع للانسلاخ:
EV(defect) = (1 − p)(مكسب زوال المسلمين)

وانخفض العائد المتوقع للوفاء:
EV(cooperate) = p(مكافأة التحالف)

وكلما قارب p الصفر، غدا الانسلاخ خياراً عقلانياً—ولو على حساب الثقة.

4.4 مشكلة المصداقية في التحالفات المتعددة

يشير ديكسِت وناليبَف (1991) إلى أنّ التعاون لا يستتبّ إلا بتهديدات عقابية ذات مصداقية. والمصداقية تتوقف على:

القدرة على العقاب،

والإرادة في إيقاعه،

وإيمان الخصم بأن العقوبة ستقع حقّاً.

وأثناء الحصار:

بدا المسلمون عاجزين عن معاقبة غادر،

وكان الظنّ أن فوز الأحزاب يلغي الخطر،

فظنّت قريظة أن الانسلاخ مأمون العاقبة.

وهذه هي مشكلة الالتزام الكلاسيكية:
إذا ضعف الطرف، فلا يستطيع تهديد الخائن تهديداً ذا مصداقية؛ فيُتاح للانتهازي أن ينسلخ.

4.5 المعلومات الناقصة وسوء التقدير

كان زعماء القبائل في ذلك العصر يعملون في ظلّ نقص شديد في المعلومات، فلم يطّلعوا على:

خلافات الأحزاب الداخلية،

ضعف إمداداتهم،

أثر الخندق في إرهاقهم النفسي.

وقد نبّه شيلنغ (1966) إلى أن سوء التقدير عنصرٌ ملازم للصراع. وهكذا:

قدّرت قريظة هزيمة المسلمين تقديراً عالياً،

وعلم المسلمون بضعفهم،

وتصرف الفريقان في ظلّ عدم اليقين.

وهو ما يُشبه «لعبة بايزية»، تُبنى قراراتُ أطرافها على ظنونهم لا على حقائق كاملة.

4.6 انهيار التوازن التعاوني

بانصراف الأحزاب:

نجا المسلمون،

واستؤنفت اللعبة المتكرّرة،

غير أنّ الثقة انهارت،

وأمام النبي معضلة جديدة.

فإهمال ما عُدّ غدراً بقريظة يعني:

أنّ الانسلاخ في الأزمات لا عقوبة له،

وأن العقود بلا قيمة،

وفتح الباب للانسحابات في النزاعات المقبلة،

وخلخلة التحالف من أساسه.

ولنفرض أن T = كلفة العقوبة على الخيانة:
فإذا كانت T = 0، صار الانتقاض خياراً جذّاباً في كل أزمة قادمة.

وهذا هو منطق «الإشارة المكلفة» (سِشلنغ، 1966):

لا يُعيد الردع إلا عقابٌ شديد،

والتساهل بعد خيانة وجودية يهدم الاستقرار،

وحتى القائد المحبّ للصفح يواجه «فرزاً أخلاقياً» حين تكون بقاء الجماعة في الميزان.

4.7 عقوبة واحدة لإعادة الردع

بعد استسلام قريظة، كان لا بدّ من اتخاذ قرار حاسم يعيد التوازن. وكانت الضرورات:

إعادة إرساء كلفة الخيانة،

وجعل الحكم مشروعاً في نظر القبائل،

وأن يكون نهائياً فوق الإرادات،

وأن يصدر بآلية معروفة ومقبولة.

ويدخل هذا في باب التحكيم.

4.8 التحكيم القبلي: أداة تنفيذٍ وحيدة

كان التحكيم في العرب:

يُسند إلى حَكمٍ يرتضيه الطرفان،

وغالباً يكون ذا صلة قديمة بالقبيلتين،

ويُعدّ حكمه ملزِماً.

وقد اختارت قريظة سعدَ بن معاذ، صاحب صِلاتهم قبل الإسلام، فأجازوا بذلك الآلية التقليدية للشرعية. وجاء حكمه مبنياً على الأصول القانونية التي تُوافق ما في «التثنية»، فكان:

إنفاذاً محايداً،

وإعادةً للمصداقية،

وقبولاً جماعياً للقضاء،

وتثبيتاً للشرعية الثقافية للعقوبة.

وهو مثال لما يسميه علماء السياسة «المؤسسة ذاتية التنفيذ».

4.9 خلاصة النموذج النظري

يمكن تلخيص الإطار التحليلي في النقاط الآتية:

المدينة قبل سنة 627م = لعبة تعاون متكرر قائمة على توقع المستقبل.

الحصار = انهيار حوافز التعاون وتحول اللعبة إلى مواجهة وجودية واحدة.

قرار قريظة = انسلاخ عقلاني مع تصوّر ضئيل لاحتمال نجاة المسلمين.

نجاة المسلمين = عودة اللعبة المتكرّرة مع ضرورة معاقبة الانسلاخ لإعادة التوازن.

حكم التحكيم = إشارة مشروعة بأن الخيانة عقوبتها بالغة.

النتيجة = عودة الردع، وانعدام الانسلاخ في النزاعات اللاحقة.

وهذا يمهّد الطريق للقسم الخامس، حيث يُطبّق هذا النموذج مباشرة على واقعة بني قريظة.

قارىء 11-21-2025 12:35 PM

القسم الخامس — نمذجة قرار بني قريظة في الإطار الاستراتيجي: الحوافز، والعوائد، واستعادة التوازن

بعد بناء الإطار النظري في القسم الرابع، يمكننا الآن تمثيل قضيّة بني قريظة في صورة نموذج استراتيجي مباشر. وليس المقصود بهذا المنهج تزكية طرفٍ أو تجريمه، بل بيان الحوافز والبنى الحافزية التي واجهت كلّ فريق إبّان أزمة سنة 627م. ومن خلال إعادة تركيب هذه الحوافز بقدرٍ من الوضوح الشكلي، يتبيّن لنا كيف أدّت آلية التحكيم المقبولة ثقافياً، والعقوبة الشديدة، إلى إعادة إنتاج التعاون الاجتماعي ومنع انهيار منظومة التحالف في المدينة.

5.1 المرحلة الأولى: توازن ما قبل الحصار (622–627م)

في ظلّ صحيفة المدينة، جرى العمل بالتحالفات على أنها لعبة تعاون متكرر.
وكانت عوائد التعاون بين قريظة والمسلمين متبادلة النفع:

عوائد قريظة من التعاون:

استمرار استقلالهم الداخلي،

ارتفاع الإنتاج الزراعي،

حرية تطبيق نظامهم القانوني الداخلي،

المشاركة في الدفاع ضمن إطار الصراع الأوسي–الخزرجي،

حماية المسلمين لهم من الغارات الخارجية،

استقرار التبادل الاقتصادي.

عوائد المسلمين:

تأمين الجبهة الجنوبية،

اكتساب شرعية عبر التحالف،

تخفيف حدّة الصراع القبلي الداخلي،

تعزيز مصداقية العهد والميثاق،

تقليل التعرض لانتقام قريش.

فكان التعاون، بلغة الاقتصاد السياسي، أفضل من سائر البدائل لجميع الأطراف (توازن باريتو أفضل).
غير أنّ استقرار هذا التوازن كان مشروطاً باطمئنان كل فريق إلى وفاء الآخرين بالتزاماتهم. وقد دام هذا التوازن قرابة خمس سنين.

5.2 المرحلة الثانية: ديناميات الحصار وحافز الانسلاخ

عند حصار الأحزاب للمدينة تحوّلت اللعبة المتكرّرة إلى لعبة وجودية واحدة. ووجدت قريظة، وهي على الجبهة الجنوبية المكشوفة، نفسها تحت ضغط خاص.

مسألة القيمة المتوقعة

لنفرض:


p = الاحتمال المتصوَّر لنجاة المدينة،

D = عائد الانسلاخ (إذا انتصر الأحزاب)،

C = عائد التعاون على المدى البعيد (إذا نجا المسلمون)،


P = كلفة العقوبة (إذا نجا المسلمون وانتقموا).

فتقدير قريظة للعوائد يمكن تصويره كالآتي:

القيمة المتوقعة للانسلاخ:
EV(defect)=(1−p)D−pP

القيمة المتوقعة للتعاون:

EV(cooperate)=pC

وفي ظروف الحصار:

كان

p في تقديرهم صغيراً جداً،

و

D كبيراً؛ لما قد يحصّلونه من مكاسب إن انهزم المسلمون،

و

P يبدو ضئيلاً أو معدوماً؛ لأن فناء المسلمين يرفع العقوبة،

و

C يبدو بعيد المنال؛ لارتباطه باحتمال النجاة نفسه.

وعليه يصبح:


EV(defect)>EV(cooperate)

فتغدو محاولة الانسلاخ خياراً عقلانياً بحسب تصوّرهم الاحتمالي، وإن اتّضح لاحقاً أنه تقدير خاطئ.
وقد أكد عدد من الدارسين المحدثين (واط، ليكر، ستيلمان) أن كثيراً من القبائل رأت هزيمة المسلمين وشيكة.

5.3 المرحلة الثالثة: انهيار الأحزاب وانقلاب الحوافز

بعد فشل الحصار وتفرّق الأحزاب انقلبت البنية الحافزية رأساً على عقب:


p→1 (نجاة المسلمين)،


D→0 (سقوط مكسب الانسلاخ)،


C يعود ممكناً،

P يصبح عالياً جدّاً بعد ثبوت الغدر.

فأضحت قريظة أمام:
EV(defect)=−P
EV(cooperate)=C

غير أنّ عائد التعاون لم يعد قائماً عملياً، لأن الانسلاخ قد وقع بالفعل؛ فدخلت اللعبة في «مرحلة العقوبة».

وبلغة نظرية الألعاب، هذا تطبيق لما يُعرف بـ«استراتيجية الزناد» (trigger strategy):

يستمرّ التعاون ما دام الجميع ملتزماً،

فإذا حدث الانسلاخ، فُعّلَت عقوبة قاسية تمنع الانسلاخ مستقبلاً.

وهذا هو منطق الاستقرار التعاوني الذي لاحظه أكسلرود في العلاقات بين الدول والجماعات بلا سلطة فوقية.

5.4 لماذا لم يكن التساهل الاعتباطي خياراً ممكناً؟

يسأل القارئ المعاصر أحياناً: لِمَ لم يصفح النبي عن قريظة فحسب؟
تجيب نظرية الألعاب عن هذا السؤال بصرامة:

5.4.1 مشكلة الردع

إذا لم تُعاقَب الخيانة في لحظة الخطر الوجودي، فإن:

القبائل كلّها تعيد تقييمها،

ويغدو الانسلاخ خياراً قليل الكلفة عظيم العائد،

وينهار التعاون في الأزمات اللاحقة.

وهذا ما يُعرف بمشكلة «اتساق الحوافز»:
لا يستمر التعاون إلا إذا جعلت العقوبةُ الانسلاخَ خياراً غير عقلاني في الحساب البعيد.

5.4.2 فشل التسامح السابق في منع الانسلاخ

كان النبي قد عفا عن قبائل أخرى (مثل بني قينقاع) بعد خرق العهد، ومع ذلك لم يمنع ذلك قريظة من الانسلاخ حين تغيّرت الحوافز.
فإذا لم يَحُل العفو دون تهديد كيان الجماعة، يصبح إدخال العقوبة في «الفرز الأخلاقي» أمراً لازماً؛ إذ تُقدَّم سلامة الجماعة على كمال صورة الرحمة في تلك اللحظة بعينها.

5.5 دور التحكيم: أداة تنفيذ من طرف ثالث

لم تكن إحالة الحكم إلى سعد بن معاذ تفصيلاً عرضياً، بل حلّت مشكلتين استراتيجيتين:

5.5.1 المشكلة الأولى: شرعية العقوبة

كان سعد حليفاً سابقاً لقريظة،

وهو من الأوس، حلفائهم التاريخيين،

فموقعه القبلي يمنحه مصداقية «الحَكَم» غير المتَّهَم بالتشفّي.

وهذا من أوضح أمثلة التنفيذ عبر طرفٍ ثالث في القانون القبلي.

5.5.2 المشكلة الثانية: تخفيف الكلفة الاعتبارية على المسلمين

لو تفرد النبي بإصدار الحكم، لأمكن للقبائل أن تراه حكماً سياسياً محضاً.
ومن ثم فإن:

إسناد الحكم إلى غيره يعزّز شرعية القرار،

ويخفف حدة اللوم السياسي المباشر،

ويجعل قبوله أيسر على الأطراف المختلفة.

ولم يكن حكم سعد مبنياً على «قانون إسلامي» مُدَوَّن، إذ لم تكن المؤسسات القضائية قد تبلورت بعد، بل استند إلى المعايير القانونية التي توافق شريعتهم المستمدة من «التثنية».
وهذا ما يسمّيه إليكسون «توازناً قانونياً ذاتيّ الانضباط» (self-policing equilibrium).

5.6 شدّة الحكم: إشارة مكلفة في منظومة هشة

كانت نتيجة الحكم—قتل الرجال المقاتلين، واسترقاق أو فداء الباقين—شديدة بلا ريب.
لكنها، في ميزان النظرية، أدّت وظيفة نظامية:

5.6.1 استعادة المصداقية

فلا يردّ الثقة في قيمة العهد إلا عقوبةٌ عالية الكلفة، قادرة على:

إعادة قيمة التعاون،

ردع الانسلاخ الانتهازي،

تأمين الجماعة،

وتثبيت استقرار شبكة التحالف.

5.6.2 طمأنة سائر القبائل

إذ حمل الحكم رسالة واضحة:
«إن صحيفة المدينة ستُطبَّق حتى في لحظات الخطر الوجودي».
وكان ذلك ضرورياً لبقاء التحالف.

5.7 الشاهد التاريخي على صحّة النموذج: انعدام الانسلاخ بعد الواقعة

يُختبَر النموذج النظري بمدى مطابقته للنتائج التاريخية. وهنا نجد:

أنه لم تنشقّ قبيلة مدنية بعد قريظة،

وأن مستوطنات يهودية أخرى كخيبر وفدك آثرت التسليم،

وأن المسلمين وحّدوا المدينة في كيان أكثر استقراراً.

وبذلك جاءت الوقائع موافقة لتنبّؤ نظرية الردع:
العقوبة الشديدة ذات الشرعية الثقافية تمنع الانسلاخ في المستقبل.

5.8 لماذا قبِل المعاصرون بالحكم ولم يَرَوه شاذّاً؟

يستغرب القارئ الحديث من شدّة الحكم، لكنه لم يكن موضع استنكار عارم في عصره، لأسباب ثلاثة:

الأعراف الثقافية

العقوبة كانت منسجمة مع:

قوانين الحصار في الشرق الأدنى،

الفهم القبلي للخيانة زمن الحرب،

السوابق الكتابية (مثل ما في سفر التثنية 20: 10–14).

الشرعية الإجرائية

فالحَكَم:

اختاره الطرف المحكوم عليه،

وكان من حلفائهم القدماء،

وطبّق معيارهم القانوني نفسه.

حفظ استقرار التحالف

إذ احتاج الحلفاء إلى يقين بأن:

للعقود حرمة،

وأن الخيانة لها تبعات،

وأن الجماعة ليست مباحة لكل طامع.

وذلك موافق لما وصّفه شيلنغ من منطق «الالتزامات الموثوقة» (credible commitments).

5.9 لماذا لا بد أن تكون تهمة الخيانة مقنعة في نظر المعاصرين؟

ثمة حقيقة تاريخية تغفل عنها قراءات كثيرة، وهي أن تهمة الخيانة الموجّهة إلى بني قريظة لا بدّ أن تكون مقنعةً للمعاصرين، لا مجرّد دعوى لاحقة في روايات المسلمين. فاستقرار المدينة القبلي يقتضي ذلك.
فلو كانت التهمة متكلَّفة أو مبالغاً فيها أو مفتعلة، لوجدت فئاتٌ عديدة فرصتها للطعن والاعتراض، ومنهم:

الأوس (حلفاء قريظة القدامى)،

الخزرج (منافسو الأوس)،

المنافقون (الخصوم السياسيون للنبي)،

عناصر من الخزرج غير المسلمة،

والبطون الطامحة إلى زيادة النفوذ.

لكل هؤلاء مصلحةٌ في استغلال أي تجاوز قضائي—لو كان ممكناً—ضد النبي أو الأوس أو كليهما.

5.9.1 دوافع الأوس: لماذا لم يقبلوا بقضية ضعيفة؟

للأوس روابط متجذّرة مع قريظة، ومن منطق العصبية القبلية:

أن يحمي الحلفاءُ حلفاءهم،

وأن يكون صونُ سمعة القبيلة رأس مال سياسي،

وأن يُعدّ السكوت على ظلم حلفائهم نقيصة في الشرف.

فلو كانت تهمة الخيانة هشّة، لتحمّل زعماء الأوس—وفي مقدمتهم سعد بن معاذ—كلفةً اعتبارية جسيمة بقبول حكم قاسٍ فيهم، ولاتُّهموا بخيانة مواليهم.
فغياب مقاومة أوسيّة منظَّمة يعني أن نخب الأوس أنفسهم رأوا أن التهمة على قدر من الثبوت يجعل الدفاع عن قريظة عاراً لا مكرمة.

5.9.2 دوافع الخزرج: لماذا كانوا سيستغلّون قضية ضعيفة؟

الخزرج خصومٌ تقليديون للأوس، وأيّ خدش في هيبة الأوس مكسبٌ لهم.
فلو بدا أنّ النبي والأوس ظلموا قريظة لغير بيّنة، لكان في وسع الخزرج أن يقولوا:

«الأوس خانوا حلفاءهم»،

«الرسول سمح بالظلم تحت نفوذهم»،

«التحالفات في ظل القيادة الجديدة غير مأمونة».

وبذلك يضعفون مكانة الأوس، ويُضعِفون تبعاً لذلك سلطة النبي السياسية.
ومع ذلك لا نجد سردية خزرجيّة تعيد تصوير الحادثة على أنها ظلمٌ صريح لقريظة.
وهذا السكوت قرينة على أن تشكيكهم في الحكم كان سيضرّ بصورتهم كفاعلين عقلاء محترِمين للأعراف.

5.9.3 المنافقون: الأقدر على توظيف قضية لو كانت هشّة

كان للمنافقين—وفي مقدمتهم عبد الله بن أُبيّ—أقوى الدوافع للطعن في قرارات النبي، وقد عُرفوا بإثارة الفتن في الأزمات واغتنام الهفوات السياسية.
فلو كان ما وقع لقريظة يُشبه «مذبحة لحلفاء أبرياء»، لكانت فرصتهم في:

تأليب الرأي العام،

رسم النبي في صورة الخطر على الأقليات،

استثمار تعاطف اليهود،

واتهام الأوس بالتلاعب،

والمطالبة بتقييد سلطة النبي السياسية.

ومع ذلك لا نرى لهم تعبئة منظَّمة تستثمر هذه الواقعة.
فهذا السكوت ليس أمراً عارضاً؛ بل مؤشر قوي على أنّ أصل تهمة الخيانة لم يكن قابلاً للطعن الواسع حتى في عيون الخصوم.

5.9.4 الخزرج غير المسلمين والبطون الطامحة

لم يكن الخزرج جميعاً قد دخلوا الإسلام بعد، كما أن بعض البطون المسلمة بقيت تحسب للأعراف القبلية بقدر ما تحسب للانتماء الديني.
وكان في مصلحتهم أن:

يدافعوا عن جماعات يهودية تحت حمايتهم،

يشكّكوا في تفوّق الأوس،

يقدّموا أنفسهم حماةً للأقليات،

أو يرموا النبي بعدم الإنصاف.

ولو كانت قريظة تُرى ضحيةً لا خائنة، لكان رفع لواء الدفاع عنها باباً لرفع مكانة هذه البطون.
وغياب مثل هذه الرواية يدلّ على أن «سردية البراءة» لم تكن مقنعة كفاية لتُستغل سياسياً.

5.9.5 القبول المعاصر كشرط توازن

بلغة نظرية الألعاب، هذا السكوت الواسع من الأطراف المنافسة يُفهَم بوصفه «نتيجة توازن»:

لو كانت القضية ضعيفة لاستغلّتها القبائل المنافسة،

وحين لا تستغلّها، فذلك لأن استغلالها غير ممكن من حيث المصلحة،

ولا يُعدّ استغلالها غير ممكن إلا إذا كانت التهمة قوية في نظر الجمهور القبلي.

فإجماع الأطراف المتنافسة على عدم الطعن في أصل التهمة ليس مجرد غياب للرواية الأخرى، بل هو نتيجة طبيعية لبنية حوافز لا تسمح بالالتفاف على حكم يُرى مشروعاً في أعين الناس.

وبعبارة أخرى:
لو كانت التهمة موضع شكّ جِدّي، لتشققت المدينة سياسياً؛ ولمّا لم يحدث ذلك، دلّ على أن التهمة كانت—في نظر معاصريها—مُقنِعة في جوهرها.

5.9.6 خلاصة: ضرورة قوّة الدعوى في بني قريظة

كلّ ما يأتي كان سيبعث على المعارضة لو كانت قريظة مظلومة:

التزامات الأوس تجاه حلفائهم،

تنافس الخزرج مع الأوس،

طموحات المنافقين السياسية،

مصالح الخزرج غير المسلمين،

وحسابات البطون الطامحة.

ومع ذلك لم تقُم معارضة منظَّمة للحكم.
فالشرح الأقرب هو أنّ تهمة الخيانة في ظرف الحصار كانت قويّة بما يكفي بحيث لا يستطيع فريقٌ أن ينكرها من غير أن يسيء إلى سمعته أو شرفه.
وعليه فقوّة التهمة ليست مجرد دعوى متأخرة في كتب المسلمين، بل ضرورة منطقية يقتضيها شكل النظام السياسي في المدينة وسلوك فئاته المختلفة.

5.10 خلاصة القسم الخامس

يمكن تلخيص قضيّة بني قريظة في النموذج الآتي:

انهيار منظومة تعاون متكرر تحت ضغط الحصار،

محاولة انسلاخ عقلانية من قريظة على تقديرهم، لكنها خاطئة تاريخياً،

حاجة ملحّة بعد الأزمة إلى إعادة بناء الردع والثقة في العهود،

تحكيمٌ مشروع ثقافياً يُنظَر إليه بوصفه طرفاً ثالثاً،

حكمٌ شديد يعمل كإشارة مكلفة تعيد الاعتبار للعهد،

استعادة استقرار طويل الأمد في المدينة وتحالفها.

ومن ثَمّ يتّضح أنّ فهم الواقعة لا يستقيم إلا ضمن:

بنية الحوافز في المجتمع القبلي،

أخلاقيات البقاء تحت التهديد الوجودي،

ومنطق التحالفات ذاتية التنفيذ.

وعلى هذا الأساس يمهّد هذا القسم الطريق لما يليه، حيث تُدرس المسؤولية الأخلاقية في ضوء هذه القيود البنيوية والسياقية.

قارىء 11-21-2025 01:10 PM

القسم السادس — المسؤولية الأخلاقية في ظلّ القيود البنيوية: الفرز الأخلاقي، وحدود الممكن، والقيادة في المجتمعات التي لا دولة لها

إن تناول البعد الأخلاقي في قضيّة بني قريظة لا يتحقق بمجرد تعداد قواعد أو مقارنتها بالمعايير الأخلاقية الحديثة. فالحكم الأخلاقي لا يُفهَم في الفراغ؛ بل ينبغي تفسيره ضمن القيود المؤسسية والثقافية والوجودية والاستراتيجية التي تحدّد ما هو ممكن وما هو متاح من خيارات.

يبني هذا القسم تحليلاً أخلاقياً صارماً يستند إلى:

نظرية الألعاب،

وفلسفة الأخلاق،

وأنثروبولوجيا الأخلاقيات المرتبطة بالبقاء،

وأعراف القانون في الشرق الأدنى القديم،

ونظريات القيادة،

ومقاربات مقارنة من العصر الحديث.

والمقصود ليس تبرئة ولا تجريم، بل بيان معنى «القرار الأخلاقي» في عالم يختلف جذرياً عن عالمنا.

6.1 الأخلاق بوصفها فنّ الممكن: لماذا يتطلّب الحكم الأخلاقي سياقاً؟

تفترض الأخلاق الحديثة وجود:

دولة قائمة،

ومحاكم،

وقانون دولي،

وقوات شرطة،

ومواثيق حقوقية،

وأنظمة رعاية،

ومعايير تحقيق،

وبنية مدنية مستقرة.

لكن شيئاً من هذا لم يكن موجوداً في جزيرة العرب في القرن السابع.

وعليه، لا يمكن تقييم المسؤولية الأخلاقية وفق افتراضات مؤسسية حديثة؛ لأن كثيراً من «الخيارات الأخلاقية» المتاحة اليوم لم تكن موجودة أصلاً في المجتمع القبلي الخالي من الدولة.

وهذا ما يسمّيه الفلاسفة: الأخلاق المقيّدة بحدود الممكن:
فما لا وجود له لا يمكن أن يكون واجباً أخلاقياً.

فمثلاً:

السياسي الاسكندنافي المعاصر يعمل داخل دولة رفاه متينة، لها محاكم، وشرطة، وحلفاؤها الدوليون، ومؤسساتها القوية؛ وبالتالي فإن خياراته الأخلاقية مشروطة باستقرار ما حوله.

أمّا قائد مجتمع قبلي بلا دولة، فقراراته تقع في بيئة تتداخل فيها الرحمة والعدالة والردع والبقاء بطريقة لا يعرفها عالم المؤسسات الحديثة.

ومطالبة النبي بأن يتصرّف كدبلوماسي معاصر كمطالبة ملك من العصر البرونزي باستخدام المضادات الحيوية—عالم الخيارات مختلف.

6.2 القادة في المجتمعات التي لا دولة لها يواجهون «فرزاً أخلاقياً»

كما أن الطبيب قد يلجأ لبتر عضو لإنقاذ حياة،
فكذلك في المجتمعات الخالية من الدولة:

الرحمة مقيّدة باعتبارات البقاء،

والعدالة مقيّدة بقدرة التنفيذ،

وضبط النفس مقيّد بخطر الخيانة،

والغفران مقيّد بمتطلبات الردع.

هذا هو الفرز الأخلاقي الذي واجهه كل قائد قبلي في العصور القديمة.

وقد كان النبي—رغم كونه معلّماً أخلاقياً—يعيش في عالم:

فيه خيانة واحدة تفضي إلى استئصال المجتمع،

والتحالفات فيه هشة،

والعدو يسعى للإبادة،

ولا وجود لمحكمة محايدة،

وأعراف الحرب قاسية بمعايير اليوم.

ولذلك لم يكن السؤال الأخلاقي الذي واجهه سؤال رحمة مجرّدة مقابل عدالة مجرّدة،
بل كان:

«أيّ قرار يصون أرواح الأبرياء من أمّتي في عالم يعني فيه الغدرُ الفناء؟»

وهذا سؤال أخلاقي بالغ الثقل.

6.3 الهدف الأخلاقي الذي لا يقبل التنازل: بقاء الجماعة

لا يمكن مطالبة أي قائد—نبيّاً كان أو ملكاً أو رئيساً—بالتفريط في أمن قومه.

وهذا مبدأ راسخ في جميع التقاليد الأخلاقية:

وفي الفقه الإسلامي،

والهلاخاه اليهودية،

ونظرية الحرب العادلة المسيحية،

والفلسفة الأخلاقية الحديثة،

بل وحتى في حقوق الإنسان المعاصرة.

فحماية الأبرياء واجب أولي.

ولذلك كان على النبي:

أن يحمي المجتمع لا بوصفه هدفاً سياسياً،

بل بوصفه واجباً أخلاقياً.

وخاصة أنّ مجتمع المدينة ضمّ:

أطفالاً،

وشيوخاً،

ومهاجرين بلا حماية،

ومعتوقين بلا سند،

ومسلِمين بلا عشائر.

وكانت خيانة واحدة أثناء حصار وجودي قد تؤول إلى مذابح.

فحماية الجماعة كانت واجباً أخلاقياً صافياً.

6.4 الصلة الأخلاقية لحوافز اللعبة المتكرّرة

تبيّن نظرية الألعاب أن التعاون المستدام في غياب سلطة مركزية يتطلب ردعاً موثوقاً.

أخلاقياً يعني هذا:

أن التساهل قد يشجع الخيانة،

وأن الرحمة بلا إنفاذ قد تكلّف أرواحاً،

وأن عدم معاقبة الخيانة يجعل الانتهازية خياراً معقولاً.

هذا ليس «بروداً حسابياً»؛ بل هو تفكير أخلاقي موجّه بثقل النتائج.

فإذا عُلم أن الخيانة أثناء الحصار لا عقوبة لها،
فستقول كل قبيلة:

«عند الخطر القادم، ننسحب مبكراً. فلا خسارة.»

فينشأ المسار التالي:

تتكرر الخيانات،

ويختلّ استقرار المدينة،

ويتهدد الأبرياء،

وتنهار الأخلاق نفسها.

فمعاقبة الخيانة ليست خياراً استراتيجياً فقط؛
بل هي جزء من أخلاق حماية الضعفاء.

6.5 نمط النبي: ضبط شديد، ورحْمَة كلما أمكن

من المهم الإشارة إلى أن النبي لم يعتمد القسوة قاعدة:

بنو قينقاع نُفوا ولم يُقتلوا.

بنو النضير نُفوا ولم يُقتلوا.

ورؤساء مكة—حتى صنّاع الحرب—عفا عنهم يوم الفتح.

المنافقون تركوا بلا عقوبة.

والقبائل البدوية الناكثة جرى استصلاحها لا استئصالها.

وهذا يدلّ على ميل واضح إلى الرحمة متى:

لم تكن الخيانة وجودية،

وكان الخطر قابلاً للاحتواء،

وكان الردع لا ينهار بتساهل،

ولم تكن الجماعة في خطر حقيقي.

فحكم قريظة لم يكن قاعدة،
بل استثناءً فرضته لحظة استثنائية.

ودلالة ذلك أخلاقياً عظيمة:
لو كانت الاستجابة الأخفّ ممكنة، لفضّلها النبي، كما فعل في كل المواضع الأخرى.

فشدّة الحكم هنا وليدة الظروف، لا جزء من طبيعته الأخلاقية.

6.6 الأخلاق في عالم قبلي: الشرف والثقة والبقاء

في الأخلاق القبلية:

الشرف أساس التعاون،

والثقة أساس السلم،

والوفاء أساس الأمن،

والغدر تهديد وجودي.

ونقض العهد الدفاعي أثناء حصار يعدّ:

خيانة عظمى،

ونقضاً لحرمة الأمان،

وسبباً مشروعاً لعقوبة جماعية شديدة.

وفي الشرائع اليهودية والعربية والرومانية والآشورية كان الغدر زمن الحرب يعدّ:

سقوطاً للحماية،

وتهديداً للمجتمع،

وسبباً مشروعاً للعقاب القاسي.

ولذلك حكم سعد القائم على أعراف «التثنية» كان:

مفهوماً،

منسجماً مع محيطه القانوني،

ومقبولاً أخلاقياً في زمانه.

6.7 لماذا لا معنى لمقارنة القائد القديم بالسياسي الحديث؟

السياسي الحديث:

يملك دولة،

وقضاءً،

وسجوناً،

وقانوناً دولياً،

ولا يواجه خطر الإبادة من قبيلة واحدة.

أما النبي فقد كان يقود:

مجتمع مهاجرين ضعفاء،

محاصرين بقبائل معادية،

بلا مؤسسات،

وباحتمال فناء حقيقي.

فالمقارنة بينهما ليست أخلاقية أصلاً.

فالمطالبة بسلوكيات أخلاقية حديثة هي مطالبة بما لا يتصوره السياق التاريخي.

6.8 الأخلاق في ظل قيود الممكن: لماذا انسجم حكم قريظة مع أخلاق السياق؟

من مجموع التحليل يظهر:

المجتمع كان يواجه خطر الفناء.

الغدر كان تهديداً وجودياً.

حماية الأبرياء واجب لا يُتنازل عنه.

الخيارات كانت شديدة الضيق.

التساهل السابق لم يمنع خيانة خطيرة.

الحكم جاء عبر محكّم اختاروه هم.

الردع مطلوب لاستقرار المستقبل.

نمط النبي يدلّ أنه لا يلجأ للقسوة إلا عند الضرورة.

فكان القرار منسجماً مع أخلاقٍ مقيّدة بحدود الممكن، غايتها:

حماية الأبرياء،

وصون الجماعة،

وردع الخيانة،

وتثبيت السلم.

6.9 منظور الفلسفة الأخلاقية: الواقعية السياقية مقابل المقارنات المضلِّلة

من منظور فلسفي:

بعض الواجبات الأخلاقية مطلقة (حماية الأبرياء).

لكن إمكان تطبيقها يختلف باختلاف السياقات.

وفي غياب الدولة، تتغير الأخلاق بتغيّر الضرورات.

وعليه، يمكن فهم القرار على أنه:

فعلٌ أخلاقيٌّ غير مثالي، لكنّه الأمثل ضمن شروط قاسية وغير مثالية.

هو لا يمثّل شريعة أخلاقية مطلقة،
ولا قسوة بلا سبب،
بل قراراً سياقياً.

6.10 خلاصة القسم السادس

لا يمكن الحكم على قضيّة قريظة إلا بإدراك ما يلي:

حماية الجماعة واجب أخلاقي أولي.

غياب الدولة فرض قيوداً شديدة على الخيارات.

الردع ضرورة أخلاقية حين ترتبط به حماية الأرواح.

رحمة النبي في بقية الأحداث تُظهر أن القسوة ليست طبعه، بل ظرفه.

أعراف الشرق الأدنى اعتبرت الغدر خلال الحرب جريمة كبرى.

إسقاط المعايير الحديثة على وقائع قديمة خطأ منهجي.

تُفهَم الأخلاق هنا من خلال:

أخلاقيات البقاء،

والخير الممكن،

وأنثروبولوجيا المجتمع القبلي،

ومنطق الالتزامات الموثوقة.

وبذلك يبدو حكم قريظة حكماً أخلاقياً سياقياً، صدر في ظروف قاسية، ولم يكن خروجاً عن قانون أخلاقي مطلق.

yosif 11-24-2025 01:01 AM

تحليل جيد

Mazen 11-26-2025 08:02 AM

تحياتي،

هذه مشكلتنا مع المسلمين… المسيحي تصالح مع ماضيه الاجرامي وتنصل منه. والالماني يستنكر ايدوليجية النازية جملة وتفصيلاً ولا يحاول تفسيرها. ولا تجد الامريكي يدافع عن تجار الرقيق. ولا الإسكندنافي يفسر وحشية وهمجية الفايكنغ الخ… الا المسلمون، يكتبون مجلدات للدفاع عن مجموعة مجرمين وعن تاريخنا الاجرامي. غزاة مغتصبين وقطاعي طرق منذ زمن النبي والى الدواعش. وهذا الاجرام لم يكن محصوراً ضد غير المسلمين بل هو اجرام اسلامي اسلامي بامتياز. الصحابة في معركة الجمل قتلوا ثمانين الف في يوم واحد من بعضهم البعض (حرب غزة لمدة سنة لم يمت فيها ثمانون الف…). معركة صفين ايضاً… في معركة الحرة، نساء المسلمين في المدينة تم اغتصابهن من قبل المسلمين…وما فعله الامويون بسبي نساء الشيعة وما فعله العباسيون بالامويين وما فعله الفاطميون وما فعله صلاح الدين بقتل المسلمين وما فعله الاتراك الخ… والتاريخ الاسلامي مليء بالصراعات الدموية الخ…. هذا عدى عن غزو شعوب امنة في بلادها كما فعلوا بالامازيغ والبربر وصولاً الى الاندلس. هذه الشعوب لم تعتدي على المسلمين حتى يقتلوا وتسبى نساؤهم وذراريهم ويباعوا في اسواق النخاسة في دمشق.

اذاً،الاجرام الذي حصل ببني قريظة لم يكن خاص بنظام القبيلة والخيانة في زمن محمد، بل هو متأصل في مفاهيم الشريعة الاسلامية نفسها والشرح عن ان الاجرام هو بسبب تعاليم واصول هذه الشريعة يطول. ربما في موقع اخر.

بالعودة الى حادثة بني قريظة:
1- المشركون لم يدخلوا المدينة من ناحية بني قريظة التي لم يكن بها خندق كما ذكرت انت. اذاً كيف تم اتهامهم بالخيانة؟ هذا تبلي على الناس وطريقة محمد في الاستيلاء على ممتلكات الناس واعراضهم وتوزيعها على اصحابه.
2- العقاب الجماعي… وهو القائل ولا تزر وازرة وزر اخرى؟ كالعادة… الاسلام شعارات فارغة. كله شعارات، والواقع شيء اخر.
3- قتل من انبت من الاطفال!! هل تعرف ما معنى من انبت. يعني اي طفل في عمر 11 او 12 يبدأ شعر العانة بالظهور. يعني هذا محمد قتل اطفال امام امهاتهم.
4- ولكن ماذا فعل بالنساء والامهات. تم سبيهن واغتصابهن. حتى اصحاب محمد استنكفوا ان ينكحوا السبايا وازواجهن احياء لم يقتلوا بعد… فقال محمد هذه الاية عن تحريم نكاح المحصنات (المتزوجات) الا ما ملكت ايمانكم. حرمت عليكم امهاتكم… حتى وصل الى والمحصنات من النساء الا ما ملكت ايمانكم. . يعني السبايا ولو كانوا متزوجين انكحوهم… راجع اسباب النزول.

5- اما ما فعله مع صفية تحديداً، كيف انها كانت في سهم غيره فاخذها وقال للصحابي اذهب واختار واحدة غيرها. ودخل محمد عل صفية بعد ان قتل ابوها واخوها وزوجها. هذه تحتاج الى game theory مربعة ومخمسة حتى تفسر لنا كمية القذارة لدى اشرف الخلق عليه الصلاة والسلام.


استحوا على انفسكم وتصالحوا مع هذا الماضي الاجرامي ولا تحاولوا ان تفسروه او تبرروه. انا اعلم انك قلت عدة مرات ان هدفك هو التفسير وليس التبرير، ولكني مسلم سابق واعرف هذه الفهلوة الاسلامية جيداً. كل كلمة كتبتها في ورقتك هذه هي فقط لتبرير اجرام انت تستنكره بداخل نفسك ولكنك تحاول ان تقنع نفسك المؤمنة بالعبط الديني ان هناك تفسير سفسطائي لما فعله محمد.

والجواب هو: لا احد يحتاج الى تفسيرك. وحتى محاولة تفسير الاجرام هو عمل غير اخلاقي

الخطورة في ما تقدمه هنا، ان جل المسلمين يعتقدون ان الشريعة الاسلامية صالحة لكل زمان ومكان. عدم استنكار هذا الاجرام المحمدي هو قنبلة موقوتة وجاهزة للانفجار في وجوهنا جميعاً… تماماً كما فعل الدواعش بقتل الازيديين وسبي الازيديات تماماً كما فعل "اشرف الخلق" مع بني قريظة وكما فعل الصحابة وتابعيهم باهل البلاد التي غزوها. ربما تستطيع استخدام نفس التفسيرات لافعال الدواعش؟

قارىء 11-28-2025 02:47 PM

هذا تحليل في إطار الواقعية الأخلاقية السياقية فلا يصح أن يقال أننا نجيز نفس الممارسات في سياق واقع مختلف جذريا في سماته البنيوية. إن لم تكم قادرا على إجراء نقاش منهجي بعيدا عن السباب والصياح فلا وقت لدي لأضيعه.

Flûtiste Hérétique 11-29-2025 02:05 AM

من الواضح أننا بحاجة إلى كل هذه السطور المطولة لتبرير فعل لا يحتاج لإدراك فظاعته ووحشيته إلا لمجرد حكايته.

وطبعًا تعني بـ"النقاش المنهجي" الدخول في هذه المتاهة من التأملات والأفكار حتى تغيب عن العقل صورة الفعل الشنيع الذي ارتكبه الرسول، ولا يمكن الخروج من هذه المتاهة بطبيعة الحال.

أما "السمات البنيوية المختلفة للسياق الواقعي" فهي ما يضرب به الإسلام والمسلمون عرض الحائط حين يدّعون بكل ثقة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، لكنهم يتعامون عن هذه الدعوى ويلجأون إلى اختلاف الواقع حين تضيق بهم السبل في الدفاع عن تصرفات النبي والصحابة في مسائل مثل الرق وجريمة الإبادة التي تفضلت بتبريرها.


الساعة الآن 11:46 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd diamond

 .::♡جميع المشاركات والمواضيع المكتوبة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ,, ولاتعبر عن وجهة نظر إدارة المنتدى ♡::.


Powered by vBulletin Copyright © 2015 vBulletin Solutions, Inc.